
سورة محمد
مقدمة
لقاؤنا مع سورة القتال، وتسمى سورة محمد. وهي سورة مدنية نزلت بالمدينة. سورة محمد ذكر فيها وصف الكفار ووصف المؤمنين، وذكر فيها مصير كل فريق منهم. افتتحت السورة بشدة؛ ولذا سميت سورة القتال، فالأمر فيها بقتال الكفار حيثما كانوا.
يقول الله (تبارك وتعالى):
ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَصَدُّوا۟ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ ﴿1﴾
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَءَامَنُوا۟ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍۢ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿2﴾
ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱتَّبَعُوا۟ ٱلْبَـٰطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّبَعُوا۟ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَـٰلَهُمْ ﴿3﴾
﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أضاعها وضيعها. وأصل كلمة الضلال تعني غياب شيء في شيء، ضل اللبن في الماء إذا خلط اللبن بالماء، ولم يبد أثر للماء، يقال ضل الماء في اللبن: غاب ولا يميز، وأصبح لاوجود له، فكذلك الإضلال بمعنى التضييع، بمعنى الإذهاب، بمعنى الإبطال.
أضل الله أعمالهم، أيّ الأعمال تلك التي أضلها الله؟ كادوا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومكروا به، فمكر الله بهم. حاولوا أن يثبتوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، فأنجاه الله منهم. أيضا كانت لهم أعمال في الجاهلية: قرى الضيف؛ سدانة البيت؛ سقاية الحجيج؛ حفظ الجوار، أعمال كانوا يسمونها مكارم ينتظرون ثوابها، فينبئهم الله (تبارك وتعالى) أنها ضائعة، ضلّت وأضلّها الله ولاثواب عليها؛ لأن شرط الثواب على الأعمال الإيمان بالله و برسول الله. وكذا كل من لم يؤمن بالله (تبارك وتعالى) وبرسوله من أهل الكتاب من النصارى، ومن اليهود قد ترى لهم أعمالا صالحة: كفالة الأيتام؛ أو صلة الأرحام؛ أو بناء دور الاستشفاء؛ أو بناء الملاجئ، لهم أعمال صالحة، هل يثابون عليها؟ أبدا والله! يؤتوْن أجورهم في الدنيا؛ وفي الآخرة مالهم من نصيب. من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ جعل أعمالهم في ضلال، في ضياع، لايثابون عليها؛ لأن شرط قبول العمل الإيمان بالله وبرسول الله. وبضدها تتميز الأشياء ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: آمنوا بالله، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، آمنوا بالقضاء والقدر، خيره وشره. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ لأن الإيمان بلا عمل كلا إيمان، إذ شرط الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل، ذاك شرط صحة الإيمان. ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ تخصيص لما نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) ألا وهو القرآن، يَنسخ ولا يُنسخ، نسخ الشرائع كلها، ونسخ الأديان، فشرط الإيمان أن يؤمن المؤمن بالقرآن، وبمن نزل عليه القرآن، فجاء ذكر ما نزل على محمد شرطا للإيمان، تشريفا وتعظيما وإعلاءً لشأن القرآن, وإعلاما بأنه أصل الإيمان.
أيضا تشريفا للنبي (صلى الله عليه وسلم) إذ الإيمان به هو مفتاح الإيمان بالله، وعدم الإيمان بمحمد (عليه الصلاة والسلام) لا يُقبل معه إيمان، ولو وحّد المؤمن الله (تبارك وتعالى). فلوْ آمن إنسان بالله الواحد القهار ولم يشرك به شيئا، وكفر بمحمد (عليه الصلاة والسلام) لا يُقبل منه إيمان. ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ وقرأت ﴿بما نَزَلَ على محمد﴾؛ ﴿وبما أُنزِلَ على محمد﴾؛ ﴿بما أنْزَلَ على محمد﴾، قراءات. ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ جملة اعتراضية، اعتراض لتأكيد التخصيص بأن القرآن هو الحق و ما عداه باطل، وبأن النبي رسول الله حقا لا مراء ولا شك، فهو اعتراض للتخصيص. ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ وهو القرآن، ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ التكفير: الإخفاء. كُفْرُ الشيء: إخفاؤه. ويسمى الزارع كافر، و الزراع الكفار؛ لأنهم يكفرون الحبة في الأرض، يخفون الحبة في الأرض. فالتكفير: الإخفاء، وكأن الله يخفى سيئات هؤلاء. عمن يخفيها؟ ليس عن نفسه، فهو يعلم السر وأخفى! وإنما يخفيها عن الكتبة والحفظة والشهود والشهداء، فلا يشهد عليهم يوم القيامة شاهد بذنب، يخفيها الله (تبارك وتعالى) يكفّر عنهم سيئاتهم. قيل: هذه السيئات التي ارتكبوها قبل الإيمان وقبل الإسلام، فالإسلام يجبّ ما قبله. والآية قد تفيد العموم أيضا، وتُشعِر أن الإنسان غير معصوم، وتُشعِر أن الإنسان مهما آمن ومهما عمل الصالحات فلابد له من هفوات، أو خطرات، أو صغائر، فإذا ارتكب المؤمن الصغائر أو الهفوات، أو جاء على قلبه الخطرات، فعمله الصالح يمحوها ويكفّرها، فالحسنات يذهبن السيئات. هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات و آمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفّر الله عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم، البال: الحال، البال: الشأن، البال: الأمر.
﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ أصلح دنياهم فكانوا فيها أعزة بعزة الله، كانوا فيها سادة، كانوا فيها معصومون من الشرور، معصومون من الكفار، منصورون على أعدائهم. والبال قد يطلق على القلب، من قول أحدهم: (لم يخطر الأمر على بالي) أي: على قلبي. فإن كان كلمة بال تعني القلب، إذا فإصلاح البال إصلاح القلب، إصلاح الدين. ﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ تحتمل المعنيين: أصلح حالهم، وأصلح دينهم، فأصلح دنياهم، وأصلح أخراهم، فكانوا سعداء في الدارين. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾: الأمر ذلك، ﴿ذَلِكَ﴾: ذلك مَثَلُ الكفار ومثل المؤمنين، ﴿ذَلِكَ﴾: ماذُكر من عاقبة الكفار في إضلال أعمالهم، ومن عاقبة المؤمنين في إصلاح بالهم. ذلك الذي ذكر سببه أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ﴾ (والباطل: الشرك، والإيمان: حق. والله (تبارك وتعالى) هو الحق وكل ماخلا الله باطل، فكل من اتبع غير الله من صنم أو وثن أو غيره فقد اتبع الباطل، وطالما اتبع الباطل عُدَّ من الكفار، والذين كفروا أضل الله أعمالهم ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، أو الأمر ذلك. ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ألا وهو محمد (عليه الصلاة والسلام) ألا وهو القرآن، فالقرآن حق، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) حق. ذلك الذي ذكر بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وبأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم.
﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ كذلك التبيين الذي بُيّن في الآيات التي تليت، كذلك التبيين، وكذلك التوضيح، وكذلك الضرب للأمثال بإضلال الأعمال للذين كفروا، وبتكفير السيئات للذين آمنوا، وبإصلاح البال لهؤلاء المؤمنين، كذلك يضرب الله للناس أمثالهم: يبين لك أحوالهم، ويبين لك مآلهم، ويبين لك مصيرهم. ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾. وتنتقل الآيات بعد التبيين لمصير الفريقين وبعد ضرب الأمثال لكل من الفريقين، تأتي الآيات لتبين أن الحق حق، وأنه من الواجب على أتباع الحق أن ينصروا الحق وأن يبطلوا الباطل، فإن الله (تبارك وتعالى) كان قادرا على إحقاق الحق بغير جهد من الناس، وبغير ابتلاء للناس، وكان من الممكن أن تصبح الدنيا كالآخرة ليس فيها إلا الحق، لكن الله أراد لهذه الدنيا أن تكون دار ابتلاء يختبر المؤمن بالكافر، ويبتلي الكافر بالمؤمن، ويمحص ما في القلوب، ويظهر نفاق المنافقين، فكان من الواجب على المؤمن الذي آمن بالحق أن يعمل بالحق، وأن يجهد و يجاهد في سبيل إظهار الحق. لذا يقول الله (تبارك وتعالى):
فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا۟ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّۢا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَا۟ بَعْضَكُم بِبَعْضٍۢ ۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ ﴿4﴾
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴿5﴾
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴿6﴾
فإن شددتم الوثاق ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾، إذا شددتم الوثاق أنتم مخيرون بين المنّ والإطلاق، أن تمنّ على الأسير وأن تطلق الأسير، أو يفدى بالمال، بالفدية. فإما منّاً بعد الأسر وإما فداء ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ الأوزار: الأثقال، والأثقال في الحرب هي الأسلحة، السيوف، والكراع، وأدوات الحرب، وما إلى ذلك. تضع الحرب أوزارها: تضع الحرب أثقالها، أي يوضع السلاح ويعم السلام. أو ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ أي المحاربون الكفار يضعون أوزارهم، وأوزار الكفار إما الأسلحة التي يحملونها، وإما الذنوب، وليس أعظم من الشرك ذنب. إذاً فمعنى حتى تضع الحرب أوزارها أي: حتى يسلموا ويظهر الدين ولا يكون إلا الإسلام. وقيل أن الآية فيها تقديم وتأخير؛ ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ إذا ًفالقتل حتى يحدث السلم أو يعمّ السلام أو المعاهدة ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾. والخلاف بين العلماء في الآية نتج من وجود آيات أخرى، كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [سورة التوبة آية: ٥]، وقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [سورة التوبة آية: ٣٦]. قال بعضهم: هل يصح اللإمام أن يأسر؟ هل يصح اللإمام أن يفدي؟ هذا هو موطن الخلاف.
حدث القتال بين المسلمين وبين الكفار فانهزم الكفار، وأسر منهم أناس، ماذا يفعل الإمام المسلم في الأسرى؟ قال بعضهم: يقتلهم قتل عاد وثمود ولا يأخذهم أسارى أبدا لأن الله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [سورة الأنفال آية: ٦٧] ويقول: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [سورة النساء آية: ٨٩]، إذاً فالآية: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ منسوخة بالأمر بالقتل. وقال بعضهم: أبدا! بل هي ناسخة للأمر بالقتل، القتل كان موجودا فإذا عز الإسلام وأمن المسلمون ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾. إذاً فالآية: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ ناسخة لقوله: ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾. وقال بعضهم: بل الآية محكمة ليست منسوخة، وهي أيضا ليست ناسخة، وآية القتل: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ محكمة، ويصبح الأمر أن الإمام مخيّر طبقا لمصلحة الإسلام والمسلمين، وطبقا للظروف السائدة في زمانه، هو مخيّر بين القتل، أو الأسر، أو المنّ، أو الفداء، أو الإسترقاق في كل حال وفي كل زمان، ما يلائم المصلحة العامة للمسلمين. وذاك هو أرجح الأقوال، ودُلل عليه بأفعال الخلفاء وبأفعال النبي (صلى الله عليه وسلم) ففي غزوة بدر قُتِل رجلان من المشركين (عقبة بن أبي معيط) قتل عقبة و غيره صبرا، وأسر غيره، وفداهم النبي (صلى الله عليه وسلم) وقاتل أبو بكر أهل الردة الذين منعوا الزكاة، منهم من قتل، ومنهم من فدى، ومنهم من أسر، ومنهم من منّ. وقد منّ رسول الله على سبي هوازن وأطلقهم بلا فداء. إذا فالإمام مخير طبقا للظروف ووفقا لمصلحة المسلمين في أن يقتل ولا يأخذ أسرى، أو يمنّ ويطلق، أو يأسر ويفدي، أو يسترق، هو مخير في كل هذه الأمور.
﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ تضع الحرب أوزارها: يعمّ السلام، أو يخضع الكفار ويضعوا السلاح، ويعاهدوا المسلمين ويصبحوا أهل عهد، أو يدفعوا الجزية ويصبحوا أهل ذمة، أو يدخلوا في الإسلام. وقال بعضهم: بل لا تضع الحرب أوزارها أبدا طالما في الأرض شرك، وطالما في الأرض كفر. معنى ذلك ألا يكون على الأرض إلا الإسلام، والمسلمون مطالبون بالجهاد المستمر حتى يعم الإسلام الأرض جميعا، ولا يكون إلا الإسلام والإيمان بالنبي (صلى الله عليه وسلم) والعمل بكتاب الله، ولا يسقط الجهاد أبدا. وقال بعضهم: لن تضع الحرب أوزارها أبدا حتى ينزل عيسى بن مريم، لأنه بنزول عيسى بن مريم يقتل عيسى الدجال، ويكسر الصليب، ولا يكون في الأرض إلا الإسلام. ﴿ذَلِكَ﴾: الأمر ذلك، فهي في موضع رفع، ﴿ذَلِكَ﴾: افعلوا ذلك فهي في موضع نصب، الأمر من الله بضرب الرقاب إلى آخر الأوامر. ﴿ذَلِكَ﴾ وكلمة ذلك تُعَدُّ من الفصاحة للمتكلم كي ينتقل من كلام إلى كلام، كقول الله: ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ [سورة ص آية: ٥٥]، انتقال من كلام إلى كلام، فيؤتى بحرف الإشارة هذا، وذاك فصاحة في كلام العرب. ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ﴾ لو أراد الله ألا يكون في الأرض كفر؛ ما كان في الأرض كفر. لو أراد الله (تبارك وتعالى) أن يهلك الكفار جميعا، أن يمنع عنهم الرزق، أن يمنع عنهم الكساء، أن يمنع عنهم النفس والهواء، إن أراد الله (تبارك وتعالى) أن ينتصر منهم بغير قتال، وبغير جهاد من المسلمين؛ لانتصر منهم، فلا يعجزه شيء وهو القادر على كل شيء.
﴿وَلَكِنْ﴾ ولكن لم ينتصر منهم ولم يهلكهم، وتركهم، لماذا؟ ﴿وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ يمتحن بعضكم ببعض، ويختبر بعضكم ببعض، فيختبر المؤمن، ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٤٢]، لابد وأن تظهر شجاعة المقاتل المؤمن، ويظهر الصبر في مواطن القتال، لابد من الابتلاء والاختبار، والدنيا دار ابتلاء ودار اختبار، فلم ينتصر ربنا من الكفار لأنه أراد أن يبلو بعضكم ببعض، يختبر المؤمن بوجود الكافر، هل يفر؟ هل ينافقه؟ هل يخشاه؟ هل يتخذه من دون المؤمنين وليا؟ أم يقاتله في سبيل الله، ويرفع راية الحق، ويقاتل كي تكون كلمة الله هي العليا؟ ﴿وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ يبلو المؤمن بالكافر، ليرى ماذا يفعل المؤمن وقد رأى الكافر أمامه يسب الله جهارا، ويزعم له الشريك والولد، ويبلو الكافر أيضا بأن يقتله المؤمن فيتعظ من خلفه، ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [سورة الأنفال آية: ٥٧] لأنك إذا قاتلت القريب خاف منك البعيد، وإذا قتلتهم وشددت عليهم خافوا ولم يجاهروا بالكفر. ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ وقرأت: ﴿والذين قَتَلُوا في سبيل الله﴾، ﴿والذين قَاتَلُوا﴾، ﴿والذين قُتِّلُوا﴾. ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي لن تضيع أعمالهم، بل حسناتهم محفوظة، وأعمالهم مكتوبة، وثوابهم ينتظرهم.
قال بعض الناس: ﴿والذين قُتِلوا في سبيل الله فلن يُضل أعمالهم﴾ قراءة قد تكون ضعيفة لأن الله يقول: ﴿سيهديهم ويصلح بالهم﴾ وكيف يهدى الميت الذي قتل؟ وكيف يصلح باله؟ وهي قراءة حفص، قراءة مصر، قالوا: هذا لا يتمشى مع المقتول إذا ًفالقراءة ﴿وَالَّذِينَ قَتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أو ﴿والذين قاتلوا في سبيل الله﴾. لكن القراءة صحيحة والمعنى متسق؛ ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: لن يضيع جهادهم، ولن يهدر دماءهم التي سالت، ولن يضيع ثوابهم. ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ ليس الهداية في الدنيا فقط، بل الهداية في الآخرة أيضا، لأننا محتاجون للهداية على الصراط حتى تثبت عليه الأقدام، وكي لا تزول القدم عليه، أيضا محتاجون للهداية إلى طريق الجنة في الآخرة، فالآخرة هوْل وكرْب وخوف وهلع، والهداية: الدلالة، والهداية: ظل العرش، الهداية: الأمن والأمان، الهداية: الدلالة على المصير، معرفة الجنة، ومعرفة الطريق إليها. ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ يصلح حالهم في الجنة والقراءة صحيحة. ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ سيديهم في الآخرة، في يوم القيامة ﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ أحوالهم في الجنة فيتمتعون ويأكلون ويشربون ولا يتغوطون ولا يتبولون ولا يتمخطون والدليل على أن القراءة صحيحة الآية التالية ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ سيهديهم ويصلح بالهم في الدنيا وفي الآخرة أيضا وكما قلنا في بداية السورة ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ حالهم في الدنيا، وأصلح قلبهم، إذاً فقد أصلح دينهم، إذاً فقد أصلح حالهم في الآخرة أيضا.
فالذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيديهم إلى طريق الجنة، سيهديهم إلى رضوان الله (تبارك وتعالى) ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ سيهدي من بقى منهم، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [سورة الأحزاب آية: ٢٣]، ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ قال بعض العلماء: عرفها لهم، وصفها لهم في الدنيا، وصف الجنة فيها أنهار من ماء غيرآسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات، وجاءت هذه الأوصاف في سورة محمد والتي نحن بصددها، وجاءت أوصاف الجنة في مواضع كثيرة، إذن فكلكم يعرف الجنة فهي وصفت لك، هذه الجنة التي وصفت لك وعرفها لك ربك هي التي سوف يدخلك إياها إن شاء الله. وقال بعضهم: عرفها لهم أي عرفهم السبيل إليها، فشرع الدين وبيّن بأوامره ونواهيه الطريق إليها، عرفها لهم: أي عرفهم كيف يسلكون السبل إليها، عرفهم الطريق إليها فعملوا به، عرفهم كيف يستحقونها بأعمالهم فبين لهم الحلال والحرام، وأنزل إليهم الأحكام، فعرفوا طريق الجنة فعملوا لذلك. وقال بعضهم: ﴿عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ أي: طيّبها لهم، من العَرْف، والعَرْف: الطِّيْب، عَرِفَ الرجل: فاح طيبه ورائحته وتطيّب، فالعرف هو الطيب، عرّفها لهم: أي طيبها لهم فصارت طيبة، طابت لهم الجنة، وطاب لهم ريحها، وطابت معيشتهم فيها، طيبها بأنواع الملاذ وأنواع المتع. وقال بعضهم: بل التعريف لابد بدليل، والدليل هو المَلَك الموكل بك في الدنيا والذي دوّن لك أعمالك الصالحة، فإذا كان يوم القيامة وجُزتَ الصراط، جاء الملك الموكل بك في الدنيا فسار أمامك كالدليل يقودك إلى منزلك في الجنة، ثم يعرّفك ما فيها ومالك فيها هذا لك هنالك وهكذا عرفها لك بالآدلاء، ملائكة الرحمن.
تلك كلها أقوال، وأرجح الأقوال بل أحق الأقوال قول سيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى اذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا" هذا يعني أن كلمة ﴿عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ أن المؤمن إذا أذن له بدخول الجنة، دخل وهو غير محتاج لدليل وغير محتاج لأن يعرّف، بل هو يعرف طريقه فإذا به يمشي إلى جنته وقصره، إي وربي! كما يخرج أحدكم من المسجد إلى بيته لا يتوه ولا يضل السبيل، بل يتجه إلى منزله بالجنة وكأنه قد كان فيه منذ خلق دون دليل، وهذا معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم": أصحاب الجنة، "أهدى": أعرف، "بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا": إذاً فأنت تعرف منزلك وطريقك في الجنة أكثر وأشد لمعرفتك من منزلك في الدنيا، فأنت غير محتاج لدليل.
علمنا أن الله (تبارك وتعالى) لو شاء لانتصر من الكفار، ولو شاء ما كان على الأرض كفر، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء ما أشركوا ولا أشرك آباؤهم، ولكن الله (تبارك وتعالى) أراد أن يبلوا الناس بعضهم ببعض، من هنا كان الجهاد. وكان الجهاد متعينا في أوقات على كل مسلم إذا هددت ديار الإسلام، وقد يكون الجهاد فرض كفاية، ذاك طبقا للظروف وطبقا للأحوال، وإمام المسلمين مخيّر في اختيار الوقت والزمان، في اختيار المكان، في اختيار القتل والقتل فقط حتى تكون كلمة الله هي العليا، أو الأسر والفداء، أو المنّ، أو الاسترقاق.
والإنسان إذا فكّر في هذا وبطبيعته البشرية قد يخشى القتل، فيبين ربنا أن المقتول لن يموت ناقص عمر، فلن يموت إنسان حتى يستوفي أجله ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [سورة النساء آية: ٧٨]، وبين ربنا (تبارك وتعالى) أن المقتول له الثواب العظيم، والأجر الجزيل، أما الحي مِنّا والمُقدم على الجهاد والمعركة محتاج للتأييد، محتاج للنصر، فقد يكون السلاح قليلا، وقد يكون العدد غير وفير، فهل يدخل في القلب الخوف؟ هل يجبن المؤمن؟ يبين ربنا (تبارك وتعالى) أن النصر من عند الله، وليس النصر بكثرة العَدد أو بكثرة العُدد، وإنما النصر من عند الله، وطالما كان النصر من عند الله فلابد لنا وأن نحوز ذلك النصر، هل نسأل الله (تبارك وتعالى) النصر؟ نعم نسأله! وهل يكتفي بالسؤال؟ أبدا! لابد من العمل، وعلاقة الإنسان بربه بيّنها القرآن، أخذ وعطاء، الله (تبارك وتعالى) يعطيك وأنت تأخذ من الله (تبارك وتعالى) مالا يعد ولا يحصى من نعم، وعليك أن تعطي من نفسك، فكيف لك أن تطلب من الله المغفرة وتطلب أن ينعم عليك وقد بخلت أنت بطاعته؟ بخلت أن تعطي من نفسك وقد أعطاك هو تلك النفس؟ بخلت أن تعطي من مالك وقد أعطاك هو المال؟ كيف تبخل ثم تطمع في كرم الله (تبارك وتعالى)؟ لذا إن كنت تريد النصر فعليك أن تعطي من نفسك النصر، ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ هذا هو طريق النصر.
