القرآن الكريم / سورة الروم / التفسير المقروء

سورة الروم

مقدمة‬‬‬
‫سورة الروم، سورة مكية، نزلت بمكه، وهي من ضمن السور التي افتتحت بالحروف المقطعه والتي تكلمنا فيها من قبل، خلاصة ما يقال فيها أنها سر الله فلا تطلبوه، ولله في كل كتاب سر، وسره في القرآن فواتح السور، فهي من المتشابهات التي إستأثر الله تبارك وتعالى بعلمها، فلا يعلمها إلا الله، أفتتحت السورة بقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬
‫﴿ الم(١)غُلِبَتِ الرُّومُ(٢)﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ١- ٢]‬‬‬‬‬
‫الروم دوله من دول أهل الكتاب، ولم يكن ينافسها في قوتها سوى دوله واحده هي دوله الفرس، ودولة الفرس أهل وثن، كانوا يعبدون النار، ولم يكن في الدنيا في ذلك الوقت إلا هاتان الدولتان؛ دولة الروم، ودولة الفرس، والعرب لم تكن لهم دوله، بل كانوا قبائل متنافرين، متحاربين، يغير بعضهم على بعض، رُحَّل، يرعون الغنم، أهل باديه، وأما أهل مكه فقد أمنوا بأمان الله تبارك وتعالى حيث جعل الحرم آمنًا، ولكنهم لم يكونوا أهل زرع، بل كانوا أهل تجارة، وأما المدينة فكان جل أهلها اليهود، وكانوا أهل زراعة، وكذلك كان أهل المدينة من عباد الوثن، وفي بدء البعثه والنبي صلى الله عليه وسلم بمكه، وفي أوائل دعوته، كانت الحروب مستمرة بين الروم والفرس، وهكذا الدنيا القوى يأكل الضعيف، وإذا ظهرت قوتان تنازعتا حتى تغلب إحداهما الأخرى، أو يوقفهم الرعب إذا تساوت القوتان، ولكن التناوش يظل قائمًا بينهما كما نرى في عصرنا هذا بين الشرق والغرب، وفي تلك الأيام أغارت الفرس على الروم فغلبت، ونزلت آزرعات، وهي منطقه من الشام، واستولت على بُصرى من أرض العراق، وهزمت الروم، وهنا هلل مشركوا مكه لهذا النصر، وعيّروا المسلمين بذلك، وقالوا أنتم أهل كتاب، والروم أهل كتاب، والفرس عبدة نار، وأهل وثن، وقد إنتصر أهل الوثن وعباد النار على أهل الكتاب، ولو كان أهل الكتاب على صواب لنصرهم ربهم، وطالما هُزموا فذلك يبشر بهزيمتكم، وباندحاركم، واستئصال شأفتكم، فاغتاظ المسلمون، وقد كانوا إلى ذلك الوقت يميلون إلى أهل الكتاب باعتبارهم يعرفون الله تبارك وتعالى ويؤمنون برسله، وحين إغتاظ المسلمون، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة‫:‬‬‬‬‬‬

الٓمٓ ﴿1﴾ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ ﴿2﴾ فِىٓ أَدْنَى ٱلْأَرْضِ وَهُم مِّنۢ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿3﴾ فِى بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ ٱلْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنۢ بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍۢ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴿4﴾ بِنَصْرِ ٱللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿5﴾ وَعْدَ ٱللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿6﴾ يَعْلَمُونَ ظَـٰهِرًۭا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْـَٔاخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ ﴿7﴾
وهذه الآيات حين نزلت تدل دلاله قاطعه على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان هذا الرجل دعيا ما إجرّأ على هذه البشرى، وهو لا يضمن تحقيقها، إذ أن هذه البشرى لو لم تتحقق لثبت كذبه، وهذه البشرى لايجرؤ عليها دعىّ، أو مفتر، ٍ أو كاذب، لا يمكن أن يجرؤ عليها إلا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، الذي يخبر ويحدّث عن ربه عز وجل، وهنا تهلل المسلمون، وفرحوا بتلك البشرى، وبوعد الله، حتى قيل أن أبا بكر ذهب وراهن أبي بن خلف على هذا النصر على مائة قلوص، والقلوص‫:‬ الجمل الشاب الفتي، راهنه على ذلك، وكان ذلك قبل تحريم الرهان، يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ إذا ً فهو خبر لما حدث، نعم غلبت الروم، ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ أي أقرب الأرض من أرض العرب، أرض الروم القريبة من أرض العرب، وهي الشام، أقرب ما تكون إلى أرض العرب، إذا ً فقد غلبوا في أدنى الأرض، أي أدنى الأرض منكم، ﴿وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ ﴿غَلَبِهِمْ﴾ أو ﴿غَلْبِهِمْ﴾ قراءتان، إذا ً فقد أخبرنا الله بانتصار الروم على الفرس في المستقبل، وحدد ولم يتركها، فقال‫:‬ ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ والبضع في لغه العرب من الثلاث إلى التسع، وقد حدث هذا فعلًا بعد سبع سنوات على وجه التحديد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت في الحديبيه، يعاهد قريش في صلح الحديبيه، وانتصرت الروم على الفرس نصرًا مؤزرًا في بضع سنين كما قال الله تبارك وتعالى، وقد أسلم أناس كثيرون بهذه الآية، حيث تحققت وتحقق وعد الله، وثبت صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ثم يقول الله تبارك وتعالى مبينًا للناس أنه هو المتفرد بالحكم، والأمر، والقدرة، وأن كل ما يحدث من أمور في هذه الدنيا فهي بتدبير الله وتصريفه، هو المنفذ لأحكامه، هو الحكم، وهو الحاكم، وبقدرته، وإرادته، ينفذ ما أرادفقال‫:‬ ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ كلمه قبل و بعد، وإن كان قبلها حرف جر، إنما هي تبنى على الرفع لحذف مضافها، ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل غلبهم، ﴿وَمِن بَعْدُ﴾ أي ومن بعد ما يغلبون، إذا فمن قبل أن تُغلب الروم؛ كان لله الأمر، وأراد لهم ذلك، ومن بعد ما غُلبت الروم؛ كان لله الأمر، وأراد لهم ذلك، ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ﴾ من قبل كل شيء، ﴿وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ من بعد كل شيء، كل متقدم وكل متأخر في علم الله، وبإرادة الله، وبأمر الله، هو المدبر والمهيمن لكل مايدور في هذه الدنيا من حركة، ومن سكون، أو نصر، أو هزيمه، أو موت، أو حياه، من كل شيء، لله الأمر من قبل ومن بعد، إذًا فحين غُلبت الروم كان بأمر الله، نفاذ لحكمه، وحين غَلبت كان بأمر الله، إنفاذ لحكمه، لله الأمر قبل ومن بعد، إذا ً ليس للإنسان شيء في تصريف الأمور، أو في تدبيرها، أو في تقديم، أو تأخير، أو في تبديل، أو تغيير، بل لله الأمر، وذلك مصداقًا لقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ...﴾ [سورة هود آية‫:‬ ١٢٣] ، ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ يوم ينتصر الروم على الفرس يفرح المؤمنون، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فرح المؤمنون لأن أهل الكتاب إنتصروا بنصر الله لهم، وفرحوا بصدق وعد الله تبارك وتعالى أي بتحقيقة، وفرحوا بثبوت صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من دلائل نبوته، ثم يقول الله‫:‬ ﴿يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ قال بعض العلماء أن كلمة ينصر من يشاء لابد وأن تعني النصر لأوليائه؛ فكلمة من يشاء بمعنى أوليائه، فإن هزم أحبابه فذلك ليس نصرًا لأعدائهم، وإنما هو إبتلاء من الله لهم، أما كلمة نصر لاتطلق أبدا إلا لأحباب الله وأوليائه، فإذا غَلب المشركون، أو غَلب الكفار، لا يسمَّى ذلك نصرًا، وإنما يسمى غَلبه، أو ظفر، ظفر المشركون يوم أحد، ولا يقال إنتصر المشركون يوم أحد، ولا يقال إنتصر المشركون يوم أحد وهُزم المسلمون إبتلاء لهم، ومن هنا قال الله تعالى‫:‬ ﴿ يَنصُرُ مَن يَشَاء﴾ من يشاء من أحبابه، وقتما يشاء، رحمة بهم، ودفعه لشأنهم، فإذا لم ينصرهم كان ذلك إبتلاء لهم، وليس تخليًا عنهم، وقال البعض الآخر‫:‬ ﴿ يَنصُرُ مَن يَشَاء﴾ فهي على إطلاقها باعتبار التسميه الدنيويه التي تعارف عليها الناس في هذه الدنيا، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ العزيز : المنتقم، الغالب، القوي، الذي لايرد قضاؤه شيء، والرحيم بأوليائه؛ ينصرهم وقتما يشاء، ويبتليهم وقتما يشاء، ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ تأكيد لنصر الروم على الفرس، تأكيد للخبر "وهم من بعد غلبهم سيغلبون"، ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ مصدر مُؤكد لنفسه؛ كأنه يقول وعد وعدًا،ً إذا ً فذاك وعد الله تبارك وتعالى، ولاخلف في وعد الله أبدًا، أولًا يمتنع على الله تبارك وتعالى الكذب، يستحيل الكذب في أخبار الله، أيضًا حين يعد المخلوق قد لا يفى حتى لو أراد الوفاء لنقص قدرته، وعدم تحكمه في مجريات الأمور، أما الله، المدبر، المتصرف، المهيمن، الخالق، القوي، القادر، إذا وعد لايقف دون تحقيق هذا الوعد شئ، ﴿لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ بيان وإخبار من الله بأن الخُلف في وعده ممتنع، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أكثر الناس على الكفر، والأكثرية في كل العصور على الكفر، وربنا تبارك وتعالى يقول لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ١١٦] وفي كل الأزمنه، وفي كل الأمم يخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن من آمن مع الأنبياء قليل ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [سورة ص آية‫:‬ ٢٤] ﴿وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٤٠] فالقله هم الذين على الحق، والكثره هم الذين على الباطل، من هنا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يعلمون بصدق وعد الله، لايعلمون بعدم الخلف في وعده، ولا يعلمون بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينفي عنهم العلم مطلقًا بل نسب إليهم بعض العلم، حيث قال‫:‬ ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ نكّر كلمة ظاهرًا للدلالة على أن المعلوم لهؤلاء من أمور الدنيا يسير، كيف يبنون البيوت، كيف يغرسون الأشجار، كيف يشقون الأنهار، كيف ينبتون الزروع، كيف يلبسون الثياب، كيف، وكيف، أمور كلها متعه، وإستمتاع، وزوال، فهم يعلمون ظاهر الحياة الدنيا، وظاهر الدنيا زينة؛ لأن إبليس قال‫:‬ ﴿ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [سورة الحجر آية‫:‬ ٣٩] إذًا هم يعلمون الزينة، ويتعلمونها، ويتفاخرون بها، ويتصارعون عليها، ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ تأكيد لغفلتهم عن أمور الآخره، إذ أن الدنيا وإن كان لها الظاهر إلا أن لها باطن، والتأمل حتى في ظاهر الدنيا يؤدي إلى باطنها، فلو تأملت في الزرع لرأيتة لم يكن، ولرأيته إنعدم؛ في لحظه لم يكن، وفي لحظه كان، ثم كأن لم يكن، كذلك الناس تولد، ثم تشيخ، ثم تموت، كل الدنيا لو تأملت فيها، وتفكرت، لقادك هذا التفكير إلى الموجد الأوحد، إلى الله، ولعلمت أن الدنيا مزرعة للآخره، ولعلمت أن الدنيا معبر إلى الآخرة، ولعلمت أن الدنيا فيها ما ينفع، وفيها مايضر، أما ما ينفع فهو ما يستغل منها للوصول إلى رضا الله، فالمال زينة، ولكنه يدخلك الجنة إذا أنفقته حيث أمر الله، وهكذا، ثم يعيب الله تبارك وتعالى عليهم أنهم يعيشون كما تعيش الأنعام؛ يأكل، ويتمتع، وينام، ويستيقظ، ويجري في الدنيا دون أن يفكر فيما حوله، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا۟ فِىٓ أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلَّا بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى ۗ وَإِنَّ كَثِيرًۭا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآئِ رَبِّهِمْ لَكَـٰفِرُونَ ﴿8﴾
