القرآن الكريم / سورة لقمان / التفسير المقروء

سورة لقمان

مقدمة‬‬‬
‫لقاؤنا مع سورة لقمان، ولقمان إختلفت الآراء في شأنه؛ فقال بعضهم إنه كان نبينًا، وقال الآخرون بل كان وليًا، والرأي الأرجح أن لقمان لم يكن نبينًا وإنما كان وليًا من أولياء الله تبارك وتعالى، آتاه الله الحكمه، ومنحه من لدنه علمًا، ولذا يُلقب بلقمان الحكيم، وهو في أرجح الأقوال ابن أخت أيوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وقد عاش ألف سنة حتى بُعث داوود، وكان لقمان يفتي الناس، وكان قاضيًا في بني إسرائيل، وحين بُعث داوود إمتنع عن الفتوى، وحين سُئل عن ذلك فقال‫:‬ "ألا أكتفى إذا كُفيت"، ويُروى عنه أكثر من ألف حكمة، يرويها عنه العلماء والأولياء، ومما يُروى عن حكمة لقمان أنه دخل على داوود يومًا فوجده يسرد الدرع، ولأول مرة يرى لقمان هذا المنظر العجيب، فقد رأى الحديد بين يدي داوود يلين بغير نفخ، وبغير نار، وبغير كير، يمسك الحديد الصلب الفولاذ بيديه فإذا به كالصلصال، أو كالطين، ويقطعه، ويجعله حَلَق، ويسرد، ويضيّق في السرد كما أمره ربه، فصمت، ووقف ينظر، ويراقب حتى إنتهى داوود من نسج الدرع، ولأول مره قام داوود فلبس الدرع، فقال لقمان‫:‬ "نعْم اللبوس لبوس داوود"، فرد عليه داوود قائلًا‫:‬ "نعْم الصمت صمت الحكيم"، وقد سميت السورة بإسم لقمان لأن الله تبارك وتعالى قص علينا طرفًا من ذكره، ومن أهم ما قُص علينا في هذه السورة وصية لقمان لإبنه، والتي بها يعرف كل والد ماذا يقول لإبنه‫.‬ إفتتحت سورة لقمان بسر الله في كتابه وهي الحروف المقطعة، وغاية ما يقال فيها أنها سر الله فلا تطلبوه، وهي من المتشابهات التي لا يصح للعلماء أن يتكلموا في شأنها أو في معناها، فقد إستأثر الله بعلمها، وكل ما قيل في شأن هذه الحروف ما هو إلا إستنباط واستنتاج من العلماء، أو تقريب لأذهان الناس، ولم يؤثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وكلنا يعلم أن الكفار بمكة كانوا يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل مايقول، يبحثون عن العيوب والمآخذ، ولو كان في هذه الحروف المقطعة، والتي نزلت جلّها أو كلها بمكة، لو كان فيها مايدعو إلى الحيرة والتعجب لسألوه عنها، ولكن لم يؤثر عن كفار مكة أنهم سألوا عنها، أو تعجبوا لها، ممايدل على أن لهذه الحروف مدلول لابد وأنهم علموا مدلولها، ونحن في عصرنا هذا نتمسك بكلام السلف في هذه الحروف أنها سر الله، ولا يعلمه إلا الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الٓمٓ ﴿1﴾ تِلْكَ ءَايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْحَكِيمِ ﴿2﴾ هُدًۭى وَرَحْمَةًۭ لِّلْمُحْسِنِينَ ﴿3﴾ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلْـَٔاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿4﴾ أُو۟لَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًۭى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴿5﴾
‫﴿الم﴾ ذاك مفتتح السورة كما افتتحت بهذه الحروف أيضًا سور أخرى كسورة البقرة، وآل عمران، وسورة العنكبوت، وسورة الروم‫.‬ ﴿تِلْكَ﴾ إشارة، وقد تعلمنا في اللغه العربية أن هذا إشارة للقريب، وتلك إشارة للبعيد، و"تلك" إشارة لشيء عالي الشأن، رفيع القدر، ألا وهو كلام الله، ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ وما يتلى عليك يا محمد هي آيات الكتاب القرآن الحكيم، ﴿ الْكِتَابِ﴾ لم يكن في ذلك الوقت قد جمع القرآن في كتاب، والآية والسورة جميعها مكية ماعدا آيتين منها، قول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(٢٧)مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(٢٨)﴾[سورة لقمان آية‫:‬ ٢٧, ٢٨] نزلت بالمدينة، وباقي السورة نزلت بمكة، ولم يكن القرآن قد جُمع بعد، ولكن الله تبارك وتعالى سمّاة كتابًا بما سوف يكون، وهو دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أبلغ به عن ربه تبارك وتعالى، ﴿الْحَكِيمِ﴾ المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الحكيم الذي لا خلل فيه، ولا اضطراب، ولا إعوجاج، ولا إختلاف، الحكيم‫:‬ ذو الحكمة، كل مافيه حكمة محضة، الحكيم‫:‬ الحاكم الذي يحكم بين الناس، ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ والآية تبين لك أن القرآن هداية، ولكن ليس لكل الناس، وأن القرآن هو كلام الله تبارك وتعالى يُتلى، فإن سمعه المؤمن إزداد إيمانه، وإن سمعه الكافر إزداد كفره، ولم يؤمن كافر أبدًا بسماع القرآن؛ لأن الله تبارك وتعالى حدد الهداية في هذا الكتاب لفئة من الناس في مواضع هو "هدى للمؤمنين"، وفي مواضع "هدى للمحسنين"، ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿هُدًى﴾ لأنه يبين لهم الطريق، يبين لهم الأوامر والنواهي، يبين لهم مطلوب الله تبارك وتعالى من عباده؛ فهو يهديهم إلى الجنة، إلى طريق الرضوان، إلى سبيل الله المستقيم، ﴿ لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ لأن بالقرآن يرفع مقام الإنسان، وكلما قرأ منه إزدادت حسناته، فإن حفظه فهو مع السفرة الكرام البررة، فهو رحمة في الدنيا؛ لأنه يكف عن المعاصي، ويبين لنا الطريق، وهو رحمة في الآخرة؛ لأن القرآن يوم القيامة يأتي شفيعًا لأصحابه، ومن القرآن ما لو واظب الإنسان على قراءته كل ليلة منع عنه فتنه القبر، ولا يسأل في قبره، وهي سورة واحدة، تسمى المانعه؛ لأنها تمنع عذاب القبر، وتقف بين الميت وبين ملائكة القبر فلا يستطيعون سؤاله، وكلما أتوْ من جهه وقفت بينه وبينهم هذه السورة المانعه، وهي سورة تبارك، ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ المحسن‫:‬ قد تعني المتقن لعمله الذي إذا أتى عملًا أتقنه، وإن الله تبارك وتعالى يحب إذا أتى أحدكم عملًا أن يتقنه؛ فالإتقان في الأعمال هو الإحسان، أن تأتي بالأفعال على كمالها، وعلى الوجه الأمثل، والإحسان أيضًا يعرفة لنا نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الشهير الذي جاءه فيه جبريل عليه السلام وسأله عن الإحسانن فقال‫:‬ "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، ثم يأتي بيان المحسنين‫:‬ ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ ثلاثة أشياء‫:‬ الصلاة، والزكاة، والإيمان بالبعث، ومن الطبيعي أن هناك أمور أخرى كصيام رمضان، وكالحج لمن إستطاع إليه سبيلًا، كثير من الأمور تتم إيمان العبد، وتكمل إسلامة، ولكن هذه الأمور الثلاثه جاءت على سبيل التخصيص لعلو شأنها، وعلو شأن من يواظب عليها؛ لأن المواظب على الصلاة لا يمكن أن يمنع الزكاة، والذي يؤتى الزكاة من ماله لا يمكن أن يمتنع عن الصيام؛ لأن إخراج الزكاة قد يكون أصعب على النفوس من الصيام، والإمتناع عن الشراب والطعام، هذه الثلاث خصصت إما لأن الحج والصيام لم يكونا قد فرضا بعد؛ فقد فرض الصيام والحج بالمدينة، ولكن الزكاة فرضت أيضًا بالمدينة، وهاهو يأتي ذكرها، والآية مكية، فقد تؤول على الصدقة، وقد يكون الأمر تخصيص لهذه الثلاثة أشياء لأهميتها، وأولويتها، ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ تكرير الضمير لتأكيد اليقين في نفوس هؤلاء الذين يؤمنون بالبعث، وكأنهم يرونه رأي العين، ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أمر يبين لك أن الهادي هو الله، وأن العبد لا فضل له في الهدى، وأن العبد لا فضل له في العمل الصالح؛ إذ لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا، ولاصلينا، فأولئك على هدى من ربهم، إذًاً الذي هداهم هو الله تبارك وتعالى، يهدي من يشاء، حتى الأنبياء لا يستطيعون هدى؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٥٦] لله الحمد، والفضل، والمنة أن هدنا ولولا الله ما اهتدينا، ﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون بمطلوبهم، والفلاح هو الذي شق الأرض ليبذر الحبة، وبالتالي فكل فالح هو الذي شق طريقًا لشيء ما لبذر حب، أو لإثبات شجر، أو ثمر، وكذا، وكذا، الذي أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وآمن بالآخرة، شق طريقه إلى الجنة، وإلى رضوان الله تبارك وتعالى، وينتقل الكلام، وبضدها تتميز الأشياء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌۭ مُّهِينٌۭ ﴿6﴾ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَـٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًۭا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِىٓ أُذُنَيْهِ وَقْرًۭا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿7﴾
‫﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ﴿لِيَضِلَّ﴾ قراءة أخرى، ولا يكتفي بذلك بل ﴿ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا﴾ هذه الآية فيها أقوال‫:‬ أولها أن الآية نزلت في رجل من مشركي مكه يدعي النضر بن الحارث، وكان من صناديد قريش، وذهب واشترى كتبًا وأقاصيص تقص أنباء ملوك الفرس كاسفنديار، ورستم، وكسرى، وأخذ يحدث الناس بما هو موجود في هذه الكتيبات، ويقول إن كان محمد يحدثكم بعاد وثمود فأنا أحدثكم بكسرى ورستم واسفنديار، وأخذ يقص عليهم الأقاصيص، ويجمع الناس، ويلهيهم عن سماع القرآن وعن قصص القرآن بالأحاديث المفتراه، والكاذبه، والتي لا تفيد، ولا تنفع، ولذا سماها الله ﴿ لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ لهو‫:‬ مضاف، والحديث مضاف إليه، والإضافة هنا بدلًا من كلمة "من"؛ لأن التقدير‫:‬ يشتري اللهو من الحديث، فهي إضافة بيان، والشراء هنا الكلمة على حقيقتها؛ فقد إشترى الكتب ويلهي الناس بها عن القصص الحق، وقيل أنه ايضًا اشترى القيان، الجواري، والمغنيات، وكان يذهب لكل من يسلم يقول له تعالى أمنحك أفضل من ما يمنحك محمد، ويأتي به إلى الجارية ويقول لها إطعميه، واسقيه، وغنيه، فتطعمة، وتسقية، وتغني له، وتلّهية، فالكلام في النضر بن الحارث، وقال بعض العلماء أن الشراء هنا ليس على الحقيقة، بل هي استعارة، ولا شراء هناك ولا بيع، كقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ...﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٦] والضلالة لا تشتري، والهدى لاتباع، فكلمة إشترى إستعارة؛كأن الإنسان إستبدل، واهتم، وأخذ الضلالة بدلًا من الهدى، هنا كذلك يشتري لهو الحديث، أي يستحب هذا اللهو، ويفضله عن الصدق، والحق، وكلام الله، والهدي، والنور، والكلام عن أهل مكة عمومًا في ضحكاتهم، واستهزائهم، ولهوهم، وتشويشهم على قراءة النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يسمعه أحد، فهؤلاء يشترون الضلالة بالهدى، وكذلك هؤلاء يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، عن طريق الله تبارك وتعالى، ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ بغير علم بما يفعل، بغير تقدير لخطورة ما يأتيه، وأهمية الموقف الذي إتخذه، أو سوف يؤول إليه أمره، أو بغير علم بالقرآن وبالحق الذي يصرف الناس عنه، فهو يضل الناس بغير علم، لم يعلم عن القرآن شيئًا، ولم يستمع، ولم يتدبر، ولم يتفكر، فهو يضل الناس عن شيء بغير أن يعلم عن هذا الشيء شيئًا، ﴿وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا﴾ أي يتخذ السبيل، طريق الله، والسبيل يُذكّر ويؤنث، أو ﴿وَيَتَّخِذَهَا﴾: أي يتخذ آيات القرآن، ﴿هُزُوًا﴾: يستهزيء بها، ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ لأنه أهان كلام الله، وأهان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا لابد أن يكون الجزاء من جنس العمل، فكما أنه أهان الحق في حياته، فهو يتلقى العذاب المهين بعد مماته، ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا﴾ أي القرآن، ﴿وَلَّى﴾ انصرف مسرعًا، ﴿وَلَّى مُسْتَكْبِرًا﴾ جرى، وهرب مستكبرًا عن سماع الحق، إعجاب المرء برأية من علامات الساعه، من أخطر ما يصاب به الإنسان أن يعجب برأيه، أو أن يقلد أسلافه وأجداه بدون تفكر؛ فالتقليد خطر، وإعجاب المرء برأية أخطر، فهذا يولِّى مستكبرًا، ﴿كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا﴾ ، حاله كحال من لم يسمع، ﴿كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ : صمًاً وثقلًا، ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وكلمة ﴿ فَبَشِّرْهُ﴾ إستهزاء؛ لأن البشرى لا تكون إلا بما يفرح، فالبشرى دائمًا هو الخبر السار الذي تنفرج له الأسارير، ويظهر أثرة على بشرة الوجه بالفرح والسرور، فكلمة ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ إستهزاء، وتبكيت، كأنه لا بشرى له مطلقًا إلا الألم والعذاب، هذه هي الأقوال الراجحه والغالبه في آراء العلماء، هناك رأي آخر لابد وأن نعطيه حقه من الأهمية؛ الرأي يقول أن الآية تختص بأمر واحد ألا وهو الغناء، ولهو الحديث هو الغناء الذي يأتيه المغني أو المغنيه، والكلام عن هذا، وهو باطل لامحاله، وأستند هؤلاء العلماء على ثلاث آيات في كتاب الله تبارك وتعالى، وعلى رأسها حرموا الغناء تحريمًا قاطعًا هذه الآية ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ويقولون‫:‬ الله تبارك وتعالى يقول ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ٣٢] فالأمر إما حق، وإما ضلال، وليس بعد الحق إلا الضلال، فإذا كان هذا يضل عن سبيل الله فهو ليس بحق، إذًاً فهو الغناء، وهو لهو الحديث؛ لأنه يلّهى عن ذكر الله، ولا يأتي بحق، شجن، غزل، شوق، حب، وذلك لا يمكن أن يكون حقًا، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟، هذه آية والآية الثانيه الذي إستند عليها المحرمون للغناء هي قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ [سورة النجم آية‫:‬ ٦١] سامدون‫:‬ تفسيرها في رأيهم : تغنون؛ لأن سمد بلغة الحُميرية تعني غنى، سمدت المرأه‫:‬ غنت، الآية الثالثة هي قول الله تبارك وتعالى لإبليس‫:‬ ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ...﴾ [سورة الأسراء آية‫:‬ ٦٤] فهل لإبليس صوت؟ وهل يسمع أحد صوت إبليس، أو صوتًا للشياطين، والمرده؟ إذًا فصوت المغني والمغنية هو المقصود بصوت إبليس في هذه الآية، ثلاث آيات يستند إليها هؤلاء الذين حرموا الغناء تحريمًا قاطعًا، وإذ دخلنا في أقوالهم على شيء من التفصيل حتى يتبين لنا الحق، إمام دار الهجرة، الإمام مالك، أفتى بتحريم الغناء تحريمًا قاطعًا، بل وأفتى أيضًا أن الرجل إذا اشترى جارية فاكتشف أنها تغني، له أن يردها للعيب لصاحبها، كما لو إشتريت قميصًا فوجدته على غير مقاسك فلك أن ترده للعيب، كذلك إذا إشترى جارية فوجدها مغنية ردها وأخذ ثمنها؛ لأن فيها عيبًا حيث أنها تغني، ذاك مالك، أما أبو حنيفة فقد قال بكراهة الغناء وليس بتحريم، وأما الإمام الشاافعي فسمى الغناء باطلًا، واعتبر أن الغناء من الأمور المكروهه، وليست من الأمور المحرمة، وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد أباح الغناء، واعتبره مباحًا، والسمعه التي يشيعها بعض الجهلاء عن المذهب الحنبلي أنه مذهب متشدد متزمت لا أساس لها من الصحة، بل هو من أقرب المذاهب إلى السُنة، وخاصة أنه تتلمذ على الشافعي، الذي تتلمذ على مالك، فكأنه قد جمع المذاهب كلها، ونحن لا نزكي مذهب على مذهب فكلهم صواب، وكلهم من رسول الله ملتمسُ ، أباح أحمد بن حنبل الغناء، وليس كل غناء، وإنما من الغناء ما هو متفق على تحريمة من الأربعة الكبار، والمتفق على تحريمة من الغناء هو الذي يبعث الكامن، ويحرك الساكن، فيأتي فيه تشبيب بالنساء، الغزل، الشهوة، الرغبة، ووصف محاسن النساء؛ كلون شعرها، لون عينيها، وذكر المحرمات، وذكر الخمر، وكثير من الأغاني تأتي بهذه الصور التي ذكرت، كل ذلك متفق على تحريمة، بل واتفق العلماء والفقهاء على أن المغني سفية، ترد شهادته، ولا تقبل له شهادة لا في زواج، ولا في طلاق، ولا في عتاق، ولا في بيوع، فهو ليس من الشهود العدول؛ لأن المداوم على الغناء سفية، فاسق، أمور متفق عليها، المداومة على الغناء، وبالتالي أخذ أجر على الغناء حرام؛ لأن الغناء أصلًا غير جائز، فهل من الغناء ما يباح؟ نعم، ماهو المباح من الغناء، والذي أفتى بإباحته إمامنا الأعظم أحمد بن حنبل؟ قال الغناء المباح هو الخالي مما ذكر من تشبيب بالنساء من وصف محاسن النساء، من ذكر الخمر، من الغزل، من اللوعه، ومن، ومن، إلى آخر ما قيل عن الغناء المحرم، ثانيا‫:‬ المداومة على الغناء قلنا سفاهه، واتخاذه حرفه ترد به الشهاده، وأخذ الأجر عليه حرام، ولكن عدم المداومه على الغناء مباح بشرط أن يخلو مما يحطر أيضًا في بعض الأحوال، وهي الأفراح، وإشهار النكاح، ليعلم الناس زواج فلان بفلانه، وكذلك في الأعياد، والتنشيط على الأعمال الشاقة، وضربوا لهذا الغناء المباح أمثلة، من هذه الأمثله أن النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينه استقبلته بنات المدينة بالدفوف يغنين له، وكن يقلن من كلامهن نحن بنات النجار حبذا محمد من جار، فهم أبو بكر رضوان الله عليه بالزجر والمنع، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم‫:‬ دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح، فذاك مثال، من الأمثله أيضًا في التنشيط على الأعمال الشاقة أنه في حفر الخندق بالمدينة المنورة في غزوة الأحزاب كان المسلمون يرتجزون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع، ويرد عليهم حين كانوا يقولون‫:‬ لئن قعدنا والرسول يعمل فذاك منّا العمل المضلل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‫:‬ إن هذا العمل عمل الآخرة، للهم اغفر للأنصار والمهاجرة، وما إلى ذلك، وأيضًا روى في صحيح البخاري وفي الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مضطجعًا في بيت عائشة، وكان عندها جاريتان تغنيان بأغان بعاث، وأيضًا في أيام العيد، وأيام التشريق، كان يقول أنها أيام أكل، وطعام، وفرح، فهاك من الغناء مايباح، أباحوا الدف، وجميع الآلات التي تشهر النكاح، ذاك هو الغناء المباح في رأي الفقهاء، وماسوى ذلك فهو غير مباح، ومن أمثلة الإباحه أيضًا أنه كان هناك رجل يدعي أنجشه من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هو مسئولًا عن قيادة النوق التي يركبنها نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان هو القائد لقافلة النساء، أمهات المؤمنين، وكان جميل الصوت، فكان يحدو، و الحداء أن يغني قائد الأبل فتسرع الإبل في الخطى، فكان أنجشة جميل الصوت، ويغني، ويحدو بالإبل، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا‫:‬ من الحادي؟ قالوا‫:‬ أنجشة يارسول الله، قال يا أنجشه رفقًا بالقوارير، أول من أطلق على النساء كلمة قوارير هو النبي صلى الله عليه وسلم، أي إنهن كالزجاج يتكسرن بسهوله، ولم ينهى أنجشه عن الغناء، تلك أمثله ما يباح من الغناء، أما سوى ذلك فهو حرام باتفاق الفقهاء، وقلنا هذا الكلام لأنهم إستدلوا بهذه الآية، وإن كان في علوم القرآن في أسرار التنزيل وأسباب التنزيل يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ أن الآية نزلت في النضر بن الحارث الذي كان يشتري كتب الفرس، ويقرأ، ويتلوا ليلهي الناس، وإن كان هذا قد قيل فإن أمانه العلم تقتضي أن نقول رأي العلماء الآخرين الذين إستدلوا على هذه الآية بتحريم الغناء، وبالآيتين الأخريين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمْ جَنَّـٰتُ ٱلنَّعِيمِ ﴿8﴾ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ۖ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقًّۭا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿9﴾