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴿7﴾
وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فَتَعْسًۭا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ ﴿8﴾
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا۟ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ ﴿9﴾
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ والذين كفروا ما حكمهم؟ هؤلاء الذين كفروا بالله وابتعدوا عن دين الله ولم ينصروا دين الله مصيرهم التعاسة والشقوة و الحزن والضلال، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ﴾ ﴿وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أضاعها و ضيعها، تأكيد على أن الأعمال وإن بدت صالحة مالم يكون الدافع لها الإيمان فهي غير مقبولة، ﴿ذَلِكَ﴾ هذا الإضلال وهذه التعاسة التي كتبت عليهم ليس ظلما، فما ربك بظلام للعبيد، ولكن ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنهم ﴿كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ كرهوا القرآن، كرهوا الحق لأن فيه التكليف، فيه الأمر بالقتال، فيه منع للذائذ والمتع والشهوات المحرمة، فيه إهدار لسلطانهم وتجبرهم وتملكهم لرقاب العباد بغير حق، كرهوا القرآن لأن القرآن حق، وكرهوا التكليف وأرادوا أن يحيوا حياتهم بغير مسئولية وبغير تبعات، ﴿كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ أبطلها، تأكيد آخر لإبطال الأعمال بعد التبيين لمصير هؤلاء ومصير هؤلاء، بعد التبيين يأتي التأمل والنظر:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَـٰفِرِينَ أَمْثَـٰلُهَا ﴿10﴾
ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ﴿11﴾
وحين انجلت الأمور، وحُمِل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى شعب يخبئه المسلمون من الكفار وقد أصيب وكُسِرت رباعيته وجُرِح، إذا بالكفار ينادون في فخر وخيلاء: (يوم بيوم بدر، والحرب سجال)، واعتقد الكفار أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) قد قتل، ونادى أبو سفيان: (هل في القوم محمد؟) فأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) ألا يجيبه أحد، (هل في القوم أبو بكر؟ هل في القوم عمر؟) فاطمأن بعدم الرد أن الكل قد مات، ولكن عمر لم يملك نفسه إلا أن قال: (نحن أحياء ورسول الله حي وسوف وسوف وسوف) فنادى الكفار: (أُعْلُ هُبَل، أُعْلُ هُبَل) و هُبَل اسم لصنم كانوا يعبدونه، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "ردوا عليهم، أجيبوهم" قالوا: (بم نجيبهم يا رسول الله؟) قال: "قولوا: الله أعلى وأجل" وحين نادوا: (يوم بيوم بدر، والحرب سجال) قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "أجيبوهم" قالوا: (بم نجيب؟) قال: "قولوا: قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ليسوا سواء" فنادى الكفار: (لنا العزى ولا عزى لكم)، والعزى: اسم صنم، وكان الكفار يسمون أولادهم بعبد العزى، أي عبد لهذا الصنم يؤلهونه، قال الكفار: (لنا العزى ولا عزى لكم) فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "أجيبوهم" قالوا: (بم نجيبهم يارسول الله؟) قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم" فنزلت الآية: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.
الناس في الدنيا ثلاثة؛ مؤمن، ومنافق، وكافر. والمؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق في الدنيا يتزين، والكافر في الدنيا يتمتع. لذا يقول الله (تبارك وتعالى):
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلْأَنْعَـٰمُ وَٱلنَّارُ مَثْوًۭى لَّهُمْ ﴿12﴾
وأما الذين كفروا فحالهم في الدنيا أنهم يتمتعون، فالكافر في الدنيا يتمتع، والدنيا جنة الكافر وهي سجن المؤمن؛ جنة الكافر لأنه لا جنة له غيرها، ومصيره في الآخرة إلى النار. فهم يتمتعون في الدنيا مدة الدنيا، ﴿متاع﴾: مدة قصيرة، من قولهم: (مَتَع النهار) أي: ارتفع النهار، وارتفاع النهار لايدوم إلا سويعات، فهؤلاء يتمتعون في الدنيا بشهواتهم، وبلذائذ الدنيا المحرّمة، وبعصيانهم، وإذا أكلوا أكلوا كما تأكل الأنعام، دون فكر، دون ذكر، دون علم بأن الرازق هو الله، فسبحان من رزقهم بغير حول منهم ولا قوة! هؤلاء يأكلون كما تأكل الأنعام، لاهَمّ لهم إلا ملء البطون، لاهمّ لهم إلا التمتع بلذائذ الأطعمة والأشربة، فهم يتمتعون بالمعاصي، يتلذذون بالشهوات، يأكلون كما تأكل الأنعام. وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول: "المؤمن يأكل في مِعَن واحد؛ والكافر يأكل في سبعة أمعاء"، وهم كمن يأكل ولا يشبع، استشرفوا الدنيا وعملوا لها، وعاشوها ولم يبالوا بالآخرة، ولم يتفكروا فيها، فهم كالأنعام بل هم أضل. ﴿وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ وذاك مصيرهم في النهاية، مقامهم ومكانهم ومستقرهم النار. (ثَوِىَ بالمكان) أقام به، ﴿والنار مثوى لهم﴾ مكان إقامتهم ومكان استقرارهم.
وتأتي آية تسري عن المصطفى، فقد نزلت بعد أن خرج من مكة؛ خرج حزينا آسفا، خرج ليلا، خرج مستخفيا، خرج والدموع في عينيه ينظر إلى بيت الله الحرام ويقول: "اللهم أنت أحب البلاد الى الله، وأنت أحب البلاد إلي، ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك" نعم! هم لم يخرجوه على الحقيقة، ولكنهم تسببوا في إخراجه، فقد استمر إيذاؤهم بعد موت أبي طالب، وبعد موت خديجة، استمر الإيذاء واستمرت جهالاتهم وسفاهتهم، فاضطروه للخروج فكانوا سببا لخروجه، وكأنهم هم الذين أخرجوه واحتملوا وزر إخراجه، لذا يقول الله (تبارك وتعالى) مسريا عنه، مطمئنا له، مبينا له أنه ولابد منتقم منهم:
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةًۭ مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَـٰهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴿13﴾
ثم يضرب ربنا (تبارك وتعالى) المثل باستفهام تقريري فيقول:
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّهِۦ كَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ وَٱتَّبَعُوٓا۟ أَهْوَآءَهُم ﴿14﴾
﴿كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ من الذي زين له سوء عمله؟ هل هو الله؟ زين لهم سيئاتهم حتى يستمروا فيها؟ استدرجهم بعلمه الأزلي بكفرهم وانطباعهم على الكفر؟ أم زين لهم سوء عملهم الشيطان بوسوسته وبإيعازه وبدعائه لهم إلى الكفر؟ أم هم زينوا لأنفسهم سوء أعمالهم وأصروا على الكفر وفرحوا بأنفسهم؟ هل يستوي من كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم؟ واتباع الهوى يعمى ويصم، واتباع الهوى يضل، وربنا يقول لحبيبه داوود: ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [سورة ص آية: ٢٦]، وقد ذم الكفار بقوله: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [سورة الروم آية: ٢٩]، وقال: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [سورة القصص آية: ٥٠]، فاتباع الهوى يبعد عن الله (تبارك وتعالى) والهوى ما اشتهته النفس، الهوى لا يخضع لمنطق، الهوى لا يخضع لعقل، الهوى شهوات، الهوى نزعات، الهوى يزكيه الشيطان بالخطرات. هؤلاء اتبعوا أهواءهم، ساروا وراء شهواتهم وشهوات نفوسهم، عبدوا الأصنام وسجدوا اللأوثان، وقدموا لها القرابين، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وسفهوا الحق وسفهوا النبي (صلى الله عليه وسلم) وجهّلوه وكذبوه وآذوه.
ثم يأتي الكلام لضرب الأمثال عن الجنة التي وُعِد المتقون:
مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَـٰرٌۭ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍۢ وَأَنْهَـٰرٌۭ مِّن لَّبَنٍۢ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُۥ وَأَنْهَـٰرٌۭ مِّنْ خَمْرٍۢ لَّذَّةٍۢ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنْهَـٰرٌۭ مِّنْ عَسَلٍۢ مُّصَفًّۭى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغْفِرَةٌۭ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَـٰلِدٌۭ فِى ٱلنَّارِ وَسُقُوا۟ مَآءً حَمِيمًۭا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴿15﴾
﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ اللبن في الدنيا له مصدر واحد ألا وهو الأنعام، تحلب وبعد مدة إذا تركت اللبن يحمض ويتغير طعمه، بل ويتغير أيضا لونه، هذه الأنهار من لبن لا يتغير طعمه ولا مصدر له من أنعام، بل الله (تبارك وتعالى) خلقه كذلك من غير مصدر، كن فيكون! ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ والخمر في الدنيا تسكر وتذهب العقل وتصيب بالصداع وآلام في الرأس، لكن خمر الآخرة ﴿لا يُصَدّعون عنها ولا يُنْزِفون﴾، والخمر في الدنيا منها مايصنع بالأقدام؛ يعصرونها بأقدامهم، ومنها ما يتداول بالأيدي، هذه الخمر في الآخرة ليس فيها رَنَق ولا كدر ولا أقذار، خمر ليس فيها إلا اللذة ﴿لذة للشاربين﴾، خُلِقَتْ ولم تُعصَر ولم تُصنَع بل خُلِقت كذلك. ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ والعسل مصدره النحل، وهو لعاب النحل، أو يخرج مع لعابه، وفيه الشمع، وقد يتعرض للغبار، ولابد من تصفيته وما إلى ذلك. أما أنهار العسل في الجنة فليست واردة من النحل ولا يخالطها شمع ولا غيره، وإنما هو عسل مصفى خلقه الله خلقا إنشاءً وابتداءً. إذا ً فهذا المثل بالماء غير آسن، واللبن لا يتغير طعمه، والخمر فيها اللذة للشاربين، والعسل المصفى، أربعة أنواع من الأشربة، مثال لأنواع الأشربة في الجنة، يضرب ربنا المثل بما عهدناه في الدنيا، فأجمل الأشربة وألذ الأشربة في الدنيا هي الماء ففيه الحياة، والخمر فيه الإنتشاء والنشوة واللذة، والعسل فيه الحلاوة وفيه الشفاء، واللبن فيه الغذاء، فهو مثل لأنواع الأشربة في الجنة، غير أنه خلّصها من الكدرات، فالماء لا يعطن؛ والخمر لا تسكر ولا تذهب الوعي ولا تصيب الرأس بالألم؛ والعسل مصفّى، فهي أمثلة لكن الحقيقة غير ذلك! أيضا حين يعبّر بأنها أنهار فماء الأنهار لا ينضب، إذا فهي كثيرة لا نضوب لها ولا فراغ ولا نهاية.