‫﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ ﴿فِي أَنفُسِهِمْ﴾ في هذه الآية ليست مفعولًا، وإنما هي ظرف للتفكير، أولم يتفكروا في أنفسهم، أي أو لم يخلو كل واحد بنفسه فيتفكر في خلق السموات والأرض، يتفكر فيما حوله، يتفكر في أمر الدنيا، يتفكر في زوالها، أي يخلو كل واحد ويفكر منفردًا، إذًا﴿فِي أَنفُسِهِمْ﴾ هنا ظرف، وليست مفعولًا، وقال البعض أن اللغه تحتمل أن تكون ﴿فِي أَنفُسِهِمْ﴾ مفعولًا به، وبالتالي ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ كقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(٢٠)وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(٢١)﴾ [سورة الذاريات آية‫:‬ ٢٠, ٢١] أي لو تفكروا في أنفسهم؛ كيف يأكل؟ كيف يقضي حاجته؟ كيف يشعر بالجوع؟ لأن الجسم محتاج للطعام فيشعر بالجوع، كيف تشعر بالعطش؟ حين يحتاج الجسم للماء تشعر بالعطش، وحين يحتاج للطعام تشعر بالجوع، بل إذا إحتاج الجسم لنوع معين من الطعام فيه مواد خاصه كالكالسيوم أو كذا أو كذا تجد نفسك إشتهيت صنفًا من الطعام، ولا تشتهي الصنف الآخر؛ لأن الجسم محتاج لمكونات هذا الصنف، وليس محتاج لمكونات الصنف الآخر، حتى الدجاج تجده كثيرًا ما ينقر في الحائط لأنه محتاج للجير، وبعض الحيوانات التي تأكل اللحوم مثلًا كالكلاب كثيرًا ما تأكل الزرع؛ لأنه محتاج لهذا حتى يقضي الحاجه بسهوله، نجد الكثير من هذه الأمور، كيف تشعر بالنعاس لأن الجسم محتاج للراحه، كيف تستيقظ، ولم تستيقظ، وهكذا، ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ إذا ً المطلوب التفكير في نفسك، ومكوناتها، وكيف وجدت، وكيف المشاعر؛ الحب، البغض، الغضب، كل ذلك، إذا فكرت في كل ذلك، وعرفت نفسك، عرفت الله، قد يكون المعنى هذا، وقد يكون المعنى أن يخلو ويفكر في نفسه دون إستعانه بالآخرين، ودون جدال، يتفكر منفردًا، ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ...﴾ [سورة سبأ آية‫:‬ ٤٦]، ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ هناك كلمة لابد من تقديرها، محذوفه، أولم يتفكروا في أنفسهم لو فعلوا ذلك لعلموا ما خلق الله السموات والأرض إلا بالحق، أو لم يتفكروا في أنفسهم فيعلموا أن الله ما خلق السموات والأرض إلا بالحق، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ(١٧)﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ١٦, ١٧]، ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ هو الحق خلقها بالحق، أي خلقها للحق، للعدل، للثواب والعقاب، فيجازي المحسن بإحسانه، ويجازي المسيء بإساءته، فخلقها للحق، وخلقها لإقامة العدل، خلقها للحق وبالحق؛ لأن الناس والمؤمنون بالذات إذا تفكروا في خلق السموات والأرض لقادهم ذلك إلى الحق، هو الله، خلق السموات والأرض بالحق كي يتدبر الناس، خلقهما لتدلان عليه، وعلى وجوده، وعلى قدرته، أو ماخلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، بكلمة كن، لأن الله تبارك وتعالى يقول في موضع آخر‫:‬ ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ... ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٧٣] ، ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ لام التأكيد، وبيان أن الكثرة على ضلال مرة أخرى، بيان الكثرة على ضلال، هناك ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهنا ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ لجاحدون، منكرون للبعث، يعتقدون أن الحياة أبدية، أو يعتقدون أن الحياه إلى زوال، ولا بعث بعدها، ولا ثواب، ولا عقاب، ولا قيامة، ولا حساب، ولا آخره، فينبئهم ربهم إذا لم يقودهم التفكير في أنفسهم إلى الله، وإذا لم يقودهم التفكير في السموات والأرض إلى الله، وإذا لم يروا هذا الوجود الذي لم يزعم أحد أنه أوجده، الناس تزعم مزاعم كثيرة، هل زعم أحد أنه أوجد الأرض؟! هل زعم أحد أنه سخر الشمس والقمر؟ هل زعم أحد أنه يقلب الليل والنهار؟ هل زعم أحد أنه رفع السماء؟ طالما لم يزعم أحد بذلك على مدار الزمان كله، إذًا فهو الله، هو الوحيد الذي قال أنه رفع السماء بلا عمد، ولم يزعم أحد سواه هذا، إذًا فهو الله، فإذا لم يؤدي بهم تفكيرهم إلى ذلك فليسيروا في الأرض، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَوَلَمْ يَسِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوٓا۟ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةًۭ وَأَثَارُوا۟ ٱلْأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ ۖ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿9﴾
كانت لهم رحلتان؛ رحلة إلى اليمن، ورحلة إلى الشام، يمرون على ثمود، وعلى عاد، وعلى أهل مدين، وقرى لوط، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ ﴿عَاقِبَةُ﴾ و ﴿عَاقِبَةَ﴾ قراءتان حسب الإعراب؛ إسم كان، أو خبر كان، الذين من قلبهم‫:‬ ثمود، عاد، قوم لوط، أهل مدين، وهكذا، كيف كان عاقبتهم؟ أين هم؟ أين بيوتهم؟ أين قصورهم؟ أين تجارتهم؟ أين زروعهم؟ أين ملكهم؟ أين سلطانهم؟ يبين ربنا تبارك وتعالى، ويحقِّر من شأن أهل مكه، ويتهكم بهم، علّهم يعقلون، فيقول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أهل مكه محصورون في واد صغير، تحيط بمكه سبعة جبال، وعليه هم لم يبنون بيوتهم في الجبال كما فعلت ثمود، ولم يبنوا القصور كما فعلت عاد، ولم يسيطروا على البلاد، ولم يتوسعوا فيها بالقهر، أو بالغلبه، أو بالسيطرة، بل هم قلائل، قبائل متفرقه، إن كانوا في البادية فهم سكان خيام، سكان الشعر والوبر، وإن كانوا بمكه فالبيوت من طين، بيوتهم حقيرة من طابق واحد، وليست عاليه البنيان، ولا شاهقة، لم يتسلطوا، ليست لهم جيوش، ليست لهم قوة، لم يزرعوا الأرض، فكيف يستكبرون؟ وهؤلاء قد أثاروا الأرض، وعمروها أكثر مما عمروها، فإن كنت ضعيفًا، لست كالأقوياء، فكيف تفعل فعل الأقوياء من الإستكبار، والتجبر، والتكذيب، بضعفك هذا، وبقلتك هذه، وبضعف قوتك، كانوا أشد منهم قوة، عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، ﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ أثاروها‫:‬ قلبوها، وإثارة الأرض‫:‬ فحت الأرض للزرع، أو لاستخراج المعادن، ومنه قول الله في وصف البقرة لبني إسرائيل ﴿...إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ...﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٧١] إذًا فهي لا تثير الأرض بالمحراث، أي لا تُقلب الأرض، أثاروا الأرض‫:‬ قلبوها، إذًافقد إستخرجوا المعادن، وشقو الأنهار، وغرسوا الأشجار، أمور لم يفعلها أهل مكه، وكان إعتمادهم على الجواري، والدعارة، وتجارة الرقيق، والإغارة، والسلب، والنهب، وتجارة الخمور فقط، ذلك كان رزق الجاهليه في مكه، هؤلاء الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها، ﴿وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ البينات : الكتب، المعجزات كعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، وكناقة صالح، وهكذا، ﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ الله تبارك وتعالى ليس بظلامٍ للعبيد، والظلم ممتنع عليه؛ فقد حرّم الظلم على نفسه من الأزل، فحين يقول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ أي ماكان ليفعل بهم فعل الظلمه، فيؤاخذهم بغير ذنب، أو يؤاخذهم بغير إنذار وإعذار، أرسل إليهم الرسل، بيَّن لهم في الكتب، أنزل إليهم المعجزات، وضح لهم بالبينات، أنذرتهم رسلهم بسوء العاقبه، فحين لم يتعظوا، ولم ينذروا، ولم يعلموا، وكذّبوا، واستكبروا، أهلكهم، ومن هنا يقول‫:‬ ﴿وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ عرّضوها للهلاك، وعرّضوها للتدمير‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ثُمَّ كَانَ عَـٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَـٰٓـُٔوا۟ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُوا۟ بِـَٔايَـٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُوا۟ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ ﴿10﴾
‫﴿عَاقِبَةَ﴾، ﴿عَاقِبَةُ﴾ قراءتان، كان عاقبة الذين أساءوا العمل، وأساءوا الإعتقاد، فاعتقدوا في الأصنام، و اعتقدوا في الأوثان، واعتقدوا في البهائم، واعتقدوا في الملائكة، فكان عاقبة هؤلاء الذين أساءوا السوأى، والسوأى تأنيث الأسوأ‫:‬ الأقبح، السوء : الشيء الشديد، الشيء القبيح، فكان عاقبة الذين أَسَاؤُوا،وفعلوا القبيح، من جنس أعمالهم السوأى، نزل بهم ماساءهم، فالسوأى كما قلنا تأنيث الأسوأ، والأقبح، كما إن الحسنى تأنيث الأحسن، وتطلق الحسنى على الجنة، وتطلق السوأى على النار، ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾ علة السبب في سوء العاقبة لهم أنهم كذبوا بآيات الله، وكانوا بها يستهزؤون، فهي علة إصابتهم بالسوأى، أو من حيث الإعراب ليست علة، وإنما هي عطف بيان، وفي حالة تغيير الأعراب يتغير المعنى، وتصبح كان عاقبة الذين أساءوا السوأى التي هي التكذيب، والإستهزاء فحين كذبوا بالرسل، وأساءوا الأفعال، وفعلوا القبيح، أورثهم ذلك الإستهزاء بالرسل، والتكذيب بالمعجزات، فحاق بهم ما حاق، ثم يقول الله تبارك وتعالى مبينًا للناس أنه هو الله، ولا إله سواه، الخالق، القادر، المهيمن، فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