‫﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ والإيمان بغير عمل كلا إيمان؛ فليس هناك إيمان بغير عمل، وما ذكر كلمة الإيمان في كتاب الله تبارك وتعالى إلا وألحق بها العمل، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‫:‬ (ليس الايمان بالتمني، ولكن الايمان ما وقر في القلب وصدقة العمل، وان اناسًا خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون نحسن الظن بالله، وقد كذبوا؛ فلو احسنوا الظن لاحسنوا العمل)، والعمل الصالح هو الذي يصلح شأنك دنيا وأخرى، ويصلح من شأن إخوانك؛ لأن من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك، فإن عملت صالحًا لنفسك وغير صالح لأخيك فأنت لست من هؤلاء، لست من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، مهما صليت، وزكيت، وصمت، وحججت، طالما تؤذي الجار حتى لو رفعت صوت المذياع فشوش على جيرانك، الذي يذاكر دروسه، أو المريض، أو المصلي، أو القاريء للقرآن، يفسد هذا العمل، عملك الصالح، فأنت لست كامل الإيمان، وهكذا في كل شيء؛ في المواصلات، في إلقاء القاذورات، في قيادة السيارات بسرعة، في الرشى أخذها ودفعها؛ ولعن الله الراشي، والمرتشي، رائش،وا أي الواسطه بينهما، تعطيل مصالح الناس إن كنت في مكان حكومي، فالمؤمن من أَمِنَه الناس، المؤمن أمان، المؤمن موطأ الكنف يألف ويؤلف، المؤمن سمح الوجه، ولو كان قبيح المنظ،ر يضفي الله عليه من نورة حاله تحبب الناس فيه، وتحب أن تراه، وتنظر إليه، والمؤمن من إذا رأيته ذكرت الله، هؤلاء ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ والكلام معكوس؛ تقديرها "لهم نعيم الجنات" وليست جنات النعيم، فالنعيم في الجنات، وليس الجنات في النعيم، وعكس الكلام مبالغه فصيحة لبيان أن هذا النعيم لا قبل لأحد لتخيلة، ولبيان رفعة شأن هذا النعيم، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ الخلد لا موت، ولا مرض، ولا ألم، ولا طبيب، ولا عيون ضعيفة تحتاج لمنظار، لا ينامون، رشحهم المسك، خالدين فيها خلد فوق الخيال، ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ مصدران مؤكدان؛ الأول مصدر مؤكد لنفسه، والثاني مصدر مؤكد للأول، أي وعدكم الله، وهذا الوعد حق، ولا خلف في وعده؛ لأن الخلف في الوعد يأتي عن عجز، والله ليس بعاجز، الخلف يأتي عن تدخل أمور تمنعك عن الوفاء، والله لا شريك له، لذا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العزيز‫:‬ لا غالب له، العزيز‫:‬ لا يمنعه مانع، ولا يحول دون إرادته حائل، فإن وعد نفذ وعده؛ لأنه العزيز، الحكيم‫:‬ الذي تأتي أفعاله جميعها حكيمة ومحكمه، فهو الحكيم الذي لا تخلو أفعاله عن حكمه، القادر على إنفاذ مايريد بعلم وحكمه، والحكمة أصلًا من حيث اللغه هي الإصابة في القول وفي الفعل، والحكيم الذي لا يخطئ لا في قوله، ولا في فعله، والحكيم الذي يمتنع عن كل ما هو سفيه، أو تافة، أو لغو‫.‬ بعد أن بيّن الله مصير الكفار، وجزاء الأبرار، بيّن، وتوعّد، ووعد المؤمنين الذين يعلمون الصالحات بالخلد في جنات النعيم، ووصف نفسه بالعزة والحكمة، يدلل الله على كمال قدرتة، وإنفاذ مشيئته، فيقول عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍۢ تَرَوْنَهَا ۖ وَأَلْقَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ رَوَٰسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍۢ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۭ فَأَنۢبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍۢ كَرِيمٍ ﴿10﴾ هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦ ۚ بَلِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى ضَلَـٰلٍۢ مُّبِينٍۢ ﴿11﴾
‫﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ والآية واضحة المعنى؛ فالله هو الذي أوجد هذه السماوات، ومامن إنسان يستطيع أن يدعي أن له في هذه السماوات شأن أو دخل، وهذه السماوات التي يحدثنا عنها القرآن، لم يكتشفها العلم حتى يومنا، هذا وجل ما استطاع العلم أن يصل إليه هو الفضاء، والكواكب، والنجوم، والمجرات الهائلة، والمجموعات العظيمة التي تشبه مجموعتنا الشمسية، بلايين وبلايين المسافات والتي لا تقدر بالأمتار، أو بالكيلومترات، ولا تحسب، ولا ترسم على الأوراق، ولا يعمل لها مقياس، وإنما تقدر هذه المسافات بالسنين الضوئية، أي بالسرعة التي يقطعها الضوء في سنة، بلايين وبلايين السنين الضوئية، وكل ذلك ماهو إلا جو السماء الدنيا فما بالكم بالسماوات السبع، والسبع السماوات مبنية لها أبواب، وتفتح هذه الأبواب وتغلق السماوات، أوحى الله في كل سماء أمرها، وزين السماء الدنيا بمصابيح، هذا هو منتهى علم الدنيا، تلك المصابيح، وإذا تكلمنا من حيث اللغه العربية في هذه الآية نجد الإعجاز اللغوي، والذي يغير المعنى طبقا للأعراب ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ إعراب كلمة ترونها؛ قال بعضهم لو أنها في موضع الخفض نعت لكلمة عمد إذًا فقد خلق السماوات بغير عمد، لا ترون هذه العمد، بغير عمد ترونها‫:‬ أي لا ترون هذه العمد، إذًا فقد يكون هناك عمد لهذه السماوات، أعمده مقامة عليها هذه السماوات، ولكنا لا نراها، ولن نراها، إذا كانت الكلمة في موضع خفض، نعت لكلمة عمد، ذاك إعراب، وإذا كانت كلمة ترونها في موضع نصب على الحال من كلمة سماوات، فالمعنى أنه خلق السماوات، وها أنتم ترون السماوات مرفوعه بغير عمد، فالإعراب يحتمل وجود العمد مع عدم إمكان رؤية العمد، والإعراب يحتمل أنه ليس هناك عمد على الإطلاق، وأن السماوات قد رفعت بكلمة كن، بغير أداه، وبغير عمد، وإن كان هذا أو ذاك فالأمران معجزان، ويخلق الله ما يشاء، ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ الرواسي‫:‬ هي الجبال الشامخات، الجبال التي وضعت في هذه الأرض بنظام، وبتقدير، وبحكمة، ولو انتقل جبل من مكانه إلى مكان آخر لمادت الأرض، فهي موضوعه بحساب؛ لأن الله خلق كل شيء بقدر، هذه الجبال لولاها لمادت الأرض، ولقد رُوى أن الله تبارك وتعالى حين خلق الأرض مادت واهتزت، فالمياة في الأرض تشكل أربعة أخماس الأرض، وما اليابسة في هذه الأرض ماهي إلا الخمس فقط، وأربعة أخماس الأرض مياة، مادت الأرض، واهتزت، ولم تثبت، فخلق الله الجبال، فرست، وثبتت، فتعجبت الملائكة، وقالت يارب، خلقت الأرض فمادت، فخلقت الجبال فرست، فهل خلقت شيئًا أقوى من الجبال؟ قال نعم، الحديد، فالحديد يكسر الجبال، قالوا يارب وهل خلقت شيئًا اقوى من الحديد؟ قال نعم، النار، النار تذيب الحديد، قالوا يارب وهل خلقت شيئًا اقوى من النار؟ قال نعم، الماء، الماء يطفيء النار، قالوا يارب وهل خلقت شيئًا أقوى من الماء؟ قال نعم، الهواء، الهواء هو الذي يسيّر الرياح، ويسخر السحاب، قالوا يارب وهل خلقت شيئًا أقوى من الهواء؟ قال نعم، عبدي المؤمن، إذا أنفق نفقه بيمينه فلم تدري شماله ما أنفقت يمينة، أرسى في الأرض الرواسي كراهية أن تميد بكم، أي لئلا تميد بكم، (ماد يميد) مثل (مال يميل)، فمن رحمتة بنا جل شأنه جعل الجبال رواسي، حتى ترسو الأرض، وتثبت، ولا تميل بنا، ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ﴾ الدابة‫:‬ ما تدب على الأرض، وحين يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ﴾ إذا ً فليس هناك مكان في الأرض يخلو من دواب، أيا كان نوع الدواب، وهذه الدواب التي بثها الله في الأرض تشمل الإنسان، وتشمل الجان، وتشمل ما يسعى على بطنه، وما يمشي على رجلين، وما يمشي على أربع، فالله بث في هذه الأرض من كل دابة، وفي هذا البث، وهذه الدواب؛ منها النافع، ومنها الضار، والنفع والضر أمران ليس لهما معيار؛ فنحن قد ترى في الشيء ضررًا وقد يكون فيه النفع، وقد نرى في الشئ نفعًا وقد يكون فيه الضر، فالأرض كما تنبت الفواكه والزهور، تنبت أيضًا السموم والمخدرات، وقد يسأل سائل‫:‬ لم خلق الله هذه المواد السامة الضارة كالمخدرات؟ المخدرات قد يكون لها نفع، ولكن الإنسان إختار منها جانب الضر، فاختيار الإنسان بنفسه لجوانب الضر هو المسئول عن ذلك، وقد يخلق الله الأشياء فتنة وابتلاء، ويرى هل تأتي الضر، أم تصرف نفسك عن الضر، وخلق الله تبارك وتعالى الجنة وكل ما في الجنة طيب، ولا خبيث في الجنة على الإطلاق، ورغم ذلك نهى آدم عن الأكل من شجرة بعينها، أكانت ضارة؟ أكانت سامة؟ أكانت مخدرة؟ ولكنه نهاه ابتلاء له أيطيع، أم يعص؟ هل هو من أهل العزم؟ يقول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [سورة طه آية‫:‬ ١١٥] لم يعطه ربنا العزم، ولا عزم إلا بالعطاء، ولا فضل للإنسان إلا بمواهب الله له، بث الله في الأرض من كل دابة، وهناك التوازن الغريب في هذه الدواب؛ فأنت ترى الحشرات، وترى أن الله خلق دواب تقتات وتعيش على هذه الحشرات، وخلق دواب أخرى تقتات وتعيش على ما يأكل الحشرات، وخلق وحوشًا ونسورًا، حتى في عالم الطيور تجد التوازن، حتى في عالم المحيطات والبحار؛ أسماك يأكل الكبير منها الصغير، توازن غريب، لم يفنى الكبير، ولم يفنى الصغير، لم يفنى القوي، ولم يفني الضعيف، هذا التوازن في الكون، من الذي حدد هذا التوازن، وسيطر على هذا الكون، وهذا التصريف؟ هو الله، ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء﴾ والسماء قد تطلق على كل ماهو في جهة العلو، والسماء لا تمطر ماء، وإنما الماء ينزل من السحاب، وعبر عن السحاب بالسماء باعتباره في جهه الفوقية ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ أنبتنا فيها من كل صنف كثير المنافع، والآية تتحدث عن أمرين‫:‬ أمر الخلق والإيجاد للسماوات والأرض، وكيف أن كل ذلك بحكمة، وميزان، وتقدير، وقدرة معجزة؛ حيث رفعت السماوات بعمد لا ترى، أو بغير عمد أصلًا، وها هي الأرض كادت أن تميد لولا أن رست بهذه الجبال، خلق، إيجاد، قدرة، حكمة، ثم ها هو الماء ينزل لإبقاء الخلق، ما به قوام الناس، والحيوان، والعباد، والأرض، وها هو الماء ينزل على الأرض الميتة إذا بها تنبت، وتخرج من كل زوج كريم، من كل صنف كثير المنافع، الماء واحد، والأرض واحدة، وما يخرج منها مختلف الأشكال، متعدد الألوان، وحين يقول الله تبارك وتعالى ﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ الكرم‫:‬ العطاء، الكرم‫:‬ الجود، الكرم‫:‬ بذل النفع للغير بغير مقابل، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقيل له‫:‬ يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم‫:‬ إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إذًا فالتقوى كرم، وكيف تكون التقوى كرم؟ تكون التقوى كرم لأن التقي يعود نفع تقواه على نفسه، وعلى من حوله، لابد أن يكون عضوًا نافعًا في مجتمعه، فهو بار بوالديه، حنون على إمرأته، عطوف على أولاده، حسن الجوار لجيرانه، كريم، معطاء، نافع، ولذا فهو أكرم الناس، أكرمكم عند الله أتقاكم، قالوا يا رسول الله، ليس عن هذا نسألك، قال صلى الله عليه وسلم‫:‬ إذًا فأكرم الناس الكريم، بن الكريم، بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحق بن ابراهيم، وبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نوعًا آخر من الكرم، وهو كرم المحتد، كرم الأصل، ذرية بعضها من بعض، كعيسى بن مريم، كنبينا، خيار من خيار، من أطهر الأصلاب، ومن أشرف المجتمع، فالناشيء في بيئة صالحة ليس كالناشيء في بيئة فاسدة، وبين هذا أن البيئة، والمجتمع، وسلوك الناس، خاصة الأسرة؛ الأب، والأم، له أثر كبير في نشأة الطفل والوليد في أن يكون كريمًا، أو يكون حقيرًا وذليلًا، حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قالوا يا رسول الله ليس عن هذا نسألك، قال عن معادن الناس تسألونني؟ قالوا نعم يارسول الله، فقال خيارهم في الجاهليه خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، أي تعلموا الدين، فقه الرجل‫:‬ إزداد فقهًا، وتعلم، وفهم أمور دينه، وبين لنا نوعًا ثالثًا من أنواع الكرم وهو المعدن، معدن الإنسان، أخلاقيات طباعه، ما أنطوت عليه نفسه؛ من الطيبة، حسن النيه، حسن الظن، الرحمة، الرأفه، لين الجانب، توطئه الكنف، حسن المعاشرة والصحبه، حب الخير للغير، ومعادن الناس لا يغيرها أبدًا الدين ولا العلم، فإن كان معدن الإنسان معدنًا خبيثًا، وتعلم، وتفقه، وصار فقيهًا عالمًا يشار إليه بالبنان، إستغل هذا العلم للحصول على الدنيا، لا للحصول على الآخرة، بل وقد يطوّع العلم والفتوى لخدمة الحكام والرؤساء، فيفتي خطأ ً وظلمًا، كما فعلت أحبار بني إسرائيل؛ حيث بدّلوا وعدّلوا رغم علمهم، ورغم أخذ الميثاق عليهم، ورغم أنهم أحبار ورهبان إلا أن معادنهم كانت معادن خبيثة، فلم ينفعهم العلم؛ تلك جميع أنواع الكرم، وربنا تبارك وتعالى يصف ما أنبته لنا من الأرض بالكرم فيقول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ حسن، جميل، نافع، غير ضار، يُبقى على الحياة؛ حياة الدواب، وحياة الإنسان، ، ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ أي هذا مخلوق الله، هذا هو الذي خلقه الله، ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ الشركاء، والأصنام، والآلهه التي تُعبد من الناس كفرعون، ومن الأصنام كهبل ومناة، ومن، ومن،... هذه الأصنام، وهذه الآلهه المزعومه، ماذا خلقت؟ هذا خلق الله، الدليل، والحجة، والبرهان الساطع الذي لايدع مجالًا للشك، ويقطع أعذار المشركين، ويفند حججهم، صفات الألوهية الخلق، فإذا لم يخلق هذا الصنم، أو هذا الإنسان، بل هو مخلوق، إما هو مخلوق لله كالناس، أو هو مصنوع بأيديكم، فكيف يكون المخلوق خالقًا؟ لذا يقول الله تبارك وتعالى بعد ذلك إضرابًا عن تبكيتهم إلى بيان جهلهم، وضلالهم، وخسرانهم، فيقول‫:‬ ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ وجاء بالمظهر مكان المضمر لبيان أن الشرك ظلم عظيم، وفي ضلال بين‫:‬ أي في خسران بين، أيها الاخ المسلم في سورة لقمان، كثير من التفكر، كثير من التأمل، وفي هذه الآيات قليلة الكلمات عظيمة المعنى يتبين لك أن الله خالق كل شيء، ورازق كل شيء، وهو المدبر، وهو المهيمن، وهو المحي، وهو المميت، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وسبحانه وتعالى يسمع ويرى، وإن الدنيا دار عمل، ولا دار جزاء، والآخره دار جزاء، ولا عمل، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة، أو النار، فأيهما تختار؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ويبدأ الكلام في سورة لقمان عن لقمان، ووصياه، ووصية لقمان لإبنة، أبلغ وصية عرفها الإنسان؛ فإنه لم يدع شيئًا من الخيرات إلا وأوصاه، ولم يدع شيئًا من المنكرات إلا ونهاه عنه، ولذا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـٰنَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌۭ ﴿12﴾
