سورة السجدة

مقدمة‬‬‬
‫لقاؤنا مع سورة السجده، سورة السجده سورة مكيه، نزلت بمكه ما عدا ثلاث آيات، وهي من قوله تعالى‫:‬ ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ﴾ وسورة السجده من السور التي بُدأت بالحروف المقطعه ﴿الم﴾، وتحدثنا عن هذه الحروف كثيرًا، وخير وأصح مايقال فيها أنها سر الله فلا تطلبوه، ولله تبارك وتعالى في كل كتابه سر، وسره في القرآن فواتح السور‫.‬‬‬‬‬‬‬‬

الٓمٓ ﴿1﴾ تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿2﴾
سمّاه ربنا كتابًا من قبل أن يكون كتاب، ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ﴾ أي نزل هذا الكتاب تدريجيًا، منجمًّا، آية آية، آيتان آيتان، سورة سورة، فنزل على هذا النمط، وجمّعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله، نفى ربناتبارك وتعالى كل شك عن هذا الكتاب، ونفى كل ريبه عن أن يكون هذا الكتاب منزلًا من لدن الله تبارك وتعالى، فقال تبارك وتعالى‫:‬ ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ لاريب‫:‬ لاشك في هذا الكتاب، لاشك في نزوله، ولا شك في أنه من عند الله، ولاشك فيما جاء فيه، فلا إختلاف فيه ولا تباين، ﴿مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ والرب هو الله، والرب من التربيه، والتربيه إيصال الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا بحسب إستعداده، فانظر لخلقك؛ خلقنا من نطفه منيت من الأصلاب، فكانت الأرحام مأوانا، غذينا من غير جهد ومسأله، فتكامل الخلق صورًا وألوانًا، وهكذا رب العالمين ربانا وأنشأنا من نطفه، من علقه، من مضغه، تدريجيًا، حتى أوصلنا إلى السمع، والبصر، والعقل، وهكذا، فهو رب العالمين الذي أوصل كل ما هو موجود سوى الله إلى كماله شيئًا فشيئًا بحسب إستعداده، ذاك هو الذي أنزل الكتاب، إذًا فهو أعلم بالخلق منهم بأنفسهم؛ لأنه هو الذي أنشأهم، ورباهم، وأبقاهم، وهكذا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ ۚ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًۭا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٍۢ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴿3﴾
‫﴿أَمْ﴾ يقولون عنها في اللغه العربيه منقطعه، وهي تأتي بدل كلمة بل وهمزة الإستفهام، أي أن الله أضرب عن هذا الكلام، ودخل في كلام آخر، بعد أن قرر أن هذا الكتاب نزل من لدن رب العالمين، ولاشك فيه، ولا مراء، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ :(بل أيقولون)، إنتقل إلى كلام هؤلاء الجاحدين الكفار، أيقولون افتراه، والكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، إفتراه، إختلقه، وأصل الكلمة من الفَرْي، والفري‫:‬ تقطيع الجلد، فكلمة إفتراه بمعنى إقتطعه إقتطاعًا من لدن نفسه، إختلقه‫:‬ أنشأه، إقتطعه من كلام، أو من عقله، فاختلقه وادعى أنه من عند الله تبارك وتعالى، ﴿بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ إضراب آخر، وتحول من كلامهم إلى قرار، وإلى صدق، وإلى حق، إلى قول الله تبارك وتعالى ﴿بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ هو الحق، وتكلمنا عن الحق قبل ذلك، وهو مقابل الباطل، الحق‫:‬ الواجب، الحق الثابت، الحق في الكلام هو ما يصادف حقيقه واقعه، والحق في الأعيان هو مايصادف ما هو موجود فعلًا يعاينه الإنسان، والحق في الأذهان هو المعلومه، أو العلم، أو الصورة في ذهنك تصادف حقيقه الأعيان في الوجود، فهذا الكلام هو الحق من ربنا تبارك وتعالى، الثابت، الواجب، الموجود من الأزل، فكلام الله تبارك وتعالى قديم، قائم بذاته، لا يقبل الإنفصال، والإفتراق بالإنفصال، والحلول في الأوراق، ﴿ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ الإنذار هو التخويف والإعلان، الإنذار معناه أنك تخوّف شخصًا من أمر ما، ولكن لابد وأن يكون هناك مهله لهذا الشخص حتى يحترز مما خوفته منه، والنذير هو المعلن، المخوّف، النذير، الذي يعلِمك بخطر أت فيخوفك، ويعلمك بهذا الخطر، ويخوفك منه مع إعطائك مهله حتى تتقي شر ذلك الذي خوفك منه، فربنا تبارك وتعالى يعلل إنزال الكتاب على نبيه عليه الصلاة والسلام للإنذار، والتخويف، والإعلام، مع إعطاء مهله للناس، وهي مدة الحياة، فأنت تحيا والمده متصله، وربنا تبارك وتعالى أمهلك فنحن جميعًا في دائرة الإمهال، دائرة الحلم، ﴿قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ﴾ قومًا هنا؛ إما هم قريش، وإما كل من بلغته دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ "ما" هنا تعني الذي أي تنذرهم بالذي سبق وأن أنذرهم به الأنبياء من قبلك، وضعف بعض الناس هذا الرأي، وقال "ما" هنا للنفي؛ بمعنى أن هؤلاء الناس هم أهل الفترة، وأهل الفترة غير مؤاخذين، والفتره هي المده الطويله بين كل رسول ورسول، فما بين عيسى عليه السلام وما بين محمد صلى الله عليه وسلم مدة طالت، وحرّف فيها الإنجيل، ونسى الناس ما ذكِّروا به، وطالت بهم الأيام، وتلك تسمى فتره، وأهلها يسمون أهل الفتره، وأهل الفترة هؤلاء لا يسألهم ربنا وتعالى؛ لأنه يقول‫:‬ ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[سورة الأسراء آية‫:‬ ١٥] قيل هذا، وعليه كل من مات قبل بعثه النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأبيه، وأمه غير محاسبين، وغير مسئولين، وهذا قول من الأقوال أن هؤلاء هم أهل الفترة، لذا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ أي لم يأتيهم نذير من قبلك، وطالما لم يأتيهم نذير من قبله فهم أهل فترة، وهم غير مؤاخذين؛ لأنه لم يبعث لهم رسولًا، ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ الهدايه بمعنى الدلاله، فإذا دللت رجلًا على الطريق إلى مكان فأنت تهديه، وإذا دللت رجلًا على الطريق إلى رضوان الله فأنت أيضًا تهديه، والهادي هو الله، وهدايه الله تبارك وتعالى هي خلق المعرفه في القلب، فإذا خلق الله تبارك وتعالى معرفه في خلق عبد فقد هداه إليه، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم ينذر، ويبلّغ، ويحذر، ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ لعل‫:‬ كلمة تفيد الترجي، في حق الناسقد تفيد الحدوث، وقد تفيد عدم الحدوث، ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ أي يُدَلُّون على الطريق إلى الله، يعرفون طريقهم إلى الجنة، ويعرفون طريقهم إلى ما يجب أن يفعلوه، إلى الغرض من خلقهم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[سورة الذاريات آية‫:‬ ٥٦] ثم ينتقل الكلام لبيان من الذي أنزل الكتاب لبيان قدرة الله تبارك وتعالى ، وأنه المعبود الحق، وأنه يجب أن يطاع، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿4﴾
خلق‫:‬ أبدع وأنشأ من العدم، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ وما بين السماوات والأرض نعلم بعضه، ولا نعلم الكل، فنحن نرى ما بين السماء والأرض نجومًا، وأقمارًا، وشموسًا، ونرى السحاب والرياح، ولانرى سوى ذلك، ولم يصل العلم حتى الآن إلى السماء الدنيا، المبنيه ذات الأبواب، بلايين وبلايين السنين الضوئيه، والمجرات، والمجموعات الشمسيه التي لاعد لها ولا حصر، خلق ربنا كل ذلك ما بين السماء والأرض، على سعته، وامتداده، وانعدام حصره وعدّه، فما بالك بالسماوات!! سبع سماوات، أوحى الله في كل سماء أمرها، فإذا كانت السماء الدنيا فيها هذه المجرات، والشموس، والكواكب، وملايين المسافات التي تحسب بالضوء ولا تحسب بالأميال، بل تحسب بالسنين الضوئيه، المسافه التي يقطعها الضوء في سنه، هذا هو ما في السماء الدنيا، فما بالك بما في السماء الثانيه، والثالثه، والرابعه، وهكذا إلى سبع سماوات، وما فوق السماوات، ما لا يعلمه إلا الله، ﴿ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ واليوم له مدلولان، وله معنيان؛ معنى تعارف عليه الناس، وهو يومًا من أيام الدنيا، نهار بين ليلتين، والمعنى الثاني لليوم هو الفتره من الزمان ،كما قال ربنا تبارك وتعالى‫:‬ ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾[سورة المعارج آية‫:‬ ٤] سماهُ يوم ومع ذلك طوله ما يساوي خمسين ألف سنة، فاليوم يعبر به أيضًا في اللغه عن فتره من الزمان وليس عن نهار بين ليلتين كما نعبر نحن عن أيامنا، وهنا قال العلماء‫:‬ خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام من أيام الدنيا، بدأ يوم الأحد وانتهى يوم الجمعه، ستة أيام من أيام الدنيا إكتمل فيها خلق السماوات والأرض ومابينهما، وما فيهما، ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وقال آخرون بل هي من أيام الله، وأيام الله لا يعرف مداها؛ لأن الله تبارك وتعالى ليس عنده ليل ولا نهار، فهي أيام من أيام الآخره، وأيام الآخره -وذاك قول ثالث- اليوم بألف سنة مما تعدون، إذًا فقد خلقت السماوات والأرض وما بينهما في ستة الآف سنة، والله أعلم بهذه الأيام، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ "ثم" في اللغه تفيد الترتيب مع التراخي؛ فتقول ذهبت إلى المسجد ثم عدت إلى بيتي، مدة بين ذهابك إلى المسجد وبين العوده إلى البيت، هناك فتره زمنيه، ثم تفيد الترتيب مع التراخي في الوقت، هنا لا تفيد ذلك؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشغله شأن عن شأن، لذا "ثم" هنا تفيد العطف، واوًا العطف بلا ترتيب، بلا تراخي، فهو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، واستوى على العرش، بلا تراخي، وبلا فتره زمنيه، والإستواء على العرش قيل فيه الكثير، وكله قد جانب الصواب، هذه الآية من المتشابهات، وربنا تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه أنه أنزل الكتاب منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، والمحكمات التي هي أم الكتاب؛ هي الأمر، والنهي، قصص الأنبياء والمرسلين، الإخبار بالساعه وقيامها، وما إلى ذلك، والمتشابهات آيات تحتمل أكثر من وجه، وهي آيات لا يعلم معناها إلا الله، وبين ربنا تبارك وتعالى أن هذه المتشابهات لا يتكلم فيها إلا من زاغ قلبه ﴿...فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ...﴾[سورة آل عمران آية‫:‬ ٧] يتبعون ويتتبعون المتشابهات، يحاولون تفسيرها، زاغت قلوبهم هكذا سماهم الله، وما يعلم تأويله إلا الله، لا يعلم تفسير المتشابهات إلا الله تبارك وتعالى ﴿... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[سورة آل عمران آية‫:‬ ٧] هو كلام الله، هو يعرفه، هو العليم بمراده، أما نحن فلا نعلم شيئًا، والإستواء على العرش، العرش‫:‬ هو الكرسي من حيث اللغه، فنحن نفسر الألفاظ لغويًا، لا من حيث الحقيقه، فالحقيقه لا يعلمها إلا الله، العرش‫:‬ الكرسي، كرسي الملك الذي يجلس عليه الملك، أو السلطان، والعرش أيضًا، والعرش يطلق على السقف، فكل ما أظلك فهو عريش وعرش، وحين يُعرِّش الرجل يبني عريشًا كما يُبني لإنبات العنب، ذاك هو العريش، وكما بُنى للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر عريش يمكث فيه، ويراقب المعركه، فكل ما أظلك يسمى عريش، أو عرش، فالعرش‫:‬ الكرسي، والعرش هو السقف، إستوى‫:‬ استولى من حيث المعنى اللغوي، وقد تعني أيضًا استوى على الشيء بمعنى إستقر على الشيء وتمكّن منه، فإذا إستويت على الكرسي معنى ذلك أنك جلست على هذا الكرسي جلسة المتمكن، تلك هي اللغه، العرش، عرش الله تبارك وتعالى وقد علمنا أنه أكبر وأعظم خلق الله على الإطلاق، فهو أعظم من السماوات والأرض مجتمعه، ما خلق الله وتعالى خلقًا أعظم من العرش من حيث الحجم، فلا شيء يساويه، ولا شيء يدانيه أيا كان؛ لا مخلوق، ولا مَلّكْ، ولا سماوات، ولا غيرها، هذا أعظم مخلوق على الإطلاق، هو العرش، ولذا قال العلماء والصحابه من قلبهم‫:‬ (الإستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه)، فالإستواء غير مجهول، فكل الناس تعرف ماهو الإستواء، فالإستواء هو الإستيلاء، والتمكن، والجلوس، والكيف غير معقول؛ فالعقل لا يصل إليه، الإستواء في حد ذاته غير مجهول، أما الكيفيه التي إستوى بها الله على عرشه فهي غير معقوله، فوق العقل، والإيمان به واجب؛ لأن الله تبارك وتعالى أخبرنا بأنه إستوى على العرش، فنحن نؤمن بذلك، والسؤال عنه بدعه، فإذا سألت كيف إستوى على العرش، فأنت مبتدع، تعاقب عقاب المبتدعين، وعليه يقول العلماء المحققون من أهل السنة، والراسخون في علمهم، أن الله تبارك وتعالى إستوى على العرش على الوجه الذي يليق بجلاله وكماله، إستواءًا لا ينافي وصف الكبرياء، دون مماسه، أو تلامس، ودون حلول، ودون إستقرار، وبغير تشبيه، وبغير تمثيل، وبغير تقييد، وبغير تكييف، وأن العرش لا يحمله، بل العرش وحمله العرش محمولون بقدرته، مقهورون في قبضته، هو الله، إستوى على العرش، كيف؟ هو الله، ﴿مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ الولي‫:‬ الذي يتولى أمرك، الولي هو الناصر، النصير الذي يناصرك، والشفيع‫:‬ أصلًا من كلمة الشفع، والشفع هو الزوج، كما أن الوتر هو الفرد، فكل زوج يسمى شفعًا، ومن هنا الشافع هو المنضم إليك، كنت واحدًا فانضم إليك فاصبحتما إثنين، من هنا يطلق الشفيع للظهير الذي يظاهرك، ويأتي إليك، وينضم إليك، وهكذا، وحين يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ الكلام هنا للكفار، أو الكلام لكل الناس، أن ما يحدث يوم القيامه، أن الله تبارك وتعالى يأتي بخلقه فردًا فردًا، ويسألهم، ولا يحمل أحد وزر أحد، ولا ينصر أحد أحدًا، ولا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله، فإن كان الكلام للكفار، ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع، إذًا فقد نفى عنهما الولايه والشفاعه نهائيًا، وإن كان الكلام للناس جميعًا، فهو ينبه أن المؤمن لا يمكن أن يجد وليًا، أو أن يجد شفعيًا إلا بإذن الله، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾[سورة الأنبياء آية‫:‬ ٢٨]، ﴿مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ السؤال سؤال استنكار، وتوبيخ، وتنبيه لمن لا يتذكر، ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ تتذكرون الله تبارك وتعالى، وتتفكرون في خلقه وآلائه، ها هي الرياح تجري بالخير ممطره، ها هي الأرض تنبت أشجارًا وأغصانًا، ها هي البحار بطري اللحم زاخره، والأنهار تفيض عذبًا لسقيانا، ها هي الشمس تجود بالدفء ما بقيت الدنيا، وما بخلت قرونًا و أزمانًا، نجوم بالليل مشرقه، تهدي الأناس رجالًاً وركبانًا، وهكذا، أفلا تتذكرون؟! أفلا تتفكرون في خلق الله؟! ثم يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍۢ كَانَ مِقْدَارُهُۥٓ أَلْفَ سَنَةٍۢ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴿5﴾ ذَٰلِكَ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿6﴾