ٱللَّهُ يَبْدَؤُا۟ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿11﴾ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ ﴿12﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَـٰٓؤُا۟ وَكَانُوا۟ بِشُرَكَآئِهِمْ كَـٰفِرِينَ ﴿13﴾
‫﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أمر واضح وضوح الشمس، ومع ذلك الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ كلكم يرى ذلك في كل شيء، في الطيور، في الحيوانات، في الزروع، في الناس، يبدأ الخلق، أنت تتزوج لايوجد أحد معك سوى المرأة، لحظه متعة، لحظه لذة، لحظه إستمتاع بالحلال، نطفة تلتقى ببويضة لادخل لك فيها، ولا تراها، ولا تعلم عنها شيئًا، وإذا بالخلق يتكون، يتشكل، وإذا بإنسان جديد جاء، واستهل صارخًا ليدل على وجود الخالق، المصور، المدبر، ثم هذا الطفل الصغير يكبر، وهكذا، ومنكم من يتوفى، ومنكم من يُرد إلى أرذل العمر، ومع ذلك فالوفاه تنتظر الجميع، وإلا أين الآباء؟ وأين الأجداد؟ يبدأ الخلق ثم يعيده، الأرض تزرعها، وينبت الزرع، ثم تحصدها، وتصبح الأرض كأن لم يكن فيها زرع، وفجأة ينبت الزرع مرة أخرى، الشجرة تثمر فتحصد الثمار وتبيعها، وبعد ذلك تثمر مره أخرى، وهكذا، يبدأ الخلق ثم يعيده، الليل يعقبة النهار، والنهار يعقبة الليل، الله يبدأ الخلق ثم بعيده، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ قراءتان، نهاية حتمية لابد من ذلك، لابد أن كل ذلك إليه راجع، ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ أبلس الرجل‫:‬ سكت، وانقطعت حجتة، وتحير، ولم يجد حجة، بل وليس له الأمل في إيجاد حجة، إذًا ﴿يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ ينقطعون، ويتحيرون، ولاحجة لهم، ويكتمون، ويختم الله على أفواههم لايتكلمون، ولايجدوا ما يتكلمون به، ولايؤذن لهم فيعتذرون، وحتى لو أذن لايجدوا ما يعتذرون به، وقُرأت‫:‬ ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلَسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ أبلسهم الله‫:‬ أسكتهم، وقطع حجتهم، وحيّرهم، ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء﴾ جيء بهم، وجيء بشركائهم، أحجار كانت، أو أصنام، أو آلهه زعموها، أو أُناسا، ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٦٦]، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٦٧] وتنطق الأحجار والأصنام تكذب العبدة، وتنطق الملائكة وتقول‫:‬ ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سورة سبأ آية‫:‬ ٤١] تتبرأ الآلهه المزعومه، ويتبرأ الكل، ويتلاعن الكل، ويتغابن الكل، فذاك يوم التغابن، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء، لا يشفعون لهم كما زعموا، ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [سورة الزمر آية‫:‬ ٣] أو يشفعوا لهم، ﴿وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ﴾ كفر العابد بالمعبود، وكفر المعبود بالعابد، وكانوا بشركائهم كافرين، أو هو كلام عن الماضي، كانوا بشركائهم كافرين في الدنيا، أي كانوا بسبب شركائهم كافرين بالله، أو هو كلام عن المستقبل، ﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ﴾ كلام بصيغة الماضي لكنه يفيد التحقق، سيحدث في المستقبل، ولكن جاء به بصيغة الماضي لإفادة التحقيق؛ أنهم فعلًا سوف يكفرون بشركائهم يوم القيامة، وكانوا بشركائهم كافرين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍۢ يَتَفَرَّقُونَ ﴿14﴾ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍۢ يُحْبَرُونَ ﴿15﴾ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَا وَلِقَآئِ ٱلْـَٔاخِرَةِ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴿16﴾
‫﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ يميز المؤمن من الكافر، والطائع من العاصي، يعرفون بسيماهم، يُعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، ويعرف الإنسان بعلامته، فالغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، يقال له هذه غدرة فلان بن فلان، والكاذبون على الله يقول الأشهاد يوم القيامة هؤلاء الذين كذبوا على الله، أما المؤمنون فسوف يجعل لهم الرحمن ودا، ويحشرون تحت لواء الحمد، وكل أمة تحت لواء نبيها، وهكذا تجد على وجوههم النضرة، إلى ربهم ينظرون، على وجوههم الفرح والسرور، ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون، أما في الدنيا؛ فالناس تختلط، يختلط غنيهم بفقيرهم، مؤمنهم بكافرهم، صالحهم بفاسقهم، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله، ويبسط الرزق للمؤمنين تارة، ويبسط الرزق للكافرين تارة، والغنى والفقر ليس علامة على الإيمان أو الكفر، والصحة والمرض ليس علامة على الطاعه والفسق، الناس غير متميزين في الدنيا، حتى المصلى لا ندري أيصلي لله أم يصلي لكي يمدح رياءًاً ونفاقًا، حتى المجاهد، أفي سبيل الله؟ والله أعلم بمن جاهد في سبيله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجر لا يعلم أهجرته إلى الله؟ أما في يوم القيامة فالعليم هو الله، والملك هو الله، والحاكم هو الله، وحينئذ يتفرقون؛ فيتميز الناس، ويُحشر أُناس في ظل، ويُحشر أناس في حر، وهكذا، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك اليوم‫:‬ أن الناس يسيل منهم العرق، ويغرقون في عرقهم بحسب أعمالهم؛ فغارق إلى كعبيه، وغارق إلى ركبتيه، وغارق إلى حقويه، موضع الحزام، وغارق إلى كتفيه، وغارق إلى أذنيه، وهناك أناس على منابر من نور، عن يمين عرش الرحمن، يغبطهم الأنبياء على مكانتهم من الله، وحين سألوه من هؤلاء يا رسول الله قال‫:‬ المتحابون في جلال الله، ويقول الله تبارك وتعالى عن يوم القيامه بعد أن فرّقهم وميّزهم‫:‬ هؤلاء يحملون كتبهم بأيمانهم، وهؤلاء يُعطون كتبهم وراء ظهورهم، وهؤلاء يحملون صحائفهم بشمالهم، وهؤلاء قد إسودت منهم الوجوه، وهؤلاء قد إبيضت منهم الوجوه، ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٠٦] هؤلاء حشروا عميًا، بكمًا، صمًا، وهؤلاء حشروا يسمعون، ويبصرون، ويسبحون، سبحانك اللهم وبحمدك، ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [سورة الأسراء آية‫:‬ ٥٢] هؤلاء يحشرون وهم يحمدون الله، وهؤلاء يحشرون لا يتكلمون، وهؤلاء، وهؤلاء، ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ كلمة "أما" إذا جاءت في وسط الكلام تعني دعك من هذا، وخذ من غيره، ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ وانتهى الكلام، دع هذا وتعالى وانظر ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ أما الذين آمنوا، أي دع هذا، ودع ما فيه، وتعالى نأخذ غيره، ها هي الساعة فتفرقوا، وعُرفوا، عرِف كلٌ بسيماهم، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون، الروضه:الجنة، الرياض‫:‬ الجنان، الروضه لابد وأن يكون فيها زرع، وثمر، وأنهار، زرع وماء وثمر تسمى روضة، فهم في روضه، فهم في ظل، في زرع، وفي ثمار، وفي أنهار يحبرون، الحبور‫:‬ ظهور أثر السرور على الوجه، السرور في القلب فإن إشتد السرور حتى ظهر على الوجه، وعلى الجوارح فهذا حبور، هؤلاء في روضة يحبرون، ينعَّمون، ويُكرَّمون، ويسرون حتى يظهر أثر النعيم عليهم، فإن رأيت هؤلاء علمت أنهم مُنَعَّمون، فرحون، مسرورون، أيضًا التحبير‫:‬ التحسين، وكأن الكلمة تعني ليس إظهار أثر النعيم عليهم فقط، بل هم بصفة مستمرة، دائمًا، أبدًا، يجمّلهم الله، ويحسّنهم، ويجمل طلعتهم، ووجوههم، فهم بصفه مستمرة في جمال زائد، دائم، متغير، وهذا يشير إليه حديث للنبي صلى الله عليه وسلم ينبئنا فيه أن في الآخرة، وفيما يوازي يوم الجمعة، يُدّعى أهل الجنة لوادي من مسك، وإذا بمنابر من نور، وإذا بأناس على هذه المنابر، وإذا بأناس على كثبان من المسك، هؤلاء يجلسون على المقاعد، المنابر، وهؤلاء يجلسون على الأرض على مرتفعات، هؤلاء لايحسدون هؤلاء، ولا يرتضون بمقاعدهم بديلًا، الذي في الأرض لا يرضى لأن يصعد إلى المنبر، والذي على المنبر لا يرضى إن ينزل إلى الأرض، لايحسد أحدهم الآخر، كل راضٍ بمجلسه ووضعه، وإذا بالعرش، وإذا بربنا سبحانه وتعالى، جل وعلا يكشف الحجاب، فينظر أهل المجلس إلى الله، يرون من الله ماشاء في هذه الساعة، وفي مثل ذلك الوقت، في كل دوره، ويعود هؤلاء الذين نظروا من ربهم، ورأوا من ربهم ماشاء، يعودوا إلى قصورهم في الجنة، فإذا دخلوا على الحور العين لم يعرفوهم، إذا بالداخلين عليهم وكأنهم غرباء، وكأنهن يرونهم لأول مرة، وتتعجب الحور، وتقول لقد جئتم بوجه غير الذي تركتمونا عليه، فيقول هؤلاء معللين السبب في التغيير، لقد رأينا من ربنا ماشاء، الجمال متجدد، والكمال والبهاء متجدد، وعطاء الله لاينفد، ولا نهاية له، عطاء غير مجذوذ، وغير مقطوع، ولا ممنوع، ومن هنا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ يظهر عليهم أثر النعيم والسرور أيضا يحسنّون بصفه مستمرة في بهاء وجمال وكمال وجلال، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ ﴿كَفَرُوا﴾ جحدوا بنعمة الله تبارك وتعالى ، ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾ بالمعجزات، وبالكتب، والآيات تطلق على المعجزات، وتطلق على كلام الله، ﴿وَلِقَاء الْآخِرَةِ﴾ أي لقاء الله، أو لقاء ثوابه وعقابه، فقد كذبوا بالبعث، هؤلاء الذين كفروا وكذبوا بآياتنا، ولقاء الآخره، ﴿ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ فإذا قال محضرون، إذا ً فلا فكاك، ولا هرب، ولا نجاه، ولا إعتذار، بل هم في السلاسل يسحبون، ثم في الحميم وفي النار يسجرون، ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(٣١)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(٣٢)﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ٣٠-٣٢].‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَسُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴿17﴾ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَعَشِيًّۭا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴿18﴾