‫﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ الحكمة من حيث اللغه الإصابة في القول والعمل، والحكيم هو سويّ النفس الذي لا يخطيء في أحكامة، أو في أقواله وكلامة، أو في أفعاله وأعماله، والحكمة هبه من الله لا يمكن أن يتعلمها الإنسان، بل يوهب الحكمة، وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٦٩] وها هنا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ لم يقل تعلمها، وإنما وهبها، وكأن الحكمة كالنبوة توهب، ولا تورث، ولا تُباع، ولا تشترى، وإنما هي هبة من الله، وقد تأتي كلمة الحكمة في القرآن بمعنى النبوة؛ لأن النبوة تشتمل على الحكمة، وقد تأتي كلمة الحكمة في القرآن ولا تعني إلا الحكمة بمعنى الإصابة في القول والعمل، ولقمان كان أسود اللون، ومن السودان ثلاثه لم يظفر التاريخ بمثلهم؛ أولهم‫:‬ لقمان كان أسود اللون، ثانيهم‫:‬ بلال مؤذن رسول الله، والذي رَقَى على الكعبة وعلى سقفها بقدمية العاريتين، بلال كان أسود اللون، بلال الذي يقول له النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة يا بلال؟ فما مشيت فيها موضعًا إلا وسمعت خشخشة نعلك يا بلال أمامي، فقال يا رسول الله‫:‬ ما توضأت وضوءًا إلا وصليت به ركعتين، بلال كان أسود اللون، ومِهجَعْ، كان مولى عمر بن الخطاب، وإن كان مولى من العبيد ولكنه في الدين من أشرف الناس، ومن أعلى الناس قدرًا ومكانًا، كان أسود اللون، ثلاثة من السود من أشرف الناس وأكرمهم على الله، فالعبرة ليست باللون، ولكن العبرة بما إنطوى عليه القلب، وقد قال لقمان يومًا لأحد الناس‫:‬ إذا رأيت وجهي أسودًاً فقلبي أبيض اللون، وإذا رأيت شفتي غليظتين فمنهما يخرج الكلام الرقيق، وقد قلنا عن هؤلاء الماثومين، الذين لا هم لهم إلا تشكيل فرق للفنون الشعبية، وإنهم جاءوا بالفرق من كل بلد حتى السودان، وقد عشنا وعاش آباؤنا وأجدادنا ولا نعرف عن بلاد النوبة وبلاد السودان وأهلها إلا الأمانه، والصدق، والصلاح، والتقوى، حتى ذاك الرجل الذي له مقام يزار، ياقوت العرش، كان أسود اللون، فعلموهم كيف يرقصون، وكيف يظهورون عوراتهم، وها هو لقمان كان أسود اللون، وليس كل سواد، لقمان كان عبدًا، وكان من الموالي، وذاك قولًا كان لأكثر المفسرين، قيل كان نجارًا، وقيل كان خياطًا، وقيل كان راعيًا للغنم، ولكن الكل متفق تقريبًا أنه كان من الموالي، أي عبدًا مملوكًا، لقمان لم يكن نبيًا، ولكن كان عبدًا كثير التفكّر، حسن اليقين، هكذا يروى لنا عبد الله بن عمر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أحب الله تعالى فأحبه الله، ومنّ عليه الحكمة، وخيّره في أن يكون خليفة يحكم بالحق، فقال ربي إن خيرتني قبلت العافيه، وتركت البلاء، وإن عزمت عليّ فسمعًا وطاعة، فإنك ستعصمني، أي إن كان الأمر بالتخيير؛ أقبل، أو لا أقبل، أرضى أن أكون خليفة في الأرض أحكم، أو أكون عبدا ً ذليلًا لا أحكم، اخترت العافيه، أي تعفيني من هذا التكليف، أما إن كان الأمر عزيمة، أمر واجب الطاعة، فسمعًا وطاعة ولا شك أنك ستعصمني، ثقه بالله، فقالت الملائكة للقمان بصوت لا يراهم لم يا لقمان؟ فقال لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان، كأنه يشير إلى موقف الحكام يوم القيامة، فموقف الحاكم بين يدي الله يختلف عن موقف المحكوم، وموقف السيد يختلف عن موقف العبد، وموقف الرئيس يختلف عن موقف المرؤوس، وهكذا، فأشد الناس مواقف، وأكدرها، وأكثرها شدة وهلعًا هو موقف الحاكم؛ حيث يسأل عن حكمة كيف قضى؟ أبكتاب الله؟ أم بغير كتاب الله؟ هل عدل في الرعية أو ظلم؟ فيقول لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان، أي يأتي إليه المظلوم من كل مكان، ومن كل حدب يطالبه بحقه، حيث لا درهم، ولا دينار، ولا تصرّف، ولا سلطه، ولا رجوع، ولا توبة، ولا ندم، ولا إعتذار، وإنما الملك لله، وكما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم‫:‬ أن الله تبارك وتعالى يقتص للمظلوم حتى إن كان من الحيوان، أو الدواب، فيقول‫:‬ والله إن الله يقتص من الشاة القرناء من أجل الشاة الجدباء؛ إذا نطحت الشاة ذات القرون شاة بغير قرون أتى بها يوم القيامة يقتص منها، ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [سورة لقمان آية‫:‬ ١٦] الأعمال والحسنات والسيئات، نعود إلى شأن وحديث وقصة لقمان، قالت الملائكة له بصوت يسمعه ولا يراهم‫:‬ لم يا لقمان؟ قال لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاة المظلوم من كل مكان، إن يُعَن ْ فالحرى أن ينجو إن أعانه الله، أي ينجو إن أعانه الله في الدنيا، ورزقه البطانه الصالحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول‫:‬ ﴿ما من رجل يستخلف إلا وتكون له بطانتان؛ بطانه خير تدعوه إلى الخير، وتحضه عليه، وبطانه شر تدعوه إلى الشر، وتحضه عليه، والمعصوم من عصمة الله﴾، يقول لقمان إن يعن فبالحرى أن ينجو؛ أي فبالحقيق، وبالجدير أن ينجو؛ لأن الله تبارك وتعالى أعانه في الدنيا، ووقاه شر المظالم، ووفقه إلى الأعمال الطيبة وللعدل، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، وما بعد الجنة إلا النار؟ وإن يكن المرء ذليلًا في الدنيا فذلك خير من أن يكون فيها شريفًا، ومن يختر الدنيا على الآخره تقته الدنيا ولايصيب الآخره، فقالت الملائكة‫:‬ ما أحسن منطقك يا لقمان! وعجبت الملائكة من منطق لقمان، فنام نومه فمُنح الحكمة، فانتبه يتكلم بها، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ في يوم من الأيام دعاه مولاه، وقال يا لقمان اذبح لي شاة، وائتني بأطيب مضغتين فيها، فذبحها وأتاه بالقلب وباللسان، وجاء في اليوم التالي، وقال يا لقمان إذبح لي شاه، وائتني بأخبث مضغتين فيها، فذبح الشاه وأتى له بالقلب وباللسان، فقال‫:‬ أمرتك بأن تأتي بأطيب مضغتين فأتيتني القلب وباللسان، وأمرتك أن تأتي بأخبث مضغتين فأتيتني بالقلب وباللسان، كيف ذلك؟ قال نعم أنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، وليس شيء أخبث منهما إذا خبثا، وذاك مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول‫:‬ ألا إن في الجسد لمضغه اذا صلحت صلح الجسد كله، واذا فسدت فسد الجسد كله، الا وهي القلب، والمرء بأصغرية؛ بقلبه، ولسانه، وسئل لقمان يومًا، يا لقمان من أشرّ الناس؟ قال الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئًا؛ أي يسئ، ويفعل ما يشاء من الإساءات، ومن الأفعال القبيحة، ولا يبالي إن رآه الناس، أو لم يروه، لا يستتر، يجاهر بإساءته، ولو تكلمنا عن لقمان، وعن أقواله، وحكمته، لاحتاجنا لساعات وساعات ؛ فما أحصى له من حكم تزيد عن عشرة آلاف حكمه‫.‬ أيها الاخ المسلم، في مقاله لقمان ان شر الناس من لا يبالي ان راه الناس مسيئًا يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى‫:‬ ﴿كل امتي معافي الا المجاهرون﴾،كلمة معافي‫:‬ أي يعفوا الله عنهم، ومعافي أيضًا تعني أنه لا تصيبه النار بأذى، والعافيه ضد البلاء، ضد المرض، فإذا سألت الله فأسأله العفو، والعافيه؛ فالمعافاه من الشيء‫:‬ النجاه، المعافاه من المرض‫:‬ الصحه، والمعافي يوم القيامه هو الممنوع على النار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ كل امتي معافي الا المجاهرون؛ لأنه إما يعفي عنه باستغفاره، وإما تزيد حسناته عن سيئاته، وإما ترجح السيئات فيؤتى بالشهاده، كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، يا ابن آدم وإن جئتني بتراب الأرض خطايا، لا تشرك بي شيئًا، أتيتك بتراب الأرض مغفره، من هم المجاهرون؟ من هؤلاء الذين لا يعافهم الله؟ لأن الناس في يوم القيامة تنجو بالعمل الصالح، تنجو بالتوحيد، تنجو بحسنة، تنجو بالشفاعه؛ فيعافي بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بشفاعه الأولياء، أو بشفاعه الصالحين، أو بشفاعه الآباء إن كانوا على درجة من الصلاح، أو بشفاعه الجيران؛ فيشفع الجار الصالح في سبعين من جيرانه، واسمع التفسير الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من المجاهره ان يعمل الرجل عملًا بالليل ويصبح وقد ستره الله، فيقول‫:‬ يا فلان عملت البارحه كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه‫.‬ هؤلاء أيضًا معدودون من المجاهرين، الذين قال فيهم‫:‬ ﴿كل امتي معافي الا المجاهرون﴾. يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ كلمة ﴿أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ تعني أن الله تبارك وتعالى آتى لقمان الحكمة لكي يشكر الله فشكره، فكان حكيمًا بشكره، أو ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ أي "أن" مفسرة، أي آتيناه الحكمة، وقلنا له اشكر الله، والشكر أصلًا في اللغه تستخدمها العرب في أمور؛ إذا إمتلأ البئر، وفاض الماء على جوانب البئر، يقول العرب‫:‬ شكرت البئر، وإذا إمتلأ ضرع الناقه باللبن، فتساقط بغير حلْب، يقولون‫:‬ شكرت الناقة، وكأن أصل الكلمة يعني الإمتلاء، ثم الإفاضة بعد إمتلاء، ومن هذا يتبين أن الشكر عمل وليس قول، ولذا يقول الله فيما إمتن به على آل داوود‫:‬ ﴿... اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سورة سبأ آية‫:‬ ١٣] إذا ً فالشكر عمل، بمعنى أن الله إذا أفاض عليك بنعمة فعليك أن تمتليء بهذه النعمة، فيظهر أثر النعمة عليك، فلا تدعى الفقر وقد أغناك الله، ولا تدعى المرض وقد صححك الله، ولا تدعي الجهل وقد علمك الله، إذًا فلتوسع على نفسك، وعلى آل بيتك من مال الله، ثم ليفض هذا المال على المحتاجين، فإن فعلت فقد شكرت، وهكذا علمك الله تبارك وتعالى معرفته، وهداك إليه، فتمتليء بالإيمان، ويظهر أثر الإيمان على جوارحك بالعمل والطاعه، فإن فعلت ذلك فاض ذلك على من حولك من آل بيتك وأصحابك، فعلمتهم ما لا يعلمون، فإن فعلت فقد شكرت، ولذا الشكر على النعم يقيدها، ويزيدها، ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ لأن ذلك عائد عليه؛ إذًا فالشكر على النعمة يؤدي إلى دوام النعمة، وإلى إستحقاق المزيد؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [سورة إبراهيم آية‫:‬ ٧] إذا ً فالشكر على النعمة يؤدي إلى دوامها، ويؤدي أيضًا إلى إستحقاق المزيد من هذه النعم، ولذا حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿قيدوا النعم بعقلهاـ قالوا يا رسول الله، وما عقل النعم؟ قال صلى الله عليه وسلم‫:‬ الشكر، ثم تلى قول الله تعالى ﴿لن شكرتم لازيدنكم﴾، ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ لأن الله غني عن شكر العباد، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ غني عن خلقه، حميد في فعله، أو فإن الله غني عن عبادة العباد، غني عن شكر العباد، غني عن العالمين، فقد كان ولم يكن شيء، فهو غير محتاج لشيء، ﴿حَمِيدٌ﴾ أي مستحق للحمد، حقيق بالحمد، وإن لم يحمد فهناك من الناس من يحمد، فإن حمد صار حميدًا، وإذا ذم صار ذميمًا، وإذا لم يحمد لا يصبح حميدًا ولا ذميمًا، هملًا من الناس، أما الله فهو الحميد، حُمد أو لم يحمد، فهو الحميد من الأزل، أيضًا ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ تعني أن الله هو المحمود؛ فقد حمدته الخلائق بلسان المقال لمن يعقل، ويؤمن، وبلسان الحال لمن لا يعقل، ولمن لايؤمن، حتى أن الكفار يسجد ظلهم لله كرهًا، والمؤمنون يسجد ظلهم لله طوعًا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَإِذْ قَالَ لُقْمَـٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَـٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌۭ ﴿13﴾
‫﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ﴾ أي واذكر إذ قال لقمان لابنه، أو تعود على كلمة ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ...إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ﴾، أو اذكر إذ قال، وإذ‫:‬ ظرف زمان للماضي، وإذا : ظرف زمان للمستقبل، ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...﴾ [سورة إبراهيم آية‫:‬ ٦] ماضي، ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [سورة النصر آية‫:‬ ١] مستقبل، كان إبن لقمان -كما قيل- كان كافرًا، فما زال لقمان يعظه بالموعظه الحسنة، وبالحنان، وبالدعوة حتى أسلم وأناب، ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ ﴿يابُنَيَّ﴾، ﴿يابُنَيِّ﴾، ﴿يابُنيْ﴾ ثلاث قراءات صحيحة، وكلمة (بُنى) تصغير، والتصغير ليس لأنه كان صغير السن، ولكن تصغير إشفاق، كما تقول لأخيك وصاحبك يا أُخَيّ، حنان، تعاطف، إشفاق، ليدل على أن الأب بتربيته لإبنه لابد وأن تتغلف بالحنان، والعطف حتى تؤلف قلب إبنك إليك، وتودده إليك، ليس بالغلظه، وليس بالتعنيف، وإنما بالترقيق والإشفاق، فقال يابُني إشفاقًا، ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ إما هي من قول لقمان إكمالًا لكلامه، وإما هي خبر من الله، تأكيد لمقاله لقمان، وإفهام للناس إن الشرك ظلم عظيم، وبعض القراء يقرأونها‫:‬ ﴿ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ على صغية القَسَمْ، وهي قراءه مرفوضه، ليس عليها غالب العلماء، والقراء‫.‬ الشرك لظلم عظيم‫:‬ ظلم الإنسان لنفسه، وليس ظلم الإنسان لله؛ لأن الله لا يصيبه ضر، لا تنفعه الطاعات، ولا تضره المعاصي، إذًاً فالظلم هنا عائد على المشرك، ظلم نفسه بالشرك؛ لأنه سوّى بين من لا نعمه إلا منه، وبين من لا نعمة منه، سوّى بين مصدر النعم، الذي هو مصدر لكل نعمة، وبين من لا نعمة له أصلًا، لا لنفسه ولا لغيره، من هنا كان الشرك ظلم عظيم، وقيل في سبب نزول الآية، أو قيل تفسيرًا للآية حين نزل قول الله حكاية عن مجادله إبراهيم لقومه، والمحاجّه التي تمت بينه وبين قومه، حين قال لهم‫:‬ ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[سورة الأنعام آية‫:‬ ٨٢] ففزع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الآية، وقالوا يا رسول الله، أينَّا لا يظلم نفسه؟! قال ليس هو كما تظنون، بل هو كما قال لقمان لابنه‫:‬ ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ وذاك يؤيد القول الأول أن كلمة ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ من قول لقمان، وفي تضاعيف وصية لقمان لابنه تأتي آيتان معترضتان‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍۢ وَفِصَـٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ ﴿14﴾ وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌۭ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًۭا ۖ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ۚ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿15﴾
الآيتين معترضتين، ثم تأتي بقيه وصية لقمان ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾ وقالوا إن الآيتين من قول لقمان لابنه أيضًا، وكأن الكلام وصى لقمان ابنه وهو يعظه؛ لا تشرك بالله، ولا تطع والديك في الشرك يا بني وإن جاهداك؛ لأن الله تبارك وتعالى وصّى بذلك، أو بمعنى آخر‫:‬ وصّى لقمان إبنه بألا يشرك وكذلك نحن، والكلام لله، وصينا الناس، ووصينا الناس بوالديهم، وبعدم الطاعه في الشرك، أو ولقد آتينا لقمان الحكمة، وقلنا له انا قد وصينا الإنسان بوالديهم، تلك معان ثلاث تحتملها اللغه في هذا السياق، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ وذكر الوالدين في سياق التوصية للمبالغه، والتفهيم، فالوالدان هما يَلْو الله تبارك وتعالى مباشرة في التعظيم والطاعه، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾﴾[سورة الأسراء آية‫:‬ ٢٣] فالله مستحق للتعظيم والطاعه، التالي له مباشرة في هذا الإستحقاق هما الوالدان، فذكر الوالدين في هذه الآيات للمبالغة في النهي عن الشرك، لأن الوالدان وإن كانا يلو الباري في استحقاق الطاعه والتعظيم، إلا أنهما لايستحقا الطاعه في الكبائر، في المعاصي، في الشرك، رغم منزلتهما التي حددها الله، ثم يأتي إعتراض آخر، أو تخصيص الأم بالذكر، ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ ولم يأت بذكر الأب، وصينا الإنسان بوالديه؛ الأب، والأم، ثم يأتي في التخصيص في ذكر الأم لإعطاء الأم ثلاثة مراتب فوق مرتبة الأب؛ مرتبة الحمْل، ثم مرتبة الوضع، ثم مرتبة الإرضاع، من هنا كان لها ثلاثة مراتب فوق الأب، ولها ثلاث أجزاء من البر، وللأب جزء واحد، وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‫:‬ يا رسول الله، من أبرّ؟ قال‫:‬ أمك، قال‫:‬ ثم من؟ قال‫:‬ امك، قال‫:‬ ثم من؟ قال‫:‬ امك، قال‫:‬ ثم من؟ قال‫:‬ ثم أباك‫.‬ إذا ً فالأم لها ثلاثة مراتب من البر، ولها ثلاث أضعاف ما يمنح للأب من البر، بسبب الحمل، وهذا لا يتحمله الأب، وبسبب الوضع، وهذا لا يعانيه الأب، وبسبب الإرضاع، وهذا لا يمارسه الأب، فيقول جل من قائل‫:‬ ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾، أو ﴿ وَهَنًا عَلَى وَهَنٍ﴾ بالتحريك ليس بالإسكان، قراءتان، وَهَن : يَهِنُ، وَهَنَ يَهَنُ، وَهُنَ يَوْهُنُ، أي ضعف، حملته أمه وهنًا على وهن؛ لأن المرأه بطبيعة خلقتها ضعيفة، فإذا حملت زاد ضعفها بالحمل، وكلما زاد، وازدات مدته كلما إزداد ضعف الأم، أو ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ أي حين تحمل تضعف بالحمل، ويشتد ويزداد ضعفُها حين يزداد مدة الحمل، ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ فصَالُه، وفَصْلُه، قراءتان، وقد أجمع الفقهاء أن مدة الإرضاع عامين كاملين فيما يتعلق بالأحكام، وبالنفقه، لا فيما يتعلق بأحكام الرضاعه، التي تحرم ما يحرم بالنسب في مسائل الزواج، إذًاً فمدة الإرضاع في الأحكام وفي النفقه عامين كاملين، وحين يعبّر ربنا عن المدة عبَّر بنهايتها، فقال تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ ولم يقل وإرضاعه لمدة عامين، والفصال، والفصل هو أن تفصل الشيء عن الشيء فيتميز ويتباعد، ولذا سُمِيَّ الفطيم من النَعَم إذا أبعد عن أمه وفطم‫:‬ فصيل، أي الذي فصل عن أمة وفطم، ﴿اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ أي ووصينا الإنسان أن اشكر، فكلمة "أن" مفسرة للوصية، أي وصيناه بالشكر، وقرن الشكر لله تبارك وتعالى بالشكر للوالدين، وهذا أمر غايه في الأهمية، وننبه أن كثيرًا من الناس تأتي بواو العطف فيما يتعلق بالذات الإلهية؛ فيقول الرجل للرجل‫:‬ أنا معتمد على الله وعليك، هذه الواو العاطفه تفيد معنى الإشراك، لذا نبّهنا العلماء وشيوخنا الأفاضل أن نقول أنا معتمد على الله ثم عليك، أما في هذه الآية فيما يتعلق بشكر الوالدين فقد قرن الله الشكر بواو العطف، أمر غاية في الغرابه وفي الأهمية، حيث لم يقل ثم، في حين أن الترتيب لابد وأن يأتي على التراخي؛ لأن الله خلقنا أولًا، ثم قام الأبوان بالتربيه، فالشكر لله على نعمة الإيمان، والشكر للأبوين على نعمة التربيه، وقد قال قائل، سفيان بين عيينه، من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعى لأبويه إدبار الصلاة فقد شكر والديه، ﴿إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ وكلمة إلىّ المصير ترهيب؛ لأنك إذا علمت أن المصير إلى الله، وأنك إليه راجع، موقوف ين يديه، مسئول عن الصغائر والكبائر، أخذتك الرهبة، وها هو ربنا تبارك وتعالى يبين أن العاصي لهذا الأمر في خطر عظيم، ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ المجاهدة‫:‬ الشدة، والغلظه، والمحاربه، إجبار الآخر بالجهاد، أن تجهد في إقناعة بشيء، أو في إجبارة على شيء، أو في تحويله من شيء إلى شيء، فالمجاهدة هنا تعني العمل الدءوب بكافة الوسائل؛ بالرفق، وباللين، وبالشدة، بالضرب، وبالقتال، وبكل وسيله، ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ﴾ الوالدان، ﴿عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ التعبير غريب؛ هل يمكن أن تشرك ما لك به علم؟ وهل هناك ما يعلم بأنه مستحق للشرك؟ فالتعبير بأن تشرك ما ليس لك به علم‫:‬ أي لم يمنحوك علم، أو دليل، أو برهان على الشرك، بل هما يجاهداك على هذا الشرك تقليدًا للآباء، لا على برهان، أو بدليل، أو بحجة، وإنما المسأله مسألة تقليد، فإن جاهداك على الإشراك تقليدًا؛ لأن الشرك بغير علم لا علم له، ذاك معنى، المعنى الآخر‫:‬ أن الله تبارك وتعالى أراد نفي الشرك، ونفي وجود الشرك أصلًا بنفي العلم به، فنفى العلم بالشيء نفى له، ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ إذًاً طاعة الوالدين واجبه في كل شيء إلا معصية الله؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأكبر المعاصي وأجلّها خطرًا هو الشرك، فإن كان الوالدان لا يُطاعان في الشرك فغيرهما أوْلى بعدم الطاعه في معصية الله، فهي مبالغه في التفهيم لعدم طاعة مخلوق في معصية الخالق، ثم يبين ربنا عدم الطاعة بالأدب، وإلانه القول، وخفض الجناح، وعدم الإساءه، بل والبر، والمصاحبة بالمعروف، واستند الفقهاء بهذة الآية في بعض الأمور، فقالوا‫:‬ طاعة الوالدين لا تجب في ترك الفرائض، طاعة الوالدين لا تجب في الشرك، طاعة الوالدين لا تجب في المعاصي، أو الكبائر، وتجب طاعة الوالدين في جميع الأمور المباحه؛ كالزواج، والطلاق، والأكل، والشرب، واللبس، والدخول، والخروج، والنوم، في جميع الأمور المباحه التي ليست هي من الفرائض، وقالوا أيضًا في الأمور المندوبه طاعتهم بعدم الإتيان بها واجبه؛ فإن كان من المندوب أن تفعل كذا ثم أمراك بعدم الفعل وجبت الطاعة؛ لأن المندوب ليس فريضه، حتى أنهم قالوا أن في بعض الفرائض غير المتعينة كالجهاد، فالجهاد فرض كفاية، يجاهد فريق من الأمة، وفريق يبقى، فإذا تعين الجهاد على كل فرد، وجب الجهاد على الكل، فإن أمرك والداك بعدم الجهاد في حالة وجود الجهاد فرض عين، فلاطاعة لهما، أما إذا كان الجهاد فرض كفاية، وأردت أن تخرج للجهاد فمنعاك، وأمراك بالقعود، وجب عليك القعود، ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ إذا ً فمصاحبة الوالدين الكافرين في الدنيا تجب أن تكون بما يقتضية الكرم، وحسن الخلق، والدعاء لهما بالإسلام، ودعوتهما باللين والرفق للإسلام، وخفض الجناح لهما، والأدب والتأدب في التخاطب معهما، وطاعتهما في كل الأمور المباحه ماعدا الشرك والمعاصي ولو كانا كافرين؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ والمعروف ما عرف حسنه بالعقل والشرع، ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ أي واتبع طريق، من أناب إلي‫:‬ من رجع إليّ، إلى الله تبارك وتعالى بالطاعة، والتوحيد، والإخلاص، والآية أمر لجميع الناس، ولكنها نزلت في أمر مخصوص، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وخصوص السبب الذي من أجله نزلت الآية، سعد بن أبي وقاص، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفاخر به ويقول‫:‬ (هذا خالي فليرني إمرؤ منكم خاله)، سعد دعى له الرسول صلى الله عليه وسلم‫:‬ "اللهم سدد رميتة، واجب دعوته" ، فكان إذا رمى أصاب، وإذا دعى أُجيب، مستجاب الدعوة، كان سعد شابًا من أوائل من أسلم، كان رابع أربعة، وأسلم على يد أبي بكر الصديق، هو ،وطلحه، والزبير، وعثمان، ستة أسلموا على يد أبي بكر منهم سعد بن أبي وقاص، كان سعد بارًا بأمه، مشهورًا في الجاهليه ببره بأمة، حين علمت أمة بإسلامة إمتنعت عن الطعام ثلاثًا، فجاءها سعد وقال‫:‬ "يا أمي، والله لقد علمت الناس أني أبّرهم بأمي، يا أم، والله لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ماتركت ديني هذا"، وتركها وانصرف فنزل قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي يا سعد، أنت مأمور باتباع أبي بكر، فهو الذي أناب إليّ، وهداك للإسلام، وقيل أن المقصود بمن أناب إلي هو محمد صلى الله عليه وسلم، خير من أناب إلى الله، أفضل من رجع إلى الله، ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فأجازيك على إيمانك، وبرّك، ومصاحبتك لها بالمعروف، وأجازيهما على كفرهما، وعلى مجاهدتك على الشرك، وهكذا، وفي الآية حديث يؤيد ما ذهب إليه الفقهاء من وجوب صلة الأبوين الكافرين؛ فالشاب الذي يجد أن أبويه لا يصليان، أو كافرين فيترك البيت، أو لا يطاعهما، ولا يشاركهما، ولا يجالسهما، ويخرج من البيت هائمًا على وجهه، ليس ذلك من شرع، والدليل الآية، وحادثه حدثت في عهد النبي؛ أسماء بنت أبي بكر، أمها قُتَبْلَه بنت عبد العزي، غير أم عائشه، عائشة وأسماء بنات أبي بكر، عائشة أمها أم رمان، قديمة في الإسلام، أسلمت مع أبي بكر، أما أسماء فأمها قتيله بنت عبد العزي وكانت مشركه، فجاءت تزور أسماء في المدينه بعد الهجرة، وأسماء مسلمة، وهاجرت، وتزوجت من الزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت قتيلة تزور أسماء، فخافت أسماء، وجرت وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت يارسول الله‫:‬ جاءتني وهي راغبة، أي راغبة عن الإسلام، مشركة، أفأَصلها يارسول الله؟ قال‫:‬ نعم، صِلِ أمك‫.‬ فأمرها بصلة أمها، ونزل قول الله تعالى‫:‬ ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة الممتحنة آية‫:‬ ٨] عظمة الإسلام، عظمه القرآن، رحمة الله في صلة الرحم، وارتباط وصلة القرابة، وعدم القطيعة، وعدم التدابر، وعدم التباغض، حتى وإن كان الوالدين على غير دينك، ثم يأتي الكلام من لقمان لابنه، ليبين قدرة الله، وليبين أن الله تبارك وتعالى لا تخفى عليه خافيه، وأن الله يحاسب الإنسان على الصغائر والكبائر؛ فمن يعمل مثقال ذرة خيرًاً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره‫.‬ فيقول لقمان الحكيم لابنه‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
يَـٰبُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍۢ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ أَوْ فِى ٱلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌۭ ﴿16﴾
وكلمة ﴿يَا بُنَيَّ﴾ تكررت أكثر من مرة ليبين لنا ربنا أن الموعظة الحسنة باللين في القول، بترقيق القلوب، الفؤاد، بتحنين القلب، بالموّده والمحبة؛ فالحب هو أساس الدعوة، أما التسلط، والتجبر، والاستكبار، فلا يأتي بثمار، ولذا يقول الله تبارك وتعالى لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، خير من جاءت به الدنيا ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ [سورة الغاشية آية‫:‬ ٢٢]، ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾، ﴿مِثْقَالُ﴾ بالنصب، أو بالرفع، ويختلف الإعراب ﴿إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ﴾ ﴿ فَتَكُن﴾ قراءه، ﴿تكِّن﴾ قراءة ،من وَكَن الطائر‫:‬ دخل وكْنَتَه، والكّنّ: الشيء المغطى، فتكِّنُ: أي تُغطى، وتدخل، وتختفي، كما يدخل الطائر في وُكنته في عشة، ﴿فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ الآية فيها أمور لابد من التأمل فيها؛ أولًا‫:‬ حين ذكر الله تبارك وتعالى السماوات والأرض، لم قال في صخرة؟ والصخرة في الأرض، يغني عنها قوله فتكن في السماوات أو في الأرض؟ فإذا كانت الصخرة في السماوات، فقد جاء ذكر السماوات، وإن كانت الصخرة في الأرض، فقد جاء ذكر الأرض؟! قال بعض العلماء‫:‬ كلمة صخرة تفيد التأكيد، وشدة الإخفاء؛ لأن الصخرة صمّاء، فإن كان فيها شيء فذلك أخفى ما يكون، بعكس الأرض إذا حفرت وصلت إلى باطنها، أما الصخرة فهي صمّاء، فهو تأكيد لخفاء الشيء الذي يقدر ربنا أن يأتي به حيث كان، وقال بعضهم‫:‬ الصخرة ليست في السماوات، وليست في الأرض، يعلم الله، بل هي وراء سبع أراضين، عليها ملك قائم، ماهي هذه الصخرة؟ يعلم الله، ونقول قد يكون المقصود بالصخرة الأجرام السماوية، فهي ليست في الأرض، وليست في السماء؛ لأننا لم نصل إلى السماء الدنيا حتى، ولا نعرف أين هي، ولم يصل إليها العلم، لكن العلم وصل إلى القمر فوجده صخر، وصل إلى المريخ فوجده صخر، الكواكب الدرية، والنجوم، والشموس هي صخور ملتهبه، منها ما هو ملتهب، ومنها ما هو بارد كالقمر، لا نار فيه ولا ضوء، بل يستمد ضوءه من الشمس، فربما المقصود بالصخره ما هو بين السماء وما بين الأرض من أجرام، بلايين وبلايين النجوم التي لا يعلم عددها إلا الله، والله أعلم بمراده، الأمر الثاني‫:‬ أن كلمة ﴿إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾ كلمة مثقال حبه‫:‬ أي وزن ما يماثل وزن حبه من خردل، حبة الخردل لا وزن لها، إذا وضعت حبة الخردل في ميزان، مهما كان حساسًا لا يتأثر، فهي مثال للصغر، وعليه فتعبر هذه الكلمة عن الجواهر، أي المواد، وتعبّر أيضًا عن الأعمال التي توزن؛ الفسق، المعصية، الطاعه، الحسنات، السيئات، فإن كان المقصود بكلمة مثقال حبة من خردل الجواهر، يصبح المعنى يا بني إن تك مثقال حبة من خردل مقسومه لك من رزقك فتكن في السموات أو في الأرض يأت الله بها، ويسوقها إليك فتأتيك حيث أنت، فلا تشغل نفسك بالسعي على الرزق، والسعي في الدنيا عن العبادة، وعن الطاعه، وعن أداء الفرائض، فرزقك سوف يأتيك، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود‫:‬ (لا تكثر همك؛ ما قُدر يكن، وما تُرزق يأتيك) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ (لو فر احدكم من الرزق فراره من الاسد، لادركه رزقه حتى يدخل في فيه) ويقول صلى الله عليه وسلم‫:‬ (لو كنت حالفًا على شيء، لحلفت على ثلاث‫:‬ ما نقص مال من صدقه، ولن تموت نفس حتى تستوفي اجلها، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها)، وربنا يأمر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾[سورة طه آية‫:‬ ١٣٢] أي لا تشتغل نفسك بالسعي على الرزق، والجهد فيه، ولا تحمل همّ الرزق، لا نسألك رزقًا‫:‬ أي لا نسألك السعي على رزقك، فنحن نرزقك، وهكذا، إذًا فالمعنى لا يشغلك الجري على الأرزاق عن طاعه الله، وأداء الفرائض والعباده، فما كان مقسومًا لك لابد وأن يأتي به الله، لا بسعيك، ولكن بقدرته، وبما كتبه لك، وإن كانت الكلمة مثقال حبه لا تعني الجواهر وإنما تعني الأعمال، فالكلام في الطاعه، والمعصية، والحسنة، والسيئة، وهي فيها الترغيب والترهيب، يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل‫:‬ أي إن تك الخصله الحسنة أو الخصلة السيئة، أي الطاعه أو المعصية، مثقال حبة من خردل فترتكبها، أو تأتيها في جوف الأرض، أو في جوف صخرة، أو تصعد في أجواء السماء فتأتي بحسنة أو تأتي بسيئة، يأتي بها الله، ويحاسبك عليها، فلا تفوته فائته، ولا يخفى عليه خافيه، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ اللطيف‫:‬ ما يصل علمه إلى دقائق الأشياء، فعلم الله تبارك وتعالى ليس كعلم الناس، بل هو علم أزلي، ولا يزيد، ولا ينقص، ويستوي في علمه دقيق الأمور، وجليل الأمور، كبيرها، وصغيرها، فهو اللطيف الذي يصل بعلمه إلى أدق دقائق، وتفاصيل الأمور، ﴿خَبِيرٌ﴾ يعلم كُنْةْ الأشياء، فالعالم يعلم الأشياء من الظاهر، والخبير يعلم الأشياء من الباطن، إذا أضيفت الخبره إلى العلم يصبح خبيرًا، فالله لطيف خبير، لا تخفي عليه خافيه، ومهما كانت دقه الأمور، أو دقه الأشياء، سبحانه وتعالى يعلمها علمًا كليًا وجزئيًا، علمًا تفصيليًا؛ فما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، هو الله، ويستمر لقمان في وعظ إبنه فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
يَـٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ ﴿17﴾
أمره بأمرين، والفرائض كثيرة؛ كالصلاة، والصيام، حيث كان مفروضًا على كل الأمم، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[سورة البقرة آية‫:‬ ١٨٣] والحج كذلك، والزكاة كذلك، فالفرائض الخمس للإسلام هي فرائض من قبلنا أيضًا، وإن اختلفت الصورة، ولكن لقمان يأمر إبنه بأمرين فقط‫:‬ إقامة الصلاة، بعد التوحيد، وبعد النهي عن الشرك، يأمره بأمرين‫:‬ إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأن هذين الأمرين هما أعظم الطاعات على الإطلاق؛ فمن أقام الصلاة فلابد أن يكمل العبادات الأخرى، فهي تاج العبادات، وهي أساس الصلة بين العبد وربه، ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ أكمل نفسك، ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ ثم أكمل غيرك، وكأن لقمان يبين لإبنه أن الأمور مرتبه، وأن التدرج مطلوب، وأن المسائل لا تؤخذ عنوه، أو عنفًا، أو جهلًا، أو بغير علم، أو بغير ترتيب، أو بغير تدرج، فأنت أولًا من اللازم أن تكون موحدًاً لله، وإذا كنت موحدًاً لله تبارك وتعالى حقيقة التوحيد كنت عبدًا ربانيًا طائعًا لله، ثم بعد ذلك إذا كنت بارًا بوالديك فلابد أن تكون بارًا بجميع الخلائق؛ فمن لا خير فيه لوالديه لا خير فيه لأحد من الناس، لأنه إذا لم يعلم و يقدّر جهد والديه في تربيته، ولم يرد هذا المعروف، فهو مع الناس أكثر جحودًا، وأكثر عقوقًا، إذًاً فالتوحيد أولًا، معرفه الله، ثم بر الوالدين بعد ذلك، ثم إكمال النفس بحسن الصله بالله، ثم إكمال الغير، فإذا لم تكن عارفًا بالتوحيد، ولا متعلمًا، ولا موحدًا حقيقة التوحيد، وإذا كنت عاقًا لوالديك، هاربًا منهما، تاركًا لهما، غير حافظ أو محافظ على الصلوات، غير مقيم لها، فهل أنت أهل للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ لا يمكن، إذًا فهناك ترتيب؛ إكمال النفس البشرية أولًا، أن تكمل نفسك بالطاعات، وبمعرفه الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك تتوالى إكمال غيرك، ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ وإقامة الصلاة، ليس أداء الصلاة، بل أداء الصلاة على الوجه الذي يجب أن تؤدى عليه الصلاة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم‫:‬ (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وحين رأى رجلًا يصلي صلاة سريعه لا يتم فيها السجود أو الركوع، وجاء يسلم عليه، لم يسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال إذهب فصل فإنك لم تصلي، عاد الرجل ورجع، وقيل له نفس المقاله إرجع فصلي فانك لم تصلي مرتان، أو ثلاثه مرات، ثم قال‫:‬ يا رسول الله، علمني فو الذي بعثك بالحق لا اعلم سوى ما رأيت، قال عليه الصلاة والسلام‫:‬ فاذا قمت فاعتدل، واقرأ ما معك من قرآن، فإذا ركعت فاطمئن راكعًا، فإذا استويت فاطمئن قائمًا، فإذا سجدت فاطمئن ساجدًا، فإذا جلست فاطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها‫.‬ ذاك أمر، والأمر الآخر أنه رأى رجلًا بالمسجد يصلي، وهو في صلاته يعبث في لحيته، فأشار إليه وقال‫:‬ لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه‫.‬ فالصلاة ليست حركات، أو رياضه، الصلاة عباده، الصلاة وقوف بين يدي الله، فيها التذلل، فيها الخضوع، فيها الإطمئنان، فيها عدم العجله، كيف تتعجل وأنت بين يدي الله، في رحمته، وفي كنفه؛ لأن العبد إذا أقبل على الله بوجهه أقبل الله عليه، وإذا رفعت، وكبرت، وقلت الحمد لله، قال الله مناجيًا لك حمدني عبدي، ثم يقول في ختام قراءتك‫:‬ ولعبدي ما سأل، فكيف تتعجل‫.‬ ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ وكأن الآية تشير إلى ان الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، قد يصاب ببعض الأذى من أجل ذلك، ولذا دائمًا أبدًاً يصاب الدعاه بأذى الحكام الطغاه، ويصاب الدعاه بحقد الحاقدين، وترويج الإشاعات، ويصاب الدعاه بإساءه سمعتهم، والتأليف عليهم، واتهامهم بغير جريره، وكأن الداعي إلى المعروف، والناهي عن المنكر، قد يؤذي حتى ممن يدعوه بالكلام الرخيص، والكلام السيء، فكأنه يشير إلى أنك إذا أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، فاستعد للصبر على الأذى، أو فلتدع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لمن هو قوي في ذات الله، قادر على الصبر، على الأذى؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من الفرائض العينية -هكذا قال العلماء- قالوا‫:‬ ليس هو من الأمور المفروضه، أو المعزومه، بل هي الندب، وتتوقف على قوة العبد في ذات الله، ومدى إحتماله للأذى، وقال بعض الناس بل قوله لابنه‫:‬ ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ عامه، ليست في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هي نصحيه عامه؛ أنك إذا أصابتك مصيبه من فقر، أو مرض، أو، أو،.. إلى آخره، فعليك بالصبر، وإياك والجزع، وإياك واليأس من رحمة الله؛ فإن الصبر مفتاح الفرج، بالصبر يلين لك الحديد، وبالتقوى تبلغ ما تريد، ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ ذلك إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى، من عزم الأمور ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ مصدر في وضع المفعول، معنى ذلك أن هذه الأوامر؛ الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى، مما عزمه الله، أو من الأمور التي عزمها الله، أي قطعها، وأوجبها، وفرضها على عباده، أو ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ هي في موضع الفاعل، بمعنى إذا عزم الأمر، لأن الله تبارك وتعالى يقول فإذا عزم الأمر بمعنى أن الأمر عزم، أي جد الأمر، واشتد الجد، أو ذلك من خلق أهل العزائم، وأولي العزم من الرسل، كما لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ﴿فاصبر كما صبر اولوا العزم من الرسل﴾ ، ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الاخ المسلم، لا زالت وصية لقمان تترا، وهي وصية من الوصايا التي أجملها القرآن لنا، تعليمًا لنا، وتعريفًا لنا، تنبيهًا لنا لما يجب أن يكون عليه الناصح، سواء كان ناصحًا لإبنه، أو شيخًا ناصحًا لمريده، أو معلمًا ناصحًا لتلميذه، أو ناصحًا ينصح الآخرين، أكمل نفسك، ثم أكمل غيرك، وليكن برك بوالديك تلو طاعة الله مباشرة؛ فهما يستحقان التعظيم والطاعه بعد الباري سبحانه وتعالى، وإياك وعقوق الوالدين؛ فإن عقوبه عقوق الوالدين يعدل الشرك‫.‬‬‬‬‬‬