‫﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ والأمر هنا ليس مفرد أوامر، بل هو مفرد أمور، يدبر الأمر إذًا فما من شيء حادث إلا والله مدبره من الأزل، ما من شيء؛ موت، حياة، إيمان، كفر، تصديق، تكذيب، طاعه، عصيان، أكل، شرب، حركه، سكون، نوم، يقظه، ما من شيء إلا الله مدبره، هو الله، مستوٍ ومسيطر على كل الوجود، لا تفوته فائته، ولا تغيب عنه غائبه، ولا يشغله شأن عن شأن، هو المدبر، المنفرد بالتدبير، والمنفرد بالتصريف، ولتعلم أن العرش هو مكان التدبير، وما دون العرش هو موطن التفصيل، وما دون السماوات هو موطن التصريف، فهناك تدبير، وهناك تفصيل، وهناك تصريف، فالتدبير موطنه العرش، والتفصيل ما دون العرش، والتصريف ما دون السماوات، ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ هذه الآية أشكل معناها على العلماء؛ لأن الله تبارك وتعالى في موضع آخر ينبئنا عن يوم القيامه أنه خمسين ألف سنة، قال بعضهم أن يوم القيامه مواقف، موقف لا يسأل حميم حميمه، موقف يفر المرء من أبيه وأمه وأخيه وصاحبته وبنيه لكل إمري منهم يومئذ شأنٌ يغنيه، موقف يحشر الناس فيه عراه حفاه غرًا، موقف يُكسى فيه الخلائق، وأول من يكسى إبراهيم خليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأكمل التسليم، موقف لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، موقف يحدث فيه الحوار؛ ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحًا انا موقنون، موقف يختم فيه على أفواههم وتنطق جلودهم، يمر وقتها بطيئًا، فقد يكون اليوم كألف سنة على أناس، ويكون كخمسين ألف سنة على أناس، والعبرة بما تشعر أنت به، وبالموقف الذي أنت فيه، فأيام الفرح تمر سريعًا، وأيام الحزن تمر بطيئه، واليوم كما قلنا من قبل نهار بين ليلتين، أما أيام الله فلا يعلمها إلا الله، ولذا سُئل ابن عباس رضى عنهما عن هذه الآيات؛ ألف سنة، وخمسين ألف سنه، فقال هي أيام الله، فكيف أتكلم فيها، وأنا لا أدري عنها شيئًا، فانتقل السائل إلى سعيد بن المسيب ليسأله، وأخبره بأن سأل ابن عباس وقال كذا وكذا، فقال سعيد بن المسيب هذا ابن عباس أعلم مني، واتقى لله مني، خاف أن يتكلم فيها فكيف أتكلم أنا فيها؟ الصحابه تأدبوا مع الله، وخافوا أن يتكلموا عن هذه الأيام؛ لأن المعلوم أن الليل، والنهار، والأيام، والشهور، والسنين، هي في الدنيا فقط، أما عند الله تبارك وتعالى فليس هناك ليل، أو نهار، أما النار فهي ليل دائم، وظلام دائم، النار في الدنيا تضيء، ولهيبها يرى على بعد كذا، وكذا، نار الآخره لا تضيء، ظلمات، ظلل، ولذا يقال لهم يوم القيامه ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ(٣٠)لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ(٣١)﴾[سورة المرسلات آية‫:‬ ٣٠-٣١] وأما الجنه فهي ظل ممدود، لا نهار ولا ليل، لا حر ولا برد، وبالتالي فليس في الآخره ليل أو نهار، فالأيام لابد وأن لها معنى لا يعلمه إلا الله، ويصبح الكلام الآن فيما ينزل، أو فيما يعرج، أهو الأمر؟ أهو الملك؟ أهو الوحي؟ فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ الكلام في الضمائر، يدبر الأمر، قيل أن الأمر هنا مقصود به الوحي، وقيل بل أن الأمر هنا هو القضاء والقدر، وذاك هو الرأي الأرجح، يدبر الأمر‫:‬ كل ما قضاه الله وقدره في هذه الدنيا لكل موجود؛ إنس، وجن، حيوان، نبات، حجر، مدر، شجر، كل ذلك، يدبر الأمر‫:‬ القضاء والقدر، خيره وشره، حلوه ومره، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، إذًا فالتدبير كما قلنا موطنه العرش، التفصيل ما دون العرش؛ من ملائكه، وكتبه، وحفظه، والتي تأخذ كل أمر، وقضاء وقدر في وقت، والتصريف في الدنيا، ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ والعروج‫:‬ الصعود، والعروج‫:‬ الترقي، ما الذي يعرج إليه؟ أولًا كلمة إليه‫:‬ إلى الله، ومعنى إلى الله ليست إلى مكان؛ لأن الله تبارك وتعالى قبل الزمان، وقبل المكان، ولكنه تعبير عن المكان الذي أمر الله تبارك وتعالى أن يصعد إليه هذا الأمر، كما قال سبحانه في محكم كتابه‫:‬ ﴿.. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾[سورة النساء آية‫:‬ ١٠٠] هو مهاجر إلى المدينه، ولكنه قال مهاجرًا إلى الله؛ حيث المكان الذي أمر به الله، وكما قال إبراهيم عليه السلام‫:‬ ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾[سورة الصافات آية‫:‬ ٩٩] وقد ذهب إلى الشام، ونزل بمصر، ولم يذهب إلى الله؛ لأن الله تبارك وتعالى لا مكان له، قبل المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان، وعليه فحين يقول‫:‬ ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ الضمير عائد على المكان الذي أمر الله أن يصل إليه كل صاعد، أيضًا إذا كان الكلام عن جبريل، فجبريل هو الذي ينزل بالأمر، وبالقضاء، والقدر، أو الملائكة تنزل بالقضاء والقدر إلى الدنيا، ثم تعرج الملائكه، أو يعرج الملك الموكل بالقضاء والقدر إليه، أي إلى المكان الذي أمر الله تبارك وتعالى أن يصل الملك إليه في يوم كان مقداره ألف سنة، هاء "مقداره" مشكل؛ هل الضمير عائد على اليوم؟ أم على العروج؟ أم على التدبير؟ بمعنى يدبر الأمر في يوم يساوي ألف سنة، أم أن الأمر يعرج إليه في يوم يساوي ألف سنة؟ أم أن الملك يصعد في ألف سنة؟ أم أنه ينزل ويصعد في ألف سنة؟ مشكل، قيل فيها الآتي‫:‬ قيل الملك ينزل في خمسمائه عام ويصعد في خمسمائه عام، فذاك يوم يساوي ألف عام من أيام الدنيا، قيل ما تقطعه أنت في ألف سنة يقطعه الملك -أي أن سرعه صعود ونزول الملك تساوي ألف سنة بالنسبه لك- في يوم واحد، ما يقطعه الملك في يوم تقطعه أنت في ألف سنة، ينزل في ألف سنة ويصعد في ألف سنة أخرى، ألف سنة مما تعد أنت ولكنها تساوي يومًا عند هذا الملك، أو يدبر الله أمر الدنيا لآلف سنة قادمه، وينزل الملك بهذا التدبير، ثم بعد ذلك وبعد نهايه الألف عام يدبر ربنا أمر الدنيا ألف سنة أخرى، والتدبير منذ الأزل، وإنما هنا التفصيل لأن الملائكة والكتبه لا تعرف كل شيء إلى آخر الدنيا، إلى يوم القيامه، ولكن الله يطلعهم على ما يريد وقتما يريد، وما قضاه الله تبارك وتعالى من الأزل موجود، ولكنه لا يظهره إلا حين يشاء، وقيل بل يدبر أمر الدنيا، وينزل هذا التدبير إلى الدنيا، ثم يعرج إليه في يوم، أي يوم القيامه، ويوم القيامه ألف سنة مما تعدون، وقالوا عن الخمسين ألف سنة أنها بحسب حال الناس؛ فهي ألف سنة على بعض الناس، وخمسين ألف سنة على بعض الناس الأخرين بحسب الضيق، والشده، والألم، والعذاب، وما إلى ذلك، وقالوا بل الأمر المدبر من السماء إذا نزل إلى الأرض يصعد بعد ذلك في مدة تساوي ألف سنة ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[سورة فاطر آية‫:‬ ١٠] ألف سنة مما تعدون، ذاك هو اليوم، تلك هي الأقوال التي قيلت، ونحن نعتقد -والله أعلم- أن هذه الآية من المتشابهات، والكلام فيها صعب، والخوض فيها خطر، ولا يعلم الأيام إلا الله، أما أيامنا فنحن نعلمها، ونحصيها، ونعدها، واليوم نهار بين ليلتين، أما أيام الله تبارك وتعالى فلا يعرفها إلا الله، نخلص من هذا إلى أن هذه الاية تهديد، ووعيد، وبيان لكل ذي عقل أنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، وأنه الفعال لما يريد، وما تسقط من ورقه إلا بإرادته، وما يؤمن مؤمن إلا بمشيئته، وما يكفر كافر إلا بإرادته، وما يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا والله تبارك وتعالى مدبر لكل ذلك، حتى إذا طرفت عينك، أو أغمضتها، حتى إذا حككت جلدك، فالله دبره، الله فعله، هو الفعال، يدبر الأمر، والأمر كل ما هو حادث في الوجود، هو الذي دبره، وحين دبره من الأزل، وقضى به، وقع كما أراد، وفق علمه الأزلي، فخرج المعلوم من االغيب إلى الشهادة، فإذا دبر وقضى وقع مادبره وقضاه في الوقت الذي أراده، وفي المكان الذي حدده، وبالكيفيه التي أرادها، وفق العلم الأزلي دون تبديل، أو تغيير، أو تقديم، أو تأخير، ثم يصعد كل ذلك إليه، "إليه": إلى المكان الذي أراده، فإذا صعد إليه كل ذلك بعد الوقوع، هنا بدأ الحساب؛ لأن الله حين قضى، وقدّر، ودبّر الأمور، بدأت الأمور تقع، فوقع الإيمان، ووقع الكفر، ووقعت الطاعه، ووقع العصيان، ووقع الخير، ووقع الشر، كل ذلك يعرج إلى حيث يريد الله تبارك وتعالى ، فتشاهده الملائكة، وتكتبه الحفظه، ويسبح الملأ الأعلى بحمد ربهم، ويسبحون من خيفته، يعلم الملأ الأعلى أن ما قضاه الله كأئن لا محاله، وأن البر لايبلى، وأن الذنب لا ينسى، وأن ما من شيء حادث في الوجود إلا ودبره وقضاه ربنا من الأزل، فوقع كما أراد، وبعدما وقع صعد الواقع إلى الله، فتطابق الغيب مع الشهاده، وتطابق العلم الأزلي مع ما هو كائن وحادث، ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ ، ﴿ذَلِكَ﴾ هنا بمعنى أنا، والمتكلم هو الله، ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ إذًا فالمسأله تشير إلى عِلْمَيْن؛ علْم الغيب، وعلْم الشهاده، فحين يقول‫:‬ ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ إذا ً فحين كان في السماء وقت التدبير كان غيبًا، وحين وقع في الأرض كان مشاهدًا، فتطابق الغيب والشهاده، تطابقا وتطابق العلمان، علم الله أزلي، والغيب ما غاب عنك ولو كان حادثًا بالأمس، فليس الغيب هو المستقبل فقط، بل كان ما غاب عنك هو غيب، فالله تبارك وتعالى عالم الغيب وعالم الشهاده، يعلم الظاهر والباطن، يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، علمه كله سواء، ليس في علمه صعب وسهل، ولا قديم ولا جديد، يعلم الكل في وقت واحد من الأزل، ليس له أول، ولا آخر له، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[سورة لقمان آية‫:‬ ٢٧]، ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ العزيز‫:‬ الغالب، القاهر، القوي، الذي لا يُغلب، ولا ترد له إراده ولا مشيئه، إذًا فما دبره من السماء إلى الأرض لابد وواقع، لا يحول دونه حائل، ولا يرد قضائه راد، ما أراد وقع، إن يردك بخير فلا راد لفضله، ذلك هو العزيز، الغالب، القوي، الواحد، الذي لا مثيل له، الرحيم‫:‬ إذًا كلمة الرحيم تفيد أن ما دبره الله تبارك وتعالى منذ الأزل دبره بمقتضى الرحمة، إذًا فكل ما هو واقع من منطلق الرحمة، وكل تدبير دبره الرحيم، يشعرك أن الله إذا إختار لك فقد إختار الأصلح؛ لأن الله تبارك وتعالى رحيم، يرحم عباده، فهو رحيم الدنيا والآخره، فإذا علمت ذلك أيها الاخ المسلم، وتيقنت أن الله تبارك وتعالى هو الفعال لما يريد، وأنك لا تقوى على جلب نفع، أو دفع ضر، وذاك معنى قولك لا حول ولا قوة إلا بالله، أي لاحول لي، ولا حائل يحول بيني وبين ما يضرني، ولا قوة لي بتحصيل ماينفع دنيا وأخرة إلا بالله، فإذا تيقنت من ذلك أنه هو الله، ولا شيء سواه، وأنه الفعال لما يريد، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، وأنه هو الرحيم الذي يقضي ما فيه رحمة للناس، ويختار لهم ما هو أصلح، فوضت الأمر إليه، وأنت في غايه الإطمئنان، والتسليم المطلق لله، سلم من فوض الأمور لربه، بينت الآيات من سورة السجده أن الله هو خالق السموات والأرض ومابينهما، وأن الله تبارك وتعالى مستوٍ على عرشه دون مماسه، أو حلول، أو إنتقال، إستواءًاً لا ينافي وصف الكبرياء، وأنه تبارك وتعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، وهو يحدثنا عن نفسه أنه هو العزيز، وهو الرحيم، ثم يقول الله تبارك وتعالى مدللًا على كل ذلك، ضاربًا لنا الأمثال حتى يتفكر كل متفكر، ويتدبر كل متدبر، فيقول جل من قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ٱلَّذِىٓ أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُۥ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلْإِنسَـٰنِ مِن طِينٍۢ ﴿7﴾ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُۥ مِن سُلَـٰلَةٍۢ مِّن مَّآءٍۢ مَّهِينٍۢ ﴿8﴾ ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِۦ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَـٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۚ قَلِيلًۭا مَّا تَشْكُرُونَ ﴿9﴾