وبالإضافة إلى كل ذلك ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ وكلمة ﴿من﴾ ليست للتبعيض بل هي للتأكيد، لهم فيها من كل الثمرات مايخطر ببال ومالا يخطر ببال، وليس في الجنة من دنياكم إلا الأسماء ففيها النخل والرمان كما أن في الدنيا نخل ورمان ولكن شتان!
﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وذلك أرقى ما يحصلون وأجمل ما يستمتعون به، ألا وهو رضوان الله؛ غفران الذنوب وستر العيوب. كل ذلك هل يستوى مع من؟ ﴿كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ﴾ أفمن كان خالدا في هذا النعيم كمن خلد في النار؟ ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ تلك أشربة الجنة: الماء واللبن والخمر والعسل، أما شراب أهل النار فقد سقوا ماءا حميما، و (الحميم): البالغ الغاية في الحرارة و شدة الغليان التي لا يعلم منتهاها إلا الله، إذا قرّب إليهم الشراب شويت منه الوجوه فتساقط اللحم على الوجه وتسقط فروة الرأس، فإذا شربوا من شدة العطش رغم مافعل فيهم فإذا نزل في أجوافهم قطع الأمعاء، فخرجت من دبرهم متقطعة. و (الأمعاء) تطلق على الحوايا، كل ما في البطن يطلق عليه الأمعاء، واحدها مِعَن، ومِعيان اثنان، وأمعاء الجمع. الحوايا في البطن تتهرأ وتتقطع من هذا الشراب بالإضافة إلى صديد أهل النار الذي يشربونه.
وحين يسمع الإنسان مثل هذا الكلام قد يدخله بعض الإشفاق على هؤلاء الذين خلدوا في النار وسُقوا ماءا حميما فقطع أمعاءهم. ولكي لا يستقر هذا الإحساس في نفس أي إنسان، ولكي لا يشعر الإنسان بالإشفاق على هؤلاء من هذا المصير المهول، يقول ربنا يحدثنا عن بعض أفعالهم ولم لقي كل منهم ذاك المصير فيقول:
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰٓ إِذَا خَرَجُوا۟ مِنْ عِندِكَ قَالُوا۟ لِلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوٓا۟ أَهْوَآءَهُمْ ﴿16﴾
فهؤلاء يستمعون إليك، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أتوا العلم: (ماذا قال آنفا؟) أو (أنفا؟) قراءة، إما استهزاءا، وإما تعبير عن عدم استيعابهم وعدم فهمهم، فالكلام غير مفهوم وكأنه يتكلم بالأحاجي ويتكلم بالألغاز، فيقول الله (تبارك وتعالى): ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ طبع على قلوبهم لأنهم أصروا على الكفر، ملئت قلوبهم وأصروا على هذا الكفر وأغلقوا قلوبهم عليها، على هذه التكذيبات، على هذه الاختراعات التي اخترعوها في القرآن: سحر، أساطير، وما إلى ذلك، أغلقوها على الكفر ولم يفتحوها اللإيمان. وطريق القلب الآذان، فإذا أعطيت أذنك واستمعت دخل الكلام إلى القلب، والقلب محل العقل فتعقل الكلام، تسمع فتعقل فتعلم فتعمل، هؤلاء أغلقوا آذانهم ولم يسمعوا، إذا فقد أغلقوا قلوبهم عن دخول الكلام إليها فلم يعقلوه ولم يفقهوه، من هنا طبع الله عليها وختم، فما فيها من كفر لا يخرج، وأما الإيمان فلا يمكن له أن يدخل، طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم، هم متبعون للأهواء، والأهواء باطل، والأهواء ليست بالحق، والأهواء شهوات النفوس.
وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْا۟ زَادَهُمْ هُدًۭى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ ﴿17﴾
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةًۭ ۖ فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا ۚ فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَىٰهُمْ ﴿18﴾
ولها علامات كبرى: أن تغيض الكرام غيضا أي تختفي، وتفيض اللئام فيضا، ويصبح الولد غيظا؛ كان الرجل إذا بشر بالوليد أعتق المبشر إن كان عبدا أو أمة وأعطى البشرى، والآن إذا حملت المرأة بكت! يحددون النسل ويخافون الولد، أصبح الولد غيظا، والمطر قيظا؛ ينزل في الصيف بدلا من الشتاء، ويجترئ الصغير على الكبير، واللئيم على الكريم، من علامات الساعة كثرة المال، وكثرة التجارة والغش في الكيل والميزان، ومن علامات الساعة أن يفشي الناس الزنا، وأن يفشى فيهم شرب الخمر، من علامات الساعة الهرج، الهرج، قالوا: (وما الهرج يارسول الله؟) قال: "القتل"، القتل، وأنت ترى الآن كثيرا من القتل في جميع أنحاء الدنيا، قتل بلا مبرر، سيارات ملغومة وقنابل وانفجارات يموت فيها أبرياء بلا ذنب في كل مكان، ألغام وانفجارات وقنابل ومفرقعات وسيارات ملغومة والناس غير آمنين، الهرج، الهرج من علامات الساعة. وهكذا حتى تأتي العلامات الكبرى كالنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وكثرة الزلازل، وكثرة الصواعق، وكثرة البراكين، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخروج الدابة التي تكلم الناس، وخروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم، ثم طلوع الشمس من مغربها وهنا تقفل باب التوبة ولا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. نعم! هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها؟ ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ (أنّى لهم): كيف لهم إذا جاءتهم الساعة ذكراهم؟ أي: تذكرهم، إذا جاءت الساعة هل ينفع إيمان؟ هل يجدي اعتذار؟ هل ينفع التذكر؟ أبدا! من قبل أن تأتي الساعة إذا جاءت العلامة الكبرى، بعض آيات ربك، إذا جاء هذا وهو طلوع الشمس من مغربها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.
وقد قرأت الآية قراءة أخرى ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾ وقف ﴿إن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ قراءة بالشرط، والجواب هو ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾.
أيها الأخ المسلم، الساعة تقوم في يوم جمعة ففيه خلق آدم، وفيه تاب الله على آدم، وفيه أهبط آدم إلى الأرض، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم ويسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وهو في الأرض يوم عيد وهو في السماء وفي الآخرة يوم المزيد، ففي يوم الجمعة يؤذن لأصحاب الجنة فيتزينون ويخرجون كما كانوا يخرجون في الدنيا، فإذا بهم في واد طيب، كثبانه من المسك، وإذا منابر من نور، وإذا أناس يجلسون على منابر النور، وإذا أناس يجلسون على كثبان المسك لا يرى هؤلاء لهؤلاء فضلا عليهم فالكل راضي، عمهم الرضا، وإذا بالعرش وإذا بالحجاب يكشف، وإذا بالناس تنظر إلى وجه الكريم فيريهم من ربنا ما يشاء، ينظرون إلى ربهم (تبارك وتعالى) نظرا لا يهضمون فيه ولا يضامون فيه كالقمر ليلة البدر لا يضام فيه أحد، ولا يداري أحد على أحد، ولا يستر أحد أحدا، ً بل الكل يرى، فإن عادوا إلى دورهم وقصورهم وجنانهم استقبلتهم الحور فاندهشت الحور وقالوا: من أنتم؟ لقد جئتم إلينا بوجه غير الذي تركتمونا عليه، كيف حدث؟ وماذا حدث؟ فيقول أصحاب الجنة: لقد رأينا من ربنا ماشاء!
يقول الله (تبارك وتعالى) مخاطبا حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم):
فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَىٰكُمْ ﴿19﴾
بعد أن بيّن حال الكفار ومصير الكفار، وبعد أن بيّن حال المؤمنين ومصير المؤمنين، يقول لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم): ها وقد علمت مصير هؤلاء وهؤلاء فاثبت على إيمانك وداوم على يقينك، واذكر أن الله واحد، وهو القادر على نصرك على أعدائك. ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ هل له ذنب؟ هو المعصوم (صلى الله عليه وسلم) المعصوم في الشيبة والشباب، قوله الصواب، ورأيه فصل الخطاب، معصوم ما أساء قط، فكيف يقال له استغفر لذنبك؟ فقالوا: أي استغفر كي لا يقع منك ذنب، وقالوا: بل المعنى استغفر كي تعصم من الذنب، وقال بعضهم: حسنات الأبرار سيئات للمقربين، فبالنسبة للأنبياء قد يصنع الواحد منهم ماهو خلاف الأوْلى، فبالنسبة للنبي (صلى الله عليه وسلم) كان يذكر الله على كافة أحواله؛ صمته فِكْر، ونطقه ذكر، وإذا نامت العينان فالقلب يقظان، لكنه في بعض السويعات كان ينشغل بأهله، وكان ينشغل بمصالح المسلمين فيشغله ذلك عن الفكر والذكر فيعد ذلك ذنبا، فيستغفر ويقول: "إني لأستغفر ربي في اليوم مائة مرة"، وقال بعضهم: الخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) والمراد الأمة. ففي القرآن أنواع من الخطاب، خطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) وهو المقصود كقوله تعالى ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [سورة الفتح آية: ٢]، وكقوله: ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ [سورة الأحزاب آية: ٥٠]، وكقوله: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ [سورة الأحزاب آية: ٥٢]، وكقوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [سورة الفتح آية: ١]
وهناك خطاب له وهو المقصود ومعه المؤمنون مقصودون كذلك، كقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٧٨]، خطاب له وللأمة، ويخاطب هو باعتباره إمام الأمة وقدوة الأمة.
وهناك خطاب له والمراد الأمة، كقوله: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [سورة الأنعام آية: ٣٥]، الخطاب له والمقصود الأمة حاشا وكلا أن يكون يوما من الجاهلين، ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة القصص آية: ٨٧]، لايمكن أن يكون هو مقصودا بهذا القول، إذا فالخطاب له والمقصود الأمة، ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [سورة الطلاق آية: ١]، الكلام له والمقصود الأمة. من هنا قالوا: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ الكلام له والمقصود الأمة. وقال بعضهم: بل أُمر النبي أن يستغفر فعلا كي يسن لنا الاستغفار، ولكي يعلمنا كيفية الاستغفار، ويقول: "إني أستغفر ربي في اليوم مائة مرة" حتى يعلمنا كيف نستغفر، وهو أسوة وهو قدوة. إذاً فقد أُمر أن يستغفر حتى نتعلم منه، أو أُمر أن يستغفر والخطاب له والمراد الأمة، أو يستغفر حتى لا يقع في ذنب، أو الكلام معناه دم على إيمانك واثبت على يقينك واحذر أن يقع منك مايستوجب الاستغفار.