‫مازلنا في أنوار وصية لقمان لابنه، يقول لقمان لابنه في تضاعيف وصيته‫:‬‬‬‬‬‬
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍۢ فَخُورٍۢ ﴿18﴾ وَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلْأَصْوَٰتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ ﴿19﴾
‫﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ الصَعْر‫:‬ داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، واستخدمت الكلمة بعد ذلك في كل لَوْيٍ للعنق مهما كان سببه، وشاع إستعمالها في الكبر إذا أمال الرجل وجهه، وأعطى صفحة خده للناس تكبرًا وتعاليًا فهو أصعر، وقرأت ﴿وَلَا تُصَعِّرْ﴾ ، ﴿ولا تصاعِرْ﴾ ، ﴿ولا تُصْعِرْ﴾ ، هذا الأمر الذي يأمر به لقمان إبنه ينهاه عن الكبر، وعن الخيلاء، وعن التعالي على الناس، أيضًا قد يُذكر الرجل عندك فتلوى عنقك دون أن تتكلم، فيظهر للمحدث لك أنك تحتقر من جاءت سيرته بين يديك، فمجرد إماله الوجه عند ذكر الرجل عندك ذاك يعني إحتقار ذلك الرجل، وبحسب إمرئٍ من الشر أن يحقرْ أخاه المسلم، ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ مرحًا‫:‬ مصدر في موضع الحال، أي حال كونك مختالًا،ً فخورًا،ً بطرًا،ً والمرح‫:‬ مختال يمشي بخيلاء، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ (من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله اليه يوم القيامه) ويقول صلى الله عليه وسلم‫:‬ (ياتي على الناس زمان ليس فيهم الا اصعر أو ابتر)، ويقول صلى الله عليه وسلم‫:‬ (كل صعار ملعون) ، والصعّار الذي يصعِر هذه الناس بصفه مستمرة، فهو متكبر على الناس، متعالي عليهم بماله، أو جاهه، أو قوته، وهناك الذي يتكبر بلا مناسبه وهذا أشرّ الناس، فليس هناك مايدعوه للكبر، ومع ذلك تجد أن الكبر في أخلاقه، وقد إمتلأ صدره بالكبر، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، بل ويحشر المتكبرون يوم القيامه كهشيم الذر يطؤهم الناس لهوانهم على الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ويبين ربنا عله النهي، علة النهي عن الكبر والخيلاء أن الله لا يحب كل مختال فخور، فخور المختال الذي يتخذ في مشيته، وهذا الخلق قد يكون في الرجل، وقد يكون أيضًا في المرأه، فالتبختر في المشي، وإعجاب المرء بنفسه، أو بزيه، أو بما منحه الله من نعم، ويبدو هذا على مشيته، فذاك هو الفخور المتفاخر المختال، والفخور أيضًا الذي يعدد النعم التي أعطاه الله إياها، ولكنه لا يشكر الله عليها، بل ولا ينسبها إلى الله، بل ينسبها إلى نفسه، فهو يفتخر بنفسه، بعلمه وقد علمه الله، بقوته وقد صححه الله، بماله وقد رزقه الله، بجاهه وقد أعزّه الله، فهو يعدد النعم وينسى أن العاطي والمانع هو الله، ولو شاء الله لسلبه، فمن الناس ممنوح، ومنهم المسلوب، وبعد أن نهاه عن الخلق الرذيل يأمره بالخلق الجميل فيقول‫:‬ ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ كانت العرب في الجاهليه تتفاخر بجهارة الصوت، وكلما كان الرجل ذا صوت جهير كان أعز، وكلما كان صوته خفيضًا كان أزلْ، وكانوا يتفاخرون بجهارة الصوت، وها هو لقمان يبين لابنه ويقول‫:‬ ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ القصد في المشي‫:‬ التوسط بين الإسراع المُخَّل، وبين التماوت، أو المشي ببطء بأسلوب يلفت نظر الناس زيادة في الخيلاء، أو التبختر، أو التماوت، أو التكاسل بغير مرض وبغير عله، والقصد‫:‬ إصابة الهدف، والقصد‫:‬ التوسط بين الإفراط وبين التفريط، والقصد‫:‬ الإعتدال، واقصد في مشيك‫:‬ أي توسط في مشيك بين الإسراع وبين التماوت، وينبهنا سيد الخلائق عليه الصلاة والسلام فيقول‫:‬ (سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن) وما ورد عن مشي النبي صلى الله عليه وسلم ذاك هو القصد، فإذا رأيت في حديث أنه كان يسرع في مشية، أو كأنه ينصب من عل، فذاك هو التوسط، وليس الإسراع المنهي عنه، ذاك في أمور المشي في الطرقات، وقد تعني أيضًا المشي في كل شيء، الإعتدال في كل سعي؛ لأن المشي عُبر عنه في موضع آخر بالسعي على الأزراق، حيث يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾[سورة الملك آية‫:‬ ١٥] إذًا فالمشي قد يكون المشي المعتاد في الطرقات لقضاء الحوائج، وقد يكون المقصود بالمشي السعي عمومًا في أي شيء لأي غاية، إذًا فهو يطلب من إبنه الإعتدال بين الإفراط وبين التفريط، بين العجله وبين التراخي، ﴿وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾ الغض‫:‬ الخفض، أغضض‫:‬ أقصر، وأخفض‫:‬ وقلِّل من جهارة الصوت، غض الصوت من أدب النبوة، وهو أدب أدّب الله تبارك وتعالى به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لهم‫:‬ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾[سورة الحجرات آية‫:‬ ٢] ويمدح ربنا المتأدبين بهذه الآداب في حضرة سيد الخلائق عليه الصلاة والسلام فيقول‫:‬ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [سورة الحجرات آية‫:‬ ٣] بل وبشرهم أن لهم مغفره ولهم أجر عظيم‫.‬ أيها الاخ المسلم، هذه الوصايا والتي أوصى بها لقمان إبنه هي للعالم أجمع، ولولا أنها من الآداب التي أراد الله أن يتأدب بها المؤمن ما ذكرها لنا في كتابه العزيز، ﴿إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ لصوت الحمير‫:‬ اللام هنا لام التأكيد، تأكيد على قبح صوت الحمار، وصوت الحمير من الأصوات العاليه، وحين يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ أي أقبح الأصوات صوت الحمير؛ ليس من أجل إرتفاعة فقط، بل لأن صوت الحمير المرتفع له سبب بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‫:‬ ﴿اذا سمعت نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فانها رأت شيطانًا﴾ بل وقال أحد الحكماء من التابعين‫:‬ صياح كل شيء تسبيح إلا صياح الحمير؛ لأن الله تبارك وتعالى ضرب به المثل في القبح، ولو كان تسبيحًا ما ضرب الله به مثَلًاً في القبح، والمنكر ما ينكره الشرع والعقل، وكل قبيح يستقبحه العاقل وتستقبحه النفوس الزكيه، أيضًا وكأن الآية تشير إذا كان هناك شيء يهاب ويخشى لجهارة صوته لكان الحمار أحق أن يُخشى ويُخاف، الآية أدب من الله تبارك وتعالى للناس، وتبين قبح رفع الصوت في وجوه الخلائق في المخاطبه، أو في الملاحاه، أو حتى في المخاصمه، إذًا فرفع الصوت ممنوع، ومن خلق الإسلام خفض الصوت للكبار إحترامًا وللصغار تواضعًا، إذًا فرفع الصوت في كل الأحوال غير مطلوب إلا في حاله خاصه وهي رفع الصوت بالعلم للإسماع، وقد أفرد البخاري رضي الله عنه حديثًا وبابًا لهذا، من رفع صوته بالعلم، حيث نادى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من بعيد كي يسمعهم حين رآهم يتوضأون ولا يسبغون الوضوء في أقدامهم حيث قال‫:‬ ويل للاعقاب من النار، فرفع الصوت بالعلم للإسماع جائز، ثم تنتقل الآيات بعد ذلك لخطاب المشركين، بل هي لخطاب كل الناس، من يعقل، من يصلح للخطاب، يقول الله تبارك وتعالى في صيغة السؤال‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَلَمْ تَرَوْا۟ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُۥ ظَـٰهِرَةًۭ وَبَاطِنَةًۭ ۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَلَا هُدًۭى وَلَا كِتَـٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ ﴿20﴾
إذا رأيتم ذلك فاعلموا أن الله هو المانح، وهو الخالق، وهو العاطي، وهو المستحق للعباده دون إشراك، ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ التسخير‫:‬ التطويع، طوّع لكم ما في السماوات وما في الأرض، وهذه الآية لو كتبت فيها مجلدات ما كفت، وانظر إلى ما حولك، من كل ما تراه؛ من إنتفاع، ومن حضارة، ومن مدنيه، من طائرات، من وسائل مواصلات، ومن تسخير الجو، الجاذبيه، الكهرباء، المغناطيسيه، وكل ما اخترع من علوم الكيمياء، وعلوم الطبيعة، وما إلى ذلك، طوعت للإنسان، حتى القوى المدمرة المهلكه كانفجارات الذرة والهيدروجين، وما إلى ذلك، طوعت للإنسان وسُخِر له، ﴿مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ منها ما نعلمه، ومنها ما لا نعلمه، ما في السماوات يدخل فيها الشمس، وأنتم تعلمون ما في الشمس من منافع، يدخل فيها القمر، يدخل فيها النجوم، يدخل فيها الملائكه الحفظهالتي تحفظ الإنسان، ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ...﴾[سورة الرعد آية‫:‬ ١١] أي بأمر الله، فكل ما في السماوات سخره الله تبارك وتعالى لبني الإنسان، كذلك <وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يدخل فيها الجبال، والشجر، والثمار، والأنهار، وما ينتفع به الإنسان بواسطة وبغير واسطه؛ فهناك ما ينتفع به بغير واسطة كالمطر، وكالشجر، والثمار التي ينبتها الله، والجبال، والدروب، والمسالك، وتمهيد الأرض، وما إلى ذلك، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ ﴿وَأَسْبَغَ﴾ وقُرأت ﴿وأصبغ﴾، والسين في بعض الكلمات إذا أعقبها حروف الإستعلاء في القراءة قد تقلب إلى الصاد مثل بسطه، وبصطه، أسبغ‫:‬ أتم، الثوب السابغ‫:‬ أي الكامل الذي يغطي جميع البدن، والدرع السابقه‫:‬ أي التي تحمي صاحبها من رمي السهام، أسبغ‫:‬ أكمل وأتم عليك نعمه، وقرأت نِعْمة بالإفراد، والإفراد يعني أيضًا التكثير؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ ...وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا‫.‬..﴾[سورة إبراهيم آية‫:‬ ٣٤] وهي ليست نعمة واحده، وإنما قد تطلق على النِعَمْ العديده الكثيره، فقُرأت ﴿نِعْمه﴾، وقرأت ﴿نِعَمَهُ﴾، الظاهره‫:‬ المحسوسه، الباطنة‫:‬ المعقوله، الظاهره‫:‬ ما يُرى بالأبصار من مال، وصحه، وحسن خلق، وجمال، الباطنه‫:‬ ما لا يُرى بالأبصار، الظاهره‫:‬ ما نعرفه، الباطنه‫:‬ ما لانعرفه، الظاهره‫:‬ حسن الخلق، الإسلام، الباطنه‫:‬ معرفه الله، واليقين، والإيمان في القلب، النعم الظاهره‫:‬ نعم الدنيا، النعم الباطنه‫:‬ نعم العُقبى، النعم الظاهره‫:‬ الصحة، توفير ما تطلبه لمعاشك، الظاهره‫:‬ الزرع، والإنبات، والماء، والمطر، والبيوت، والظلال، الباطنه‫:‬ ما يدفعه الله عنك من الأخطار، ما لا تدريه، وما لا تعرفه، الباطنه‫:‬ ما يستره الله عليك من سيء الأعمال، فكم من عمل سيء يرتكبه المرء في الليل، أو في غفله من الناس، أو في خلوة، ويخرج إلى الناس ولا يعلم أحد ما ارتكبه ذلك الشخص، وهناك من الناس في عصور سابقه، وفي أمم سابقه، كانوا إذا إرتكبوا المعاصي ليلًا ظهرت على وجوههم نهارًا، فسترنا الله، بل حتى نجاسه الأثواب في ديننا السمح الحنيف بالغسل تزول، أما نجاسه الأثواب في بني إسرائيل فكان لابد من قطعها، وقرضها، وإفساد الثوب، نعم ظاهره وباطنة، مهما عددت وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، فكم من بليه تصرف عنك وأنت لاتدري، وكم من مرض يصرف عنك وأنت لا تدري، وكم من سيئة إرتكبتها ويسترك الله وتخرج إلى الناس ولا يرى أثر السيئه عليك، أو على وجهك، أو على أعضائك وجوارحك، بل حتى الأعضاء التي أعطاك الله كي تستخدمها في طاعه الله، وفيما ينفع دنيا أو أخرى، حين نستخدمها في معصية الله، في محاربه الله، لا يأمرها الله بعصيانك، بل يأمرها بطاعتك رغم أنك عصيته، الحليم، الستار، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى رغم كل ذلك‫:‬ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ يجادل في الله؛ الجدال‫:‬ أي المخاصمه، وفي الأصل الجدْل‫:‬ هو تضفير الحبل، ولف الأطراف بعضها على بعض، وكأن الجدل تعقيد، فالجدال مخاصمه لايقصد منها الوصول إلى الحق، بل يقصد منها مجرد الإنتصار في الرأي، ورغم ذلك ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ﴾ أي في وجوده، أو في ذاته، أو في صفاته، أو في وحدانيته سبحانه وتعالى، فمن الناس -رغم كل هذه النعم الظاهره والباطنه، تسخيرها ما في السموات وما في الأرض- رغم كل ذلك هناك أناس يخاصمون في الله في ذاته، وصفاته، وتوحيده، ويجادلون ﴿فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ العلم؛ لبيان معنى كلمة العلم‫:‬ أي حكم، كأن تقول أشرقت الشمس؛ حكم حكمته أنت بشروق الشمس، أي حكم صادف الواقع، وفعلًا قد أشرقت الشمس، فإذا إستطعت أن تقيم الدليل على شروق الشمس؛ بأن تأخذ الرجل وتريه الشمس مشرقه، فأقمت الدليل على إشراق الشمس بضيائها، فذاك يطلق عليه عِلْم، فالعلم هو الحكم بأمر إتفق وصادف الواقع فعلًا وأقيم عليه الدليل، فإذا كان الحكم مصادفًا للواقع ولكنه لا يقام عليه الدليل فهو التقليد، فإذا لم يوافق الواقع فهو الوهم، من هنا يقول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ أي بغير برهان، بغير دليل، يحكم على الله بأشياء، أو يمنع عنه صفات، أو يشرك معه غيره بغير دليل، وبغير برهان، جاء بالحكم من عنده، بلا مصادفه الواقع، بلا مصادفه للحق، وبلا إقامه دليل عليه، فهؤلاء يجادلون في الله بغير علم، بغير برهان، ﴿وَلَا هُدًى﴾ الهدي‫:‬ الدلاله، الهدي هنا هو دلاله الرسل على وجود الله، أي بغير علم، ولادليل قائم لديهم، وبغير هدي من رسول، أي دليل من رسول يعرفنا بالله، لأننا عرفنا الله عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ أي البين، النيِّر، الواضح الذي أنزله الله، إذا ً فهؤلاء يجادلون في الله بغير دليل، أو برهان يقوم على ما حكم به من علم، أو من عقل، أو من حجه، وكذلك بغير هدليه من رسل، وبغير كتب منزله، فكيف يجادلون في الله بغير علم، أو هداية الرسل، أو الكتب المنزّله، يحتاج الأمر إلى تعليل، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ۚ أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ ﴿21﴾
طالما ليس لديهم علم، وليس لديهم هداية الرسل، وليس لديهم الكتب المنزله، ها هو كتاب قد أنزله الله على رسوله، فها أنتم ترون الكتاب بين أيديكم فهلُّمَّ إلى هذا الكتاب، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ في شأن توحيده، وذاته، وصفاته، وأمره، ونهية، وحكمه، ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾ إذًا الأمر أمر تقليد أعمى للآباء حتى ولو كان الآباء لا يعقلون شيئًا ولا يعلمون، حتى ولو كان الآباء لا دليل لديهم، ولا برهان، ولا علم، ولا كتاب، ولا هدي، والآية دليل على منع التقليد في الأصول، وإنما الأصول تؤخذ من قول الله، ومن قول رسول الله، فالتقليد ممنوع في الأصول، ومن هنا يقول الله تبارك وتعالى متسائلًا ومعجبًا لكل نبي يعقل ويسمع‫:‬ ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ يقلدوا آباءهم حتى لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؛ لأن الشيطان يدعو إلى الكفر، وإلى الإشراك، والكفر والإشراك يؤدي إلى عذاب جهنم، وسميت جهنم بالسعير لشدة غليان نيرانها، فهي مُسَعَّرة لا تطفأ، ولا يخبو لها أنوار بصفه مستمره، كلما خبت زدناهم سعيرًا وحين يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ الصيغة إستفهام، تعجب، وجواب "لو" "لأن"؛ لو لابد وأن يكون لها جواب، فالجواب محذوف تقديره (لو كان الشيطان يدعوهم لعذاب السعير لاتبعوه أيضًا جهلًاً وعمايه)؛ فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، أيها الاخ المسلم، المتمسك بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه النجاه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿تركت فيكم ما إن تمسكتم به؛ لن تضلوا بعدي أبدًا‫:‬ كتاب الله، وسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ﴾ وبضدها تتميز الأشياء؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌۭ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ ﴿22﴾