‫﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ وقرئت ﴿خَلُقَهُ﴾ ، ﴿أَحْسَنَ﴾ هنا ليست كما يفهم البعض من الحسن أو الجمال، وإنما أحسن بمعنى أتقن وأحكم، وتعني أيضًا العلم؛ لأن العرب تقول قيمه الرجل بما يحسن أن يفعله، أي بعلمه، وبما يعلمه، ويقدر عليه، فالله تبارك وتعالى الذي أحسن كل شيء خلقه، أي أحكمه، وأتقنه، فجاء على وفق ما أراد مهيأً،ً ومسعدًا ً لما خلق من أجله، فإذا نظرت إلى الإبل؛ كيف خلقت، لوجدت العجب، خزّانًاً في هذا الحيوان، يخزن فيه ماءه وطعامه؛ لأنه خلق للصحراء، ولوجدت أن أغلب طعام الإبل الشوك، فلا ينبت في الصحراء إلا الأشواك، وكي يستطيع أن يأكل ذلك الشوك تجد أن الشفه السفلى مشقوقه حتى يدخل بينها الشوك ولا يؤذيه، ولوجدت ساق الإبل مهيأه بوسائد لينه طريه لأنه إذا برك برك على رمل قاس فلا يؤذيه، ويقول الله تبارك وتعالى في موضع آخر‫:‬ ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[سورة طه آية‫:‬ ٥٠] أعطى كل مخلوق الخلق بالكيفيه وبالهيأه التي تؤهله لما خلق له، ثم هداه، خلق المعرفه فيه، كيف يستغل ما منحه الله من خلق فيما يجب أن يكون، فحين خلق الطيور، وهب لها الأجنحه والذيول، ثم ألهمها كيف تستخدم الجناحين، وكيف تستخدم الذيل في الإرتفاع، والإنخفاض، والدوران يمنه ويسره، وخلق لها منقارًا تلتقط به الحب، وألهمها ذلك، حتى أن الفرخ الصغير بمجرد خروجه من بيضه ينقر في الأرض يلتقط الحب دون تعليم، دون تدريب، وهكذا تجد الإنسان حين خلق؛ خلق ومنح سمعًا، وبصرًا، وفؤادًا، وأيدي، وأرجل، وآذان، وأعين، وأنف، وفم، وأسنان، حتى الأسنان لكل سن وظيفه؛ فهناك القواطع، وهناك الطواحن، وهكذا، واللسان بكيفيته، وكيف يؤدي حاسه الذوق، وكيف أن في هذا اللسان مواضع لذوق الأنواع المختلفه، فأنت في حاسه الذوق لا تذوق بلسانك كله، بل في طرف اللسان لأشياء معينه، وفي جوانب اللسان لأشياء أخرى، وفي آخر اللسان لأشياء ثالثه، وهكذا، خلايا الذوق مختلفه لكي تتذوق أنواع ثالثه، وهكذا خلايا الذوق مختلفه لكي تتذوق أنواع الطعام المختلفه، وتميز بينهما، وتحتفظ في هذا المخ الغريب التركيب بكل ذلك في ذاكرتك، حتى أنك حين تذوق الشيء مره في عمرك، وتمضي بك الأيام والسنون ولا تذوقه، وعندما تذوقه تعرف ما هو، ما هو أعطى كل شيء خلقه، الله أحسن كل شيء خلقه أي هو أعلم بكل شيٍ خُلِق، وهو الذي فهّم المخلوق، وألهمه كيف يبقى، وكيف تبقى الحياه، وكيف يستخدم هذه الأعضاء، والجوارح، والمفاصل، والعضلات، وما إلى ذلك، الله تبارك وتعالى أحسن كل شيء خلقه‫:‬ أتمه، وأكمله، وأحكمه، فوقع كما أراد، ولا يمكن أن تجد مخلوق خلق لغرض وليست له الوسيله التي يستطيع بها أن يحقق ذلك الغرض، فلا يمكن أن تجد الوحش بلا أنياب، كيف يأكل؟ ولا يمكن أن تجد الجمل بلا خف، كيف يمشي؟ ولا يمكن أن تجد الطائر بلا جناح، فكيف يطير؟ حتى الطيور التي تطير في إرتفاعات شاهقه، رزقها من قوة الأبصار ما تستطيع به أن تميز بين الحبه والرمله على إرتفاع شاهق، حتى إذا نزلت نزلت على طعام، ولم تنزل هباءًا، أو سدىًً وما هُيءَ للإقتيات من باطن الأرض على دودها هُيءَ ببصر لم يهيأ لمخلوق سواه، وكأنها أجهزة كشف تكشف عما في باطن الأرض، فتجد هذا الطائر ينحط من علوّ على مكان بعينه، وينقر بمنقاره في باطن الأرض، ويخرج بالغذاء، دوده تتحرك في منقاره، كيف رآها وكيف عرف مكانها، سبحان الذي أحسن كل شيء خلقه، ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾ آية معجزة غايه في الغرابه والقدرة؛ أنت ترى الطين، وتعرف ماهو الطين، وإذا جاء على ثوبك تقزَّزت وأسرعت بإزالته، وأنت مخلوق منه، فكيف حوّل هذا الطين المستقذر، كيف حوّله إلى لحم، وعظم، وعضل، وعصب، وجلد، وحواس، وعقل، وتفكير، وحركه، وتدبير هو الله، ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾ والكلام عن آدم أبو البشر، ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ﴾ شيء أغرب وأعجب؛ تجدد في الخلق، قدرة لا تعجزها شيء، قدرة غريبه فوق مستوى الخيال، خلق الإنسان من طين، ومع ذلك حين أراد تجديد ذلك الخلْق، إذا بهذا الطين بعد أن صار سويًا، وإنسانًا كاملًا متكاملًا ينسل منه‫:‬ يخرج منه، ينسل منه‫:‬ ينفصل عنه ماء مهين، محتقر، لا قيمه له عند الإنسان فهو مهين، بل قد تستقذره النفوس، ومع ذلك جعل نسله، وسمي النسل نسلا ً لأنه ينسَّل، ويخرج من أبيه، جعل نسله من سلاله من ماء مهين، نطفه لا قيمه لها، ولا خطر لها، ولا يبالي بها الإنسان، ومع ذلك هذه النطفه من الماء المهين تتحول إلى علقه، إلى مضغه، إلى عظام، وكل عظمه لها شكل، ولها وظيفه، ولها قوة إحتمال، فعظام الفك غير عظام الجمجمه، غير عظام اليد، غير عظام القفص الصدري، أعصاب كأسلاك الكهرباء، أعصاب وعضلات مرتبطه ببعضها تتحرك، وبتحرك هذا يتحرك ذاك، خلايا حسيه تحس بها البارد والساخن، أحاسيس، مشاعر بالفرح، وبالألم، وبالعذاب، وبالجوع، وبالعطش، تفكير، ذاكره، إستيعاب، نظر، سمع، نطق، لسان يتحرك، ولا دخل لك في حركه ذلك اللسان، وإذا بك تنطق بالكلام، والكلام ،كثير من الكلمات في الدقيقه، مئات الكلمات، من أين تأتي؟ وكيف تترتب هذه الأفكار في ذهنك، ومن الذي يرتبها، ومن الذي يجعل هذه الجمل في كلام مفيد، يُسمع فيُعقل، ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ التسويه كما ترى في نفسك، ما من شيء تحتاج إليه في هذه الدنيا لكسب معاشك، أو للحركه، أو للتصرف، أو للتدبر، إلا وتجد له المعين من أعضائك، وأجزائك، وأجهزتك، حتى الهضم عمليه تتم دون تدخل من الآكل، إخراج الفضلات من جسمك، تلك السموم، من الذي يميز بين النافع والضار، فيحتفظ بالنافع، ويخرج هذا الضار، ثم تشعر بالحاجه إلى الذهاب للتخلص من هذه الفضلات، من الذي أشعرك بها؟ وكيف شعرت؟ ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ هو الذي سوانا، وعدلنا، وركبنا، فإذا بك تمشي، وتنام، وتقوم، وتقعد، وتتصرف، وهكذا، ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ والنفخ يشعر أن الروح أشبه ما تكون بالهواء، وهي جوهر غير معلوم، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[سورة الإسراء آية‫:‬ ٨٥] فهي ليست بجسم محدود مقدر، وليست بشيء يحوزه مكان، هي سر من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله، وحين يقول‫:‬ نفخ فيه من روحه، نسبه الروح إلى الله نسبه تشريف، وليست معنى ذلك أن الله أخذ شيئًا من ذاته ووضعه في الإنسان، وإنما هي نسبه تشريف ،كما يقول عبدنا، وكما يقول الله على جبريل روحنا، فهي نسبه تشريف، وإعلاء لقدر الإنسان، الذي كرّمه الله، وحمله في البر والبحر، ورزقه من الطيبات، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلًا، ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ ﴾ والخطاب لمن يعقل، ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ جعل لكم السمع، والبصر، والفؤاد، أشعرت بنعمه السمع؟ ألم تسد أذنك يومًا؟ كيف تعصبت، وتوترت، وكيف أسرعت إلى الطبيب، ألم تصب عينك يومًا فاضطررت لإغماضها، والنظر بعين واحده؟ أشعرت بنعمه البصر؟ أعلمت كيف تبصر، كيف تبصر الأشياء؟ علماء الدنيا في طب العيون لا يجدون تبريرًا لذلك، ولا يعرفون كنه الإبصار، هم يقولون أنك إذا نظرت إلى الشيء بوجود الضوء المنعكس على هذا الشيء تأتي صورة الشيء إلى عينك، وتدخل من ثقب صغير، والأغرب أنهم يقولون أن هذه الصورة حين تدخل إلى العين فهي تدخل مقلوبه، وأثبتوا ذلك بنظريه الشمعه والضوء، وما إلى ذلك، فإذا دخل الشيء إلى إنسان عينك من الثقب صغيرًا، صغيرًا لا يرى، مقدار أقل من النملة، تدخل الصورة بهذا الحجم الصغير مقلوبه، وتقع على شبكيه العين مقلوبة، تنقلها أعصاب الأبصار، أسلاك وتوصيلات إلى خليه مخصوصه في المخ،فتعدلها وتعيدها إلى حقيقتها، وتكبرها إلى حجمها الطبيعي، فتبصرها ،كيف ذلك؟ وكيف تُكبَّر هذه الصورة في الخليه؟ وكيف تتسع تلك الخليه للجبل، وللسماء، وللأحجام الكبيره، وكيف لا تخطيء في وضع الأحجام في طبيعتها، وفي قلب الصور إلى حقيقتها، كيف يتم ذلك وأنت لا تدري؟ وكذلك السمع؟ ما هو إلا إهتزازات في الهواء نشأت عن الكلام، والكلام نفخٌ لهواء، وتقطيع لهذا الهواء بقفل وفتح الفم وحركات اللسان، فإذا قطع الهواء المنفوخ من الفم، عمل ذبذبات في الجو، وانتقلت تلك الذبذبات لما سمي طبلات الأذن، فطرقت عليها طرقًا مختلفًا، وهذا الطرق المختلف سواء في الإرتفاع، أو الإنخفاض، أو القوة، أو في الضعف، أو في الطول، أو في القصر، يتحول عن طريق الأعصاب، تلك الأشياء الغريبه، الأسلاك العجيبه إلى خليه في المخ، إذا بها طرقات على خليه المخ، خليه السمع في المخ، فتترجمها إلى كلمات، وحروف، ومعاني، تُفهم، كيف؟ هو الله، ﴿قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي ليت الناس عرفت نعمه الله عليها فشكرته على هذه النعم، واستخدمت هذه النعم فيما خلقت له، ولكن كثيرًا يكفرون ذلك، السمع، والبصر، والفؤاد، كل ذلك كان مسئولًا، الفؤاد‫:‬ العقل، والفؤاد غير معلوم للناس، ومهما وصل العلم، وإنهم يقولون لنا أشياء تتعجب لها أنت الآن، كم شخص تعرفه في الدنيا، تعرف صورته، وتعرف شكله، وتحفظ إسمه، وتحفظ الأماكن التي إلتقيت به فيها، كم نوعًا من الطعام تعرف شكله وطعمه، كم نوعًا من الأشياء تحفظها وتعرفها، كم من المعلومات درست، وكم من الكتب قرئت، كم، وكم، كل تلك المعلومات دخلت إلى عقلك، كيف خزنت، كيف رتبت؟ كيف إحتفظت بها؟ كيف تأتي بها حين تريد؟ وإذا ذكر إسم رجل تعرفه ولا تراه أمامك لقفزت صورة الشخص إلى مخيلتك، لو ذكرت الآن جبل عرفه لمن حج منكم ألا يتصوره فورًا في ذهنه؟ من أين أنت تلك الصورة، من أي أرشيف، من أي جهاز؟ كيف، وكيف؟ هو الله، ﴿قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي أن شكرها قليل وليس كما يجب، أو الشاكرون قليل أي تعني أن الشاكرين قليل من الناس، وتعني أيضًا أن شكر الشاكرين قليل عما يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مناجاته لربه‫:‬ "لا نحصي ثناءًا عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" ، ورغم كل ذلك تنتقل الآيات إلى مقاله الجاحدين، فيقول ربنا تبارك وتعالى حكايه عنهم‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَقَالُوٓا۟ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى ٱلْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍۢ جَدِيدٍۭ ۚ بَلْ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ كَـٰفِرُونَ ﴿10﴾
وقرئت "ضَلِلْنا" وقرئت "صَلَلْنا" (صَلَلْنا- ضَلِلْنا) بمعنى واحد، صَلَلْنا من قولهم صلَّ اللحم يضل وأَصَلُّ اللحم : أنتن، الضلال هذه الكلمة تستخدمها العرب في كل شيء غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره، تقول فيه (ضلّ) فإذا جئت بالماء ووضعته على اللبن فغلب اللبن على الماء وغاب أثر الماء في اللبن تقول ضل َ الماء في اللبن، فحين يقولون‫:‬ ﴿أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي إذا تحولنا إلى تراب، واختلطت هذه الأجساد مع التراب، وضاعت، وخفى أثرها، تزيل هذا التراب، وفيه أجساد دون أن تميزها، غلب تراب الأرض على تراب الأجساد فانتهى، أو أئذا ضللنا‫:‬ أي أنتنا؛ لأن الجسد بعد الوفاه ينتن، وينفجر، ويتحول إلى جيفه تعافها الكلاب، ذاك الجسد الذي تخدمه طوال حياتك، وتسعى لتنعيمه، سيتحول إلى جيفه، وغفلت عن الروح التي هي الأساس، ﴿أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أو ﴿إنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾نُبعث ونحيى، إذا بنا أجساد نبصر ونسمع، ويتحول هذا التراب الذي ضاع، كيف يقدر بعد أن ضلّ في تراب الأرض، ويعيده، ويخلقه مره أخرى، ويكوّنه كما كان، ويرد الله تبارك وتعالى عليهم، والكلام فيه إضراب عن كلامهم إلى شيء آخر، معلومه جديده ينبهنا لها ربنا تبارك وتعالى فيقول‫:‬ ﴿بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ أي أنهم لا ينكرون قدرة الله؛ لأنه حين سألهم من خلق السموات والأرض، قالوا الله، إذًا فهم لا ينكرون قدرة الله على الإعاده، وإنما هم ينكرون الحساب، والثواب، والعقاب، إسقاط التكليف حتى يصبح المرء في حريه فيصنع في الدنيا ما يشاء؛ من سلب، ونهب، وظلم، وجرائم، دون مخافه العقاب والسؤال، إذًا كلمة "بل" للإضراب؛ أي أنهم ليسوا في شك من هذه القدرة، قدرة الله، بل هم ينكرون الحساب، الثواب، العقاب، الجنة، والنار، ﴿بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ أي بلقاء الحساب، بالوقوف بين يدي الله للسؤال، كافرون‫:‬ جاحدون، منكرون؛ لأن الكافر في حقيقة أمره هو المُخفي للحق ،كلمة الكفر، كفر الشيء‫:‬ أي أخفاه؛ لأنه أخفى الإيمان الفطري الذي أعطاه الله له، وأشهده على خلقه في عالم الذر، وإجابة لسؤالهم قال‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قُلْ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴿11﴾