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ النسق جاء بحرف الجر، ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ولم يأت بكلمة الذنب، " وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ " ولم يقل "ولذنب المؤمنين" بل قال: ﴿وللمؤمنين﴾ فحذف كلمة الذنب، وإعادة ذكر حرف الجر تشعر بأن المؤمنين والمؤمنات في شدة الحاجة للاستغفار، وتشعر بأن الذنوب كثيرة والخطايا كثيرة وأنهم في أشد الحاجة لذلك، وتشعر أيضا بأن نوعية الذنوب مختلفة، فإن كان هناك ذنب اللأبرار وللمقربين فهو مخالف لذنب المؤمنين فحسنات الأبرار سيئات المقربين، فالقول: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ إشعار بثلاثة أمور: احتياجهم للاستغفار، كثرة الخطايا والذنوب، واختلاف نوعية الذنوب التي يستغفر لها النبي (صلى الله عليه وسلم) عن نوعية الذنب الذي أُمر أن يستغفر هو منه.
قلنا أن الخطاب في الآية له أو الخطاب له والمراد الأمة، فإن كان الخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ فهنيئا لنا فقد أمره ربه بالشفاعة، فهو مأمور بأن يشفع لنا، مأمور بأن يستغفر لنا، فهنيئا لنا برحمة الله لنا. ﴿وَاسْتَغْفِرْ﴾ أمر. اللهم إنا آمنا يارب ونشهدك على ذلك، فهو مأمور بالشفاعة والاستغفار لنا. وإن كان الخطاب لنا، إذا فاستغفارنا للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات واجب وفرض! وعليه فلا يصح لمسلم ومؤمن أن يستغفر الله إلا ولابد أن يستغفر للمؤمنين وللمؤمنات، فيستغفر لنفسه ويستغفر أيضا للمؤمنين والمؤمنات لأن الله قد أمر بذلك، ويصبح الاستغفار لمن سبقنا بالإيمان ويصبح الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات فرض وواجب. فلا تنس ايها المسلم أن تستغفر لإخوانك من المسلمين فقد أمرت بذلك وأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ (المتقلّب): أن يتقلب الإنسان من قديم الزمان بين الأصلاب والأرحام فهو يتقلب من صلب إلى رحم وهكذا. و (المثوى) الوجود في الدنيا.
(المتقلّب): المعايش، القيام والجلوس والذهاب والمجيء والجري على الأرزاق وهكذا. (المتقلب): التصرف في الدنيا بالذهاب والمجيء وهكذا. و (المثوى): النوم. فهو يعلم أحوالنا في اليقظة، ويعلم أحوالنا في النوم، يعلم أحوالنا ونحن في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ويعلم أيضا مثوانا وهو القبر، رحلة واستراحة في القبر إلى أن يداوم ويستأنف الإنسان رحلته إلى الله. ﴿مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ الدنيا والآخرة، ﴿مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ اليقظه والنوم، ﴿مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ الحياة والموت في القبر. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ والله (تبارك وتعالى) عالم من الأزل بما هو كائن إلى الأبد، فهو يعلم بأحوال بني آدم في يقظتهم وفي منامهم، بل وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، يعلم بهم في كل أحوالهم، بل وقد سطر كل ذلك في لوحه المحفوظ، لا تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير.
أيها الأخ المسلم، إذا كان الله (تبارك وتعالى) يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أفلا نستحي من الله أن يطلّع علينا ونحن مقيمون على عصيانه؟ أفلا نستحي من الله أن نستخدم النعم التي وهبنا إياها في محاربته وفي معصيته؟ فالعين أمانة ونعمة، والأذن أمانة ونعمة، فالمنافقون لم يستخدموا هذه النعم فيما خلقت له، فاستغشوا ثيابهم وأغمضوا أعينهم وصمُّوا آذانهم، بل ولغُوا في الكلام كلما قرئ القرآن، ارتفعت أصواتهم يشوشون عليه، فحين استخدموا النعم في غير ما خُلِقت له سلبهم الله إياها أو سلبهم الانتفاع منها، فإذا هم لهم آذان لا يسمعون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، وأصبحوا كالأنعام بل هم أضل من الأنعام سبيلا. ايها الأخ المسلم، اتق الله وإياك والخيانة! وربنا يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة الأنفال آية: ٢٧]، فامرأتك أمانة، وأولادك أمانة، ومالك أمانة، والله (تبارك وتعالى) جعلك مستخلفا في كل ذلك وسائلك عن كل ذلك، "كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته."
قد كان الله قادرا على خلق الخلْق، أن يدخل أصحاب الجنة في الجنة، وأن يدخل أصحاب النار في النار، ولكن رحمته (تبارك وتعالى) اقتضت أن يجعل لهم الدنيا دار عمل ودار ابتلاء، ومن فضله ورحمته السابغة أن بيَّن للناس أسرار حياتهم وأسرار وجودهم، وبيَّن لهم أيضا مصيرهم وأحوالهم في حياتهم الأخروية، تعهدهم بالرسالات السماوية، حذرهم من الشيطان ومن النزغات والأهواء الشيطانية، ولم يدع شيئا إلا وبيَّنه، فما فرط في كتابه من شيء، حذرهم من الموت وبين لهم أن بعد الموت حياة هي حياة أخرى، جزاء ولا عمل، حذرهم من القيامة، حذرهم من الساعة، ورغم أن الساعة لاتأتي إلا بغتة إلا أنه قد تفضل على العباد فأعلمهم بشرائطها وأشراطها، وبين لهم أن من أشراط الساعة بعثة آخر الأنبياء (صلى الله عليه وسلم) الذي قال محذرا: "بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين وضم السبابة والوسطى."
يحذر ربنا هؤلاء الذين نافقوا فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، حذرهم الفضيحة في يوم التغابن حيث قال: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ أي: إذا غفلوا عن الموت فلا يصح لهم أن يغفلوا عن الساعة، ومن قدر على الإبتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء، ماذا ينتظرون إذا كان الموت بعيدا عن أفكارهم؟ فهل الساعة أيضا بعيدة؟ هل ينتظرون الساعة ومجيئها بغتة؟ فإذا جاءتهم هذه الساعة بغتة، وقد حدث أن جاءت الأشراط ومنها بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) منها انشقاق القمر، منها الدخان، منها ومنها ومنها، فكيف يكون حالهم حين تأتي الساعة؟ كيف يتذكرون وهل تنفع الذكرى؟ كيف يعتذرون ولا يؤذن لهم فيستعتبون؟ كيف؟ بل وقد قيل في الآية أن ذكراهم بمعنى النداء عليهم، حيث قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "حسّنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة فيقال يافلان ابن فلان قم الى نورك يافلان ياابن فلان قم لا نور لك". ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾: أي دعاؤهم بأسمائهم على رءوس الخلائق حيث يفضح المنافق الذي أخفى نفاقه أخفى كفره وأظهر إسلامه، وقد قرأت الآية ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾ الوقف هنا (إن تأتهم بغتة فقد جاء أشرطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم). الشرط يتضمن بعض الشك، فإن كان الشرط يتضمن بعض الشك بوجود حرف الشرط فالشك مردود إلى الخلق، هم شكوا في قيام الساعة فالشك مردود إليهم ﴿إن تأتهم بغتة فقد جاء أشراطها﴾ ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ جواب الشرط. وكأن الله (تبارك وتعالى) يقول لحبيبه المصطفى دعك من هؤلاء وهؤلاء، واثبت على ما أنت عليه من يقين وإيمان، فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم لايخفى عليه خافية، يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور.
ثم يحدثنا القرآن عن أحوال المنافقين ويفضحهم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث تكلموا سرا وأبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، مع ذلك فضحهم الله فيقول عز من قائل:
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌۭ ۖ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌۭ مُّحْكَمَةٌۭ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌۭ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ﴿20﴾
طَاعَةٌۭ وَقَوْلٌۭ مَّعْرُوفٌۭ ۚ فَإِذَا عَزَمَ ٱلْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا۟ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْرًۭا لَّهُمْ ﴿21﴾
رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت كمن يشخص بصره فيحدق وتنفتح العينان، وإذا بالنظر ثابت شاخص محدق يبين فيه الفزع ويتضح فيه الرعب. شبههم ربنا بذلك فعرفهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بسيماهم ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ ﴿فأوْلى لهم﴾: توعد تهديد ووعيد، ﴿فأولى لهم﴾ فعل ماض من (الوَلْي): القرب، أي قرب هلاكهم ودنا منهم العذاب والهلاك، أو هي من (الويل): وحدث فيها القلب، قلبت أولى، أو هي اسم تفضيل بمعنى: أحق لهم و أليق وأحسن وأفضل الطاعة، ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ(٢٠)طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ فإذا كنت تقرأها بمعنى التهديد والوعيد فالوقف عليها ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ﴾، وإن كنت تقرأها على أنها اسم تفضيل بمعنى الأحق والأحسن والأفضل فعليك بالوصل ﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ(٢٠)طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ أي الأحق والأحسن والأفضل لهم والأولى بهم، واللام بمعنى الباء فأولى بهم طاعة قول معروف، و إن وقفت على رأس الآية فيكون المعنى: ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ هو أولى وأليق لهم. ... ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾ جدّ القتال وحانت ساعته، والأمر لأصحابه، وإسناده للفعل مجاز، نوع من أنواع المجاز، فإذا عزم الأمر أي عزم أصحاب الأمر، جدّ القتال وحانت ساعته واستعد المقاتلون له، ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ لو صدقوا الله في أنهم ادعوا أنهم يتمنون الجهاد، في أنهم يريدون القتال، في أنهم أسلموا وآمنوا وأرادوا الخروج مع رسول الله لنصرته ولنصرة دين الله، لو صدقوا الله في هذا لكان خيرا لهم، لأنك إذا صدقت الله صدقك وإذا نصرت الله نصرك. ثم تأتي الآيات لتبين طبيعة البشر وأن المعصوم من عصمه الله:
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوٓا۟ أَرْحَامَكُمْ ﴿22﴾
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تُوُلِّيتم﴾ وَليكم ولاة ظلمة أن تسيروا في ركابهم وتقتلوا المؤمنين بأمرهم وتقطعوا رحم المسلمين بحروبكم معهم واتباعكم لأوامرهم وسيركم تحت رايتهم؟ هل يتوقع منكم إن توليتم ووليكم هؤلاء الولاة أن تفسدوا في الأرض معهم وتخرجوا معهم في هذا الفساد وتنافقوهم كما نافقتم رسول الله ونافقتم المسلمين؟ تنافقوا الولاة الظلمة ولا تقولوا كلمة الحق، فتنافقوا الولاة فتمتدحوهم بما ليس فيهم، وتصدقوهم بكذبهم وتخرجوا معهم في خروجهم، فتقطعوا أرحام المسلمين وتهدروا دمائهم المؤمنين؟ ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تُوُلِّيتم أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ هل يتوقع منكم غير ذلك؟ بعد أن نافقتم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد أن أظهرتم الإسلام وأبطنتم الكفر، بعد إن ابتعدتم عن القرآن وعن سنة سيد الأنام، وذاك إن كان توليتم من الولاية. فإن كانت من الإعراض فهل عسيتم، هل يتوقع منكم، إن توليتم عن الله ورسوله، توليتم عن القرآن وسنة سيد الأنام، أعرضتم عن الدين وشغلتكم الدنيا، هل عسيتم في هذه الحالة، هل يتوقع منكم، إلا أن تفسدوا في الأرض؟ كما نرى الآن من أفلام ومسلسلات وصور واحتفالات، حتى البنات الصغيرات علموهن كيف يتراقصن عاريات! وتقام الزينات، وترفع الرايات، وبالاحتفالات تحت أسماء عيد الطفولة، عيد كذا عيد كذا، وأغاني ورقص وما إلى ذلك لفتيات وشابات حديثات السن لم يبلغن ولم يحضن، فكيف بهن إذا حضن وبلغن مبلغ النساء؟ كيف نشجع على هذه الأفعال التي لاترضي الله ولا ترضي رسوله؟ فإن الفتاة رزقها الله الحياء فطرة وغريزة، فإن جئت أنت ورفعت عنها برقع الحياء ماذا ينتظر منها بعد ذلك؟ وإذا عُلِّمت البنات الحياء من الصغر شبَّت على ذلك، فمن شب على شيء شاب عليه.