‫﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ ، وقرأت ﴿ومن يُسَلِّمُ﴾ الفرق بين الإسلام والتسليم، التسليم‫:‬ من سلَّم الشيء، أو دفع إليه الشيء، وسلَّمت إليه السلعه أي دفعتها إليه فأخذها منك كامله غير منقوصه، ﴿ وَمَن يُسْلِمْ﴾ الآية تفيد معنى التوكل، والتفويض لله، والإسلام بالكليه للقادر، المهيمن، الذي تجري بيده مقادير الأمور، ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ الوجه أشرف ما في الإنسان، والتعبير بالوجه يُقصد به التعبير عن الذات كلها، ظاهرها وباطنها، والتعبير بالجزء عن الكل من كلام العرب، وورد كثيرًا في القرآن؛ كالتعبير عن الصلاة، وحركات الصلاة بالركوع؛ فتقول‫:‬ ركعه، ركعتان، وها هنا ربنا تبارك وتعالى حين يقول‫:‬ ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ﴾ أي من يسلم ذاته، ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾، وكلمة ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ هنا لبيان الإخلاص في التسليم، إذًا فالذي يعبد الله طائعًا مختارًا، ويسلّم أمره إلى الله راضيًا بقضائه، وقدره خيره، وشره، حلوه، ومره، مؤمنًا بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطاه لم يكن ليصيبه أبدًا،ً فلو كان الإنسان مؤمنًا حقًا بذلك لعلم أن الأمور تجري بالمقادير، ولاستوعب نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول‫:‬ ﴿أطلبوا الحوائج بعزة الأنفس؛ فإن الأمور تجري بالمقادير﴾ ولاستوعب قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ ..وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ... ﴾[سورة المنافقون آية‫:‬ ٨] هذا التسليم، وهذا التفويض في الأمور لله يفتح لك أبواب الرزق، ويفتح لك أبواب الستر، وأبواب الرحمة، ثم يفتح لك أبواب الجنة، وهذا الإسلام هو الذي أمر الله تبارك وتعالى به إبراهيم الخليل ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[سورة البقرة آية‫:‬ ١٣١] بل هي الوصية التي أوصى بها إبراهيم بنيه و يعقوب كذلك ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[سورة البقرة آية‫:‬ ١٣٢]، ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ إذًا فهناك شرط، وهو الإحسان، كقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾[سورة الأنبياء آية‫:‬ ٩٤] فهناك شرط؛ فالعمل الصالح بغير إيمان لا جدوى وراءه، وإسلام الذات لله، أو التسليم لله، قد يكون عن عجز، فأنت عاجز لا تقوى على شيء، ولا تقدر على شيء، فتدّعي أنك تفوّض أمرك إلى الله، أما الإسلام الحقيقي لله، والتسليم، والتفويض الكامل لله، فهو مشروط بالإحسان، والإحسان‫:‬ الإتقان؛ لأن العباده بغير معرفه بالله، وبغير يقين في القلب لا تنفع، إذًا فالتفويض، والعباده، والطاعه، لابد أن يكون فيها الإحسان، الذي هو الإتقان، وربنا ينبهنا إلى ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول‫:‬ ﴿إن الله كتب الاحسان على كل شيء، فمن قتل فليحسن القتله، ومن ذبح فليحسن الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته﴾، وكلمة الإحسان في هذا الحديث تعني الإتقان، والإتمام، والإكمال، والإتيان بالشيء على وجهه كما ينبغي وكما يرضى الله، المحسن‫:‬ المتقن لعمله غير مسيء، يأتي بالأعمال الطيبة الصالحه، ولا يأتي بالسيئه، يسلم وجهه لله على الحقيقه، فإن أطاع الله أطاعه الطاعه الواجبه الكامله، إن أدّى الصلاة أقامها، وعدّل أركانها، وأتى بها كما كان يأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا، فالإسلام والتفويض لله تبارك وتعالى مشروط بالإحسان، والإحسان مشروح في حديث جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال له‫:‬ ما الاحسان؟ فقال الاحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فإنه يراك، فالإسلام‫:‬ التفويض بالكليه، قلبك مع الله، فأنت تسلم وجهك إلى الله ظاهرًا وباطنًا، تسلم النفس، وتسلم القلب، فإن فعلت فقد إستمسك بالعروة الوثقى، ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ العروة‫:‬ اليد للإناء، العروة‫:‬ الدائرة في الحبل في آخره، التي يتعلق بها الشيء، عروة كل شيء هي الفتحه الصغيره الموجوده في الشيء لكي يعلق منه الشيء، أو يتعلق به الشيء، أو يقبض عليه منه، الوثقى‫:‬ تأنيث الأوثق، والأوثق‫:‬ أي الأمتن، الذي لا إنفصام له، ولا فكاك له، والتشبيه كأن رجلًا أراد أن يصعد جبلًا شاهقًا، فدلى الحبل، وتمسك بأوثق عرى هذا الحبل وصعد، فإن فعل ذلك لايقع ولا يصيبه ضر؛ فالإنسان الذي يسلم أموره، ويفوّض أمره إلى الله وهو محسن، كأنما قد تمسك بعروة وثقى، شديده الإحكام، لا يمكن أن تنفصم هذه العروة، ولا يمكن أن يفلت هو منها، إذًا فهو متمسك بحبل الله المتين، وقيل في العروة الوثقى هي كلمة (لا إله إلا الله) التي منّ الله علينا بها، ونسأله أن نحي عليها، ونموت عليها، ونُبعث عليها بفضله وكرمه، ﴿وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ عاقبة الأمور‫:‬ مايؤول إليه الأمر، عاقبه كل شيء‫:‬ نهايه كل شيء، وإلى الله كل شيء راجع، إلى الله المصير، الأشياء، والأقوال، والأفعال، ﴿... إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ...﴾[سورة فاطر آية‫:‬ ١٠] إذًا إلى الله عاقبه الأمور تأكيد أنه لا تخفى عليه خافيه، ولا تفوته فائته، ومهما كانت الأعمال صغيرة أو كبيره، ومهما كانت الأقوال، ومهما كان الخفاء، فإلى الله تصير الأمور، وإلى الله ترجع الأمور، كل شيء راجع إلى الله؛ فيجازي المحسن بإحسانه، ويجازي المسيء بإساءته‫.‬ أيها الاخ المسلم، تذكرنا هذه الآية بآية أخرى يقول الله فيها ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾[سورة هود آية‫:‬ ١٢٣] وحين نسمع ذلك نعلم أن الإنسان ليس بيده تصريف الأمور، وإنما التدبير للمدبِّر المهيمن، والتصريف لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، فإذا سمعت هذه الآية ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ تساءلت إن كان الأمر كذلك فما العمل؟ وما الواجب علي ّ أنا المخلوق؟ ماذا أفعل؟ إسمع ربنا تبارك وتعالى يقول بعد ذلك‫:‬ ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ إذًا المطلوب من الإنسان أمران لا ثالث لهما‫:‬ العباده، والتوكل، فيهما النجاة؛ أن تعبد الله كما أمرك وكأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتتوكل على الله فهو المصرِّف، والمدبِّر، والمهيمن، فسلم تسلم، بين الله تبارك وتعالى أن من أسلم وجهه إليه وهو محسن فقد إستمسك بالعروى الوثقى لا إنفصام لها، وبين سبحانه وتعالى أن إليه عاقبه الأمور، بعد ذلك تبين لنا الآيات من سورة لقمان بأن الأشياء تتميز بأضدادها، فيقول الله تبارك وتعالى، مسليًا نبيه، ومسريًا عنه‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُۥٓ ۚ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴿23﴾ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًۭا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍۢ ﴿24﴾
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحزنه كثيرًا أن يرى قومه يتهافتون إلى النار، يكفرون بالحق وقد تبين كمن ينكر ضوء الشمس، وقد أشرقت على الجميع؛ قومه، أهله، عشيرته، من بعث فيهم من يعرفون صدقه ونسبه، هؤلاء الأعمام، أولاد العم، أولاد العشيرة، أولاد القبيله، فكان كثيرًا ما تحدثه نفسه، ويحزن، ويتمنى على الله أن يهديهم للإيمان، أو أن يرزقه بمعجزات تلجئهم لهذا الإيمان، فيقول الله تبارك وتعالى له‫:‬ ﴿وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ﴾ ﴿فَلَا يُحْزِنكَ﴾ قراءة، أي أنك إذا رأيت الناس قد كفروا، فلا تحزن؛ لأن الله تبارك وتعالى بيده مقاليد الأمور، والله أعلم بعباده؛ يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وقد ترى الأمور في ظاهرها خيرًا وتحمل في باطنها الشرور، ﴿ ...وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢١٦] وأنك قد ترى الإنسان، وتظن فيه الخير، والله لم يقدر له الخير لأنه ليس من أهل الخير؛ فالعليم بذوات الصدور هو الله، فكم من الناس تعجبك أقوالهم، وتعجبك أجسامهم، ولكن القلوب انطوت على الكفر، والجحود، والنكران، ومهما تقاطر من لسانه العسل، تجد أن القلب قد إنطوى على المر، والكراهيه، والحقد، وقد تبين لك الأيام ذلك وتتعجب، لذا يقول الله تبارك وتعالى لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾ نحن أعلم بهم، نحن نحاسبه، الله هو الحكم العدل، وما ربك بظلام للعبيد، إلينا مرجعهم فنجازيهم على كفرهم وأعمالهم، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ هو أعلم، وهو أدرى، والله يحاسب المرء على نيته، وعلى ما إنطوى عليه قلبه، أما نحن فلنا ظواهر الأشياء، ولا نعلم إلا ظواهر الأمور، أما الله تبارك وتعالى فهو عليم بذات الصدور، ثم يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا﴾ أي تمتعًا قليلًا؛ لأن متاع الدنيا مهما كان متاع قليل، أو نمتعهم قليلًا أي زمانًا قليلًا، وهو مدة بقائهم في الدنيا، والزائل مهما كان لا يقارن بالدائم، فنعيم الدنيا مهما عظم لابد وأن يزول، ونعيم الآخره لا يزول، فمقارنة الزائل بالدائم تبين أن الله يمتعهم قليلًا، ﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ أي نلجئهم إلى عذاب شديد، غليظ‫:‬ أي ثقيل ثقل الأجرام والأجسام الغليظة على من يحملها، أي عذاب لا يطيقونه، ولا يتحملونه، ولا يتخيلونه، ولا يتخيلون شدته، ثم يبين ربنا أن هؤلاء الناس كفروا بغير دليل، وتركوا الإيمان عنادًا وكفرًا وجحودًا، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿25﴾ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ ﴿26﴾
أي لئن سألتهم من خلق السماوات والأرض، هذه السماوات التي ترونها قد رُفعت بغير عمد، وهذه الأرض التي بُسطت للعباد، وفيها الجبال، وفيها الفجاج، وفيها الوديان، من خلق كل ذلك؟ ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ هل هو إعتراف بالله وإيمان، أم هو إنقطاع لحجتهم؟ ليقولون الله، لثبوت الدليل القطعي عن عدم قدرة سواه على هذا الخلق، إذًا فهم يقرون أن الله تبارك وتعالى هو الخالق لزوال وانعدام أي دليل على وجود خالق غير الله، فهم يقرون بهذا إضطرارًا،ً لزمتهم الحجه لوضوح الدليل الساطع، والبرهان القاطع على أن الخالق هو الله، لذا يقول سبحانه وتعالى‫:‬ ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي هدانا وما أضلنا كما أضلهم، الحمدلله الذي ألزمهم الحجه، الحمدلله الذي قطع حجتهم، وقطع أعذارهم، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يعلمون أن الحجة قد لزمتهم، فطالما قد أقررتم واعترفتم أن الخالق هو الله، إذًا لم تعبدون غيره؟ إذًا لم لا تؤمنون به؟ لم لا تفوضون الأمور إليه؟ بل أكثرهم لا يعلمون، ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ تقرير من الله أنه وإن كان هو الخالق إلا إنه لم يدع ماخلقه هملًا،ً أو ملكًا لغيره، بل حين خلق ملك ما خلق، ودبّر أمور الخلائق، فله ما في السماوات والأرض خلقًا، وملكًا، وتقديرًا، وتصريفًا، لأن الصانع قد يصنع الصنعه ثم يبيعها لغيره، وقد يصنع الصانع الصنعة ويغتصبها منه غيره، وقد يصنع الصانع الصنعه وتخرج عن إرادته، أو لا يسيطر عليها، أما الله سبحانه وتعالى فحين خلق ملك ما خلق، فهو خالق، مالك، مدبر، مصرف، مهيمن، ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي وما في الأرض أيضًا بلا شريك؛ لأنه الخالق والمدبر بلا شريك، لذا يقول في ختام الآية ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ الغني عن خلقه وعن عباده، الغني عن كل ما سواه، الحميد‫:‬ أي المحمود ولو لم يُحمد، حُمد أو لم يُحمد، حمد نفسه بنفسه من الأزل، الغني‫:‬ كلمة "غنى" يوصف بها الناس في حاله ما إذا تملكوا بعض الأشياء فلم يحتاجوا، فعدم الإحتياج للمال يسمى غنى، وعدم الإحتياج للأصدقاء، أو الأصحاب، أو الأعوان يسمى إستغناء أيضًا وغنى، فالغني في حقيقتة هو الإستغناء عن الشيء؛ فإذا كان لديك المال أصبحت غنيًاً بمالك؛ لأنك إستغنيت بمالك عن مال سواك، وإذا كنت قويًا ذا حجة، وقوة أصبحت غنيًا بقوتك عن نصر سواك، وهكذا، مهما كان العبد غنيًا فلابد أن يحتاج إلى غيره في بعض الأشياء، فهو غني في أشياء فقير في أشياء أخرى، فقد تكون غنيًا في المال، غنيًا في كل شيء، ولكنك فقير إلى الطبيب إذا أصابك المرض، فقير إلى الصانع، وإلى العامل إذا أردت صنع شيء، فقير إلى غيرك إذا أحاطت بك الأعداء كي ينصرك، وهكذا، أما الله تبارك وتعالى فهو المستغني بذاته عما سواه؛ فقد كان ولم يكن شيء، فهو الغني، الحق، الذي لا يحتاج إلى سواه، ولا يحتاج إلى شيء، ولا يحتاج إلى ماده للخلق، أو أداه، أو جارحه، أو معاون، أو معين، لا يحتاج إلى الزمان والمكان؛ فقد كان قبل الزمان والمكان، وهو الآن على ما عليه كان، الله ولم يكن معه شيء، فالله هو الغني، الحميد، المحمود على فعله وصنعه، المستحق والمستوجب للحمد، حمده الناس، أو لم يحمده، ولذا تكفل الله بحمد نفسه من الأزل فقال‫:‬ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ونحن نقرأها، ونحفظها، ونرددها، والقائل هو الله، ولا يعرف حقيقة الحمد المستوجب له الله إلا الله، ولذا رحمنا الله، وتكفل بحمد نفسه، ولذا صدق القائل‫:‬ الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، هو العالم بكيفيه الحمد التي تجب لذاته، إن الله هو الغني الحميد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَوْ أَنَّمَا فِى ٱلْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـٰمٌۭ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ سَبْعَةُ أَبْحُرٍۢ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌۭ ﴿27﴾
الآية جواب لسؤال؛ فسبب نزول الآية أنه حين نزل قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[سورة الإسراء آية‫:‬ ٨٥] كان الخطاب أساسًا لليهود، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تقول ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ وقد أوتينا التوراة، وفيها تبيان وبيان لكل شيء، وهي كلام الله، وعندك في قرآنك أن الله كتب في التوراة لموسى من كل شيء، فنزلت الآية تبين أن معلومات الله، ومقدورات الله، لا تحصى ولا تعد، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ﴾ شجرة جنس شجرة، كل ما يطلق عليه لفظ شجرة في الأرض تحول إلى أقلام، وانظر الشجرة تصنع كم قلم، فلو أنما في الأرض من شجرة، كل الشجر في الأرض أقلام، ﴿وَالْبَحْرُ﴾: المحيط الواسع، الذي لا ترى نهايته، ﴿ يَمُدُّهُ﴾، ﴿ يَمِدُّو﴾، ﴿ يَمُدُهُ﴾ قراءات، ﴿مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ والعدد غير مراد؛ لأنه لو أراد العدد لكان يكفي أقلام أكثر من عدد الشجر، وبحور أكثر من سبعة، ولكن المراد ما تبلغه العقول من النهاية، فهو تمثيل بمقدار عقولنا التي إعتادت على نهاية الأشياء، ومنتهى الأشياء، ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ أي وأن البحر مداده يمده من بعده سبعة أبحر، ﴿مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ والغريب في التعبير أنه قال كلمات ولم يقل كلام، كلمات جمع قلة، كلام جمع كثرة، فجاء بجمع القله للإشعار أنه إذا لم يكفي كل ذلك للقليل فما بالك بالكثير؟ لذا قال كلمات ولم يقل كلام، ﴿مَّا نَفِدَتْ﴾: ما فرغت، ﴿كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ قد تطلق على المقدورات التي في قدرته، والتي أوجدها، والتي سوف يوجدها إلى ما شاء الله، فالله هو الأول بلا بدايه، وهو الآخر بلا نهايه، ومقدورات الله لا نهايه لها، عبر عن المقدورات بالكلمات؛ لأن كل موجود وجد، أو سوف يوجد، وجد بكلمة، إذا أراد شيئًا قال كن فيكون، فالمقدورات وجدت بالكلمات، أو المقصود بالكلمات المعلومات، علم الله تبارك وتعالى، لو أنك نظرت إلى ما في الأرض من نبات فقط، وبدأت ترى الحبة، وصفات الحبه وما فيها، وكيف نبتت، ومتى نبتت، وفي كل لحظه، وثانيه، وساعه، يتحول التركيب، والحجم، والوجود، وتنبت، وتخرج، وتصبح شجرة؛ كل فرع، كل ورقه فيها الذرات، وفيها الغناء، وفيها النجول، وفيها الإمتصاص من الجو سواء بالغازات كامتصاص الأكسجين، أو ثاني أكسيد الكربون، وكذلك إمتصاص الماء من الجذور وما فيها، تتحول، تخضر، تصفر، وتجف، وتسقط، وهكذا كل شجرة، وكل نبات، وكل حبه، تخيل عدد المعلومات التي علمها الله منذ الأزل في النبات، ثم في الحشرات، ثم في الكائنات، ثم في حبات الرمال، والحصى، وذرات المياة والمحيطات، وهكذا، كل هذه الموجودات، والتي لا يمكن أن يحصرها عقل، ليست هي كل شيء، بل السماوات؛ في كل سماء أوحى الله فيها أمرها، وقبل السماوات والأرض وبعد ذلك، وهكذا، فمعلومات الله لا عد لها، ولا حصر، ولا يمكن أن يحصيها كتاب، أو يكفيها مداد، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ العزيز‫:‬ القوي، الغالب، القاهر، العزيز‫:‬ الذي لا يوجد له مثيل، العزيز‫:‬ الشيء النادر الذي لا تجده بسهوله، العزيز يحمل معاني القوة، والغلبه، والقهر، والعلو، العزيز‫:‬ الذي لا يدرك، والله لا تدركة العقول والأفكار، كل ما خطر في بالك فالله تبارك وتعالى خلاف ذلك، الحكيم‫:‬ لا تخرج أفعاله، وأموره، وأقواله عن حكمه، فلحكمة فعل، ولحكمة لم يفعل، فقد قدّر الأمور من الأزل، الله تبارك وتعالى هو الحكيم وإن خفيت عن حكمته العقول‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍۢ وَٰحِدَةٍ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌۢ بَصِيرٌ ﴿28﴾