قل من قدر على الإنشاء قدر على الإعاده بعد الإفناء، فيقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ الوفاه، والتوفيه، والإستيفاء، أخذ الشيء كاملًا، إستوفيت حقي كاملًا‫:‬ أخذت حقي منك كاملًا غير منقوص، التوفّيِ: أخذ الروح كامله، وجميع الأرواح لا تفلت منها الروح، ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم﴾ أي يأخذكم جميعًا، كاملين غير منقوصين، لا تغيب عنه نفس، ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ أي وكلّه الله لقبض الأرواح، وإسمه عزرائيل، وهي تعني عبد الله، وقال أحد الصحابه أن الدنيا بالنسبه لملك الموت كالطست أمام أحدكم، يأخذ منه ما يشاء، الطست أمام الإنسان كالدنيا أمام ملك الموت، يأخذ حيث يشاء، وفي هذه الآية ذكر أن المتوفي الملك، ملك الموت واحد، وفي آيات أخرى يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾[سورة الأنفال آية‫:‬ ٥٠] ويقول‫:‬ ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[سورة النحل آية‫:‬ ٣٢] فاعلم ايها الاخ المسلم أن الله خلق ملك الموت، وخلق له قدره قبض الأرواح، واستلالها من الإجساد، فإذا دعاها لبت النداء، وخلق مع ملك الموت جند من الملائكه، يعلمون عمله، ويأتمرون بأمره، فملك الموت هو الموكل، ومعه جنود يأتمرون بأمره، ويفعلون فعله بأمره، فهو الذي يتوفى النفس، يأمر بخروجها، يستلّها إستلالًا، ويدعوها فتجيب، ثم يسلمها لملائكة الرحمه، أو ملائكه العذاب، واعلم أن الله هو خالق الكل، والفاعل حقيقه لكل فعل، إذا يقول جل من قائل‫:‬ ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا‫.‬..﴾[سورة الزمر آية‫:‬ ٤٢] فهو المتوفي على الحقيقه، ويقول جل من قائل‫:‬ ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[سورة الملك آية‫:‬ ٢] ويقول في ذاته، وفي شأنه‫:‬ (يحيى ويميت)، فهو الخالق للكل، الفاعل حقيقة لكل فعل، ولكنه وكل ملك الموت بقبض الأرواح، وجعل له جنود خلقها، هؤلاء الجنود من الملائكه يأتمرون بأمر هذا الملك، ويفعلون فعله، ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ فكما قدر ربنا على إستيفاء الأرواح، وإماته الأجساد بملك وكلّه بذلك، قادر على أن يبعث هذه الأجساد مرة أخرى، ويعيد إليها الأرواح، فإذا بها قائمة تسمع وتبصر، رجعت إلى الله فأوقفها للحساب والسؤال، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة بعد الإفناء، فإذا عدت طينًا وترابًا، بدأ خلقك كما بدأه أول مره، فهو يبديء الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه، بدأ خلق الإنسان من طين، فإذا تحوّل بعد ذلك طينًا وترابًا، فكذلك يعيده، والإعادة أسهل من الإبتداء عند عقول الناس، ولكن الله تبارك وتعالى ليس عنده سهل وعسير، وإذا أراد شيئًا فإنه يقول له كن فيكون‫.‬ أيها الاخ المسلم، نظر النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فوجد ملك الموت عند رأس رجل من الإنصار، فقال له‫:‬ أرفق بصاحبي فإنه مؤمن، فقال ملك الموت للنبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ يا محمد، طب نفسًا، وقر عينًا، فإني بكل مؤمن رفيق، واعلم أن ما من اهل بيت مدر، او شعر، في بر أو بحر، الا وانا أتصفحهم كل يوم خمس مرات، حتى إني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، والله يا محمد! لو أردت أن أقبض روح بعوضه ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها‫.‬ ايها الاخ المسلم، الموت آت لا محاله، والله ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، ملك الموت قادم إليك الآن أو بعد حين، إما ملائكة الرحمة يزفون إليك البشرى؛ سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وإما ملائكة العذاب يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق، ايها الاخ المسلم، كل نفس ذائقه الموت، وإذا جاء ملك الموت جاء فجأه، وجاء بغته من غير أن تدري، وعندئذ إما أن تفرح بلقاء الله فيفرح الله بلقائك، وإما أن تحزن وتطلب العوده، فيقال لك سبق القول مني أنهم إليها لا يرجعون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ايها الاخ المسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ "من احب لقاء الله احب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالوا يا رسول الله:كيف ذلك؟ كلنا يكره الموت، قال ليس كما تظنون، بل إذا جاءت ساعه العبد منكم، فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، وذلك يحدث عند معاينه سكرات الموت، عند دخول ملك الموت، ذلك الذي لا تحجبه حصون، أو بروج، أو أحراس، ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ...﴾[سورة النساء آية‫:‬ ٧٨].‬‬‬‬‬‬‬
‫يقول الله تبارك وتعالى لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، والخطاب للنبي والمراد النبي والأمة‫:‬‬‬‬‬‬
وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا۟ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ﴿12﴾
وإجابة ﴿وَلَوْ﴾ محذوفه لعلم السامع بها، ولو ترى ذلك لرأيت أمرًاً فظيعًا، لو ترى ذلك لرأيت العجب، أي قل يا محمد لكل مجرم في هذه الدنيا‫:‬ لو رأيت أيها المجرم ما يصيب المجرمين يوم القيامه، لارتدعت، ولكففت، ولامتنعت، والإجرام إذا جاء في القرآن يعني الشرك، والكفر، والجحود، والنكران؛ لأن الشرك أكبر جريمة على الإطلاق، المجرمون هؤلاء الذين قالوا‫:‬ ﴿أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ منكروا البعث، منكروا الجزاء، منكروا الحساب، لو ترى لرأيت أمرًا فظيعًا، ناكسوا رءوسهم، مطأطأوارؤوسهم من الخزي، والعار من الذل، والهوان، النكس‫:‬ القَلب، نكّس الشيء‫:‬ قلبه، فهؤلاء بدلًا من رفع رؤوسهم، إذا بهذه الرؤوس مقلوبه، منكوسه من الخزي، والعار، والهوان، في وقت هناك رؤوس مرفوعه، وأنظار إلى العلو، ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(٢٢)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(٢٣)﴾ [سورة القيامة آية‫:‬ ٢٢, ٢٣] في ذلك اليوم ترى المجرمين ناكسوا رؤوسهم عند ربهم، يقولون‫:‬ ربنا أبصرنا وسمعنا، أولم يكونوا يبصرون ويسمعون في الدنيا؟ بلى كانوا يبصرون في الدنيا، وكانوا يسمعون في الدنيا، ولكنهم يبصرون ما يريدون، ويسمعون ما يشتهون، وعن الآخره هم غافلون، لا يتدبرون الآيات التي رأوها، ولا يتدبرون الآيات التي سمعوها، ففي السماء آيات، وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون، فأنت تعلم الآن كيف خلقت من نطفه، من ماء، من علقه، من مضغه، كيف خلقت، وكيف رزقت السمع والبصر، كيف، وكيف، فهناك من يسمع، ويتدبر، ويقول هو الله، وهناك من يسمع وكأنه لا يسمع؛ ألا تبصر السماء كيف رفعت، والجبال كيف نصبت، والإبل كيف خلقت، والأرض كيف سطحت، ألا تبصر كل هذه المخلوقات؛ كيف دبرها الخالق الباري، فمن أبصر وتدبر فذلك المبصر، ومن أبصر ولم يتدبر فذلك الأعمى؛ فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وها هم حينما بعثوا، وعاينوا الموقف، والعذاب، والحساب، والميزان، والديوان، والجنه، والنار، يقولون أبصرنا وسمعنا، أي أبصرنا مالم نكن نبصر، وعقلنا مالم نكن نعقل، وسمعنا مالم نكن نسمع، صدقنا رسلك، وصدقنا بآياتك، وأبصرنا آلائك، ونعمائك، وعرفنا قدرتك على البعث، وعرفنا قدرتك على الحساب والجزاء، وعرفنا كل ذلك، أبصروا حين لا ينفعهم البصر، وسمعوا حين لا ينفعهم السمع، فقالوا‫:‬ ﴿فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ أي أرجعنا إلى الدنيا نعمل صالحًا إنا موقنون، واليقين أشد وأعلى درجات الإيمان، الإيمان إذا كان معانيه فهو اليقين؛ لأنك تؤمن بالغيب، أنت تؤمن بالغيب، أنت تؤمن بالجنة ولم ترها، فإذا رأيت الجنة فأنت موقن بالجنة، وهكذا، ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(٥)لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(٦)ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(٧)﴾[سورة التكاثر آية‫:‬ ٥- ٧] فأنت تؤمن بالجحيم، وتؤمن بالنار إيمانًا غيبيًا، أما حين المعاينه فذلك هو اليقين، ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾[سورة الحجر آية‫:‬ ٩٩] الموت لأنك تؤمن بالموت، وترى الناس تموت، ولكنك لم تذق الموت، ولا تعرف كنه الموت، حين تعاين الموت وتموت، هنا اليقين بالموت، فهؤلاء يقولون‫:‬ ﴿فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ وطلبوا العوده إلى الدنيا، وقد كذبهم الله في مواضع أخرى من القرآن حيث قال تعالى‫:‬ ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٢٨] ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَوْ شِئْنَا لَـَٔاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿13﴾
حق القول‫:‬ ثبت ووجب القول، القضاء الذي قضاه الله من الأزل لابد وأن يتحقق ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، وإياك أن يخطر ببالك أن معن أن كل الأنس والجن في جهنم، أين السالمون؟ إين الصديقون والمقربون؟ أين الأنبياء والمرسلون؟ أين الصالحون؟ هم في الجنة، فحين يقول‫:‬ ﴿أَجْمَعِينَ﴾ أي مجموعين فيها، وليس معناها أن جميعهم في النار لأن هناك أناس ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾[سورة الأنبياء آية‫:‬ ١٠٢]، ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ ما معنى هذا الكلام؟ قالوا لو أردنا أن نعيدهم إلى الدنيا لأعدناهم، وأعطينا كل نفس هداها‫:‬ أي ما طلبت، والهدى‫:‬ خلق المعرفه في القلب، وقالوا بل ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ أي الجنة، أي أدخلنا الجميع الجنة، وأغلقنا أبواب النار، وما عذبنا أحد، والكلام عن الآخره، وقالوا بل الكلام عن الدنيا، ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها‫:‬ أي لهدينا الناس جميعًا إلى الحق، وما كان في الناس عاصي، ولا مجرم، ولا مكذب، ولا كافر، وقالوا بل معناها آتينا كل نفس هداها‫:‬ أي أكرهناها على الإيمان، أي أن الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا ممكن أن يأتي بالآيات والمعجزات المبهره التي تلجيء الناس على الإيمان، ولكن إذا حدث ذلك تعطل الإختيار، ولأصبح لا مجال لا للحساب، ولا للثواب، ولا للعقاب؛ فقد آمن الناس كرهًا كإيمان فرعون حين عاين الغرق آمن كرهًا لا ينفعه إيمانه، وهكذا، وقالوا‫:‬ ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ معنى ذلك أن الله شاء الهدى لفريق، ولم يشأ الهدي لفريق آخر، إذًا فالناس مجبورون على الطاعه، من أطاع أطاع جبرًا، ولم يطع إختيارًا، ومن عصى كذلك، وهؤلاء فئه تسمى الجبريه، واستندوا إلى قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[سورة التكوير آية‫:‬ ٢٩] إذًا المسأله متعلقه بمشيئه الله، وعليه فالأمر جبر مطلق، أخطأوا وابتعدوا عن الصواب لأن الله تبارك وتعالى يقول عن نفسه‫:‬ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾[سورة فصلت آية‫:‬ ٤٦]، وقال آخرون‫:‬ بل الناس خلقوا أفعالهم فهم مختارون على الإطلاق، فالإيمان للمؤمن مخلوق بيد المؤمن ليس بيد الله، وكذلك الكافر خلق الكفر في نفسه بنفسه، وهؤلاء طائفه أخرى تسمى القدريه، وابتعدوا عن الصواب كثيرًا وقالوا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ﴾[سورة التكوير آية‫:‬ ٢٨] إذًا فالأمر متعلق بمشيئة الإنسان، وقالوا قوله تعالى‫:‬ ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾[سورة الإنسان آية‫:‬ ٢٩] إذًا الأمر متعلق بمشيئتك أنت، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلًا، ومن لم يشأ لم يتخذ، هؤلاء أخذوا جزءًا من القرآن فضلوا، وهؤلاء أخذوا جزءًا من القرآن فضلوا، والقول القصد، والحق الفصل، هو أن تأخذ كلام الله تبارك وتعالى كاملًا متكاملًا، فربنا حين قال‫:‬ ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾[سورة التكوير آية‫:‬ ٢٨] عقّبها بقوله تعالى‫:‬ ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[سورة التكوير آية‫:‬ ٢٩] وحين قال‫:‬ ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾[سورة الإنسان آية‫:‬ ٢٩] قال‫:‬ ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[سورة الإنسان آية‫:‬ ٣٠] إذًا هناك مشيئة للإنسان، وهناك مشيئة لله تبارك وتعالى، فلا تأخذ آية وتترك آية، وإلا تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، هؤلاء الذين جعلوا القرآن عضين، الأمر إذًا أن الله مريد من الأزل، وإرادته قائمه بذاته من جملة صفاته، فهو مريد للكائنات، محدث للحوادث والحادثات من الأزل، فوقعت كما أراد وفقًا لإرادته الأزليه دون تقديم، ودون تأخير، دون تبديل، ودون تغيير، وفقًا لعلمه الأزلي، فهو الفعال لما يريد، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، ذاك أمر، فالأمر الأول‫:‬ أن الله تبارك وتعالى مدبر لجميع الحادثات، مريد لجميع الكائنات، إرادته أزليه؛ فما أراده كان ومالم يرده لم يكن، ماشاء كان ومالم يشأ لم يكن، الأمر الثاني‫:‬ أن الله خلق الخلْق، وقدّر أرزاقهم وآجالهم، وأنشأ قدراتهم وحركاتهم، فالنحل وعسله، والنمل ودأبه، والقمر وفلكه، والإنسان وعمله، والعنكبوت ونسجه، من خلق الله وإيجاده لاشك في ذلك، بدليل أنك لا تدري عن حركات جسمك شيئًا، وكيف هي مرتبطه بالعضلات، والأعصاب، وما إلى ذلك، فأنت تحرك يدك يمنه ويسره، لكن كيف؟ هل أنت خلقت العضلات، والأعصاب، وارتباطها بهذه الحركات؟ أم أن الله هو الذي خلقها، هو الذي خلق اليد وشكّلها، وخلق الأعضاء، والعضلات، والأعصاب، وعلمك كيف تحركها، هو الله، إذًا فالله خالق لكل الموجودات، والله خلقكم وما تعلمون، هذا هو الأمر الثاني، وهنا يجب أن تفرق بين أمرين‫:‬ الحركه الجبريه، والحركه الإختياريه؛ فهناك حركه جبريه كحركة الحجاب الحاجز، ودقات القلب، فهي حركه جبريه لا دخل للإنسان فيها، فهذه الحركات تختلف عن التقلب من جنب إلى جنب، فهناك حركه جبريه، وحركه إختياريه، وعليه فكما أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شيء؛ الناس، وأعمالهم، وهو مريد لكل شيء، فلا يقع في ملكه إلا ما يريد، وهو الفعال لما يريد، إلا أن أفعال العباد رغم أنها من خلق الله وتقديره، إلا أنها من كسب العبد وتدبيره، إذًا فهناك أمر بين أمرين؛ بين الجبر، وبين الإختيار، هذا الأمر بين الأمرين يسمى كسبًا، فالله تبارك وتعالى هو الخالق للعباد، وهو الخالق لأفعال العباد، فلا يقع في ملكه من كفر، شكر، إيمان، زياده، نقصان، حركه، سكون، موت، حياه، شرور، معاصي، طاعه، كل ذلك لايقع في ملكه إلا إذا أراده، فهو مريد لكل ذلك، فما في الوجود من شيء حادث إلا والله محدثه، وما من شيء في الوجود موجود إلا والله خالقه، خلق العباد، وقدّر أرزاقهم، وآجالهم، وأنشأ قدراتهم، وأفعالهم، وحركاتهم، كل ذلك مخلوق لله، وكل ما هو حادث في الوجود مراد لله من الأزل، ولكنه منسوب إلى العباد على سبيل الإكتساب، فالله تبارك وتعالى خلقك، وخلق عملك، وأراد منك الإيمان، أو أراد منك الكفر، ولكن نسب إليك الكفر، ونسب إليك الطاعه، ونسب إليك العصيان، وحاسبك على ذلك بالإكتساب، لذلك تُحل المشكله وتُفهم المعضلة بقوله تعالى‫:‬ ﴿... لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾[سورة البقرة آية‫:‬ ٢٨٦] إذًا فهناك شيء يسمى الإكتساب، ولنُشرح بشيء من البساطه؛ لو أنك أعطيت إبنك الصغير جنيهًا، أنت صاحب الجنيه، حين أخذه الإبن أخذه إيجادًا، أم أخذه إكتسابًا؟ أخذه إكتسابًا؛ كسب ذلك الجنية منك، أما العاطي فهو الأب، أنت المعطي لهذا المبلغ، وهو إكتسبه منك، فإذا قلت لهذا الغلام‫:‬ إياك أن تصرف هذا المبلغ في كذا، وعليك أن تصرفه في كذا، فذلك هو الأمر؛ أمرته، ونهيته، وهنا بعلمك السابق بغلامك وتصرفه، قلت لامرأتك هذا الغلام أخذ المبلغ، وسوف ينزل الآن ويشتري بهذا المبلغ آفه ، دخان يشربه، وينفخه في الهواء، فقالت لا لن يحدث ذلك بل هو عاقل، فقلت‫:‬ أبدًا، أنا أعرف ابني، وأنا أعرف به منك، نزل الغلام واشترى بهذا الجنية علبه دخان، هل أنت أجبرته على ذلك؟ أنت أعطيته المبلغ، ومع ذلك علمت ما سوف يفعله بالمبلغ، فأذنت له بذلك، ولو شئت لمنعته بأن غلّقت الأبواب، ولكنك تركته يفعل ذلك لتري امرأتك أن ذاك الإبن سيء التصرف، أو سفيه، فكونك أمرته بالأمر، لكنك لم ترد في نفس الوقت إطاعه الأمر، بل أردت أن تظهر ما انطوت عليه نفسه من العصيان والسفاهه، أليس كذلك؟ فالله تبارك وتعالى حين أراد للمعاصي، وللكفر، وللشرور، أن يقع كل ذلك في ملكه، هو لم يأمر بالعصيان، ولكنه أراد للعصيان أن يقع، أي سمح بذلك، وأذن حتى يعاقب العاصي على عصيانه، ولو لم يسمح بوقوع الكفر والشرور لما عاقب الناس، أيعاقبهم على ما في نفوسهم ولم تظهر؟ فعالم الغيب والشهاده يعلم من الأزل ما سوف يكون عليه أمر العصاه، من هنا أراد وشاء أن يقع منهم العصيان بإرادته، مع أنه لم يأمر بهذا، وخلق لهم القوة، والقدره، والإمكانيات، والوسائل لارتكاب هذه الشرور، هو الذي خلقها، ومكنهم منها، وأراد وقوعها منهم، ولكنه لم يأمرهم بها، لكي يقع ما علمه من الأزل وفق علمه الأزلي دون تبديل، دون تغيير، ولكي تقع الأمور في الأوقات التي قدرها، والأزمان التي حددها، والأماكن التي حددها، ايها الاخ المسلم ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ليس هناك جبرًا مطلقًا، وليس هناك إختيارًا مطلقًا، بل هناك جبر في أمور، واختيار في أمور، وكما قلنا على العاقل أن يفرق بين الحركه الجبريه كحركه الحجاب الحاجز ودقات القلب، وبين الحركه الإختياريه كالتقلب من جنب إلى جنب، ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا(٢٩)وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(٣٠)﴾ [سورة الإنسان آية‫:‬ ٢٩، ٣٠] ، زعم أناس أن الخلق مجبورون على الطاعه، وهي طائفه الجبريه، وقالوا بالجبر في كل شيء فإن أطاع إنسان فهو مجبور على الطاعه، وإن عصى فهو مجبور على المعصية، ملتفتين في ذلك إلى قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[سورة الإنسان آية‫:‬ ٣٠] فالأمر متعلق بمشيئة الله تبارك وتعالى، إذًا فالأمر جبر مطلق، وقال الآخرون وهم طائفة القدريه أن الخلق خالقون لأعمالهم؛ من شاء منهم فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فهم خالقون لأفعالهم، وحركاتهم، وأعمالهم، وطاعتهم، وعصيانهم، ملتفتين في ذلك إلى قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾[سورة التكوير آية‫:‬ ٢٨] ولقوله أيضًا‫:‬ ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾[سورة الإنسان آية‫:‬ ٢٩] هؤلاء فرّطوا، وهؤلاء أفرطوا، وبين المنزلتين؛ منزله الجبر، ومنزله الإختيار المطلق، بينهما منزله هي منزله الكسب، والكسب والإكتساب من قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿... لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾[سورة البقرة آية‫:‬ ٢٨٦] فالجبر المطلق ممنوع، وماربك بظلام للعبيد، والإختيار المطلق ممنوع؛ فالله خلقكم وما تعملون، فهناك حركة جبريه كحركه الحجاب الحاجز ودقات القلب، وهناك حركة إختياريه كالتقلب من جنب إلى جنب، هذه المنزله والتي تسمى كسبًا هي التي يحاسب الإنسان عليها، ولذا حين يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ عقّب هذا بقوله‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَذُوقُوا۟ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَـٰكُمْ ۖ وَذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿14﴾
إذًا فجزاء الله تبارك وتعالى لهؤلاء نشأ عن أمرين؛ الأمر الأول‫:‬ نسيانهم للقاء الله وليوم البعث، الأمر الثاني‫:‬ أعمالهم السيئه، ولذا فحين يقول "فذوقوا" نكايه، وتأنيب، وإغاظه، والذوق قد يطلق معنًا كما يطلق حسًاً، فقد يعبر عما تشعر به النفس بالذوق كما يعبر عن المطعومات، ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ والنسيان قال بعضهم أنه ضد التذكر، نسوا البعث، ونسوا يوم القيامه، وقال أقوام‫:‬ بل النسيان بمعنى الترك، وهذا أولى، وأرجح؛ لأن الله تبارك وتعالى حين يقول‫:‬ ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾[سورة طه آية‫:‬ ١١٥] بمعنى الترك؛ لأنه لو كان ناسيًا بالمعنى الذي هو ضد التذكر لذكره الشيطان حيث قال له‫:‬ ﴿... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾[سورة الأعراف آية‫:‬ ٢٠] إذًا فقد ذكْره بنهي الله لأنه يقول‫:‬ ﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا ﴾ إذًا فالنسيان هنا بمعنى الترك، فهؤلاء تركوا العمل للآخره، تركوها ترك الناس، فربنا تبارك وتعالى يعلل ملء جهنم بالناس والجِنة الذين كفروا مجموعين فيها، بقوله‫:‬ ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ﴾ أي بما تركتم العمل، ﴿لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ يوم القيامه، ﴿ إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ وربنا لا يضل، ولا ينسى، ولا ينام، ولا يسهو، وإنما كلمة نسيناكم‫:‬ أي تركناكم من الرحمة، وتركناكم في العذاب، ترك المنسي؛ لأنك إذا نسيت الشيء وذهب عن ذاكرتك ترك بالكليه، فكذلك يعبر ربنا تبارك وتعالى عن تركه لهم في جهنم، وتركه لهم بعيدًا عن رحمته، وكأن هذا الترك ترك الناسي، أي تركًا لا تذكر له، أو تركًا لا عود له، ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾كرر كلمة ذوقوا تأكيد، وتبيينا أن العذاب هو عذاب الخلد ليس موقوتًا بوقت، بل هو خلد وإلى الأبد، وأيضًا كررها لبيان عله أخرى ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ إذًا فقد إستوجبوا الخلد في جهنم لأمرين؛ كل منهما يؤدي إلى نفس المصير، ذاقوا لتركهم لقاء يومهم هذا، وذاقوا بسبب أعمالهم السيئه، وهذه الآية تبين أن الله تبارك وتعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا، وبما اكتسبوا، وهي المنزله التي بين المنزلتين، وما ربك بظلام للعبيد إذًا فللإنسان ما كسب، وله ما إكتسب، ثم تأتي التسليه للنبي صلى الله عليه وسلم، والتسريه عنه، فبين له ربنا تبارك وتعالى أن هؤلاء إبتعدوا عن الإيمان واستحقوا عذاب الخلد بتركهم يوم القيامه، والعمل لهذا اليوم، وبارتكابهم للمعاصي، والإجرام، والكفر، فيبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن الحقيقي هو الذي إذا ذُكّر بآيات الله سواء باستماعه للقرآن، أو بنصح الناصح، أو بتذكير العالم، هؤلاء الذين إذا ذُكَروا بالآيات وبالدلائل خافوا سطوه الله، وعذابه، ورجوا رحمته، تواضعوا لكلامه، ولم يستكبروا عن عبادته، فعبروا عن هذه المشار جميعًا بأن خروا سجدًا لله تبارك وتعالى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِـَٔايَـٰتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا۟ بِهَا خَرُّوا۟ سُجَّدًۭا وَسَبَّحُوا۟ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ۩ ﴿15﴾
والخرور‫:‬ هو النزول الفجائي مرة واحدة، خرُّوا سجدًا‫:‬ أي نزولوا مره واحده على الجباه تواضعًا لله، إيمانًا بآياته، وحمدًا له على هداه، وخوفًا من سطوته، وعذابه، وعقابه، هؤلاء يسبحون حال سجودهم أيضًا بحمد ربهم، ينزهون الله تبارك وتعالى عن كل مالا يليق بجلاله وكماله، وهم لا يستكبرون عن عباده الله تبارك وتعالى، وعن السجود كما استكبر أهل مكه عن السجود لله، وسجدوا للأصنام سفاهه في العقل، هزاله في الرأي، وهذه الآية آية سجده، ولذا سميت السورة بالسجده، وإذا قرأتها في الصلاة وجب عليك أن تسجد لها، ثم تقوم لإكمال القراءه، وإذا سمعتها من القاريء وجب عليك أيضًا أن تسجد إذا سجد القاريء، أما إذا سمعتها في مذياع، أو مسجل، فلا يجب عليك السجود، ويشترط لسجده التلاوة ما يشترط للصلاة؛ من طهاره من الحدثين، وطهارة الثوب، وطهارة المكان، وستر العورة، واستقبال القبله، ويأتي بها الإنسان من قيام، ويكبر تكبيره الإحرام، ثم يهوي ساجدًا، ثم يجلس، وبعد السجده يسلم يمنه ويسره، وقال بعضهم يجوز أن يأتي بها من قعود، ولا يشترط لها القيام، وإذا قرأت الآية على المنبر وقرأها الإمام كامله، وجب أن ينزل الإمام من على المنبر ليسجد للتلاوة، ويسجد المصلون أيضًا المستمعون للآية بسجود الإمام فرادي وليست سجدة جماعه، وقال العلماء في صيغ التسبيح حال سجود التلاوة صيغًا كثيرة؛ منها ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‫:‬ سبحانك اللهم وبحمدك؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أي نزّهوا الله تبارك وتعالى متلبّسين بالحمد، التسبيح مقترن، فصيغة التسبيح حال السجود سبحانك اللهم وبحمدك، وقالوا صيغًا كثيرة منها‫:‬ "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، اللهم احطط بها عني وزرًا، واجعلها لي عندك زخرًا، واكتب لي بها عندك أجرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داوود"، وقالوا أيضًا‫:‬ "سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سجد لك سوادي، وخيالي، وآمن بك فؤادي، وأقر بك لساني، وها أنا ذا بين يديك يا عظيم، يا من تغفر الذنب العظيم"، هؤلاء خروا سجدًا، وسبحوا بحمد ربهم، وهم لا يستكبرون عن عباده الله، وتأتي الأوصاف التي خصّهم بها الله تبارك وتعالى فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًۭا وَطَمَعًۭا وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ ﴿16﴾
التجافي‫:‬ هو التنحي والتباعد إلى فوق، جهه العلوّ، والمضاجع‫:‬ جمع مضجع، وهو فراش النوم، فربنا تبارك وتعالى يصف هؤلاء بأن جنوبهم، أي أجسادهم، تتباعد عن الفراش، وكأن في الفراش شوكًا يشوكهم، أو نارًا تحرقهم، فهم يبتعودون ويسارعون في الإبتعاد عن الفراش، ويرتفعون عنه، ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ حال في موضع نصب للحال، أو هو إستئناف الصفه، يدعون ربهم في كل وقت، أو في كل حال، أو حين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، حال أيضًا في موضع نصب، أي متجافين عن المضاجع، داعين ربهم خوفًا وطمعًا؛ خوفًا من عذابه، وطمعًا أي رجاءًا في ثوابه ورحمته، والتجافي قالوا فيه‫:‬ هو الصلاة والتنفل بين المغرب والعشاء، وقالوا أن التجافي عن المضاجع هو صلاة العشاء في جماعه، وكانت الجاهليه ينامون إذا غربت الشمس، فأصبح إنتظار صلاة العشاء شاقًا عليهم، فمن إنتظر لصلاة العشاء وخاصه إذا أخرها كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يؤخرها لثلث الليل، وكان يقول العبد في صلاة ما انتظر الصلاة، فقالوا إن صلاة العشاء في جماعه هي المقصوده بهذه الآية، وقال بعضهم بل صلاة الفجر في جماعه هي التي تعني تتجافى جنوبهم عن المضاجع؛ لأن من صلى الفجر في جماعه قام قبل الفجر، وتجهز، وتوضأ، وصلى لله تبارك وتعالى، ومشى إلى المسجد فقد تجافى في جنبه عن المضجع، وقال آخرون بل قيام الليل هو المقصود؛ الناس نيام وهو يقوم فيصلي، غارت النجوم، ونامت العيون، فقاموا للحي القيوم، أخفوا أعمالهم عن الأعين فأخفى الله ثوابهم عن الأعين،هؤلاء أخفوا أعمالهم فأُخفِىَ عن الخلائق ثوابهم، أخفى الله عن المقربين والملائكة والرسل ثوابهم، فأعد لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ "من صلى العشاء في جماعه كان له قيام الليل، ومن صلى الصبح في جماعه كان له قيام الليل كله"، من هنا قال بعضهم صلاة العشاء، وقال بعضهم صلاة الفجر، وقال بعضهم التنفل بين المغرب والعشاء، وقال بعضهم بل إنتظار صلاة العشاء، وقال آخرون بل هو قيام الليل، لأنه أخفى وخفي عن الأعين فأخفى الله ثوابهم، ورحمة الله واسعة، والكل واردوا الكل مستند في أقواله لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ إما الزكاه المفروضه، وإما هي آية عامه عن الإنفاق، والصدقه، والجود، لابن السبيل، والفقير، واليتيم، والمحتاج، ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(٢٤)لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(٢٥)﴾ [سورة المعارج آية‫:‬ ٢٤، ٢٥] يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌۭ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍۢ جَزَآءًۢ بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿17﴾
﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ﴾ نفس، ملك، أو نبي، أو رسول، أو مقرّب، أو صالح، نفي ربنا تبارك وتعالى عن كل نفس فلا يعلم ما أُعدَّ لهم إلا الله، ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ أُخفى لها خمس قراءات‫:‬ أُخْفِىَ، أُخْفِى، أَخْفِى، نُخْفِى، أُخْفَى، ﴿مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾، ﴿ مِّن قُرَّات أَعْيُنٍ﴾ قراءتان، ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ قرة العين تطلق على كل شيء تقع عينك عليه فتعجب به، وتحبه، وتستقر العين على ذلك الشيء، ولا تتحول عنه أبدًا، فأنت إن رأيت شيئًا مقززًا أشحت بوجهك عنه، وإذا رأيت شيئًا مرعبًا أغمضت عينك، وهكذا، أما إذا رأيت شيئًا جميلًا يستهويك، تحبه النفس، وتشتاق إليه، وتعجب به، وضعت عينك على هذا الشيء، ولا تصرف العين عنه أبدًا،ً فتستقر العين ويستقر البصر على هذا الشيء، لذا كل ما هو مرغوب ومحبوب ومطلوب يسمى قرة عين، أي شيئًا إذا رأته العين قرت واستقرت، فربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ من هنا قال بعض العلماء أن قرة العين هي النعيم المقيم، والجنات، والأنهار، وأشياء لم تذكر في القرآن، ولم تعلم، لا يعرفها نبي، ولا مقرب، والله أعلم بمراده، وبما أعد لهم، وقال بعضهم بل قرة العين، وقرة القرات جميعًا هو النظر إلى وجه الله، وهو المقصود بالآية، ونقول وبالله التوفيق أن الأمر أجل وأعظم من أن يعرف تفسيره، وحين يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ﴾ إذًا فقد نفى العلم، فكل ما قيل من تفاسير عن هذا الذي أخفى لهم إبتعد عن الحقيقه؛ لأن الله يقول‫:‬ أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على لب بشر، وجميع التفاسير خواطر وأفكار، من هنا فالأمر أجّل وأعظم من أن يعرف تفسيره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ "اذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامه، جاء منادي فنادى بصوت يسمعه الخلائق كلهم، سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ليقم الذي كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون وهم قليل، ثم ينادي الثانيه ستعلمون اليوم من أولى بالكرم، ليقم الذين لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، ثم ينادي الثالثه ستعلمون اليوم من أولى بالكرم، ليقم الحامدون لله على كل حال في السراء والضراء، فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعًا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس"، يقول الله تبارك وتعالى بعد أن بين حال الكفار وحال الأبرار هؤلاء يقال لهم‫:‬ ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا﴾، وهؤلاء يقول الله في شأنهم ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ ثم يقول الله مبينًا ومعللً:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًۭا كَمَن كَانَ فَاسِقًۭا ۚ لَّا يَسْتَوُۥنَ ﴿18﴾
يستحيل التسويه بين المؤمن والكافر، يستحيل ذلك على الله لأنه ليس بظلام للعبيد، والفسق في هذه الآية بالذات يعني الكفر؛ لأنك لو قرأت ما بعد ذلك لعلمت أن العقوبه التي توّعد بها الله هؤلاء عقوبه الكفار، والفسق أيضًا من قولهم فسقت الرطبه‫:‬ إذا خرجت عن قشرتها، وكأن الرطبه إذا إزداد إستواؤها، وخرجت عن قشرتها تلقائيًا، فسدت، وتعرضت للأتربه والقاذورات وللأيدي الملوثه، فيقول فسقت الرطبه، وعليه فالفسق يعني الخروج، وبالتالي الخروج عن الإيمان إلى الكفر يسمى فسقًا، وهو أعلى درجات الفسق، والخروج عن الطاعه إلى المعصية يسمى فسقًا أيضًا؛ لأن الله تبارك وتعالى حين يبين لنا أنه أنزل علينا لباسًا يواري سوءاتنا وريشًا قال‫:‬ ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[سورة الأعراف آية‫:‬ ٢٦] ، وكأن العبد التقيّ قد لبس لباس التقوى فستره الله في الدنيا وفي الآخره، ومن يخرج عن التقوى إلى المعصية فكأنه خلع لباس التقوى فتعرّى، وأصبح معرضًاً لهمزات الشياطين، ولهوى النفس، وهكذا، ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ﴾ لايستوون في الدنيا والآخره، والحكم عام؟ أم لا يستوون في الآخرة، فهؤلاء لهم نعيم وهؤلاء أصحاب الجحيم؟ إختلف الفقهاء، فبعضهم قال إن الآية عامه؛ وعليه لا يستوي المؤمن والكافر في الدنيا، بمعنى أن الحاكم لا يصح له أن يسوّى بينهما، ووصلوا إلى أن المسلم لا يقتل قصاصًا بالكافر أبدًا، منعوا القصاص عن القاتل المسلم إذا كان المقتول كافرًا؛ لأن الله تبارك وتعالى نفى التسويه بينهما، والآية عامه دنيا وأخرى، وخالفهم الإمام الأعظم أبو حنيفه، وأوجب القصاص على المسلم إذا قتل ذميًا، والله أعلم بمراده، فإما الآية عامه دنيا وأخرى، وإما الآية خاصه بالقيامه والثواب والعقاب، يقول الله تبارك وتعالى مبينًا عدم الإستواء في الآخره، فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمْ جَنَّـٰتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلًۢا بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿19﴾ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُوا۟ فَمَأْوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ ۖ كُلَّمَآ أَرَادُوٓا۟ أَن يَخْرُجُوا۟ مِنْهَآ أُعِيدُوا۟ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِى كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ ﴿20﴾
الذين آمنوا وعملوا الصالحات بين لهم ما أعد لهم، وإن كان ما في الجنة من دنيانا إلا الأسماء، هؤلاء أعد لهم جنات المأوى، والمأوى هو المكان الذي تأوِي إليه وتستقر فيه، إذًا فهي جنات فيها المأوى، ونسب المأوى إليها، لهم جنات المأوى، أي لهم المأوى في الجنات، ولكن المبالغه في التعبير وفي السياق تدل على أن لهذا المأوى هو الخلد الذي لا موت فيه، ولا رجوع فيه أبدًا، وأطلق عليها ربنا كلمة المأوى لبيان أن المأوى الحقيقي هو يوم القيامه؛ إما الجنة، وإما النار، وأما الدنيا فهي مأوى مؤقت، ولا يصح أن يطلق عليها لفظ مأوى؛ لأنك مرتحل عنها وطالما كنت مرتحلًا عن الدنيا لا محاله فهي ليست مأوى على أي حال، أما المأوى الحقيقي فهو الجنة أو النار، ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ النزل هو ما يعد تكرمه، وتكريمًا للضيف النازل عليك، فإذا نزل عليك ضيفًا أعددت له ما يسره من طعام، وشراب، ومكان يستريح فيه، وهكذا، فما يُعد للنزيل والضيف النازل يسمى نُزُلا، ومن هنا يقول الله تبارك وتعالى أن جنات المأوى نزلًا لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبما كانوا يعملون، إذًا فالإنسان له ما كسب وعليه ما اكتسب، طالما قال نزلًا بما كانوا يعملون، إذًا فيجازي الإنسان على عمله الذي هو مختار فيه، وليس مجبرًا عليه، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ وهم الكفار؛ لأن الجزاء يبين أنه جزاء كفر، وليس جزاء معصيه، ﴿ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ وذلك مصداقًا لقوله‫:‬ ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يقال لهم أيضًا مرارًا وتكرارًا في جهنم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون، حيث نسوا لقاء يومهم هذا، وتركوا العمل لهذا اليوم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ايها الاخ المسلم، لقد سبق وأن قلنا أن النار في الدنيا تضيء، أما نار الآخره فهي مظلمه، نار سوداء لا ضوء فيها، ولكن هذه النار التي تتميز من الغيظ، كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير؟ هذه التي إذا رأتهم من بعيد سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا، كلما خبت زدناهم سعيرًا، هذه النار هم في قعرها في ظلام دامس ولهيب لا يوصف، ولا يتخيل، ولا يخطر على البال، لكن النار تتأجج، وفي تأججها والتهابها وارتفاع ألسنة لهيبها تحملهم من قعرها إلى أعلاها، تفور كما وصفها ربنا تبارك وتعالى أنها تفور، وحين تفور وتحملهم إلى أعلى يحدوهم الأمل في القفز منها إلى الخارج، فإذا إرتفعوا بلهيبها إلى أعلاها، ورأوا السور، أرادوا أن يخرجوا ويقفزوا منها، لذا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾كيف يريدون الخروج، وأنّى لهم هذا الخروج؟ هذا يحدث في هذه اللحظه حين يرتفعون بلهيبها إلى أعلاها، فيهُّمون بالقفز، فيعادوا فيها بالمقامع؛ مقامع من حديد في أيدي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، إذا همُّوا بالقفز إذا بالمقامع تتلقاهم بالضربات التي لا قبل لمخلوق باحتمالها، فيعادوا إلى قعر جهنم، ﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ ثم يحذر ربنا ويتوعد لأن الناس قد تنسى، وقد تقول حين تأتي تلك الساعه، وحين يأتي يوم القيامه فيها الفرج، ويقولون يوم الجحيم ربك رحيم، وكلمات وأماني يتمناها الإنسان ويمنيهم الشيطان، ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾[سورة النساء آية‫:‬ ١٢٠] يمنّيهم بالتوبه حين يكبر، يمنّيهم بطول العمر، بطول الأجل، بالمغفره، أماني فارغه فيقول الله تبارك وتعالى متوعدًاً ومحذرًا‫:‬ً‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿21﴾
‫﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾ العذاب الأكبر هو عذاب يوم القيامه، هو عذاب النار، إذًا فهناك عذاب أدنى، أو أقرب، أدنى بمعنى القرب، من الدنو، وأدنى أيضًا بمعنى أقل، فهو عذاب أقل من عذاب الآخره، هذا العذاب الأدنى ماهو؟ قالوا القتل والأسر كما يحدث في بدر، وقال بعضهم بل الأمراض، والأوجاع، والأسقام، وأنواع البلايا المختلفه التي يبتلي بها الناس؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ فإن كان المقصود القتل والأسر أي لعلهم يرجعون، من بقى منهم يرجعون إلى التوبه والإيمان، وقال بعضهم بل ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ فالكلام عن الكل، فيصاب هؤلاء بالبلايا، والأسقام، والأوجاع، وما إلى ذلك في الدنيا لعلهم يرجعون إلى الله بالتوبه والإنابه، وقال بعضهم بل العذاب الأدنى ما حدث لأهل مكه حين دعى الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم‫:‬ "اللهم اجعل عليهم سنين كسني يوسف"، فجاعوا سبع سنوات، أكلوا فيها الجيف، والكلاب، وأوراق الشجر، فهذه هي السنين المقصوده بقوله‫:‬ ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾، وقال بعضهم بل العذاب الأدنى هو عذاب القبر؛ لأن عذاب القبر ثابت ووارد بالقرآن والسنه، فهو مذكور في القرآن في أكثر من موضع، منه قوله تبارك وتعالى في قوم فرعون‫:‬ ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾[سورة غافر آية‫:‬ ٤٦] إذًا فهو عذاب القبر، وحين ووجهوا بقوله‫:‬ ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وهل بعد القبر رجوع؟ وكيف يصابون بعذاب القبر لعلهم يرجعون؟ قالوا إن القراءه‫:‬ (لعلهم يُرجعون) و ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾: أي يطلبون الرجوع حال الموت ومعاينه عذاب القبر، ويطلبون الرجوع يوم القيامه، أيضًا ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾[سورة السجدة آية‫:‬ ١٢] أيضًا حين الموت أن تقول نفسّ حين يجيئها الموت ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾[سورة إبراهيم آية‫:‬ ٤٤] ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها، فإذًا معنى لعلهم يرجعون أي لعلهم يطلبون الرجوع، وهل تصح صيغة ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ هذه للإستقبال بمعنى طلب الرجوع؟ قالوا نعم؛ لأن الله تبارك وتعالى قال‫:‬ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ...﴾[سورة المائدة آية‫:‬ ٦] أي إذا أردتم القيام، وقال‫:‬ ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[سورة النحل آية‫:‬ ٩٨] أي إذا أردت القراءه، وليس بعد القراءه فاستعذ، وكذلك ليس بعد الصلاة الوضوء إذًا إرادة الشيء قد يعبر عنها بالفعل ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي لعلهم يطلبون الرجوع، والعذاب الأدنى هو عذاب القبر؛ لأن الدنيا قد يبتلي فيها المؤمن، وقد يبتلي فيها الكافر، وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾[سورة الأنبياء آية‫:‬ ٣٥] والله أعلم بمراده، ثم تبين الآيات أعلى درجات الظلم، وهو ظلم الإنسان لنفسه فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَـٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ ۚ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ﴿22﴾
هناك الكافر الذي لا يجد من يهديه، وهناك الكافر من أهل الفتره بين الرسل لم يأته رسول، وهناك الكافر لبعده عن المدنيه، والحضاره، والقراءه، والكتابه، ولبعده عن الناس والدعاه، أظلم الكفار جميعًا هو الذي يذكّر بالآيات، ويُنّبه، ويُدعى إلى الله، وتأتيه البراهين والدلائل، ومع ذلك يصر على الكفر، فليس أظلم من هذا الإنسان أحد، لذا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ الآيات‫:‬ القرآن، الآيات‫:‬ الدلائل، خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة، البراهين الواضحه، "ثم" تفيد التراخي، فلم جاءت كلمة "ثم" هنا؟ هل هناك تراخي في الصد عن الآيات؟ أيفكر ثم بعد ذلك يعود إلى الكفر؟ فهل هناك تراخي بين التذكير وبين الإعراض؟ لم تر هذا التراخي، بل كانوا معرضين من أول يوم، ومن أول كلمة، ومن أول آية، حتى إذا قرأ عليهم القرآن إستغشوا ثيابهم وأصموا آذانهم، إذًا فالإعراض فوري وليس فيه التراخي، إذًا كلمة "ثم") هنا تفيد معنى هام، وهو إستبعاد الإعراض عن هذه الآيات رغم وضوحها، ورغم دلائلها، ورغم برهانها عقلًا وفكرًا؛ لأن الآيات الواضحه، البينه، النور الذي نزل مع النبي صلى الله عليه وسلم، النور، الآيات، والقرآن، والدلائل في أنفسكم، وفي الأرض آيات أفلا تبصرون، هذه الآيات أن تراها، أو تذكَّر بها، ثم تعرض عنها أمر مستبعد؛ لأن العقل يتقبلها، والقلب يتقبلها، دلائل وبراهين ساطعه قويه، يستبعد على أي إنسان أن يعرض عنها، فجاء بكلمة "ثم" لبيان أنهم أعرضوا عن هذه الآيات رغم إستبعاد هذا الإعراض؛ لشدة وضوحها، ولشدة دلالتها، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾ والمجرمين هنا هم الكفار، إذًا فقد عبّر ربنا عن الكفار في هذه الآيات بتعبيرين‫:‬ الفسق والإجرام، أما الفسق‫:‬ فهو الخروج عن الطاعه، أو الخروج عن الإيمان، خلعوا لباس الإيمان، ولبسوا لباس الكفر، فعبر عنهم بالفسق، وعبر أيضًا بالإجرام، وأشد أنواع الإجرام أن يجرم الإنسان في حق نفسه، أن يشرك بالله، أن ينكر الألوهيه، أن يرى الآيات والدلائل في كل ماحوله، وفي نفسه، وفي الأرض، وفي كل شيء، وأن يستمع لآيات القرآن الكريم ثم بعد ذلك يعرض عن أوامر الله تبارك وتعالى، وعن الإيمان بالله الواحد القهار، الذي أنشأنا من عدم وأبقانا، ونرى كل يوم أناس يموتون، ويقبرون، وهكذا الدنيا قرون تليها قرون ومع ذلك يغفل هؤلاء، ويتركون الآخره، ليس هناك جرم أشنع من إجرام من ذُكّر بآيات ربه ثم أعرض عنها؛ لأن هناك من الناس من لم تبلغه الدعوه، ومن الناس في مجاهل الأرض من لم يسمع بنبي أو برسول، وهناك من كفر تقليدًا، وهناك من كفر جهلًا، أما أن يُذكَّر المرء بالله، أو بآياته، وتتلى عليه الآيات بينات، ويرى من الدلائل والبراهين، ثم بعد ذلك يعرض عن هذه الآيات، ويكفر بالله، فذاك أشد أنواع الإجرام، ولذا قال الله تبارك وتعالى في شأن هؤلاء‫:‬ ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾، وانتقام الله تبارك وتعالى ليس مثله أي إنتقام؛ فهو المنتقم، العزيز، الجبار، ينتقم من هؤلاء الذين كفروا وأعرضوا بعد أن ذكروا بآيات الله تبارك وتعالى، وتمضي بنا الآيات في سورة السجده تسّرِّي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحزنه كفر قومه، وكان حريصًا على إيمانهم، فهو بالأمه رؤوف رحيم، هو الحنان يمشي على الأرض، وهو الأمان الذي ليس دونه ضمان، فيقول الله تبارك وتعالى له‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ فَلَا تَكُن فِى مِرْيَةٍۢ مِّن لِّقَآئِهِۦ ۖ وَجَعَلْنَـٰهُ هُدًۭى لِّبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ﴿23﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةًۭ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا۟ ۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَا يُوقِنُونَ ﴿24﴾ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُوا۟ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿25﴾