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (الرحم) هنا: هي الرحم القريبة من المحارم. وقالوا: بل (الرحم): هي رحم أولى الأرحام الذين ورد ذكرهم في أحكام الميراث، وقالوا: بل (الرحم): رحم عامة، كل ذي رحم من الآباء والأمهات وأقارب الآباء وأقارب الأمهات، كل ذلك رحم وهي رحم خاصة، وهناك الرحم العامة أرحام المسلمين، فالمسلمون أخوة.
أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰٓ أَبْصَـٰرَهُمْ ﴿23﴾
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ﴿24﴾
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ أفلا يتعظون؟ أفلا يتذكرون؟ أفلا يقرؤون القرآن ويتأملون المعاني فيه؟ الحق أبلج والباطل لجلج، ألا ينظرون في هذا الكتاب؟ ألا يقرؤون هذه الآيات؟ ألا يستمعوها؟ ألا ينصتون إليها؟ ألا يتفكرون ويعملون عقولهم في هذا الكلام؟ ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ أم: منقطعة، والهمزة للتقرير. إذا فربنا (تبارك وتعالى) يقرر أن هذه القلوب عليها الأقفال ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (بل) على قلوب أقفالها؛ لذا لم يتدبروا القرآن لأن القلوب مقفولة. والغريب أنه نكّر كلمة (قلوب). الأمر الثاني أنه أضاف إليها الأقفال، لم يقل (أم على قلوبهم الأقفال)، تنكير القلوب يشعر أن هذه القلوب لقساوتها وشدة ظلامها وإنكارها للحق كأنها قلوب نكرة مُنْكَرة ومُنَكّرة، أيضا للإشعار بأن القلوب ليست مخصوصة بهؤلاء فقط، بل كل من كان على شاكلتهم وكل من عمل بعملهم، وكل من سار على نهجهم تسري عليه الأحكام، (أم على قلوب هؤلاء وقلوب أمثالهم في كل زمان ومكان) (أقفالها)؟ إذا ً فلهذه القلوب أقفال مخصوصة بها، مفتاحها مع الفتّاح، لاتفتح إلا بأمره وبإذنه فهي أقفال غير معهودة، أقفال خاصة مختصة بهذه القلوب، لذا نسب إليها الأقفال وأضافها فقال: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ و (القَفْلُ) أصلا: النبات الصلب الخشن، و (القَفيل) كذلك: الصلب الخشن الذي لا يلين، وكأن هذه القلوب قد تحجرت وتصلبت كالقفيل، الشجر اليابس الصلب الذي يُتخذ وقودا للنار فهذه القلوب كالقفيل، تصلبت فلا يخرج منها الكفر ولا يدخلها الذكر.
يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إن الله (تبارك وتعالى) خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، فقال (تبارك وتعالى): نعم! أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك"، ولذا يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) بعد ما قال هذا الحديث: "فاقرؤوا إن شئتم ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ(٢٣)أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ " ذاك حديث رواه مسلم. ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): "لا يدخل الجنة قاطع" أي: قاطع رحم. فإذا كانت الرحم بهذه الأهمية وأجاز لها ربنا (تبارك وتعالى) الوقوف بين يديه، وسمح لها أن تستجير به، وأذن لها أن تستعيذ به من القطيعة، ثم أرضاها فقال وحكم وقضى بأن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها، إذا فقطيعة الرحم من أخطر الكبائر وتؤدى إلى جهنم وبئس المصير! ونبينا يقول: "لن يدخل الجنة قاطع". إذا فقد ابتلي هؤلاء الذين تولوا وأعرضوا عن رسول الله بقطع الرحم فاستحقوا عقابا فوق عقاب.
إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّوا۟ عَلَىٰٓ أَدْبَـٰرِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ۙ ٱلشَّيْطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ﴿25﴾
كفروا به وقد عرفوه، هؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم، عادوا إلى الكفر وانقلبوا، نُكِسُوا على رءوسهم بعد ما تبين لهم الهدى، تبين لهم أن محمد (صلى الله عليه وسلم) حق، وأن القرآن حق، وأنه مبعوث آخر الزمان بنعته ووصفه وخاتم النبوة بين كتفيه مضروب، واسمه على أبواب الجنة مكتوب، والماء في حوضه من نبع الجنان مسكوب، نعم كفروا به وجهلوه! هؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾ ﴿سوّل﴾: من التسويل، سهَّل لهم، وزيَّن لهم أعمالهم فصدهم عن السبيل وقد كانوا مستبصرين، ﴿الشيطان سوّل لهم﴾: من (السَّوْل)، زين وسهل وليّن، سهّل لهم المعاصي وزين لهم الشهوات، ﴿وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ ﴿أمْلى﴾: أبقاه مَلاوة من الزمان، بُرهة من الزمان، هل الشيطان يبقيهم على قيد الحياة؟ إذا معنى أملى لهم: مدّ لهم في الأماني ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [سورة النساء آية: ١٢٠]، يمنيهم بالمغفرة، ويعدهم بطول العمر، زيّن لهم، سوّل لهم، وأملى لهم مد لهم في الأماني، وهاهو يحدثهم ويوحي لهم بطول العمر. ومنا من يُفعل به ذلك فتقول له: ألا تحج؟ فيقول: بعد ما أكبر! تقول له: ألا تصلي؟ يقول: إن شاء الله في الأيام القادمة! يا فتاتي: ألا تحتشمي؟ ألا تتقي الله؟ فتقول: عندما أكبر أو عندما أتزوج! وهل تضمن؟ وهل يضمن؟ هذا الذي يسوِّف الطاعة، ويسوِّف الرجوع إلى الله، هذا التسويف من أين؟ الشيطان سول لهم وأملى لهم. وقُرِئت: ﴿الشيطان سَوَّل لهم وأُمْليَ لهم﴾ فالتسويل من الشيطان، والإملاء من الله يمهلهم ولا يهملهم، فإن أخذهم فلن يفلتهم.
وقُرِئت: ﴿الشيطان سول لهم وأُمْلِي لهم﴾ قراءة ثالثة، و ﴿أُمْلِيَ لهم﴾ على البناء للمفعول، و (أُمْلِي) لهم البناء على الفاعل، والله (تبارك وتعالى) هو الفعّال، ﴿أُمْلِي لهم﴾: أي أمهلهم فإذا أخذتهم فلا أفلتهم، ﴿سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ لأنهم ارتدوا على أدبارهم من بعد ماتبين لهم الهدى.
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا۟ لِلَّذِينَ كَرِهُوا۟ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ٱلْأَمْرِ ۖ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿26﴾
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ ﴿27﴾
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ على المصدر، من قول نوح: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(٨)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(٩)﴾ [سورة نوح آية: ٨ - ٩]، فربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ ما انطوت عليه قلوبهم، ما أخفوه عن النبي وعن المسلمين، وقُرِأت: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ أسرارهم﴾ جمع سر. ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ كيف يكون الحال؟ كيف يكون المآل؟ هؤلاء جبنوا عن القتال وخافوا من ضرب السيوف، أنتم في ساحات الوغى ترون العدو وترون السيوف وترون النبال، تتقونها بالدَرَقِ وتتقون السيوف بالحركة، بالكر والفر، وتركبون الخيول، وتستطيعون أن تقدموا وتدبروا وتقبلوا، والضارب لكم بَشَرٌ مثلكم، يضربكم بما ترون وما يمكن لكم أن تتقوه، فإن كنتم خفتم وجبنتم وفشلتم من الضرب في الحرب، فالضرب سوف يأتي حال الموت، ولكن الضارب مَلَكٌ غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنتم لا تروهم ولا سلطان لكم عليهم، بل وأسلحتهم مما لا يخطر على بال، لا يُتقى لا منك ولا ممن حولك ولا من عصبتك ولا ينصرك أحد، لا الأهل ولا الأبناء، هاهي قد بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون والله أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ إذاً في حال الإقبال في الحرب فأنت تتقي الضرب في الوجه، وفي حال الإدبار في الحرب فأنت تسرع كي تتقي الضرب في الدبر، أما حال الموت فَقَدَ الحراك، وفَقَدَ النطق، وفقد العون، وفقد النصر، وملائكة الله لا يحجبهم حاجب، وإن كنتم في بروج مشيدة يدرككم الموت. ولذا قيل لنا: أن من عصى الله (تبارك وتعالى) ومات على معصيته بغير أن يتوب توفته الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم.