أيضًا هذه الآية إجابه؛ فقد ذهب بعض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا إنك تدّعي يا محمد إننا خلقنا أطوارًا ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾[سورة نوح آية‫:‬ ١٤] نطفة، علقه، مضغه، عظامًا، كسونا العظام لحمًا، وهكذا، وخلقنا أفرادًا، كيف تتدعي أننا حين نبعث نخرج فجأه، ومره واحده، بنفخة واحده؟! فيرد الله سبحانه وتعالى عليهم ويقول‫:‬ ما خلقكم ولا بعثكم يوم القيامة إلا كخلق نفس واحده؛ لأن الله تبارك وتعالى إذا أراد شيئًا -كبر أو قل، كثر أو قل- إنما يقول كن فيكون، فخلق الناس جميعًا كخلق إنسان واحد، وخلق نحلة كإيجاد كافه الأكوان؛ لأن الله إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ ربنا أثبت لنفسه صفه السمع، واثبت لنفسه صفه البصر، الله تبارك وتعالى يسمع بغير أصمخه، وأذان؛ لأن لو كانت له أذان لاحتاج إليها كي يسمع، وهو غير محتاج لأداه، ويرى بغير حدقه، وأجفان، لا يحتاج إلى هواء لانتقال الأصوات، ولا يشغله مسموع عن مسموع، فهو يسمع كل شيء في وقت واحد، ولا يشغله شأن عن شأن، فإذا أبصر أبصر الخلق، وإذا سمع سمع الكل، وطالما لا يشغل ببصره لشيء عن إبصار لشيء آخر، وكذا لا يشغل بسماعه لشيء آخر، فكذلك لا يشغل بخلق شيء عن خلق شيء آخر، كما يسمع كل المسموعات في وقت واحد، لا تختلف عليه الأصوات، وكما يبصر كل شيء، لا تحجب رؤيته الظلمات، فكذلك يخلق ما يشاء مع تعدد المخلوقات، وتعدد الأماكن، والأزمنه في واقت واحد، بكلمة واحده، ليس كمثله شيء، ثم يسوق الله تبارك وتعالى الحجج والدلائل على شمول قدرته، وعلى سعة علمه، وعلى بديع صنعه، وإنه المختص بكل ذلك فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّۭ يَجْرِىٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌۭ ﴿29﴾
ألم تر ذلك؟ يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، أنت ترى الليل يعقبه النهار، والنهار يعقبه الليل، يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، والظلام يأتي شيئًا فشيئًا حتى يصبح الكون كله ظلام، ثم إذا بزغ الفجر يأتي النور والنهار شيئًا فشيئًا، يتخلل الظلمات حتى يكشفها جميعًا، فكأن الليل يدخل في النهار، والنهار يدخل في الليل، أيضًا تجد أنه على مدار الأيام والشهور يطول الليل ويقصر النهار، ثم يقصر الليل ويطول النهار، وكأن الليل يأخذ وقتًا من النهار، وكأن النهار تارة أخرى يأخذ وقتًا من الليل، هذه الأمور التي نراها طوال الأيام، والشهور، والسنين، لا تتبدل ولا تتغير، من الذي يفعلها؟ من الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ التسخير‫:‬ التطويع، ها هي الشمس تجري في نظرنا من الشروق إلى الغروب إلى أجل مسمى، إلى وقت معلوم، ودورة الشمس كامله في سنة، وتعود حيث بدأت، والقمر دورته كامله في شهر، ويعود حيث بدأ، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكلٌ في فلك يسبحون، هذا التسخير للشمس والقمر بيد من؟ هل يمكن للإنسان مهما أوتي من قوة، ولو إجتمعت الناس جميعًا، إنسهم وجنهم، وأيضًا الخلائق لتغيير مسار الشمس، أو لتغيير مدار القمر، أيستطيعون ذلك؟ من الذي سخر الشمس والقمر دون كلل، ودون ملل بصفه مستمره، مئات الملايين من السنين تدور وتجري لأجل مسمى، السنة الشمسيه، والسنة القمريه، دورة الشمس في سنة، الفصول الأربعة، الليل والنهار، وطول الليل وقصر النهار، القمر كالعرجون القديم؛ هلال، محاق، بدر، وهكذا، أو تجري لأجل مسمى، إلى يوم القيامه، ﴿ذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾[سورة التكوير آية‫:‬ ١, ٢] الذي فعله الله دليلًا على بديع صنعه، وعلى شمول قدرته، وعلى سعه علمه، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ لأنه طالما كان عليمًا بذلك، مسخرًا لهذه الأجرام السماويه، كلٌ يسير وفقًا لإرادته على مقتضى علمه الأزلي دون تقديم، ودون تأخير، دون تبديل، أو تغيير، إذًا فلابد وأن الله بما تعلمون خبير، أنت أم الشمس؟ أنت أم القمر؟ أنت أم النجوم؟ أنت أم الليل، والنهار، ودورة الزمان؟ لابد وأن الله الذي علم كل ذلك، وسخر كل ذلك، وشملت قدرته كل ذلك، لابد وأن يعلم ظاهرك وباطنك، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ والخبير هو الذي يعلم خفايا الأشياء، لا ظاهرها فقط، بل يعلم أيضًا كُنْهها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَـٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ ﴿30﴾
‫﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما ذكر من شمول القدرة، وسعه العلم، وبديع الصنع، واختصاص الباري سبحانه وتعالى بكل ذلك، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم، الحق يقابل الباطل، والحق في أعراف الناس شيء، والحق في ذات الله شيء آخر، ايها الاخ المسلم، لايعرف الحق إلا الحق سبحانه وتعالى، فالحق أنواع؛ حق في الأعيان، حق في الأذهان، حق على اللسان، أحق ما يطلق عليه كلمة الحق هو ذات الله، الثابت في ذاته، الواجب من جميع جهاته، والحق في الأذهان، وأحق ما يكون في أذهان الناس وهو المعرفه، هو معرفه الله تبارك وتعالى، وأحق ما يقال على اللسان هو كلمة لا إله إلا الله، فهي الحق المطلق‫.‬ أيها الاخ الكريم، كلمة الحق قد تقال للموجودات، للأشياء الموجوده، فأنت تقول أن هناك مسجد يسمى مسجد المواساه بمنطقه كذا، فإن صادف قولك ووصفك حقيقة وجود المسجد فذاك حق في الأعيان، أي الأشياء التي تعاين وترى، وقد تقول أن مسجد المواساه سعته كذا، ورواده عددهم كذا، وتلك معلومات ومعرفه في ذهنك عن سعه المسجد وعدد رواده، فإذا اتضح أن ما تعرفه وما علمته يصادف الواقع فعلًا من حيث السعه والعدد، فأنت قد قلت الحق، وصادف علمك حقيقة الأشياء، وإذا قلت أن مسجد المواساه فيه دعوه خالصه إلى الله، وذلك ما نرجوه، وكان حقًا، فقولك على لسانك هو أيضًا الحق، وعليه فالحق يطلق على الأقوال، يطلق أيضًا على المعارف، والموجود في الأذهان يطلق أيضًا على الموجود في الأعيان، وكل ما في الوجود من أشياء، وأعيان، أو معلومات في الأذهان، أو أقوال وكلام على اللسان، هو حق من جهه، وباطل من جهه أخرى، فأنت تقول أن السماء موجوده حق، ولكن من جهه أنك تراها، ومن أن الله تبارك وتعالى هو موجد هذه السماء؛ فهي محتاجه إليه في وجودها، قبل أن تكون السماء موجوده، أكانت السماء حقًا؟ أبدًا، بعد ما تُدمر هذه السماء وتصبح كالمهل، هل السماء تصبح موجوده؟ أم أن كلمة وجود هنا تصبح كلمة باطله؟ الباطل‫:‬ المعدوم، السماء موجوده الآن، ولكنها كانت معدومه قبل أن يوجدها الله، وهي معدومه حين يشاء الله، وكذلك الإنسان؛ أنت الآن موجود، موجود حق، قبل ميلادك لم تكن موجودًا، وبعد موتك لا تكون موجودًا، فأنت حق في فتره زمنيه محدده، وهي فتره وجودك في الدنيا، أو في المكان الذي حددناه بالوجود، وأنت في هذا الوجود أيضًا محتاج في حقيقة وجودك إلى الموجد الأصلي، وهو الله، وكذلك المعلومات طالما علمتها، وأصبحت في ذهنك، وأصبحت من المعارف فهي حقيقة، وقبل أن تدخل هذه المعلومات قي ذهنك كانت معدومه فهي باطل، وأنت في إحتياجك، أو في علمك بهذه المعلومات محتاج إلى الكتاب، أو المعلوم، أو المرشد، فإذا نسيت هذه المعلومات أصبحت باطله، أو معدومه، من هنا يتبين لك أن الباطل هو المعدوم الذي لا وجود له، سواء كان قولًا لا يصادف حقًا، أو كان شيئًا في ذهنك، فتقول أن معلوماتك باطله، أو أن كلامك باطل، أو أن حقيقة الشيء غير موجوده، إذًا فهو باطل، فالباطل المعدوم، والحق الموجود المصادف لحقيقة الوجود، إذا نظرنا إلى الذات العليه موجوده من الأزل، وباقيه إلى الأبد، فلم تكن معدومه، ولن تكون معدومه، إذًا فالوجود الإلهي يختلف عن وجود أي شيء، إذًا فهذا الوجود هو الحق المطلق، وأي وجود آخر حق من جهه إحتياجه إلى الله، وباطل من جهه أخرى؛ بأنه كان معدومًا لولا الله، وسوف يكون معدومًا بمشيئة الله، كذلك الله في وجوده لم يحتج إلى موجد، فهو موجود بذاته، وأي موجود آخر محتاج لغيره في وجوده، فأنت محتاج لله في خلقك، ومحتاج للطعام لبقائك، ومحتاج للشراب لحياتك، ومحتاج للكساء لتدفئتك، وهكذا البقاء نفسه، بقاءك محتاج لإمداد مستمر حتى يستمر هذا البقاء، إذا سمينا بقاءك حقيقي، فإذا إمتنع عنك الإمداد انتهى البقاء، أصبحت باطلًا، أصبحت معدومًا، الله هو الموجود، الحق، الأزلي، الثابت، بلا زوال، وإلى الأبد، فإذا تكلمنا عن المعرفه؛ المعارف والعلوم تتغير وتتبدل، والنظريات التي كانت حقيقة ثابته في يوم من الأيام تتغير، وتأتي، وتنشأ نظريات أخرى، وعلوم أخرى تنفي ما سبق، نظريات تتغير كل يوم في الطب، والهندسة، وكل شيء في مكونات هذه الأشياء، إذًا المعارف إن كانت حقيقة في وقت ما، قد تصبح باطله في وقت ما، أما المعرفه بالله أزلًا وأبدًا فهي معرفه الحق، لا تتغير، ولا تتبدل؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يتغير، ولا يتبدل، فمعرفتك بالله هي المعرفه الحق المطلقه، فالعلم بالله أشرف العلوم على الإطلاق، وأحق العلوم على الإطلاق، وكذلك الأقوال؛ مهما قلت من أشياء قد تصادف حقًا، وقد لا تصادف، وحتى لو صادفت الحق صادفته من جانب ولم تصادفه من جانب آخر، وهكذا، أما أحق الأقوال على الاطلاق فهو كلمة لا إله إلا الله، ذلك هو القول الثابت، والقول الحق، ذلك بأن الله هو الحق الثابت في ذاته، الموجود الأزلي، الواجد، واجب الوجود، واجب من جميع جهاته، هو الحق المطلق، هو الله، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ الأصنام، والأوثان، والآلهه، كل ذلك باطل، كانوا يؤلهون فرعون، أين فرعون الآن؟ أصبح باطلًا، كانوا يعبدون الأصنام فكسرها محمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا فكل ما يدعي من غير الله باطل في نفسه، باطل في وجوده، زاهق، لا وجود له، متقدم ذلك بأن الله هو الحق؛ لأنه سخر الشمس والقمر، يولج الليل في النهار، وهكذا شمول القدرة، وبديع الصنعه، واختصاص الباري سبحانه وتعالى، كل ذلك يفيد بأن الله هو الحق، وأن مايدعون من دونه الباطل، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ العلوّ في اللغه نوعان؛ علو مكانه، وعلو رتبه، فمثلًا الدور الرابع في العلو، والأول في السفل، فإذا رتبت الأشياء المحسوسه، الأجرام بعضها فوق بعض، لكان ما هو في جهه العلو يسمى عال، وما كان في جهه السفل فهو الأدنى والأسفل، ذاك علو مكاني، وهناك علو في الرتبه؛ فالوزير أعلى رتبه من الخفير، والسلطان أعلى رتبه من الأمير، والعالم أعلى رتبه من الجاهل، والحي أعلى رتبه من الميت، والمتكلم أعلى رتبه من الأبكم، والسميع أعلى رتبه من الأصم، إذًا فهناك علو في المكانه، كما هناك علو في المكان، فإذا رتبت الأشياء في الوجود لوجدت أن الأشياء محسوسه، ومعقوله، المحسوسه ترتب في العلو بحسب المكان، والمعقوله، المعنويه، ترتب بحسب المكانه والرتبه، لو نظرنا إلى الله لوجدنا أنه تبارك وتعالى ليس فوقه شيء، إذًا فهو العليّ المطلق، ليس في المكان لأن الله لا يحويه مكان، ولايحده زمان، ولكن في العلو المطلق، الذي لا يعرفه إلا الله، فإن نظرت إلى السمع، ورتبت الناس بحسب أسماعهم وقدرتهم على السمع، في مكانة السمع فالله تبارك وتعالى هو السميع المطلق، فإن رتبت حسب البصر، فهو البصير المطلق، وإن رتبت حسب الحي والميت، الحي أعلى رتبه من الميت، ولكن الحي يستمد حياته من غيره، الحي الذي لا يستمد حياته من غيرة أعلى رتبه من الحي الذي يستمد حياته من غيره، فما بالك بالحي الذي يمد كل حي بحياته، هو الله، ليس حيًا فقط بل هو أصل ومصدر كل حياه، إذًا فالله هو العلي المطلق، علو لا يُدرك شأنه، ولاتصل إليه العقول، العلي المطلق، هو الله، ﴿الْكَبِيرُ﴾ الكبير في لغه الناس إذا طالت مدة الإنسان في الحياة، وطال عمره، يطلق عليه كلمة كبرُ الرجل، فهو كبير، أما من حيث الحجم فلا يطلق كلمة كبير على الحجم، وإنما تطلق كلمة عظيم، ولذلك أعظم مخلوقات الله هو العرش؛ لأنه أكبر حجمًا، فمن حيث الحجم يطلق على الزائد في حجمة عن غيره أعظم، أما من حيث مدة البقاء، أو مدة الوجود فيطلق كلمة كبير، هذا في تعبير الناس، فإن كانت كلمة كبير تطلق على من طالت مدة بقائه سنوات، فما بالك بمن لا نهايه لوجوده، ولا بدايه لوجوده؟ إذًا فالكبير المطلق هو الله، المتعالي على كل ما سواه، المتسلط على كل ما سواه، أيها الاخ المسلم، مهما تكلمنا في صفات الله تبارك وتعالى لا يمكن أن نصل إلى حقيقه هذه الأسماء، ولا يمكن أن نصل إلى كنه هذه الصفات، فلا يعرف الله على الحقيقه إلا الله، ونحن إنما نبين معاني الكلمات بحسب ما تطيقه عقولنا، وبقدر معلوماتنا، واستخدامنا لهذه الألفاظ فقط مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن التشبيه، والتمثيل، والتحديد، فليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، هو الله، لازلنا في أضواء وأنوار سورة لقمان، وتمضي بنا الآيات برهانًا ودليلًا على باهر قدرته، وكمال حكمته، وشمول إنعامه، ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَـٰتِهِۦٓ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّكُلِّ صَبَّارٍۢ شَكُورٍۢ ﴿31﴾ وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌۭ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌۭ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِـَٔايَـٰتِنَآ إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍۢ كَفُورٍۢ ﴿32﴾
يوجه الله تبارك وتعالى نظرنا إلى دلائل قدرته في البحر كما تبين لنا دلائل قدرته في الأرض، والبر، والجو، بتسخير الشمس والقمر، وتقليب الليل والنهار، وتسخير الرياح والخلق، وبين لنا أن ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ﴾ الفلك‫:‬ السفن، والفلك لفظ يصلح للمفرد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، إذا نظرت إلى البحار لوجدت أن كل شيء يلقي في البحر لابد وأن يغرق، ولكن الفلك تجري على صفحة الماء بالرياح التي سخرها الله، أيضًا تجد حتى السفن التي تسير بالقوى الكهربائيه وغيرها سخر الله لنا هذا العلم، وعلمنا مالم نكن نعلم، فلولا نظريه الطفو ما اخترعت هذه السفن، والسفن مفتاح البحر، ولكل شيء مفتاح، مفتاح البحر الفلك، ومفتاح الأرض الطرق، وهكذا يسخر لنا الله كل شيء في الوجود، مسبغٌ نعمائه على خلقه من شكر ومن كفر؛ فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ وقرأت ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَاتِ اللَّهِ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ في هذا الجريان، وفي هذا التنقل عبر البحار والمحيطات ﴿لَآيَاتٍ﴾ دلائل على باهر قدرة الله، وكمال حكمته، وشمول إنعامه، ولكن هذه الآيات ليست لكل إنسان، بل هي ﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ والصبار : كثير الصبر، الصبار لقضائه، الشكور على نعمائه، ومن شروط الإيمان أن يؤمن الإنسان بالقضاء والقدر، خيره وشره، وحلوه ومره، فالأمور قد قدرت من الأزل، وما قدِّر لابد وأن يكون، والإنسان لا يعرف ما يصاب به في الغد، ولا يدري من أمره شيئًا، فمن فوّض الأمر لربه سلم، وسعد، ومن صبر على قضاء الله عوّضه الله في الدنيا وفي الآخره، ومن شكر الله على نعمائه زاده الله من نعمة، وقيد له النعم فلا تنفك عنه أبدًا، والصبار الشكور هو المؤمن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول‫:‬ ﴿الايمان نصفان؛ نصف صبر، ونصف شكر﴾ فالصبار الشكور هو المؤمن، والشكور الذي يعرف النعم، ويعرف أن المانح هو الله، فيؤدي حق الشكر للمنعم الذي أنعم عليه؛ لأن الله هو المدبر، وهو المهيمن، وهو المانح، وهو المانع، وهو الضار، وهو النافع، فإذا أصابك ضر فبما كسبت يداك، ويعفو ربنا عن كثير، وما أصابك من نفع فرحمة من الله، وليس باستحقاقك، ولكن الله يبتليكم بالشر والخير؛ فمن صبر على الضراء، وشكر حال الرخاء، فذاك هو المؤمن، ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿...وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾[سورة الأنبياء آية‫:‬ ٣٥] فيُبتلي المرء بالضراء فإن شكر عوفي وعُوِض، ويبتلي بالخير فإن شكر بورك له فيما ابتلي به من نعم، وكانت في سبيل الله، وفي سبيل مرضاته، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ﴾ ﴿مِّنْ آيَاتِهِ﴾ للتبعيض وليست كل الآيات، ففي البحر آيات كثيره، في البحر علوم كثيرة، في البحر مخلوقات كثيره، البحر وسيله لانتقال الحضارات، والتجارات، والأرزاق، ومن البحر يخرج لحم طري رزقًا للسائلين، ما عليك إلا أن تسأل الله تبارك وتعالى فيخرج لك البحر لحمًا طريًا، ومنه أيضًا تستخرجون الؤلؤ والحليه تتزينون بها وهكذا، في البحر أمواج، في البحر رياح، في البحر أمور، وأمور، وآيات، ودلائل على قدرة الله، ولو شاء ربنا لطغى الماء على اليابسه، ولغرقت الأرض بمن عليها، يقول الله تبارك وتعالى في شأن هؤلاء الناس الذين يركبون البحر‫:‬ ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ غشيهم‫:‬ غطاهم الموج، أصل الكلمة من الحركة، والإضطراب، والإزدحام، ماج الناس، وماج بعضهم في بعض، إزدحموا، واضطربوا، وتحركوا، وهكذا، إذا تحرك الماء واضطرب يقال ماج الماء، ونتيجة حركة الماء يسمى الموج، ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾ الظلل‫:‬ جمع ظله، أي أن الموج إذا علا، وارتفع، وغطاهم، وغطى سفنهم، وهاج البحر، وشبّه ربنا الموج بالظله التي يستظل بها الإنسان في حاله ما إذا هاج البحر وغطى الموج تلك السفن، وقُرأت ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظّلَال﴾ جمع ظل، ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ مؤمنهم وكافرهم دعوا الله مخلصين له الدين أي موحدين لله، ونسوا ما عبدوا من دونه، وغفلوا عن الشركاء، وأخلصوا لله تبارك وتعالى الدعاء، فوحدوه مخلصين له في هذا التوحيد، أين كان هذا الإخلاص؟ ولم لم يظهر هذا الإخلاص إلا في ساعه العسره؟ في ساعه الضر؟ في ساعه الخوف والخطر؟ لأن ما داهمهم من خوف شديد إنتفت معه نوازع الفطره من الهوى والتقليد، طالما كان الإنسان آمنًا قويًا مطمئنًا قد يبتلي بالهوى، وبتقليد الآباء، و بالإعجاب بنفسه، وبرأيه، وبقوته، وبأمنه، وأمانه، ولا يدري أن الله محيط بخلقه، فإذا داهمه الخوف، وأحس بالضعف، وأحس بالعجز، عاد لفطرته التي خلقه الله عليها ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[سورة الروم آية‫:‬ ٣٠] في حالة الخوف الشديد يستوي المؤمن والكافر، يعود إلى الفطره السليمة، وينتفي كل ما ينازع هذه الفطرة من هوى، ومن إعجاب، ومن تقليد، ومن غرور، ومن كبرياء، ومن كبر، كل ذلك مع الخوف الشديد ينتفي، وتجد أعلى الناس، وأكبر الناس، وأشدهم جبروت في الأرض، ضعيف كالطفل الصغير، ويعود إلى الفطره، ويلجأ إلى القوة، والحماية، هنا يعرف ربه، ويعرف الطريق إليه فيدعوه موحدًا له، مخلصًا في هذا الدعاء، ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ لأن الله يستجيب الدعاء من المؤمن، ومن الكافر؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾[سورة النمل آية‫:‬ ٦٢] فهو يجيب المضطر، ولم يخصص بالإيمان، وإنما قال المضطر أيا كان دينه، وأيا كانت عقيدته، طالما لجأ إلى الله بإخلاص، واضطر إليه، لابد وأن يجاب، فيجيبهم ربنا وينجيهم، وهو أعلم بما هم عاملون، وما سوف يعلمون، يعلم أنهم سوف ينقضون العهد، ويعودون إلى الكفر، ومع ذلك ينجيهم، ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ المقتصد الذي اختار طريق القصد، وطريق القصد‫:‬ الطريق المستوى، الوسط، العدل، وهو معتدل، متوسط، وفَّى بما عاهد عليه، وفَّى في البر بما عاهد الله عليه في البحر، فذاك هو المقتصد، أو مقتصد في العمل، فهو ليس على درجة الإيمان الكامل بل قليلٌ عمله، أفاده هذا الضر، وهذا البحر، وهذا الخضّم إلى حد ما، فهو مقتصد، أو مقتصد في الكفر إلى حد ما يبالغ في كفره وفجوره، أو هي مقابله بين المؤمن والكافر؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ إذًا فهي مقابله بين مقتصد، وبين كافر؛ أي فمنهم مقتصد، ومنهم كافر، والمقتصد المؤمن، والجاحد هو الكافر، ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ الجحود‫:‬ الإنكار، والجحد بالآيات إنكار دلائل هذه الآيات، والجحد بالآيات إنكار أعيانها، فمن جحد الآية أنكرها أصلًا، ومن جحد بالآية أنكر ما يستفاد منها من دليل، ومن برهان، فهؤلاء يجحدون بالآيات أي بالدلائل التي تدل على قدرة الله تبارك وتعالى، كان البحر ساكنًا، والبحر لا يعقل، وكان الريح هادئًا، وكانت السفن تسير سالمه في البحر، تمخر عبابه، وفجأه تغيرت الأحوال، وهبت الرياح، وعلا الموج، واهتزت السفينه، وأوشك الناس على الغرق، ما الذي جعل البحر يفعل ذلك؟ أهو يفعل ذلك من نفسه؟ أم هو مسخر مأمور؟ من المدبر؟ وها هم يلجأون إلى الله فينجيهم، ويعود الحال إلى ما كان عليه، فيسكن الموج، وتهدأ الرياح، وتعود المسائل إلى ما كانت عليها من سلام، وأمن، فهؤلاء يجحدون، وما يجحد بآيات الله إلا كل ختار كفور، الختر‫:‬ أشد أنواع الغدر؛ خَتَر، يختِر، ويختُر خترًا‫:‬ غدر، فهؤلاء الختارون هم أشد الناس غدرًا، الذين يجحدون بآيات الله، فبعد أن لجأوا إليه، وأخلصوا له الدعاء، وتضرعوا إليه ووعدوه "لنكونن من الشاكرين"، ها هم حينما يعودون إلى البر يغدرون، وينقضون العهد، وينسى هؤلاء الناس أن رب البحر هو رب البر، ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ الكفور‫:‬ كثير الكفر، كافر بنعمة الله، لا يرى النعمة، ولا يرى المنعم، ثم يتوجه التحذير الإلهي لكل من يعقل، ولكل من هو أهل للخطاب‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْا۟ يَوْمًۭا لَّا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ ﴿33﴾
‫﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ والخطاب للناس عمومًا؛ مؤمنهم، وكافرهم، ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾:أي خافوه، وتقوى الله أن تأتمر بأمره، وتنتهي بنهيه، تقوى الله أن تتقي العذاب الذي وعد به العصاه، تقوى الله أن تتقي الوقوف بين يديه حيث يسألك وليس بينك وبينه ترجمان، حيث يؤاخذك، ويسألك، ويعدد نِعَمَه عليك، تقوى الله أن تتقي أن يشغل قلبك غير الله، هو الله الذي يرعاك، ويكلأك في ممشاك وفي منامك، ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا﴾ الخشية‫:‬ الخوف مع الرهبه، واخشوا يومًا‫:‬ الحديث عن يوم القيامة، ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾ وقُرأت ﴿لَّا يُجْزِئ وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾، ﴿وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ وتغير النظم، ولم يقل (ولا يجزي مولود عن والده)، تغير النظم فقال‫:‬ ﴿وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ والغرض من تغيير النظم الإشعار بأن الوالد إذا كان لا يجزي عن ولده شيئًا فمن باب أولى ألا يجزي الولد عن والده شيئًا؛ لأن المعلوم أن حب الأب لإبنه أشد وأقوى من حب الإبن لأبيه، فإذا كان الأب لا يجزيء عن إبنه، ويقول في ذلك اليوم نفسي ثم نفسي، بل قد يطأ إبنه بأقدامه لينجو، فمن باب أولى أن يقول الإبن ذلك، والآية أيضًا قطْعًا لأطماع المؤمنين في أن يشفع أحد منهم لأبيه، ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾[سورة التوبة آية‫:‬ ١١٤] ، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ وعد الله بالثواب والعقاب، وعد الله بالبعث والحساب حق، واقع، ثابت، واجب، لاشك فيه ولا مراء، ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾، ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغُرُورُ﴾ الغرور‫:‬ العمل بالمعصية مع تمني المغفره، الغرور‫:‬ خداع، الغرور‫:‬ تمني، الغرور أن تركن إلى الدنيا، أن تركن إلى المال، أن تركن إلى الجاه، إلى السلطان، إلى مالك، وقصرك، وجاهك، وبيتك، أو إلى الناس، أو إلى الحرس، أو، أو، متاع الدنيا هذا قليل، يغتر به البعض، وتلك فتنه كبرى، يحذرنا ربنا تبارك وتعالى فلا يغرنكم الحياة الدنيا، لا تخدعنكم الحياة الدنيا؛ فإن الحياة الدنيا زائله، عمرها قصير، وخطرها حقير وزادها قليل، وعما قريب يحملك أقرب الناس إليك، ويدّليك إلى حفره مظلمه، ويسوون عليك التراب، ويتركونك وينصرفون، يقتسمون مالك، فلا ينفعك إلا عملك، ولا يؤنسك إلا عملك، ولا يظلك إلا عملك، ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الغرور‫:‬ الشيطان، وسمي غرورًا لأنه يختل الناس ويخدعهم، ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾[سورة النساء آية‫:‬ ١٢٠] يعدهم بالمغفره، ويمنيهم بطول العمر، ويقول الرجل عندما أكبر أتوب إلى الله، وأحج، وهكذا، ولا يدري متى يموت، (ومعانق الموت قبل الإحتلام ومعمر من الناس إلى حين) ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ لايخدعنكم الشيطان أن يستدرج العبد إلى عصيان ربه، يمنّيه بطول العمر، يمنّيه بالمغفره، يصغِّر له الكبائر، ويسهل له الأمور، وقرأت ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغُرُورُ﴾ مصدر غرَّه، يغُرُّه، غرورًا، أي لا تجعلوا غرور الدنيا يغرنكم، ويختلنّكم، ويخدعنكم، فتركنوا إلى الدنيا، وتنسوْا الآخره التي خلق الله الأرض والناس من أجلها، فأنتم مخلوقون للآخره، ولستم مخلوقون للدنيا، ولو كنا مخلوقين للدنيا لعمّرنا، ولعمرها الله، وإنما إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمر الله ليلًا أونهارًا فجعلها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس، ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾، يقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿ليس الايمان بالتمني، ولكن الايمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وان اناسًا خرجوا من الدنيا ولا حسنه لهم، يقولون نحسن الظن بالله، وقد كذبوا فلو احسنوا الظن لاحسنوا العمل﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ايها الاخ المسلم، لكل شيء مفتاح، ومفاتيح الأمور كلها بيد الله، ومنها ما بينه لنا ربنا تبارك وتعالى، ومنها ما بينه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمفتاح الأرض الطرق، ومفتاح البحر السفن، ومفتاح السماء الدعاء‫.‬ ايها الاخ المسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ مفتاتيح الغيب خمس لا يعلمهن الا الله ثم تلى قول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌۭ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًۭا ۖ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌۢ بِأَىِّ أَرْضٍۢ تَمُوتُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌۢ ﴿34﴾
هذه الخمس مفاتيح للغيب لا يعلمها إلا الله، فمن إدعى أنه يعلم شيئًا في هذه الأشياء فقد كفر بما نزل في القرآن، وربنا يقول في سورة الأنعام‫:‬ ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[سورة الأنعام آية‫:‬ ٥٩] من إدّعى الكهانه، ومن إدعّى معرفه الغيب، ومن إدّعى أنه يعلم ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفريه، الله عنده هذه المفاتيح الخمسه لا يعلمها إلا هو، ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(٢٦)إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(٢٧)﴾[سورة الجن آية‫:‬ ٢٦- ٢٧] الله تبارك وتعالى عنده علم الساعه؛ متى تقوم، وكيف تقوم، في أي يوم، في أي ساعه، في ليل أو نهار، عنده علم الساعه لا يعلمها رسول ولا ملك مقرب، ولا مخلوق، لا يعلمها إلا الله ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ...﴾[سورة الأعراف آية‫:‬ ١٨٧] ثقلت في السماوات والأرض‫:‬ أي ثقل علمها على من في السموات والأرض، لا يعلمها إلا الله؛ متى، وأين، وكيف، ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ الغيث‫:‬ المطر، وسمي المطر غيثًا لأن به يغاث العباد والبلاد، فتنبت الأرض، ويشرب الناس، وينبت الزرع، وهكذا، وقد يتساءل سائل ها هم قد حسبوا تواريخ المطر والنوات، بل وحددوا لها أسماء، وعرفوا أسماءها؛ نوه الحرم، نوة الهناسين، نوة الفيضه، نوة كذا، نوة كذا، والأرصاد الجويه بتجاربهم المستمره في كل عام، وفي كل وقت، يعلمون ما سوف يكون في الجو في الغد؛ رياح، أمطار، حر، برد، وما إلى ذلك، تجارب، وعادات، وسنن، يرصدها الناس، وقد تختلف العاده، وقد تفسد التجربه، ويبقى العلم لله وحده، وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ والغيث إذا نزل ليس موعد الغيث فقط، متى ينزل المطر، بل قد يقول علماء الأرصاد أن السماء غدًا سوف تمطر فلا تمطر، ولكن أين تمطر؟ ومتى تمطر؟ وشدة المطر؟ قوة، ضعف، ومايؤول إليه هذا المطر، كل ذلك علمه عند الله، ولو شاء الله تبارك وتعالى لجفت الأنهار، وما أصاب النبات بلل، وها نحن رغم العاده، ورغم التجارب، ما درسناه من أن فيضان نيلنا ناشيء من أمطار تنزل على جبال الحبشه سنوات، بل قرون، وها هو الجفاف حدث، وسنوات ولا تنزل الأمطار، وحدث الجفاف بالحبشه، وببلاد كثيرة في أفريقيا، هل أحد إستطاع أن ينزل المطر؟ إذًا فالله هو الذي ينزل الغيث، ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ وانتبه "مَا" أداه إستفهام، تستخدم فقط في الإستفهام عن ماهية الشيء، فإذا جاء رجل، وقلت من هذا؟ فأنت تعرف أنه رجل، ولكنك تسأل عن إسمه، أما إذا قلت ما هذا؟ فأنت لا تدري أرجل كان، أو إمرأه، كبيرًا، أو صغيرًا، شيخًا، أو طفلًا، ماهذا؟ شيء قادم، وأنت لا تدري إنسان، أم حيوان، رجل، أم إمرأه، فأداه الإستفهام "ما" يستفهم بها عن ماهيه الشيء، وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ فمهما تقدم علم الطب، ومهما صوروا الجنين بأدوات التصوير، ومهما أجروا من الإختبارات لمعرفه الذكورة من الأنوثه، هل في الرحم جنين واحد، أم توائم،هل، وهل، كل ذلك تجارب وعلوم، قد تختلف، وقد تنتهي، وقد تبطل، وقد تفسد، ويبقى العلم لله تبارك وتعالى، ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ ليس ذكر، أو أنثى فقط، فقد تلد المرأه مسخًا مشوهًا، أو ناقص الخلقه، هل يعرفه العلم؟ وقد تلد المرأه ميتًا، أو يموت بعد الولاده، هل يعرف ذلك العلم؟ شقي أم سعيد، أيعرفه العلماء؟ أيعرفه الأطباء؟ وربنا يعلم ما في الأرحام، ويُعلم بما في الأرحام ملك الأرحام، فالله عنده هذه المفاتيح، هذا المفتاح لكل غيب من الغيوب الخمس، يُطلع عليها ما يشاء، فملك الأرحام يعلم ما في الأرحام بإعلام الله له، ليس بذاته، وبنفسه، فالمقصود في هذه الآيات ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ أن أصل ومنشأ العلم بها لله وحده، فإذا شاء أعلم مايشاء بما يشاء من غيبه، فإذا كان الجنين في الرحم نطفه، جاء ملك الأرحام، وقال‫:‬ يارب نطفه، ويارب علقه، ويارب مضغه، وهكذا مخلقه، أم غير مخلقه، ثم أمر الملك فكتب أربع أشياء‫:‬ العمر، والرزق، والأثر، شقي أم سعيد، حين يكتب الملك هذا، والجنين لم يتجاوز أربعه شهور، علم، أم لم يعلم؟ علم، علم بماذا؟ بإعلام الله له، وهكذا ما نراه من إختراعات، أو تصوير، أو إلى آخره، فذاك بإعلام الله تبارك وتعالى، علم الإنسان ما يعلم، ومع ذلك يبقى العلم الأزلي لله وحده، ثم يتغير النظْم، ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ الدرايه، وقال إن الله عنده علم الساعه، فنسب لنفسه العلم، ونسب للإنسان الدرايه ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ﴾ ولم يقل "وما تعلم نفس"؛ لأن الدرايه تفيد الحيلة، الدرايه معناها أن بالإضافه لعلمك بالشيء أن تحتال على الشيء، تفيد الآية أن العبد مهما إحتال، ودبّر، وفكر، وقدّر للغد، لم يتم إلا ما قضاه الله، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ لم ينفي العلم عنك فقط بما يحدث لك في الغد، وإنما نفي أيضًا التدبير، حتى لو دبرت، وفكرت، واحتلت كل حيله لإحداث أمر في الغد، بل بعد ساعه، والله لا يكون إلا ما قدر من الأزل، ماتدري نفس ماذا تكسب غدًا، وتمرض، أو تموت، تكسب في تجارتك، أو تخسر تحزن، أو تفرح، أو يأتيك خبر سار، أو يأتيك خبر شيء، لا تدري فمهما فكر الإنسان، وقدر، واحتال، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾أو ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيَّتي أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ مكان الموت، أين تموت؟ أولًا ما تدري نفس متى تموت، لأن ما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وقد يكون الموت في الغد، فما تدري نفس متى الأجل، وأين الأجل، وكم من إنسان خرج، وسافر، وحارب، وجاهد، وقاتل، ومات في فراشه، وكم من إنسان مات في الجو، ولم يدري، ولم يكن يخطر بباله ذلك، وكم من إنسان مات في البحر، ولم يدري بخلده ذلك، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿اذا اراد الله قبض عبد بارض، جعل له اليها حاجه﴾ تطرأ حاجه لك في مكان، فتسعى لقضاء حاجتك حتى تصادف ملك الموت حيث أراد الله لك، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ والعليم هو الله، وخبير نعت لعليم، أهو خبر بعد خبر؟ والخبير العالم بكنه الأشياء، العالم بمصائر الأشياء، العالم ببواطن الأشياء، والعليم العالم بظواهرها، فالله يعلم الظاهر، ويعلم الباطن، ولا يخفى عليه شيء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ايها الاخ المسلم، علم العبد مستفاد من الأشياء، وعلم الله تبارك وتعالى سبب لوجود الأشياء، فأنت علمت اللغه لوجود اللغه أصلًا، تواجدت اللغه أولًا ثم تتعلمها، علمت بالسماء بعد أن وجدت السماء، علمك بالشمس والقمر بدأ من وجود الشمس، ووجود القمر، فعلمك بالأشياء مستفاد من وجود الأشياء، ولا يمكن أن تعلم بشيء معدوم، أن تعلم عن شيء غير موجود، فجميع علوم الإنسان مستفاد من الأشياء، علم الله سبق وجود الأشياء، بل علمه سبب في وجود هذه الأشياء، فعلمه بالسماء سبب في وجود السماء، أيضًا علم الإنسان يزيد وينقص، فأنت قد تنسى، وينقص علمك بالنسيان، وقد تتعلم شيئًا فيزيد علمك بهذا التعلم، أما الله تبارك وتعالى فعلمه أزلي قديم، لا يزيد، ولا ينقص، ومهما علمت فقد تعلم الظواهر، ولا تعلم البواطن، ولا تعلم كنه الأشياء، كما تعلم الناس الكهرباء، فاستغلوا مصادرها، واستغلوا آثارها، واستغلوها، وكنه الكهرباء بعيد عن علوم العلماء، كنه الجاذبيه، لا يعلم هذه القوى إلا الله تبارك وتعالى؛ فعلم الله قديم أزلي، سبق الأشياء، لا يزيد ولا ينقص، لا تفوته فائته، لا يشغله شأن عن شأن، إن الله تبارك وتعالى عليم خبير‫.‬‬‬‬‬‬