‫﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة، وقد نزلت التوراة على موسى مكتوبه، جمله واحده، وكل الكتب السماويه نزلت جميعها جمله واحده إلا القرآن، قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجّمًا رحمة بالأمة، وتدرجًا بهم، وبين لهم في بدايته الجنه والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام بيّن لهم الحلال والحرام، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿فَلَا تَكُن﴾ يا محمد، ﴿ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ﴾ من لقاء من؟ الضمير يعود على القرآن، أي فلا تكن في شك من تلقيك للقرآن كما تلقى موسى التوراة، فهو الكتاب المنزّل من عند الله رحمة للعالمين، أو ﴿فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ﴾ أي من لقاء موسى للتوراة، فقد تلقاها موسى بالقبول، وحملها، وكان أهلًا لحملها، فكذلك يجب عليك أن تتلقى القرآن كما قيل له‫:‬ ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾[سورة النمل آية‫:‬ ٦] فلا تكن في شك من لقاء موسى للتوارة، لقاءه بالقبول، وعليك أن تتلقى ما أنزل إليك أيضًا بالقبول وبالقوة، وتبلّغ ما أنزل إليك، أو ﴿فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ﴾ من لقاء موسى، أي أنك سوف تلقى موسى يوم القيامه، وتلقى الأنبياء جميعًا؛ لأن الله تبارك وتعالى جامع الرسل والأمم جميعًا في يوم الفصل، أو ﴿فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ﴾ في شك من لقاء موسى في الدنيا، وقد لقيه النبي صلى الله عليه وسلم، في الدنيا وأخبرنا بذلك وقال‫:‬ رأيت ليله اسري بي موسى، رجلًا آدم طوالًا صفدًا كأنه من رجال شنوءه، آدم‫:‬ أسمر، طوالًا‫:‬ طويل القامه، جعدًا، الجعد‫:‬ صاحب الشعر المموج، كأنه من رجال شنوءه‫:‬ شنوءه قبيله من قبائل اليمن، يشبِّه النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا موسى برجال هذه القبيله، إذًا فقد رآه ليلة أسري به، ولذا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ﴾ أي من لقاء موسى، أو ﴿فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ﴾ الهاء عائده على محذوف، والمعنى فلا تكن في مريه من لقائه‫:‬ أي من لقاء ما لقيه موسى من تكذيب قومه وعنتهم، فكم قاسى موسى من قومه ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ...﴾[سورة الأعراف آية‫:‬ ١٣٨] ولم تجف أقدامهم بعد من البحر حين نجاهم الله تبارك وتعالى، لقى موسى من قومه أشد العنت والتكذيب، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أوذى مره من أحد الناس، فقال‫:‬ يرحم الله اخي موسى، فقد لقى من قومه أشد من ذلك فصبر، فربنا تبارك وتعالى يقول له‫:‬ ﴿فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ﴾ أي من لقاء ما لقى موسى من قومه، والأنبياء أشد الناس بلاءًا،ً ثم الأولياء، ثم العلماء، ثم الأمثل، فالأمثل‫.‬ ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، ﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾ وجعلنا الكتاب، أو وجعلنا موسى، وفي الآية كلمتان؛ كلمة مريه، والمريه‫:‬ الشك، أصل الكلمة من قولهم مَرَيت الفرس‫:‬ أجريتها لأختبر ما عندها من قوة في سرعه العدو، ومريت الناقه‫:‬ حلبتها لأختبر ما عندها من لبن، وأخذت الكلمة واستُعيرت وعُبر بها بعد ذلك عن كل مجادله، أو شكوك في أمر ما فالشك في أمرٍ ٍ ما، الشك في قوة الفرس على العدو يجعلك تجربه وترى ما عنده من سرعه، الشك في كمية اللبن في الضرع في الناقه تجعلك تحلب حتى ترى ما عندها من كمية اللبن، فكذلك المراء‫:‬ الشك، المجادله فيها الشك، ﴿فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ﴾أي في شك يجعلك تتردد، أو تبحث، أو تخاطب نفسك، وهكذا، والكلمة الأخرى "هدى" والهدايه في اللغه‫:‬ الدلاله بلطف على البُغيه، فكما سألت عن شيء وأردت الوصول إلى شيء مطلوب، أو بغيه، أو مكان، فدلّك آخر على الطريق، دلاله فيها التلطف، واللطف، والتدرج، والهدوء، سمي ذلك هدايه، وخير الهدايه هدايه الله، فربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ اليهود، وسمُّوا بنوا إسرائيل لأنهم من نسل يعقوب، وإسرائيل لقب لسيدنا يعقوب عليه السلام، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً﴾ وقرئت بتسهيل الهمزه، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ﴾: من بني إسرائيل، إما الكلام عن الأنبياء؛ فقد جعل الله فيهم أنبياء، وجعل منهم ملوكًا، فالكلام عائد على الأنبياء، أنبياء بني إسرائيل كزكريا، ويحيى، ويوسف، وهكذا، أو جعل منهم أئمة‫:‬ العلماء، والفقهاء، والأئمة‫:‬ القاضي؛ فالإمام ليس هو الذي يصلي بالناس فقط، بل الإمام يطلق على الحاكم، تطلق على القائد، تطلق على كل من يقود الناس وكذا في الصلاة، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ أي بتوفيقنا لهم، أو يهدون بأمرنا‫:‬ أي أمرناهم بالتبليغ، أمرناهم بهدايه الناس، أمرناهم بالحكم بين الناس، أو يهدون بأمرنا بمعنى يهدون لأمرنا، أي يهدون لديننا، دين الله الحنيف الإسلام منذ خلق آدم، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[سورة آل عمران آية‫:‬ ١٩] ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾ حين صبروا صبروا على الطاعه، صبروا على الأخذ للتوراة بقوة حيث قال‫:‬ الله ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾[سورة الأعراف آية‫:‬ ١٤٥] فحين صبروا على الدنيا، صبروا على البلاء، وعلى إيذاء قومهم، وحين صبروا جعلهم الله أئمة، وصبرهم مشارك فيه اليقين ﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ متلبس باليقين، واليقين أشد أنواع الإيمان، اليقين‫:‬ من قولهم يقنت البئر إذا رقَّ الماء، وشفّ، ورأيت قعر البئر إذا نظرت إليها من حافتها، ورأيت الماء رقراقًا شفافًاً ورأيت قاع البئر، تقول‫:‬ يقنت البئر، فاليقين كأنه نوع من أنواع الرؤية في الإيمان، الإيمان الثابت الذي يجعل صاحبه وكأنه يرى الله، وكأنه يرى الجنة والنار، فاليقين أرقى درجات الإيمان، فحين صبروا وكانوا بآيات الله يوقنون جعلهم أئمة، قدوة يقتدى بهم الناس في كل زمان، وفي كل مكان، وقرأت (لِمَا صَبَرُوا) أي بما صبروا، فطالما صبروا فكان جزاء صبرهم أن جعلوا قدوة للناس، وأئمة، ومثال لنوع من أنواع اليقين‫:‬ (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبًا يدعى حارثه، جاء حارثه يومًا يصلي الفجر مع رسول الله صلى الله علية وسلم فسلم عليه بعد الصلاة، وسأله النبي صلى الله علية وسلم كيف اصبحت يا حارثه؟ قال حارثه اصبحت يا رسول الله مؤمنًا حقًا، فقال له النبي صلى الله علية وسلم‫:‬ يا حارثه، انظر ما تقول! اي انتبه لما تقول، فان لكل حق حقيقه، فما حقيقه ايمانك؟ قال يا رسول الله اسهرت ليلي، واظمأت نهاري، واصبحت وكأني ارى العرش، ومن حول العرش، وأرى الجنه وأهل الجنة فيها ينعمون، وأرى النار وأهل النار فيها يتعاوون، وكأني أنظر الى عرش ربي بارزًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ يا حارثه عرفت فالزم)، ذاك نوع من أنواع اليقين، أسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، أصبح صائمًا، يصوم النهار، ويقوم الليل، أسهرت ليلي، والليل لا يسهر، ولكنها مبالغه لتفيد معنى الإستمرار على السهر، أظمأت نهاري، والنهار لا يظمأ بل هو الذي ظمأ، أي من كثرة ظمئه وصومه كأن النهار هو الذي صام، ثم يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ يفصل بينهم‫:‬ يقضي، ويحكم، والفصل‫:‬ القضاء، الفصل‫:‬ التمييز، يفصل بينهم؛ بين المؤمنين والكفار من بني إسرائيل، أو بين الأنبياء وبين قومهم، حيث ترى يوم القيامه كل أمة جاثيه، الكل على الركب بما فيهم الأنبياء والرسل، ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(٢٨)هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(٢٩)﴾[سورة الجاثية آية‫:‬ ٢٨- ٢٩]، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من الحقائق، والشرائع، والأديان، والحلال والحرام، ثم يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـٰكِنِهِمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍ ۖ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ﴿26﴾
الخطاب لمنكري البعث، بيان أن من قدر على الإنشاء قدر على الإعاده بعد الإفناء، ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ الفعل لا يخلو من فاعل، والفاعل هنا غير موجود، مُقَدَّر، أو لم يهد لهم الهدى، والهدايه‫:‬ هي الدلاله، أي‫:‬ أو لم يدلّهم ما يرونه ذهابًا وإيابًا في تجارتهم، ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ﴾ كم للتكثير، عدد فوق الحصر من القرون التي أهلكها الله، بلايين السنين فيها مئات ومئات القرون التي دمرت وأهلكت، والقرون‫:‬ جمع قرن، والقرن المده من الزمان، إختلفوا في عدد سنينها، والكلام عن الأمم التي عاشت قرونًا مددًا من الزمان، ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ من الذي يمشي؟ الضمير عائد على منكري البعث من كفار مكه، ها هم يمشون في مساكن القرون التي دمرت في ذهابهم إلى الشام ومرورهم على ديار ثمود وديار عاد، في ذهابهم إلى اليمن يمرون على ديار قوم شعيب، مدين، فها هم يمشون في مساكن التي دمرت بيوتهم ومساكنهم وقصورهم، أفلا يتعظون؟ أفلا يتذكرون؟ أفلا يتدبرون؟ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ دلائل وعبر وعظات لأن هؤلاء كانوا يعمرون الأرض، وعمروها أكثر مما عمرتموها، وكانت لهم الأولاد، والأبناء، والأحفاد، والقصور، والضياع، والأموال، والقوة، والسلاح، أين هم؟ تحولوا إلى التراب، بل أنت تمشي على الأجساد دون أن تدري، وإياك أن تعتقد أن الأجساد في القبور فقط، هذه الأجساد التي في القبور أجساد قريبه العهد بالموت، مائه عام، ألف عام، ملايين السنين أين هم؟ قد يكونوا بالتراب المخلوط ببناء المسجد، وبناء البيوت؛ قد تمشي في حجرتك وبناؤها مخلوط بالأجساد، تحولت إلى التراب، كما كانوا من التراب عادوا إلى التراب، ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٥٥] ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾أفلا يسمعون القرآن فيتدبرونه؟ أفلا يسمعون الذكر والعظة، أو تحتمل الآية معنى آخر ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ حال من المهلكين فقد أهلكهم الله تبارك وتعالى، وهم يمشون في مساكنهم دون أن يشعرون، جاءهم الهلاك بغته وهم ذاهبون إلى حقولهم، إلى مصانعهم، عائدون إلى بيوتهم، يمشون في منتهى الأمن والأمان، فجاءتهم بغته الصيحه، أو الرعدة أو الريح، أو صيحه جبريل، وهم يمشون في مساكنهم وهم يتاجرون، وهم يأتون من الأعمال ويذرون في منتهى الأمان يقظه أو نيامًا فجاءهم أمر الله تبارك وتعالى، والكلام لمنكري البعث بعد أن ذكّرهم الله تبارك وتعالى بهلاك الأمم الماضيه، وتدميرها، ولا ترى منهم باقيه، أصبحوا أثرًا بعد عين، يبين لهم الآيات‫:‬ البعث، والإنشاء، والنشور فيما يرونه يوميًا، فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَوَلَمْ يَرَوْا۟ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِۦ زَرْعًۭا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَـٰمُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ﴿27﴾