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُوا۟ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُوا۟ رِضْوَٰنَهُۥ فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ ﴿28﴾
أيها الأخ المسلم، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): "ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن أناسا خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم يقولون نحسن الظن بالله وقد كذبوا، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"
إن الله (تبارك وتعالى) يرى خفايا الوهم والتفكير، ويسمع هواجس الضمير، وقد ظن المنافقون ظن السوء، ظن المنافقون أن الله (تبارك وتعالى) لا يعلم كثيرا مما يعملون، أخفوا الكفر وأظهروا الإيمان، ألقوا على النبي (صلى الله عليه وسلم) التحية والسلام ولكنهم تواضعوا بينهم ألفاظا وكلاما هم يفهموه، ظاهره الخير وباطنه الشر، فكانوا يقولون للنبي (صلى الله عليه وسلم) مثلا: (راعنا يا محمد)، وكأنه يتكلم سريعا فلا يعون مايقول، لا يسمعون مايقول، (راعنا) أي: راع أحوالنا وتكلم بهدوء، فقلدهم المسلمون وكان بعضهم يقول راعنا فنهاهم ربنا وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(١٠٤)﴾ [سورة البقرة آية: ١٠٤]، لأن المنافقين قالوا (راعنا) يستهزئون به، أي (ياراعي غنمنا) يحطون من قدره، وكانوا حتى حين يسلّمون عليه لايقولون (السلام عليك) بل يقولون (السام عليك) و (السام): الموت و (السلام): السِّلْمِ والأمان، لذا كان إذا سمعهم يقولون (السام عليك) بعد أن أعلمه الله بضمائرهم وما انطوت عليه قلوبهم فكان يقول لهم: "وعليكم مثل ما قلتم". يُحَذِّرهم ربنا ويتوعدهم ويُطَمْئنُ الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) حتى لا يُخدَع ولا يُغَشّ، ومن غشنا ليس منا، يقول الله (تبارك وتعالى):
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَـٰنَهُمْ ﴿29﴾
وَلَوْ نَشَآءُ لَأَرَيْنَـٰكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـٰهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ٱلْقَوْلِ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـٰلَكُمْ ﴿30﴾
من هنا يقول الله (تبارك وتعالى) للمصطفى (صلى الله عليه وسلم): ﴿ولتعرفنهم﴾ هؤلاء المنافقين (في لحن القول) لأنهم يتكلمون باللحن فيفهم المنافقون ولا يفهم المسلمون، كقولهم: (راعنا) وكقولهم: (السام عليك)، وكمثل هذه الأقوال التي تفهم منهم وممن هم على شاكلتهم، ويخفى معناها على المسلمين ويخفى معناها على رسول الله، فهو (عليه الصلاة والسلام) أطهر الناس سريرة وطوية، وأكرم الناس سماحة وعطية، من هنا كان يأخذ الكلام منهم على ظاهره ولا يتأوله، ففضحهم الله، وما خفى منافق على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد هذه الآية.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ الخطاب للكافة، وقد يكون الخطاب للكفار والمنافقين تهديد ووعيد، وبعد أن كان الكلام بالغيبة، الكلام عن الغائب ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ إلتفت الخطاب إليهم ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾، هذا الالتفات يُشعر بالتهديد ويُشعر بالوعيد، ويشعر بأن الله رقيب وحفيظ ولا يخفى عليه شيء، وإن كان يعلم فلابد وأن يحاسب، ومن حوسِب هلك كما قال نبينا (صلى الله عليه وسلم) وتتعجب أم المؤمنين عائشة: (كيف يارسول الله؟ وربنا يقول: (فسوف يحاسب حسابا يسيرا)) فقال (صلى الله عليه وسلم): "يا عائشة إنما ذلك العرض، ومن نوقش الحساب هلك."
إن الله (تبارك وتعالى) هو عالم الغيب والشهادة، وعلم الله (تبارك وتعالى) قديم أزلي، وقد خلق الخلق وهو يعلم مايكون عليه حالهم وماسوف يؤول إليه مآلهم، وقد خلق الله (تبارك وتعالى) الدنيا وجعلها دار ابتلاء، حتى يظهر مكنون النفوس وتبدو الأعمال والتي يتعلق بها الجزاء. وربنا (تبارك وتعالى) لايحاسب الناس بمقتضى علمه القديم، بل بمقتضى ماظهر من أعمالهم، لذا جعل الدنيا دار ابتلاء فيظهر فيها وبها وبسببها أعمال العباد، والتي يتعلق بها الجزاء من ثواب أو عقاب. يقول الله (تبارك وتعالى):
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَا۟ أَخْبَارَكُمْ ﴿31﴾
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَصَدُّوا۟ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّوا۟ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا۟ ٱللَّهَ شَيْـًۭٔا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـٰلَهُمْ ﴿32﴾
وربنا يقول: ﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ يبطلها، وأصل كلمة (الإحباط) من قولهم: حَبِطَت الناقة أو الشاة إذا استحلت المرعى، فأكلت ورتعت وامتلأت من الأكل حتى انتفخت فماتت! يقال: (حبطت الناقة) الكلمة تفيد معنى الإبطال وتفيد معنى الضياع، إذاً فلا ثواب لهم وإن عملوا من الصالحات لأنهم لم يؤمنوا برسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقد يكون المشار إليه في الآية ﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ الأعمال التي كادوا بها لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) لن يصلوا إلى أغراضهم، لن يصلوا إلى أهدافهم، سيعود وبال مكرهم عليهم، سيحبط الله أعمالهم. ويتوجه الخطاب للذين آمنوا فيقول الله (تبارك وتعالى):
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوٓا۟ أَعْمَـٰلَكُمْ ﴿33﴾
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَصَدُّوا۟ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا۟ وَهُمْ كُفَّارٌۭ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ﴿34﴾
فَلَا تَهِنُوا۟ وَتَدْعُوٓا۟ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ ﴿35﴾
وقال بعضهم، وهذا هو القول الأرجح: الآيتان محكمتان لم تنسخ إحداهما الأخرى، وإنما الإمام مخير طبقا لمصالح المسلمين العامة، إن شاء جنح للسلم وإن شاء لم يجنح للسلم، إن شاء قَبِلَ المسالمة وإن شاء رفض المسالمة واستمر في القتال، والأمر متوقف على مدى قوة الأمة وعلى مدى قوة المسلمين، وعلى مدى اتحادهم وإيمانهم بالله، والعبرة ليست بالكثرة و إنما العبرة بالإيمان، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) ينبه لذلك ويقول: "يوشك ان تتكَأْكَأَ عليكم الأمم كما تتكأكأ الأكلة على قصعتها" قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يارسول الله؟ قال: "لا بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزِعَنَّ الله الرهبة من قلوب اعدائكم وليقذِفَنَّ الله في قلوبكم الوهن" قالوا: وما الوهن يارسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت."
﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ وربنا (تبارك وتعالى) ينبه ويقول: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٢٦]، ويقول: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٤٩]، ويقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ(١٥)وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(١٦)﴾ [سورة الأنفال آية: ١٥- ١٦]، ويقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة الأنفال آية: ٤٥]، فعلمنا أن رياح النصر تأتي بكراهية الدنيا وحب الموت، تأتي بحب الشهادة، تأتي بأن يبيع الإنسان نفسه لله (تبارك وتعالى) تأتي بأن يتحد المسلمون، تأتي بأن نعرف أننا على الحق وهم على الباطل، تأتي بأن يكون قتالنا ابتغاء وجه الله، لا ابتغاء توسع ولا ابتغاء مال ولا ابتغاء شهرة ولا ابتغاء زعامة، وإنما القتال يكون لغرض واحد: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وإذا ضلّ المسلم عن هذا الهدف كان قتاله في سبيل الدنيا، وإذا كان قتاله في سبيل الدنيا دخل النار منتصرا كان أو مهزوما، مقتولا كان أو ناجيا، "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه"
﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ إذاً فلايدعو المسلمون إلى السلْم إلا من ضعف حتى يستعينوا و يعدوا أنفسهم، ويستعينوا بالله (تبارك وتعالى) وينفذوا أمره ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [سورة الأنفال آية: ٦٠]، فيدعو الأمير أو الخليفة أو الحاكم إلى السلم لا خوْرا ولا جبنا، وإنما يدعو إلى السلم استعدادا لجولة أخرى، استعدادا لجمع شمل الأمة، وللتسليح والإعداد بالعُدد وبالعَد، د بالتدريب وبالتمرين حتى نصبح قادرين على مواجهة الأعداء، لأن الله يُسَبِّبُ الأسباب، ليس النصر بالعَدد وليس النصر بالعُدد لكن الأسباب مطلوبة، وترك الأسباب جهل، وترك التوكل فسق، إذاً فلابد من الأسباب، وبعد الأسباب يأتي التوكل، فما النصر إلا من عند الله.
﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ وربنا (تبارك وتعالى) مع المؤمنين بشروط ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾، ﴿وكنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ بشروط: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله، فإن كنتم كذلك فأنتم خير أمة أخرجت للناس، أما إذا انتفت هذه الصفات عن الأمة فهي ليست بخير الأمم على الإطلاق. ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ لن ينتقصكم في أعمالكم، (وَتَرهُ): نَقَصَه، و (المَوْتور): من قُتِل له قتيل ولم يدركه بالقصاص، ومنه حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي ينبه فيه على أهمية صلاة العصر: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتَر أهله وماله" أي: أذهب أهله وماله، أصبح فردا لامال له ولا أهل، من (الوَتر): وهو الفرد، (وَتَرهُ): قَتَلَ له قتيل فأفرده عنه. فحين يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ لن يفردها بغير ثواب، لن ينقص منكم ثواب أعمالكم فتأتوا وليس لكم ثواب أو وليس لكم أعمال، أو تأتي أعمالكم ولاثواب عليها. ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ إذاً فما من خطوة ومامن نفقة ومامن حركة ومامن لفظ يؤدى في سبيل الله إلا وعند الله مكتوب، والمرء مثاب عليه. ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٧٠]، وطالما يعلم إذاً فلابد وأن يثيب، إذا وطأ المسلمون موطئا يغيظ الكفار أو نالوا من عدو نيلا، كُتِبَ لهم به عمل صالح كما وعد ربنا (تبارك وتعالى) بذلك، مايشعرون بجوع أو بعطش أو بمخمصة إلا كُتِبَ لهم ليجزيهم الله أحسن ماكانوا يعملون، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾.
ثم يبين لنا آفة الإنسان، أو الآفة التي قد تضره، أو السبب الذي قد يدعوه للخوف أو الجبن أو الفشل؛ ألا وهو حب الدنيا. حب الدنيا رأس كل خطيئة، لذا يقول الله (تبارك وتعالى):
إِنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌۭ وَلَهْوٌۭ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْـَٔلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ ﴿36﴾
إِن يَسْـَٔلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا۟ وَيُخْرِجْ أَضْغَـٰنَكُمْ ﴿37﴾
﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ بدلا من اللعب وبدلا من اللهو، تتقوا الشرك وتتقوا المعاصي، وتتقوا أن يشغل قلوبكم غير الله ﴿يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ أي: ولا يسألكم النبي (صلى الله عليه وسلم) أموالكم، مصداقاً لقوله (تبارك وتعالى): ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ [سورة الفرقان آية: ٥٧]، إذاً فلا يسألنا محمد (صلى الله عليه وسلم) أموالنا، إن هو إلا نذير وبشير، فالكلام عن محمد (عليه الصلاة والسلام). أو ﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ أي: الله (تبارك وتعالى) يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم جمعيها، أن تَخْرُجوا من أموالكم، فالحلال طيب ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [سورة الأعراف آية: ٣٢] إذا ً فهو لايسألكم أموالكم، بل يسألكم بعض أموالكم، أن تنفقوا بعضها بالزكاة؛ بالصدقة؛ بالإنفاق في الجهاد وفي سبيل الله، فلا يسألكم أموالكم جمعيها، بل يسألكم بعض أموالكم. وقال بعضهم: أنه لايسألكم أموالكم بل يسألكم أمواله! فأنتم مستخلفون في هذا المال، والمال مال الله، ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [سورة الحديد آية: ٧]، إذاً فالمال مال الله، ولا يسألكم أموالكم لأنكم لا مال لكم، بل المال مال الله، فإن سألكم النفقة والزكاة والإنفاق في سبيل الله فهو يسأل ماله ولا يسأل مالك، من أين لك المال؟
﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ (أَحْفَى) بالمسألة: ألْحَفَ بها و (أَلَحّ) بمعنى واحد: المبالغة وبلوغ الغاية، من قولهم: (أحفَيْتُ البعير) إذا مشى مسافات حتى رق الخف وانكشف، إذا ً فالإحفاء؛ والإلحاف؛ والإلحاح: المبالغة وبلوغ الغاية في المسألة، فإن يسألكم هذه الأموال ﴿فَيُحْفِكُمْ﴾ أي: يشتد عليكم في الطلب، ويلح عليكم في الإنفاق، تبخلوا. والبخل داء وبيل، والبخل مقرون بالكفر، وربنا (تبارك وتعالى) قرنه بالكفر في سورة النساء حيث يقول عز من قائل: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [سورة النساء آية: ٣٧]، فقرن البخل والكفر، والبخيل بعيد من الناس؛ بعيد من الله؛ بعيد من الجنة؛ قريب من النار، والكريم قريب من الناس؛ قريب من الله؛ قريب من الجنة؛ بعيد عن النار. ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ ﴿وتَخْرُج أضغانُكم﴾، ﴿ونُخرِج أضغانَكم﴾، ﴿ويُخرج أضغانَكم﴾، ﴿ويُخرجُ أضغانَكم﴾ قراءات. ﴿وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ ويُخرج البخلُ أضغانَكم، و (الأضغان) جمع ضغينة، وقلنا فيها هي الحقد؛ الحسد؛ الغل؛ شرور النفس، تلك هي الضغينة. و (تضاغن القوم): تحاقدوا وتباغضوا. ﴿يُخرج أضغانكم﴾ يظهرها، يخرجها البخل، البخل يظهر ما انطوى عليه الصدر من شح وحقد وحسد وكفر وما إلى ذلك. أو ويخرج الله أضغانكم إذا أمركم بالإنفاق وأحفى في المسألة فبخلتم، أخرج بذلك أضغانكم، أظهرها وأوضحها وبيّنها للناس.
﴿وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ البخل داء، وجُبِلَت الأنفس على الشح، ويقول الإنسان: مالي مالي! وهل لك من مال إلا ما أكلت فأفنيت أو ليس فأبليت أو تصدقت فأبقيت؟ واعلموا أن شر مال الإنسان ما خلّفه، وخير مال الإنسان ما أنفقه، والإنسان كلما أنفق لا ينقص ماله أبداً، وصدق الصادق المصدوق حيث يقول: "لو كنت حالفا لحلفت على ثلاث: ما نقص مال من صدقة، ولن تموت نفس حتى تستوفي أجلها، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها"
فربنا (تبارك وتعالى) ينادي ويحذر ويعظ فيقول:
هَـٰٓأَنتُمْ هَـٰٓؤُلَآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا۟ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓا۟ أَمْثَـٰلَكُم ﴿38﴾
﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ نعم! الله (تبارك وتعالى) هو الغني، والغِنى ليس بكثرة العَرَض وإنما الغني غنى النفس، وأصل كلمة (الغنى) تفيد معنى الإستغناء، فالغني ليس غنيا بكثرة المال فالمال ينفد، ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [سورة النحل آية: ٩٦]، والمال يضيع، فليس الغنى بكثرة ماعندك من مال، بل الغنى بأن تستغني أنت عن المال، فأنت غني عن فلان إذا أنت مستغنٍ عن مساعدته، فالغنى عن الشيء وليس بالشيء، فالإنسان ليس غني بكذا بل هو غني عن كذا، ولا يقول الإنسان أنا غني بكثرة مال لأن كثرة المال ليست الغنى، وكلمة الغنى تفيد الاستغناء؛ عدم الحاجة، فالله هو الغني لأنه كان ولم يكن شيء، كان قبل الزمان وقبل المكان وهو الآن على ماعليه كان، فهو الغني بحق لأنه مستغنٍ عما سواه، أما أنتم فأنتم الفقراء إلى الله؛ فقراء إلى المال؛ فقراء إلى الصحة؛ فقراء إلى الستر؛ فقراء إلى النجاة؛ فقراء إلى الثواب؛ فقراء إلى بعضكم البعض لأن الله رفعنا فوق بعض درجات يتخذ بعضنا بعضا سُخريا، فالكل محتاج إلى الكل، وما من إنسان إلا وهو محتاج إلى غيره، إذاً فأنت فقير في كل الأحوال، وكلما كان العبد فقيراً إلى الله كلما كان غنياً عما سواه، والله الغني وأنتم الفقراء. ويأتي التهديد، وأيضا التسرية لرسول الله والتطمين فيقول الله: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (إن تتولوْا) أي: تعرضوا وتنصرفوا عن طاعة الله وعن طاعة رسول الله.
أو وإن تتولوْا عن الإنفاق وتمسكوا وتبخلوا، يذهب الله بكم ويأتي بغيركم، إن يشأ الله يذهبكم ويأت بقوم آخرين كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين، والله تبارك وتعالى يذهب بالأمم ويأتي بالأمم، يحي ويميت، فإن تتولوْا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، أي لايكونوا بخلاء، لا يمسكوا أموالهم عن الإنفاق في سبيل الله (تبارك وتعالى) لايكونوا أمثالكم في العصيان أو التولي، بل يكونوا على طاعة وعلى تقوى. وقالوا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سئل من هؤلاء؟ وكان إلى جواره سلمان الفارسي، فخبط على سلمان وقال: "هذا وأمثاله". قيل هذا الحديث وإن كان في سنده بعض الضعف. ولذا قالوا: الفرس، وقال بعضهم: بل العجم، وقال بعضهم: بل الأنصار، وربنا (تبارك وتعالى) لم يبين لنا من هؤلاء، والله (تبارك وتعالى) قادر على أن يأتي بأفضل وبأحسن من الموجود، وبأي لسان وبأي لون ومن أي جهة ومن أي بلد، إما بهدايتهم وإما بإنشاء غيرهم، فربنا (تبارك وتعالى) هو المبديء والمعيد.
أيها الأخ المسلم، بهذا انتهت سورة القتال أو سورة محمد (عليه الصلاة والسلام) وتليها سورة الفتح؛ البشارة للنبي (صلى الله عليه وسلم) والبشارة لكل مؤمن تبع النبي (صلى الله عليه وسلم) في نهجه وسلوكه. أيها الأخ المسلم، لو نظرت حولك ورأيت العالم الإسلامي انهمرت منك الدموع، وتقطعت نياط القلوب لما نراه من ضعف ووهن وعجز، فهاهي الأمة الإسلامية تمد يدها تستجدي الطعام تارة، وتستجدي السلاح تارة، وإذا استجدت السلاح رفعته في وجوه المسلمين ولم ترفعه في وجوه أعداء الله. لو نظرت حولك لوجدت المسجد الأقصى يئنُّ من أحذية اليهود، يئنُّ من هذا الشعب الذي حكم الله عليه بالشتات، ملعونين أينما ثُقِفُوا، لُعِنُوا على لسان الأنبياء، ملعونين في كل كتاب وعلى لسان كل نبي، هاهو المسجد الأقصى يئنُّ منهم، وهاهي قطعة من أرض الأمة الإسلامية في وسط خضم من الأمم الإسلامية، ليست متطرفة، فقد ضاعت أسبانيا، وضاعت أذربيجان، وضاعت جمهوريات فارس، ضاعت تحت وطأة الكفر والشرك وإنكار الألوهية، ضاعت لتطرفها، فكيف تضيع دولة وهي في قلب الأمة العربية وفي قلب الأمة الإسلامية؟ وانظر إلى عدد المسلمين على مستوى العالم ألف مليون مسلم! ولكنهم غثاء كغثاء السيل، يحبون الدنيا ويكرهون الموت، يحبون السلطة والسلطان، يتقاتل الحكام على السلطة. وها هي الدول، سنوات، أموال طائلة والمسلمون لا يجدون ما يقتاتون به، يتضورون جوعا في بلاد افريقيا من المجاعة، يموتون جوعا وبلايين الجنيهات تُنْفَق على التدمير؛ مدافع وطائرات ودبابات، والقتال مسلم ومسلم، وكل غرض هؤلاء المقاتلون للمسلمين أن يُعزَل رئيس دولة مجاورة، هذا هو الغرض فقط! وليس الغرض أن ترفع راية الله، وليس الغرض أن نحكم بما أنزل الله، وليس الغرض أن ننشر الإسلام.
وقد رُوِي لنا عن الخلفاء الصالحين وأمراء المسلمين والمؤمنين في عصور النهضة الحقيقية أن والياً بلغه وجود أسير في دولة من دول الفرنجة، وإنه يعذب بإدارة الرحى، فأرسل خطاباً لحاكم هذه الدولة قال له فيه كلمات، بل كُلَيْمات: (والله لتُرسِلَنَّ الأسير إلينا معززاً مكرماً، أو لنُرْسِلَنَّ إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي)! أسير واحد مسلم، واحد، نعم! فذِمَّة المسلمين واحدة، يسعى بهم أدناهم، والمؤمنون أخوة. ما بال المسلمين في الدول المختلفة إن كانوا أقلية فهم مُعذَّبون مقهورون؟ لا ينالون من المناصب شيئا؟ ولا ينالون من الخيرات شيئا؟ بل هم مقهورون أذلاء؟ هناك دول إسلامية يبكي أحدهم لو وصله مصحف! ونحن ننفق يمنة ويسرة على قتال بعضنا بعضاً، وننفق يمنة ويسرة على الاحتفالات والأعياد، أعياد وأعياد وكأننا قد سُدْنا العالم، وكأننا قد انتصرنا على أعدائنا ورفرفت الرايات على أرجاء المعمورة، كيف ونحن مهزومون؟ كيف ونحن فقراء؟ كيف ونحن ضعفاء؟ لا والله إن استمر الحال على ذلك خسرنا الدنيا وخسرنا الآخرة! عودوا إلى كتاب ربكم، وعودوا إلى سنة نبيكم، فبطاعة الله وبطاعة رسول الله تكون العزة، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، هنا وهنا فقط تكونوا خير أمة أخرجت للناس، ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ ولكنكم خذلتموه! ها هو حُكْمُه مُلْقَى أمام أعيننا لا يُنَفَّذْ، ولا يُعْمَلْ به، لا في كثير ولا في قليل، لم يَبْقَ من المصحف إلا رسمه، ولم يبق من الإسلام إلا اسمه، فماذا تنتظرون؟ تتكأكأ عليكم الأمم وتعيشون أذلاء مُسْتَجْدين، واليد العليا خير من اليد السفلى.