‫﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ من الذي يأتي بالماء من السماء، والسماء هو كل ما علاك، والسماء المقصود بها السحاب، من الذي يؤلف السحاب، من الذي ينشئه أصلًا ؟ البخر كيف يتبخر الماء بحراره الشمس، ثم يصعد إلى الهواء، ثم يتجمع ويتكاثف، ثم يسوقه الله تبارك وتعالى بالريح وبالرياح كيف شاء، يجعله كسفًا وطبقات بعضها فوق بعض، ثم يأمر أن يتحول هذا البخار مره أخرى إلى الماء، دوره، الماء يتبخر، يصبح سحابًا، يؤلف، يجمع، يساق، ثم يعود إلى حالته الأولى، سبحانه هو المبديء والمعيد، ها هو الماء يعود مرة أخرى إلى ماكان عليه، ماء، فيساق إلى الأرض الجرز، والأرض الجرز ليست هي الأرض التي لا تنبت كالصحراء والرمال، وإنما الجرز التي قطع نباتها، ولم يخرج منها نبات آخر، أو الأرض العطشى التي تحتاج إلى الري، من الجرْزْ وهو القطع، جرزت النبات قطعته، فالأرض الجرز هي الأرض التي تنبت ولكن لا نبات فيها لحصادها، أو لعدم ريها، فهي أرض عطشى، فيسوق الله الماء إلى هذه الأرض الجرز فيخرج به بهذا الماء الذي تراه أنت ولا تستطيع أن تتصرف فيه بالتغيير، أو التبديل، يخرج ربنا تبارك وتعالى بهذا الماء زرعًا تأكل منه الأنعام، وتأكل منه الأنفس، نفس الأرض هي الأرض، والماء هو الماء، تخرج الأرض أصنافًا وأشكالًا منها ما هو طعام للدواب والحيوانات، ومنها ما هو حلو و مر، كله من الأرض وبنفس الماء فيخرج به زرعًا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم، وسبحان ربنا، لم ينسى ربنا تبارك وتعالى أحدًا، ﴿تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ ذاك أمر يرى يوميًا، وحين يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ﴾ وقرئت (أو لم نهد لهم) على أساس أن الله هو الذي دلّهم، فالفاعل للدلاله هو الله ﴿أَوَلَمْ نَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ لأنك قد ترى بالسفر بنفسك، والأغلب أنك تسمع ممن سبقك؛ لأن المسافر قليل، والماكث كثير، فالاكثر يرى والباقي يسمع حكايات وروايات وقصص الذين رأوا وسافروا، لذا يقول‫:‬ ﴿أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ ممن يحدثهم أيضًا، أفلا يسمعون آيات القرآن، وهنا الأمر يتعلق بالبصر والرؤية، فأنت دائمًا وأبدًا ترى الأرض جرزًا وإذا بالنبات يخرج، ترى الماء، وترى السحاب، وترى الماء قد نزل، وإذا الأرض إهتزت وربت وحيت وأنبتت وأخرجت ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ وقال الأرض الجرز ليبين لك أن هذه الأرض إذا أنبتت وتم الحصاد أصبحت جرزًا، وهكذا زرعه وراء زرعه، وموسم وراء موسم، ونبات وراء نبات، تنبت الأرض من ملايين السنين لا كلت ولا بخلت، من أين كل هذا؟ هذا النبات الذي لا نهايه له، تنبت، وتحصد، تنبت، وتحصد، الماء يصعد وينزل، يصعد وينزل، والبهائم تأكل، والناس تأكل، وهكذا، إذًا هو القادر على الإعاده بعد الإفناء فكيف تشكون في البعث، وكيف تشكُّون في القيامه، وأنتم تروا كل يوم قيامه تقوم للنبات؛ يحصد وينبت، ويحصد وينبت، وهكذا، ﴿ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ ورغم كل ذلك يقولون‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ﴿28﴾ قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لَا يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ إِيمَـٰنُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿29﴾
الفتح : الحكم، الفتح في اللغه إزاله الإغلاق، فسُمِّي الحكم فتحًا لأنه إزاله للإشكال، وسمي القاضي والحاكم فاتح وفتّاح، وحين قال أحد الأنبياء مستجيرًا بالله تبارك وتعالى من تكذيب قومه‫:‬ ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾[سورة الأعراف آية‫:‬ ٨٩] أي احكم، واقضي، وافصل؛ لأن الفتح إزالة الإشكال، والفُتاحه‫:‬ القضاء والحكم، ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي متى هذا الحكم، ومتى يوم القيامه، ومتى هذا الفصل ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ يوم الفتح إذا جاء يؤمن الكفار، ولكن هل ينفعهم ذلك الإيمان؟ لا ينفعهم؛ لأن الإيمان هنا أصبح جبريًا، أصبح قهريًا؛ لأنهم رأوا الجنه، ورأوا النار، ورأوا العذاب، ورأوا يوم القيامه، وعرضوا على النار، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(٢٧)بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(٢٨)﴾[سورة الأنعام آية‫:‬ ٢٧, ٢٨] حتى في يوم القيامه يكذبون، أيها الاخ المسلم، يوم الفتح قريب، والإنسان إلى دار هو مرتحل إليها أقرب منه إلى دار هو مرتحل عنها، وكل يوم يمر ينقص من عمرك يومًا، وكل ساعه تمر تدينك وتقربك من حفره، ظلام ليس بعده ولا فوقه ظلام، ظلام القبر، وهناك قبور تنير قبل أن ينزل صاحبها إليها، وهذا النور هو نور القرآن، فما من قبر ينزل فيه حامل للقرآن إلا ويضي أشد من ضياء الشمس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته يدفن الرجلين معًا في قبر واحد، وكان يسأل أيهما أكثر أخذًا للقرآن، فيشار إلى أحدهما فيقول قدموه فيقدمه في القبر فينزل أولًا؛ً لأن الأكثر أخذًا للقرآن إمام في الدنيا، وإمام في القبر، وإمام في الآخره، أيضًا حين ينزل الأكثر أخذًا للقرآن يضيء القبر بقرآنه فينزل الآخر مستفيدًا من ذلك الضوء‫.‬ ايها الاخ المسلم، عليك بالنور، عليكم بنور الدنيا، ونور القبر ونور الآخره ألا وهو القرآن، فيقول هؤلاء الكفار، منكروا البعث، متى هذا الفتح إن كنتم صادقين؟ كان الله قادرًا على أن يأخذهم بغته بمجرد السؤال، ولكن الله لطيف بعباده، رحيم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي خير أمة أخرجت للناس، وقد سبق في علم الله وقضائه أن يخرج من أصلاب هؤلاء المنكرين، المكذبين، الغلاظ، من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فأمهلهم ورد عليهم‫:‬ ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ الإنظار‫:‬ الإمهال، الإنظار‫:‬ التأجيل، والكافر والمجرم ومن ساء عمله يطلب الرجوع مرات ومرات، أولًا حين يعاين الموت وتأتيه ملائكة الموت، هنا يتبين له الحق فيقول‫:‬ ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ(٩٩)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(١٠٠)﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ٩٩, ١٠٠] فيقال له‫:‬ ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ١٠٠] ، ثم بعد ذلك حين يعاين ما أُعد للمجرمين والكفار من عذاب ولهيب ونار، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا، هنا يعرضون على النار فيقولون‫:‬ ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[سورة الأنعام آية‫:‬ ٢٧]، وحين يقذفون في النار، أو قبل أن يقذفوا حين تهم الملائكه بقذفهم يقولون‫:‬ ﴿ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾[سورة السجدة آية‫:‬ ١٢] فإذا ألقوا في النار كما تحكي لنا سورة السجده يقذفهم اللهيب حين يرتفع إلى أطرافها فيهمُّون بالقفز فيعادون بمقامع من حديد ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [سورة السجدة آية‫:‬ ٢٠] وحين ينتابهم اليأس من الخروج ينادون على مالك خازن النار ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾[سورة الزخرف آية‫:‬ ٧٧] فيرد عليهم مالك ويقول‫:‬ ﴿قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾[سورة الزخرف آية‫:‬ ٧٧] لا يقضى عليهم ليموتوا، ولا يخفف من عذابها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ايها الاخ المسلم، في الدنيا محاكم، وفي الدنيا قضاء وقضاه، وفي الدنيا إذا كان الحكم قد جانب الحقيقه فهناك درجات للتقاضي، وهناك محامون رزقوا اللباقه، والمنطق، والتحايل، وإيجاد الثغرات، والشك يفسر لصالح المهتم، وهناك الوسائط، والرشاوى، وشهود الزور، وهناك غير كل ذلك الأمل في الله من المظلوم أن ينتصر يوم القيامه، أما في يوم القيامه، وفي يوم الفتح، فليس هناك شهود زور، وليس هناك شك يفسر لصالح المتهم، فالأمر أمر يقين، فالناقد، والقاضي، والحاكم بصير، هو الله، وليس هناك إستئناف، ولا نقض، ولا إبرام، ولا محامون يرافعون ويترافعون عنك؛ لأنه لا تنفع الشفاعه عنده إلا لمن أذن له الرحمن ورضى له قولًا، لا يملكون الشفاعه، يستصرخ وينادي هل من صديق أو من حميم فلا يجد لا صديق حميم، ولا شفيع معين، الفتح‫:‬ الحكم الحق، اليوم الذي لا ظلم فيه، ويصف لنا نبينا صلى الله عليه وسلم بعض ذلك اليوم فيقول إن الله يطوي السموات السبع والأرض جميعًا في قبضته ثم يرجها رجًا، فيقول‫:‬ "أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ لمن الملك اليوم؟ فلا ينطق شيء، فيرد الله مجيبًا لنفسه‫:‬ لله الواحد القهار"، اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم‫.‬ ايها الاخ المسلم، يوم يجعل الولدان شيبًا، ترى الناس فيه سكارى وما هم بسكارى، تضع كل ذات حمل حملها، أيها الأخ، هل عملت لذلك اليوم، هؤلاء يقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين، يوم الفتح لا إنظار، ولا إمهال، ولا تأجيل، ولا شفاعه، ولا صديق، ولا درهم، ولا دينار، ولا شك، بل اليقين كله، ثم يقول الله تبارك وتعالى لنبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم مختتمًا سورة السجده‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ ﴿30﴾
أعرض عنهم يا محمد، أعرض عن سفاهتهم، وبذاءاتهم، وتكذيبهم، ودينهم الذي يعبدون فيه الأصنام، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ﴾ انتظر يوم الفتح، انتظر يوم النصر، انتظر يوم القيامه، ﴿ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ﴾ أي منتظرون موتك، منتظرون هلاكك، منتظرون ذهاب أمرك، منتظرون عوده من آمن إلى دينهم مره أخرى، منتظرون بك وبمن آمن معك حوادث الدهر، أو ﴿ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظَِرُونَ﴾قراءة أخرى، أي حقيق بأن ينتظر لهم فانتظر أو (انهم منَتَظَرون) تنتظرهم ملائكة الله، غلاظ، شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾[سورة الأنفال آية‫:‬ ٥٠] والآية تهديد شديد ووعيد ممن يملك التهديد والوعيد، من الله القادر على كل شيء، الذي لا يقدر عليه أحد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ايها الاخ المسلم، في يوم الفتح قلنا أن هؤلاء يطلبون العوده حين يعاينون الموت، ثم يطلبون العوده حين يعاينون البعث، ويطالبون بالعوده حين يعاينون النار، ويطالبون الهروب والخروج إذا دخلوا النار فقذفتهم ألسنه لهيبها، وحين ييأسون ينادون‫:‬ يا مالك ليقض علينا ربك، هؤلاء كما كذبوا في الدنيا على الله وعلى الناس يكذبون كذلك في يوم القيامه، فحين يسألهم ربهم أين شركاؤكم؟ يقولون بجرأه غريبه‫:‬ والله ربنا ما كنا مشركين، فيقول ربنا تبارك وتعالى‫:‬ انظر كيف كذبوا على أنفسهم؛ لأنهم حين كذبوا، كذبوا على أنفسهم، لأن الله لا يُكذَبُ عليه، لأنه يعلم السر وأخفى، حين يكذبون تؤتي بالصحائف وتنشر فيجدوا ما عملوا حاضرًا ويقولون‫:‬ ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ رمشة العين، النفس، التثاؤب، حركه اليد، حركه العضلات، ما من صغيره ولا كبيره إلا أحصاها، والمحصي هو الله، ماذا يقولون؟ يقولون هذه الصحف مزوره، هذا المكتوب مخالف للحقائق، أين كتب؟ ومتى كتب؟ لم نرى ذلك، فيطعنون في الصحائف بالتزوير كما كانوا في الدنيا، فيؤتى بالشهود العدول، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، حين يؤتى بالشهود يشهدون عليهم يقاومون الشهود، ويقولون هؤلاء ليسوا بالشهود العدول، لم نرهم في الدنيا، ولم نسمعهم، ثم إنهم حين رأونا على المعاصي لم لمْ ينبهونا؟ لِمَ لمْ يذكّرونا طالما تركونا ودوّنوا ما يشاءوا فهم ليسوا بالشهود العدول، هنا حين يصل الأمر بهم إلى ذلك يختم على أفواههم، وإذا بالأعضاء تنطق؛ الجلود تشهد، اليد تتكلم عما سرقت، وكيف بطشت، وكيف إمتدت للحرام، والقدم تتحدث عن خطواتها في الدنيا، كل خطوه، خطوه خطوة، يوم مقداره خمسون ألف سنه حساب، كيف تبيع ذلك كله بخمسين سنة من النعيم الزائل؟! تتحدث القدم بكل خطوة، حتى الجلود تنطق، فيعودون بالائمه على أنفسهم وأعضائهم، ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾[سورة فصلت آية‫:‬ ٢١] فتنطق الجلود وتقول‫:‬ ﴿أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾[سورة فصلت آية‫:‬ ٢١] أي أن الجلود نطقت بأمر الله، ولو ترك الأمر لها ما نطقت ولأطاعت أصحابها في عصيانهم وتكذبيهم، ولكن الله تبارك وتعالى أنطقها كما أنطق كل شيء، إذًا فكل شيء في الدنيا ناطق، تسمعه وقد لا تسمعه، تفهمه وقد لاتفهمه، ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾[سورة الإسراء آية‫:‬ ٤٤] فالله تبارك وتعالى يقول عن الجلود حين تقول‫:‬ ﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(٢١)وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ(٢٣)وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ(٢٤)﴾[سورة فصلت آية‫:‬ ٢١- ٢٤]‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ايها الاخ المسلم، هل يمكن لك أن تستتر من المعصية؟ أو حين تعصي ممكن لك أن تستتر من عينك؟ هل يمكن لك أن تعصي وعينك مغمضه؟ هل يمكن لك أن تستتر من أذنك حين تعصي؟ وإن إستطعت أن تستتر من سمعك وبصرك أتستطيع أن تستتر من جلدك وأنت تعصي به وبأعضائك؟ كيف تستتر من أعضائك وأنت تستخدمها في المعصيه؟ إحذر فالشهود منك؛ هذه الأصابع ستكون عدوًا لك، إياك وأن تستخدمها في المعصيه؛ هذه العيون، والآذان، والجلود التي تطيبها، وتزينها، وتكسوها بفاخر الثياب، كل ذلك قد يكون عدوًا لك في الغد، ويشهد عليك‫.‬ فإياك أن تطيع هواك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ايها الاخ المسلم، اليوم قريب، في ذلك اليوم يحشر الناس فردًا فردًا، ويحاسب الناس فردًا فردًا، وفي ذلك اليوم يقول الله‫:‬ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾[سورة مريم آية‫:‬ ٩٦] الود يوم القيامه ينشأ من الود في الدنيا ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾[سورة الزخرف آية‫:‬ ٦٧] ﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾[سورة الزخرف آية‫:‬ ٦٨] هؤلاء الذين تحابوا في الله في الدنيا، واجتمعوا على كلامه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ايها الاخ المسلم، من أقرب القرب إلى الله تبارك وتعالى أن تبحث عن أخ لك تؤاخيه في الله وتجتمع معه على كلام الله، على القرآن، على حفظ القرآن ولو آيه، ولو سورة، طالما إجتمعت وتحاببت على حب الله مع أخ لك أبشر أنك سوف يجعل لك يوم القيامه ودًا، سيقال لك لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، ستتنزل عليك الملائكه ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾[سورة فصلت آية‫:‬ ٣١] سوف تظل بظل العرش حيث لا ظل إلا ظل العرش، إثنان تحابا في الله إجتمعا عليه وافترقا عليه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