آية من أغرب الآيات في هذه السورة، وفيها الكثير من التأمل، ومن التدبر، جاء بذكر التسبيح، وجاء بذكر التحميد، وجعل لهذا وقتًا، ولذاك وقتًا آخر، أهو كذلك؟ أم أن الكلام معترّض، أهو أمر؟ أهو خبر؟ أهو إخبار؟ أهو أمر بالتنزيه؟ أهي علامات على مواقيت الصلاة؟ فيها الكثير‫.‬‬‬‬‬‬
‫الآية خبر، أو هي أمر جاء في صيغة الإخبار، فإن كانت الآية خبرًا ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ فهو إخبار للناس أن الله هو المستحق الأوحد للحمد، وهو المستحق الأوحد للتنزيه، وجاءنا بأوقات تختص بالحمد، وأوقات تختص بالتنزية، في الصباح حين الإستيقاظ، في المساء حين النوم، تكون الخلوة، خلوه الإنسان بنفسه، وهنا يجب تنزيه الله عن كل ما يسيء، وعما لا يليق بجلاله وكماله، وفي أوقات الظهر، والعصر، وعشيًا من عشى العين، نقص نورها، فإذا نقص نور النهار بعد العصر إلى المغرب، فذاك هو العشى، في هذه الأوقات تتجدد نعم الله؛ إذ هي أوقات عمل، وأوقات شغل، وفي أوقات شغل، وفي أوقات الصباح والمساء، تتضح قدرة الله في تقليب الليل والنهار، كيف أنامك؟ كيف أصبحك؟ في الصبح والمساء تظهر آثار القدرة، وفي الظهر والعصر تتجدد الآلاء والنعم، من هنا تبين لنا الآية أن كل من يعقل من أهل السموات وأهل الأرض، هم على هذا التنزيه والتحميد لمستحق الحمد الأوحد، ذاك معنى، والمعنى الآخر أن الآية ليست خبرًا، هي في صيغة الإخبار ولكنها أمر، جاء في القرآن في أكثر من موضع الأمر في صيغ الخبر كقوله تعالى‫:‬ ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة الحشر آية‫:‬ ١٠] فهو أمر للناس، أمر لمن يعقل، أمر لكل مسلم، أمر لكل من يرى آثار قدرة الله ويرى آثار النعمة بالتسبيح، أي فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون، حال الخلوة حين ترى نفسك أوشكت على النوم والغفله والسكون، وهو حي قائم لا ينام، وحين تصبح فتجد الدنيا كما هي، وتجد الشمس قد أشرقت، وتجد نفسك قد قمت من نومك، ولا تدري كم مر عليك من الزمان حتى تنظر إلى ساعتك، أو تنظر إلى الجو لترى موضع الشمس، هنا يجب أن تنزه الله عما لا يليق بجلاله وكماله، وكذلك الحمد، تحمد الله في أوقات الظهر، أوقات الكد، والكدح، والعمل، والعصر حين الرواح، وقد كسبت، ورزقت بغير جهد منك، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، يرزقها وإياكم بغير جهد منك، إنما هي أسباب، تأخذ بالأسباب فقط، وقد يأخذ الرجلان بسبب واحد، أحدهما يربح، والآخر لا يربح، ونفس السبب، ونفس الرجل، ونفس السلعه، لكنها إرادة الله؛ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فهو أمر لنا بالتسبيح والتحميد في هذه الأوقات، وقد يكون الأمر غير ذلك، وقد يكون الأمر غير ذلك، وتكون هناك جملة إعتراضية؛ بمعنى أن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ ، ﴿وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ أصبح التسبيح في الأوقات جميعًا أما قوله‫:‬ ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فهي جمله إعتراضية، إخبار من الله لنا بأنه محمود من الأزل، حمد نفسه بنفسه، وحمدته السموات والأرض، إما بالمقال، وإما بالحال، وهنا يصبح الأمر بالتسبيح في أوقات بعينها، والتسبيح هنا يعني الصلاة، كما جاء في كثير من الأحاديث‫:‬ سُبحة الضحى، أي صلاة الضحى، ويصبح هنا أمرًا بالصلاة، وتحديد للأوقات، فسبحان الله حين تمسون المساء من بعد المغرب إلى العتمه، فتشمل صلاة المغرب، وصلاة العشاء، وحين تصبحون‫:‬ صلاة الصبح، وعشيًا‫:‬ صلاة العصر، وحين تظهرون‫:‬ صلاة الظهر، وتصبح الآية تحديد لمواقيت الصلوات الخمس، وسميت الصلاة بالتسبيح؛ لأن التسبيح فيها واضح، ظاهر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وهناك أيضًا قراءة أخرى وإن كانت غير مشهورة ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينًا تُمْسُونَ وَحِينًا تُصْبِحُونَ﴾‬‬‬
يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ وَيُحْىِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ﴿19﴾
‫﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾، ﴿وَكَذَلِكَ تَخْرَجُونَ﴾ قراءتان، ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ أرأيت الفرخ كيف ينقر البيضة، ويخرج في الوقت المناسب، بيضة ميتة، لاحياة فيها، يخرج منها الفرخ يمشي، ويصرخ، ويأكل، النطفة،نطفة الإنسان سائل لا حياة فيه، ولا حركة، ولا حس، ولا ألم، ولا فرح، وإذا بها تتحول إلى جنين يتحرك، ويُغذى، وينمو، ويخرج، ويصرخ، ويلتقط ثدي أمة بغير علم سابق، أو تجارب، ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ كذلك كما تخرج البيضة من الدجاجة، والنطفة من الإنسان، وكما تخرج الفضلات من الإنسان في قضاء الحاجه، وهكذا من كل ميت يخرج حيًا، ويضرب المثل على ذلك بالأرض، يحي الأرض بعد موتها، بعد يبسها، ترى الأرض يابسه، جامدة، لاحياة فيها، ولا روح، تراب، ينزل عليها الماء إذا البراعم تخرج، وإذا الخُضره، والحمرة، والصفره، والزروع، والعبير، والشذى، والطعم، واللون، أمور غريبه، تنمو الأشجار، وتنبت الزروع، وتثمر فواكة وخضروات، ﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ الأمر ميسور، سهل لكل عاقل يتأمل، ويتفكر، كيف حيت الأرض بعد حصاد الزرع تعود الأرض إلى الموت، وفجأة ينبت الزرع مره أخرى، حياة وموت يتعاقبان، وكذلك الإنسان، حياه وموت يتعاقبان، يموت الأب، ويحي الإبن، وهكذا، أجيال وأجيال تندثر، ويأتي وراءها أجيال أخرى، ﴿وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ الكلام لإقناع وتفهيم منكري البعث، وإلزامهم الحجة، وتبدأ الآيات من سورة الروم تحدثنا عن عجائب في الأرض، وفي الخلق، إذا نظر إليها الإنسان وتأمل، علم أن الله حق، وأن النبيين حق، وأن الموت حق، وأن البعث حق، يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬
وَمِنْ ءَايَـٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍۢ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٌۭ تَنتَشِرُونَ ﴿20﴾
آية من ضمن الآيات، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ﴾ خلق آدم من تراب، وخلْق الأصل أساس لخلق الفرع، فقد خُلق آدم من تراب، التراب الذي إذا جاء على ثيابك تقذرت به، وأزلته سريعًا، أنت منه وإليه تعود، ومنه تخرج، هذا التراب لونه، صمته، مواده، وكوده، رائحته، بتحول هذا التراب إلى إنسان كامل الأعضاء، حلو المنظر، بهيّ الطلعه، يتكلم، ويبصر، ويعقل، ويسمع، ويتفكر، ويتصرف، ويدبّر، والأغرب من هذا، ليس خلق، إذا كان خلق آدم بعيدًا عنك، فانظر إلى نفسك أما أنت فى قوامك، أنت ولدت، وغُذيت، ورُبيت، وكبرت من أي شيء؟ من طعام، ومن ماء، أصل الطعام، وأصل الماء التراب، فما من شيء نأكله إلا وهو أصلًا تراب، يخرج من الأرض فتأكله، وكذلك الماء ينبع من الأرض، ﴿ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ الزرع ينبت، وتحي الأرض، ولكن إذا نبت الزرع مكث في مكانه، لا يمشي، ولا يتحرك، أما أنت فتنبت كما ينبت الزرع، ولكنك إذا نبت وخرجت من الأرض، من التراب، إذا بك تنتشر، تمشي، تذهب، تتصرف، تملك أن تتصرف في الأشياء، وتتحرك، وتنتقل من مكان إلى مكان، آية لابد من وجود خالق، مدبِّر، مهيمن، يحول التراب إلى بشر ينتشر، ثم يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬
وَمِنْ ءَايَـٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًۭا لِّتَسْكُنُوٓا۟ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةًۭ وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ ﴿21﴾
خُلقت حواء من ضلع من أضلاع آدم، إذً فقد خُلقت المرأة من الرجل، أيضًا إذا كان هذا بعيدا ًعن ذهنك، بعيدا ًعن تصورك، فانظر إلى زوجتك، من أين جاءت؟ من نطفة الرجل، وانظر إلى النساء جميعًا، من أين خُلقن؟ من نطفة الرجال، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾، أيضًا قد تعني كلمة ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي من جنسكم؛ أنت تتزوج إمرأه من جنسك، وليس من جنس آخر، إنسان، وتلك رحمة كبرى حتى يتم التفاهم، الأغرب من هذا، الكلام في الآية عن العلاقة بين الرجل والمرأه، ﴿خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ السكون‫:‬ الأُلفة، والهدوء، الإطمئنان، السكون‫:‬ الراحة النفسيه، والرجل بغير إمرأة، وبغير زوجة مسكين، تجده وحيدًا، لايجد من يؤنسه، ولا يمكن يغنيه أب، أو أبن، أو أخ، أو صديق، لا يوجد مخلوق يغني عن الزوجة، ولا يمكن أن تسكن إلا لإمرأة، تلك آية، لتسكنوا إليها، ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ المودة : المحبة، الرحمة‫:‬ الإشفاق، المودة‫:‬ كناية عن الجماع، والرحمة‫:‬ كنايه عن الولد؛ لأن الله حين تكلم في موضع آخر عن الولد قال‫:‬ ﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [سورة مريم آية‫:‬ ٢١] أيضًا لو تأملت قليلًا، ونظرت في البهائم، تجد الكلب مثلًا يتشمم حتى يصل عن طريق آثار ما تركته الأنثى التي تطلب الجماع، حتى إذا وجدها جامعها، وانصرف، ولا يدري أين تلد، ولا أين تذهب، ولا يعرف عنها شيئًا، وكذلك البهائم، والوحوش، والدواب، والأسماك، التزواج بين الذكر والأنثى لاهدف له إلا قضاء المتعه، وإنجاب الذرية، أما في الإنسان فهو الخالق الوحيد الذي جعل الله بينه وبين زوجته الموده والرحمة، من هنا يمتنّ الله علينا، ويبين أن ذلك من ضمن الآيات الداله على وجوده؛ من خلق المودة في قلبك؟ من خلق التراحم بينك وبين إمرأتك، من خلق الحب والإشفاق؟ من أوجد هذه العاطفة الغريبة التي تجعلك تكد، وتعمل، وتأتي بالمال فتعطيه لها؟ من جعلها تنشغل عليك، وتقلق، وتسهر على راحتك؟ من وضع هذا في قلبها وقلبك؟ وأنا حين أتكلم أتكلم عن الفطرة السليمة، ولا أتكلم عن اللاتي أفسدهن العلم الخاطيء، وأفسدهن عدم الأمر بالمعروف، وأفسدهن قلة الأدب، وقلة التربية، أتكلم عن الفطرة السليمة، الرجل والمرأة كما خلقهم الله، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ تتفكر، وتتأمل في قدرة الله، وترى، وتنظر حين يحدثك النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم عن خلق حواء، من أين خلقت؟ خلقت من ضلع من أضلاع آدم، والضلع في جهة اليسار، أقرب ما يكون إلى القلب، فذاك موضع المرأه من الرجل أصلًا، وهذا ما يجب أن يكون حين تتزوج، يجب أن يكون موضع الزوجة من حيث خلقت، القلب، ولو خلقت المرأة من يد آدم لبطش بها، ولتكسب بها، وهذا مخالف للفطرة، ولو خلقت من قدمه لداسها، ووطأها بظلمة، ولو خُلقت من رأسة لكانت عقله المسيطر، خلقت من ضلع أقرب ما يكون إلى القلب، هذا مكان المرأة، ولو علمت المرأة مكانها لحافظت عليه، ولظلت في قلب زوجها، يرعاها، ويكلأها، وينفق عليها، وما خرجت تتكسب، وتشقى كما يفعل الرجال، ولو علم الرجل موضع المرأه لكرمها، وحنى عليها، وحفَّها بعطفه وحنانه، وكفاها مؤنة العمل، ومؤنه الخروج، ومؤنة التزين لغيره من الرجال، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾ ليس آية واحدة بل آيات، ﴿لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ يعملون عقولهم، ويتفكرون في قدرة الله، وحكمتة، ورحمته، وطالما هناك زواج لابد أن هناك تكاثر، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمِنْ ءَايَـٰتِهِۦ خَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَـٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّلْعَـٰلِمِينَ ﴿22﴾
‫﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وانظر إذا شئت، وتأمل في السماء وما فيها، السماء الدنيا فقط التي نراها، ما فيها من نجوم، وشموس، وأقمار، وأجسام مضيئة، وأجسام لايستطيع الإنسان أن يقترب منها حتى بفكره وخياله، عجز العلم عنها، سخر لك ربنا تبارك وتعالى ما في السموات، تخيل يقولون في السماء ملايين بل بلايين النجوم لماذا؟ تهتدي بها في ظلمات البر والبحر، أما كان يكفي نجمًا واحدًا؟ أما كان يكفي عشرة نجوم لهداية الناس، ومعرفة الطريق في البر والبحر، فلم هذه البلايين؟ لأن الله كريم، وخزائنه لا تنضب، وإذا أعطى أعطى بغير حساب، فتفكر في السموات وما فيها، كل ذلك سخر لكم، فإذا نظرت إلى السماء ليلًا، وهَالَكَ كثرة النجوم، فاعلم أن المليك الوهاب إذا وهب، فلا تسأل عن السبب، قادر يملك، كريم ليس لعطائة حدود، وانظر إلى الأرض، كم صنفًا من الطعام تأكل؟ حتى الصنف الواحد يتلون، ويتعدد في الأشكال؛ البرتقال؛ السكري، والمالح، كل شيء من الأطعمة تجد أصنافًا، وألوانًا، وأنواعًا، ليس هذا فقط، بل ألهمك في صنع الطعام أن تصنعه بطرق متعددة، وكأنه صنف جديد، كريم، هو الله، ﴿ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ الغريب كلكم لآدم وآدم من تراب، ذاك أمر مسلّم به، يا تُرى هل كان آدم أبيض اللون، أم كان أسمر، أم كان أحمر، كيف كان لونه؟ إن كان آدم أبيض اللون، فمن أين جاء السود؟ وإن كان أسود اللون، فمن أين جاء البيض؟ إن كان جميل الطلعة، فمن أين وصل إلينا القبح؟ وإن كان ليس على حظ من الجمال، فمن أين جاء الجمال والبهاء؟ سبحان الله خلاّق، إختلاف الألوان، ليس فقط في الألوان بل في الملامح، هل يمكن أن يختلط عليك إنسانان في وقت واحد، هل يمكن أن يختلط واحد منكم على الآخر، كلكم له عينان، وأنف، وفم، وأذنان، وحاجبان، ومع ذلك كم من الملايين من البشر لا تجد إثنان فقط على شكل واحد، أمر غريب! لو جئت بأكبر الرسامين في العالم يرسم الملامح مائة، مائتين، لابد أن يقلد نفسه بعد قليل، أما الله فخلقه متجدد، وجديد، والأغرب من هذا الأب والأم، ويأتي الإبن الثاني، والأعجب غير شبيه بأخيه، من أين؟ من نفس الأب ونفس الأم جاء الولد، أخذ من ملامح أبيه شيئًا، وملامح أمة شيئًا، فلِمَ يأتي الثاني بملامح جديدة، والثالث كذلك،.. والعاشر؟ ولو جاء الأب والأم بخمسين من الولد، لجاء الكل منهم شبة خاص، وقادر ربنا أن يخلق الناس كالنمل؛ هل تستطيع أن تفرق نملة عن نملة؟ أو نحله عن نحلة؟ ملامح النمل، وملامح النحل، والطيور، العصافير قد تختلف في الألوان، أما في الملامح، في العينين، في الأذنين، في المنقار، فالملامح واحده، أما الناس فاختلاف الألوان، والملامح، والأشكال، والطول، والقصر، والعرض، حتى البصمة، لا يمكن أن تشبة بصمة أخرى؛ لا في قديم الزمن، أو جديده، وصدق ربي حيث يقول‫:‬ ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [سورة القيامة آية‫:‬ ٤] حتى البصمة تأتي كما هي حين البعث، دون تغيير، وأختلاف اللسان أغرب، وأعجب، كيف كان كان يتكلم آدم، وعلّمه ربنا الأسماء بلغة واحدة، ولم يعلّمه بلغات عديدة، من أين جاءت الأسماء باللغات المختلفة؟ كيف تعددت الألسنة، واللسان واحد، والفم واحد، الإنسان مخلوق من أم وأب واحد (آدم)، مئات اللغات، الأغرب من ذلك ليست اللغة فقط هي المختلفه بل المنطق؛ كلكم يتكلم العربيه، ومنطقك يخالف منطق أخيك، والأغرب، والأغرب، الصوت؛ لاتجد صوتان متشابهان أبدًا، حتى الأصوات مختلفة، هو الله، هل في ذلك شك؟ هل هناك حجة لمراءٍ أو محاج؟ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ﴾ العالَمين جمع عالَم، والعالَم كل ماسوى الله، لكل عاقل، لكل مميز، آية رغم أنفه، أقر أو لم يقر هي آية، هي معجزة، إن كانت القراءه كذلك، وإن كان القراءة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ جمع عالِم، الذي يعلم الأمور على حقيقتها، ويستخدم عقله فيما خلق له، ويتفكر في خلق السموات والأرض، وكيف أن من وراء ذلك مدبّر، مهمين، قادر، خالق، حي، قائم، يرى، ويسمع، فيقول الله تبارك وتعالى معددًا نعمه، معددًا آياتة التي لاينكرها إلا ظالم‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمِنْ ءَايَـٰتِهِۦ مَنَامُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُم مِّن فَضْلِهِۦٓ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَسْمَعُونَ ﴿23﴾
والآية في التركيب اللغوي غاية في الدقة والأعجاز، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ﴾ إما أن الكلام فيه تقديم وتأخير، فيصبح المعنى (ومن آياتة منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضلة بالنهار) قد تكون كذلك، وقد تكون الآية فيها لف وضم للفعلين والزمانين بعاطفين؛ ليتبين لكل متأمل أن الليل وإن كان مختصًا بالنوم، والنهار وإن كان مختصًا بالمعاش، إلا أنهما يصلحان للأمر الآخر إذا دعت الحاجه، لذلك قال‫:‬ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ﴾ أي أن النوم بالليل، والجري على المعاش بالنهار، ذلك أصل، ولكن قد تدعو الحاجه إلى العكس، فتعمل ليلًا، وتنام نهارًا، فجاء بالصيغة العجيبة الدقيقة التي لا يلتفت إليها إلا الراسخ في اللغة، لف وضم للفعلين والزمانين بعاطفين؛ ليبين لك أن النهار وإن كان مختصًا بالعمل، والليل وإن كان مختصًا بالنوم إلا أن كل منهما يصلح للآخر، وإذا نظرنا في الكلام بعد النظر في اللغه والسياق، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم﴾ كيف تشعر بالنعاس؟ هل تحسب الوقت؟ هل تعمل كما تعمل الآله كذا ساعة عمل، وكذا ساعة راحة، وكذا ساعة نوم، أم أنك تشعر بالنعاس ، وتثقل منك الأجفان، تزيغ في النظر العينان، حتى السمع يضعف، وتضعف به الأذنان، وتجد نفسك تراخيت، وهمدت منك القوة، وخمدت فيك الشعلة، وتشعر بالنعاس، كيف؟ ولماذا؟ هو الله، يريد أن يعطيك الراحة للقوى النفسية و القوى العضليه فيشعرك بالنعاس كما أشعرك بالجوع لإعطاء الجسد حاجاتة من الطعام، فتنام حين تنام، هل تضع في أذنيك قطنه؟ هل تغلق الأذنين بباب؟ كيف لا تسمع وأنت نائم؟ أين ذهبت قوة السمع؟ وكيف تغمض منك العينان ولاتبصر؟ وإذا لمسك أحد من الناس لم تشعر بلمسه، أين الحواس؟ أين ذهبت؟ ماهذا السبات؟ ساعة، ساعتين، تسع ساعات، كم من الوقت تنام، ولا تشعر بمرور الزمن، ولا تدري بما يدور من حولك، والسماء هي هي، والأرض كذلك، من يحفظ هذا؟ من الذي يكلأك وأنت نائم؟ الغريب المعدة لا تنام، القلب يدق، والحجاب الحاجز يرتفع وينخفض، والرئتان تعمل، والنفس يدخل ويخرج، والأغرب أن تنفس النائم أشد إنتظامًا من تنفسه وهو يقظان، تجدة على وتيرة واحدة، لو تسمعه لعرفت أنه نائم من أنفاسه، كيف تعمل المعدة، وخلايا الدم، والأعضاء، والعروق حتى وأنت نائم، من يقلّبك من جنب إلى جنب؟ لو مكثت على جنب واحد لقمت مضعضع الأعضاء،منهار القوى، لكن الله يقلّبك وأنت نائم حتى لا يؤثر النوم الطويل على جنب دون جنب، وكذلك فعل مع أهل الكهف ثلاثمائه سنين وازدادوا تسعًا، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، هو الله، أيضًا أنت حين تنام ترى أباك جاءك يسعى ويقول الله، ويحدثك وقد مات منذ زمن طويل، كيف جاء؟ ومن المتكلم؟ وترى نفسك في أماكن قد رأيتها من قبل، وقد لا تكون رأيتها من قبل، كيف صُورت؟ من الذي أحضرها في ذهنك ومخيلتك؟ ترى وأنت نائم، وتسمع وأنت نائم، وتسافر وأنت نائم، وتقف أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذهب وترى نفسك مسافر تطوف حول الكعبه، وتسعى بين الصفا والمروة، وقد يمنّ الله عليك فترى الطلعه البهية لسيد الخلائق صلى الله عليه وسلم، وقد تشرب، وتجامع، وتحتلم، كل ذلك وأنت نائم، كيف؟ ومتى؟ وأين؟ ومن أين؟ وأنت نائم لاتدري شيئًا، لا تتحكم في نفسك، كيف إستحضار هذه الصور والأماكن؟ الأغرب أنك قد ترى الشيء منامًا وتصبح وإذا به يتحقق، هل إطلعت على الغيب؟ ومن أخبرك؟ هو الله، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ﴾،إذا نمت بالليل، فكيف تنام بالنهار؟ وإذا كان الليل قد خلق لباسًا، وخلق النهار معاشًا، فمن فضل الله، ورحمتة، وحكمته، جعل النهار رغم أنه معاشًا إلا أنه يصلح للنوم، فقد تضطر للعمل ليلًا فيمنحك النوم بالنهار، رغم أن النهار خُلق للعمل، وقد يمنحك القدرة على السهر ليلًا للعمل رغم أن الليل لباسًا، هي آية، بل آيات، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ يسمعون، سمع‫:‬ تفهم، وتدبر، وتعقل، وتبصر، السمع الذي أُغلق في النوم، وفتح في اليقظة، بغير باب، بغير مفتاح، فتحه الفتاح العليم، وأغلقه القابض الباسط، ﴿وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ﴾ تفكر قليلًا، وانظر إلى نفسك، ولغيرك كيف ترزق؟ لو أنك تاجر، تذهب في الصباح، وتفتح محلك، وتجلس، من أرسل إليك المشتريين؟ وتجد محلين متجاورين، ويبيعان نفس السلعه، أحدهما تتكأكأ عليه الناس، والآخر لا يهش إلا الذباب، هل لهذا جهد، وهل لهذا عجز؟ حتى إبتغاء المعاش في النهار، من مهد لنا الطريق؟ من علّمنا البيع والشراء؟ من علمنا التجارة؟ من علمنا الصناعة؟ من علمنا كل ماهو موجود من أسباب نبتغي بها الرزق؟ هي أسباب نأخذ بها، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [سورة العنكبوت آية‫:‬ ٦٠] أيها الأخ الكريم، حين خلق الله تبارك وتعالى لنا الطعام، وأنزل الرزق وقدره من الأزل، لم يكن كما تراه الآن، اللحم مثلًا، اللحم لو تركته قليلًا يفسد ويتلف، ويأتيه الآفه، أليس كذلك؟ هل تدري أن اللحم لم يكن يخبز أبدًا، ولم يكن يتلف أبدًا، حين خلق آدم، وتعلم القنص والصيد، وخلقت له تلك البهائم التي سخرها لنا الله، ألبانها، لحومها، حين كان يصيد، ومن بعده أقوام ونوح، فحين تذبح الذبيحة يبقى اللحم كما يبقى الخبز، لم يكن يتغير، متى تغيرت، ولماذا أصبح يصيبها التلف؟ جاء يهود، وخرجوا عن شريعة موسى، وقذف الشح في قلوبهم، فتعلموا الكنز، فكنزوا اللحم، ولولا أنهم كنزوه ما خنز اللحم أبدًا، هكذا يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّط الله عليه الآفة فأفسده، أيها الأخ المسلم، إبتغاءك لفضل الله في النهار، والتعبير في الآية غريب يدعو للتأمل، ﴿وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ﴾ إذًا فما تحصل عليه من رزق بجهدك، أم بفضل الله؟ بفضل الله، إذًا الرزق من فضل الله ليس المجهود، ولا الخبرة، ولا التدبير، ولا التضارب، ولا الحكمة، ولا كل ما يزعمة الناس، ومن آيات الله التي تدعو إلى التأمل والتفكر، أن الشيء الواحد قد يكون مفتاحًا للخير، أو مفتاحًا للشر، وقد يكون مجلبه للنفع، أو مجلبه للضر، ويتبين لنا من ذلك أن الأشياء لا تصرف لا بذواتها، وإنما بما وضعه الله فيها من خواص، حتى هذه الخواص، وهذه السنن التي ركبت في الأشياء من بدء خلقها، قد تأتي بما يشتهية الناس، وقد تأتي بما يخافة الناس، فيقول الله تبارك وتعالى في استعراض آياته في سورة الروم‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمِنْ ءَايَـٰتِهِۦ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفًۭا وَطَمَعًۭا وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۭ فَيُحْىِۦ بِهِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ ﴿24﴾
البرق هو شيء واحد، ومع ذلك قد يأتي بالخوف، وقد يأتي بالطمع، قد يرجو الناس من وراءة، وقد يحذر الناس من وراءة شرًا، والبرق هو البرق، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ والتقدير هو (ومن آياته أن يريكم البرق) بتقدير "أن"، أي أن يريكم البرق، أو هو على التقدير آياته، ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ أي إرادة خوف، وإرادة طمع، إخافة وإطماع، البرق بالنسبة للمسافر يخوّفه؛ يخاف من الصواعق، فهو في سفر ولا يفيده البرق شيئًا، والبرق إطماع للمقيم؛ فمن وراءة يأتي المطر، وتأتي الحياة، ويأتي الغيث خوفًا على الزرع من البرد فقد يهلك، وطمعًا في الغيث والمطر الذي يحي به الزرع، ويحي به الضرع، فمن آيات الله أن يكون البرق مصدرًا للخير، ومصدرًاً أيضًا للشر، وكلٌ بحسب قسمة الله، فإذا أراد بالناس خيرًا أتى البرق بالمطر، وإذا أراد بالناس شرًا أتى البرق بالصواعق، والبرق هو البرق، والله هو الخالق والمدبر، ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ كل الناس لهم عقول، ولكن ليس لكل من له عقل أن يعقل به، أو يستخدمه فيما خُلق العقل له، في هذا آيات لقوم يعقلون، يستخدمون عقولهم فيما خلقت العقول له، في التدبّر، والتفكّر، في معرفة الأسباب، في معرفة المبادي والنهايات، أن تتأمل في هذه الأرض، الموات التي لا حراك فيها ولاحياة، وإذا بالماء ينزل، وقد حلل العلماء الماء، فوجدوا مكونات هذا الماء لا علاقة لها بالحياة، أو بالإحياء، بل الماء في أصلة هواء؛ فهو مكون من ذرات، هي مكونات الهواء، هذا الماء لاطعم له، لا لون له، لا رائحة له، ينزل هذا الماء على التراب الجامد الميت، إذا بك ترى الأرض تنبت، وتخرج زروع ألوان وأصناف في الرائحة، في الطعم، في الألوان، في النفع، في الضر، فمن الأرض تنبت السموم نواقع، ومن الأرض أيضًا تنبت الزروع، والورود، والأزهار، والرياض، من نفس الأرض، وبنفس الماء، آية، عبرة، ودلالة على المدبّر، المتصرِف الذي لا يشاركة مخلوق أو أحد في تدبيره، وتصريفة، ثم يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬
وَمِنْ ءَايَـٰتِهِۦٓ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلْأَرْضُ بِأَمْرِهِۦ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةًۭ مِّنَ ٱلْأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ﴿25﴾
‫﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ كلمات محدوده، والمعاني خلف هذه الكلمات لاحد لها، قيام السموات والأرض بإقامته هو لهما، فهو الذي أقامها، وبإرادته لقيامها في حيّزهما المعيّن، دون مقيم محسوس، فتأمل الأرض معلقه في الهواء، من الذي علّقها؟ بغير مقيم يقيمها في هذا المكان، يقولون جاذبية بينها وبين الشمس، فإذا كانت الجاذبيه من الشمس توقفها، فلِمَ لمْ تأخذها إليها؟ ولِمَ لمْ تهرب هي من هذه الجاذبيه؟ وما الذي يجعلها تدور حول نفسها؛ فينشأ الليل والنهار، وما الذي يجعلها تدور حول الشمس، وبميل مخصوص، فتنشأ الفصول؛ الربيع، الخريف، والشتاء، والصيف، وينشأ العام ودورانها حول الشمس في هذا الفضاء، كيف؟ ومن الذي جعلها تفعل ذلك، وإن كانت الجاذبيه هي التي أقامتها، فهو سبب، من الذي خلق السبب؟ وأين هذا السبب في حق الشمس؟ الشمس أيضًا معلقه في الفضاء، ما الذي علّقها، وبأي شيء علقت؟ ولم لا تدور حول نفسها كما تدور أيضًا الأرض؟ ولِمَ لا تدور حول شيء آخر؟ والنجوم والكواكب في أماكن لا تتعداها، ولها مشارق، ولها مغارب، وحسبها العلماء لمئات السنين المقبله، يعرفون مواقعها، والتي أقسم الله بها فقال‫:‬ ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(٧٥)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(٧٦)﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٧٥, ٧٦] هذه المواقع منها النجوم ثابتة، ومنها النجوم تدور حول بعضها البعض، ومنها مايسبح في الفضاء، نظام كوني غريب، لا مفسر له إلا شيء واحد، هو الله، هو الله، قامت السموات بغير عمد، كيف قامت؟ ونحن لم نرها، ولم يصل إليها العلم حتى الآن لشدة البعد، ولبعد المسافة، مسافة تبعد حتى عن الخيال، كل ما نراه هو الزينة التي جعلها الله للسماء الدنيا فقط، أما السماء نفسها، حتى السماء الدنيا، لم يصل إليها العلم حتى يومنا هذا، قيام السموات، وقيام الأرض بهذا الشكل، وبهذا الوصف، وبهذا النظام العجيب، قامت وأقامها الله في حيّزها، وبغير مقيم، كيف قام هذا النظام؟ وكيف أقيم؟ هو الله، وفي الآية كلمة يقول الله تبارك وتعالى فيها‫:‬ ﴿بِأَمْرِهِ﴾ إذًا فالقيام الذي نراه في شأن السموات والأرض بأمر، إذا ً فهو ليس بآلة، وليس بسبب، وليس بأداه، وليس بشيء مطلقًا سوى كلمة واحده، مكونه من حرفين، هي كلمة كن، بل الأمر بين الكاف والنون، كن فكانت، قامت السموات والأرض بأمره، إذًا فهو بكلمة واحده قام هذا النظام الشامل المعجز، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ "ثم" إما لتراخي الزمان؛ فالدنيا لها عمر، ولها أجل، كما قال ربنا تبارك وتعالى في أول السورة‫:‬ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٢٢] وقال أيضًا‫:‬ ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٨] وقلنا أن كلمة بالحق‫:‬ إظهارًا للحق، تأكيدًا لوحدانيتة، بالحق‫:‬ بكلمة الحق "كن"، ﴿وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إذًا فلهما أجل، لا يمكن أن تتعداه السموات، أو تتعداه الأرض، إذا ً فلهما وقت محدود، وعمر، وأجل لا يعرفه إلا الله تبارك وتعالى، إذا ً لابد لها أن تزولا، طالما قال تعالى‫:‬ ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إذا ً فللدنيا نهاية، وللسموات والأرض بداية ونهاية، ونهاية السموات والأرض بانتهاء الأجل الذي حدده الله من الأزل، إذًا فكلمة "ثم" ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ...﴾ "ثم" لتراخي الزمن بعد أن ينتهي الأجل، أو كلمة "ثم" تفيد هول الموقف، وفظاعه مايحدث في هذا اليوم، السماء كالمهل، السماء تتصدع وتتشقق، وتندثر الكواكب، الشمس تكوّر، ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ(٢)وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(٣)﴾ [سورة التكوير آية‫:‬ ١-٣] هذا يوم أعاذنا الله من شرورة ومن أهواله، ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ ﴿إِذَا﴾ الأولى ﴿إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ﴾ للشرط، ﴿إِذَا﴾ الثانية ﴿إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ للمفاجأة، وجاءت تنوب مناب الفاء في إجابة الشرط، فليس هناك إجابه للشرط، فإجابة الشرط تحتاج للفاء، فجاء ﴿إِذَا﴾ تنوب مناب هذه الفاء لبيان المفاجأة، المفاجأة في النفخة الثانية، فسوف تكون مفاجأه يُفاجأ لها الكل بما فيها الرسل، بما فيها المقربون، مفاجأة مذهلة، أكبر مفاجأه على الإطلاق في الوجود هي مفاجأة الخروج من الأرض، هذه المفاجأه التي يبينها الله تبارك وتعالى في هذه الآية ويقول‫:‬ ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ ﴿مِّنَ الْأَرْضِ﴾ تتعلق بكلمة ﴿دَعَاكُمْ﴾ وليس متعلقة بكلمة ﴿تَخْرُجُونَ﴾ كما يظن البعض، فما بعد ﴿الْأَرْضِ﴾ لايعمل فيما قبلها، إذا ً الدعوه من الأرض ﴿مِّنَ الْأَرْضِ﴾ متعلق ب "دعا" وليس متعلق ب "تخرجون"، لأن هناك من يخرج من الأرض، وهناك من يخرج من أعماق المحيطات، دعوة واحدة، تبين الصيغة أن الإجابة بمنتهى السرعة، ترتيب حصول الخروج من القبور للبعث يشبة حصول إجابة دعوة الداع المطاع، فلان إذا كان الداعي مطاعًا مهابًا يخافه المدعو؛ بمجرد أن يسمع "يافلان" يقول لبيك، فكذلك يشبّة ربنا تبارك وتعالى الخروج من القبور، ليس محتاجًا لأداه، أو آلة، الناس أصبحت تراب هباء، وُزعت الأجساد في أكثر من مكان، هناك من يُحرق ويذَّر في الهواء، وهناك من تأكله السباع، ويزرع في بطون الوحوش، وهناك من تأكله الطيور فيتوزع في حواصلها، تتمزق الأجساد، وتتمزق الشعور، وتَبلى العظام، وتتوزع، ولايدري الإنسان أين مكانها؛ هنا جزء، وهنا جزء، وهنا جزء، هنا الجمع لايحتاج إلا لدعوة كدعوة الداعي، وكأن الله إذا قال "أيها الناس قوموا" فقاموا ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة المطففين آية‫:‬ ٦] ، كن فيكون، وتأتي الآية عقب شرحة لإقامة السموات والأرض،كما أقام السموات والأرض بكلمة كن من غير مادة، من غير وقت، من غير تربص بأفكار، أو ترتيب أفكار، بغير آلة، أو مادة، أو جارحة، هي بكلمة، يأمر كن فكانت السموات والأرض على ماترون من هذا النظام، فكذلك حين يدعوكم من الأرض قوموا يقوم الناس لرب العالمين، وكأن الدنيا لحظه يتعارفون بينهم، يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة، ويقول بعضهم‫:‬ من بعثنا من مرقدنا، هذا ماوعدنا الرحمن وصدق المرسلون، ثم يقول عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ كُلٌّۭ لَّهُۥ قَـٰنِتُونَ ﴿26﴾
كلمة "من" تفيد العاقل، وهي للتغليب، فله من في السموات والأرض، وله ما في السموات والأرض عاقل أو غير عاقل، ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ القنوت؟ يأتي في القرآن بمعنى الطاعة، يأتي بمعنى الخضوع، يأتي بمعنى الإنقياد، ويأتي بمعنى الإخلاص، والقنوت هنا أن كل ماهو موجود في السموات وفي الأرض منقاد لله تبارك وتعالى في تصريفه، وتدبيرة، منقادون لفعله فيهم، خاضعون له، متذللون له، إما قالةً، أو دلاله، فمن الناس من هو قانت بالقول، الخاضعون بالعبادة، المسبحون لله، وهنا المقرون بدلالة الحال كدلالة الشمس على موجدها، ودلالة الأرض والنجوم على خالقها، ودلالة المتحرك على محركة، وهكذا، فالكل خاضع، فأنت منقاد، طاعة، خضوع، وانقياد، إما بالقول، وإما بالفعل، وإما بدلالة الحال، ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾‬‬‬
وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَؤُا۟ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلْأَعْلَىٰ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿27﴾
‫﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أو ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدِئُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ يستدل الله تبارك وتعالى بالحاضر أو بالشاهد على الغائب، فبِدء الخلق مشاهد، معلوم، نطفة الرجل في رحم المرأة تتعلق، فإذا بها علقه، فإذا هي مضغه، فإذا هي عظام، وهكذا، هذا هو بدء الخلق للناس جميعًا، فإذا رأيت بدء الخلق يمكن لك أن تستدل بهذه البداية، وبما ظهر منها، على ما خفى من الإعادة، فمن قدر على الإبتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ إذا نظرت إلى الأرض موات لاحياة فيها، ولا نبات، فينزل الماء فتحيا الأرض، فينبت الزرع، فيحصده الناس، وتصبح الأرض بعد ذلك جُرُزًاً حصيدًا، وبعد ذلك يأتي الماء مرة أخرى، وينزل وتحيا الأرض، وهكذا دورة، ودورات، وحياة مستمرة، ها هي الأرض أمام كل ناظر نظرة حق، نظره تفكر، وتأمل منذ ملايين السنين يأكل الناس في مصر من أرض مصر لم تنتهي الحياة، تبدأ، وتعاد، وتبدأ، وتعاد، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ فاستدل بالمشاهد على الغائب، وبالبداية على النهاية، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أهون عليه‫:‬ أسهل، الهيّن‫:‬ السهل، اليسير، الذي لايحتاج إلى مجهود أو إعمال الفكر، هل هناك شيء أهون على الله من شيء؟ أبدًا،ً ليس شيء أهون على الله من شيء، بل الكل هيّن، وإيجاد أمة كخلق نملة، وخلق إنسان كإيجاد كافة الأكوان، "كن فيكون" فكل المقدورات في قدرة الله تبارك وتعالى سواء، ليس هناك سهل وعسير، وإنما كل شيء هيّن، وذلك على الله يسير، ولكن كلمة أهون إما بمعنى هيّن، والعرب ما تستعمل صيغة أفعل في غير بابها؛ أكبر بمعنى كبير، وليس أكبر من شيء آخر، وهكذا، ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أي هو هيّن عليه، أو إن كانت على بابها في صيغة أفعل ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ إذًا فالقياس على قدرة الناس، والقياس على تصرف الناس، والمخاطبه على قدر عقول السامعين، فلدى الناس في الأفعال أشياء صعبة، وأشياء سهلة، أشياء هيّنة، وأشياء أهون، وهكذا، فإن كنتم أنتم تدبرون، وتتصرفون، وتصنعون، وتعملون، وتفعلون، فهناك شيء سهل، وهناك شيء صعب، ففي تفكيركم، وفي عقولكم، وعلى قدر قدارتكم، وتصرفاتكم، أيهما أصعب؟ الإنشاء أم الإعادة؟ الإنشاء من عدم، الإعادة من مادة وجدت، وفنيت، وأنت تعيد تركيب المادة، ففي عقل الناس، وعلى حسب تقديرهم، وقدراتهم، الإعادة أسهل من الإنشاء، فإذا أقررتم بالإنشاء، وبأن الله هو الذي بدأ الخلق، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [سورة العنكبوت آية‫:‬ ٦١] فإذا كان الأمر كذلك فلم تستصعبون على الله، وتقولون‫:‬ ﴿وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٤٩] لم تستصعبون ذلك، والإعادة أسهل من الإنشاء؟ من هنا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ ولإزالة شبهات التشبيه، يقول الله في ختام الآية‫:‬ ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ المثل الأعلى‫:‬ فمهما شُبِة الأمر، ومهما مُثِل لك، ووصف لك، وجيء بالأمثال كي يعقلها العالمون والمتفكرون، فالله تبارك وتعالى فوق كل مثال، وخلف كل خيال، ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ المثل : الوصف العجيب الشأن، له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يساوية، ولا ما يدانية، هو الله، له المثل الأعلى في السموات والأرض، الوصف الأعلى، حتى أن بعض المفسرين قالوا أن هذه الآية مقصود بها كلمة التوحيد"لا إله إلا الله"، هي لله وليست لغيرة، وله المثل الأعلى أي له التوحيد الخالص، "لا إله إلا الله" لا تُقال إلا له، هو الله، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ القوي، الغالب، العزيز، الشيء الذي لا مثيل له، العزيز‫:‬ الشيء الذي لا يُدرك، العزيز‫:‬ الشيء الذي لا يوصل إليه، العزيز‫:‬ الغالب، القاهر، القوي، فالله تبارك وتعالى هو العزيز الذي لا يعجزة شيء، ولا يدركة شيء، ولا يفوته شيء، الحكيم‫:‬ كل أفعال الله تبارك وتعالى بالحكمة، ولا تخلو أفعال الله من الحكمة أبدًا، وما من شيء حدث إلا وبحكمة، وما من شيء لم يحدث إلا وبحكمة، فالله هو العزيز الحكيم، له الوصف الأعلى، له المثل الأعلى، له الصفات العلى التي ليس لغيرة ما يساويها، ولا ما يدانيها، هو الله، فيضرب الله تبارك وتعالى الأمثال للناس، ولعلهم يعقلونها، والأمثال التي ضُربت في القرآن كثيرة، تقرب المعقول من المحسوس، وتشعرك بحنان الله تبارك وتعالى على خلقه، حتى الكفار منهم فهو يأخذهم رويدًا رويدًا، يخرجهم من الظلمات إلى النور، يضرب لهم الأمثال بالمشاهد للإستدلال على الغائب، وهكذا، وها هو الله تبارك وتعالى يضرب لنا مثلًا أقرب ما يكون إلى أنفسنا، فيقول تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًۭا مِّنْ أَنفُسِكُمْ ۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَـٰكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌۭ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْـَٔايَـٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ ﴿28﴾
‫﴿ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ﴾ من أنفسكم : من أحوالكم، ومن أموركم، وهي أقرب الأشياء إليكم، أن يضرب المثل من نفسك، من حالك، من تصرفك، فتعقل، ﴿ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ في الآية ثلاث كلمات "من"، "من " الأولى للإبتداء ﴿ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ﴾، ،"من" الثانية للتبعيض ﴿هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم﴾،، "من" الثالثة ﴿مِّن شُرَكَاء﴾ لتأكيد الإستفهام المفيد معنى النفي، ﴿ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ السؤال والمثال للأحرار الأغنياء، إشترى الحر من ماله عبدًا يخدمة، والإماء كذلك، فربنا يضرب لهم مثلًا بهذا الحال، أنت مالك متصرف، واشتريت عبدًا من مالك لخدمتك، هل يمكن لهذا العبد أن يكون شريكًاً لك في مالك، ودارك، وأهلك، وماعندك؟ بل وليس شريكًا لك في مالك فقط بل في المال، والتصرف، والتدبّر، بل شريك تعمل حسابه، تخاف أن يستأثر بالشركة، أو يستأثر بالتصرف دونك، أو يستبد به، أو تخاف أنت أن يستبد بالتصرف، فيراجعك، ويضرب على يدك، هل يمكن لهذا العبد الذي إشتريته أنت بمالك أن يكون شريكًا لك تخافه، أو تخاف أن تتصرف دون مشورته، أو تخاف أن يتصرف هو دونك فتصبح ولا شيء لك، هل يمكن أن يعقل هذا؟ هل يمكن أن ترضى به؟ ﴿هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء﴾ مستوون في التصرف، والملكيه، والتصريف، ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ تخافون هؤلاء العبيد، كما تخافون الأحرار إذا شاركوكم في أموالكم، وقد يخاف أن يستأثر بالتصرف دونه، أو يخاف أن يتصرف دون أخذ رأية أو مشورته، فتنفض الشركة، هل يمكن هذا؟ سؤال، واستفهام يفيد النفي، وكأن الإجابة لا يمكن أن يحدث هذا، ولا يمكن أن يعقل ذلك، والأغرب في الآية أن الله تبارك وتعالى بيّن وحدد الملكية المزعومه، فحين بيّن أن من الناس من يملك، من الناس من هو حر يشتري العبد، بيّن أن مايشتري به العبد من مال ليس مملوكًا له أصلًا،ً فقال‫:‬ ﴿ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ إذًاحتى ما تملكه أنت لا تملكه بنفسك، أو بذاتك، أو بجهدك، أو بتصرفك، أو بخلقك، أو بفعلك، أو بصنعك، بل ملكته لأن الله أعطاه لك، فهو عطاء، فهو رزق، إذًا فهو ليس ملكًا على الحقيقة، بل هو إستخلاف وعطاء، فالملك والمُلك لله، ﴿هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ إذا كانت الإجابه بالنفي، فكيف ترضى لله ما لا ترضاه لنفسك؟ وكيف تعقل لله ما لا تعقله لنفسك؟ أنت لا تملك، الله أعطاك، وبما أعطاك الله إشتريت العبد، ولاترضى أن يشاركك العبيد في تصرفك، أو تدبيرك، أو في ملكك للأشياء الذي ملكك الله إياها، فكيف ترضى للخالق الذي كان ولم يكن معه شيء، وخلق كل شيء فهو يملكه، ﴿ ... لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١١٦] له هذه الملكيه التي يحدثنا عنها القرآن، خَلقًا، وملكًا، وعبيدًا، وتدبيرًا، وتقديرًا، وتصريفًا، فكيف ترضى لله تبارك وتعالى، الخالق، الموجد للأشياء من العدم، يملكها فعلًا لأنه خلقها وأوجدها، بل وقوامها به، فما من شيء إلا وقائم بأمره، ها هي السموات والأرض بأمره قامت لا بشيء، لا بذاتها، ولا بسبب، ولا بمقيم محسوس، لأجل، فإذا إنتهى الأجل، وأمر بالنهاية إنتهت، والزرع ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ(٦٣)أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(٦٤)﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٦٣, ٦٤]، والماء ﴿ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٦٩]، والنار ﴿ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٧٢]، والخلق ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ(٥٨)أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(٥٩) ﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٥٨, ٥٩]، هو الله، أوجد كل شيء، وخلق كل شيء، وكان ولم يكن هناك شيء، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف تشرك معه المخلوق؟ الأمر الذي لا ترضاه لنفسك مع الفارق، والبعد الشاسع بين المخلوق وبين الخالق، ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ من أجل ذلك يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ نفصل الآيات، نبينها، ونوضحها، ونأتي بها مفصله، آية آية، وآية وراء آية، وهكذا، تبيين، توضيح، تفصيل، ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ قلنا أن كل إنسان له عقل، ولكن ليس كل من له عقل يستخدم العقل فيما خُلق العقل له، يعقلون‫:‬ يستخدمون عقولهم في التدبر، والتأمل في معرفه البداية والنهاية، أين أنت؟ أين كنت؟ من أين جئت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ إلى أين المصير؟ ألا تفكر في هذا؟ لابد لكل ذي عقل أن يفكر في ذلك، من أين أتى، وإلى أين يذهب، أين هو الآن، كيف تتنفس، وكيف تأكل، وكيف تشرب، وكيف تسير الدورة الدموية، وكيف تنام وتصبح وتجد الشمس قد أشرقت دون إرادة منك، الليل، النوم، السبات، كل ذلك، كيف لا تتفكر في وجود الله تبارك وتعالى، وكيف لا يقودك عقلك إلى هذا، مسلّم بدهي، وجود الله تبارك وتعالى أمر بدهي، لا يختلط على مخلوق له ذرة من عقل يستخدم هذا العقل فيما خلق العقل له، ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ إذًا فماذا حدث؟ وماالأمر إذًا؟ وكيف يكفر الناس؟ ولم يكفر الناس؟ طالما أن الأمر في هذا الوضوح، وبهذه الدرجة من البيان، كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون، إذًا فلابد أن يؤدي العقل إلى الإيمان الراسخ بوجود الله، وقد يؤدي العقل إلى معرفة وجود الله، ولكن لا يؤدي العقل إلى معرفة الأوامر، والنواهي، لا يؤدي إلى معرفه الغيبيات؛ الجنة، النار، الثواب، العقاب، الأمر، النهي، ماذا يريد منا الله تبارك وتعالى، ماذا يأمر، ماذا ينهي، الحلال، الحرام، التعامل، لا يعرف بالعقل، وإنما يعرف بالشرع والنقل، من هنا لزمت بعثة الرسل، من هنا كان لابد من إرسال الرسل لا ليدللوا على وجود الله؛ فإن العقل يؤدي إليه، ولكن ليبينوا لنا الأمر والنهي، أرسلناك للناس مبشرًا ونذيرًا، بشارة وإنذار فقط، أما الوجود الإلهي فذاك لابد أن يصل إليه العقل السليم بالتفكر ولو للحظه، من هنا لابد لنا أن نعرف كيف كفر الناس، ولِمَ لمْ تؤدي عقولهم إلى مايؤدي إليه العقل السليم، فيقول الله تبارك وتعالى مجيبًا على هذا السؤال‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ أَهْوَآءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۖ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ ﴿29﴾
إذا ً فهذا هو الأمر، هذه هي الإجابة، ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ، ﴿بَلِ اتَّبَعَ﴾ أي ليس الأمر كذلك أنهم ليسوا ذوي عقول، أو أن فكرهم لايؤدي إلى وجود الله، أو أن الآيات والدلائل ليست واضحة والتفصيل والتبيين قاصر، وإنما الأمر أن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر لم يتبعوا العقول والتدبر والتفكر، بل اتبعوا أهواءهم، أهواءهم‫:‬ جمع هوى، والهوى في النفس‫:‬ رغبة النفس، واشتهاء النفس، وكل ماتهوى إليه النفس، وتشتهية، وتحض عليه، وتدعو إليه، فذلك من هواها، ويُعبَّر عن رغبات النفس بالهوى لأنه لا إستقرار له، لأنه لا قيام ولاقوم له، بل هو هوى يهوى بصاحبة إلى قعر جهنم، فهو هوىّ، أيضًا نزول، وهبوط، واضمحلال للعقل وللفكر وللنفس للبشرية التي زكاها الله تبارك وتعالى وخلقها على الفطرة، بل اتبعوا أهواءهم، ليس ذلك فقط بل يقول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ كيف؟ وهل يمكن أن يتبع الإنسان الهوى على علم؟ نعم، الآية تبين لك منتهى الجهاله والإسفاف؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم بغير علم لديهم، إذًا فقد وصمهم القرآن بالجهل، والجهاله، والسفاهه؛ لأنه لو كانت لهم ذرة من علم، حين يتبعون الهوى يكفّهم العلم، والعالم إذا اتبع الهوى للحظة، وقد يحدث إلا من يعصمه الله، وهاهو ربنا تبارك وتعالى يقول لداوود‫:‬ ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ...﴾ [سورة ص آية‫:‬ ٢٦] فقد يتبع العالم الهوى لفترة، أو للحظه، ولكن إذا حدث هذا كفّه علمه، رده علمه عن الهوى، أما هؤلاء فقد اتبعوا أهواءهم بغير علم، إذًا فلا كافّ لهم، ولن يردعهم شيء مهما حدث؛ لأنهم حين اتبعوا الهوى اتبعوه بغير علم لديهم، فهم على مستوى من الجهاله والسفاهه لا أمل وراءه، من هنا قال تعالى‫:‬ ﴿فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ أي من يهدي من حكم الله عليه بالضلاله، من يهديه؟ لا هادي إلا الله، حتى الرسل لا تهدي، وهاهو ربنا تبارك وتعالى يقول للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٥٦] هو الهادي ولا هادي سواه، فمن يهدي من أضل الله؟ ولم أضلهم الله؟ هل كتب عليهم الضلالة ظلمًا؟ هل خلقهم على الضلالة دون سبب؟ أبدًا، ولكنهم اتبعوا أهواءهم بغير علم، وحين اتبعوا أهواءهم بغير علم لم يطلبوا العلم، لا دليل لهم، ولا سند لهم من كتاب سابق، أو من رسول، أو من منطق، أو من تفكير، أو من حجة، أو من برهان، حجتهم داحضة، وطالما لاحجة لهم، ولا دليل، ولا برهان، وها هي الأمثال تتلى، وها هي الآيات، آية وآية تبيّن وتفسر، فإن أصروا على اتباع الهوى فهم إختاروا الضلاله، وحين إختاروها بمحض إختيارهم ورغبتهم كتبت عليهم، وتركهم الله تبارك وتعالى في ضلالتهم، فزادهم ضلال على ضلال، فمن يهدي من أضل الله، وزادهم ضلالا ً على ضلال، ليس هذا فقط بل يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ ليس لهم هادي لأنهم لن يهديهم أحد وقد أضلهم الله، وليس لهم ناصر ينصرهم لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ومالهم من ناصرين ينصرونهم، أو يمنعوهم من عذاب الله، الضلال أصلًا الكلمة تفيد معنى الغياب، من قولهم‫:‬ ضل اللبن في الماء، إذا خلط اللبن بالماء، ودُلسَّ على من يراه، فاعتقد لبنًا، وضل الرجل الطريق‫:‬ غاب عن الطريق، فهؤلاء حُكم عليهم بالضلال لأنهم بعدوا بُعدًا كاملًا عن الطريق المستقيم، بعدوا عن النور، عن نور الله، عن نور الآيات، عن الدلائل التي نصبها الله لعباده ليستدلوا بها على وجوده، هؤلاء من يهديهم؟ لا هادي لهم، إذًا فقد حكم عليهم بالضلال لأن الهادي هو الله، وهم تنكبوا عن الطريق، وابتعدوا عن الله، وضربوا له الأمثال، وجعلوا له الشركاء، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فكتب عليهم الضلاله، وحكم عليهم بالشقاوة، فما لهم من هاد يهديهم في الدنيا، ومالهم من ناصر ينصرهم في الآخرة، ثم يتوجه الخطاب بعد ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، إمام الأمة، وإمام الدنيا ونورها‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًۭا ۚ فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿30﴾
هذا الخطاب وإن كان موجهًا إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا أن الأمة دخلت في الخطاب باتفاق، فهو مراد بهذا الخطاب، أيضًا الأمة مرادة بهذا الخطاب، وفي الآية أقوال، وآراء، وتدبر، في كلمة ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ عليها أهي الإسلام؟ أهي الدين؟ أهي الاستعداد لقبول الحق؟ أهي الطبع؟ خلق خلقًا للجنة ولا يبالي، وخلق خلقًا للنار ولا يبالي، أهي هذا؟ ماهي الفطره؟ فيها الآراء، وفيها الإختلاف، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويتوجه الخطاب من العلي ّ الأعلى إلى أشرف الخلائق جميعًا صلى الله عليه وسلم يوجهه إلى تقويم القصد، والإستقامة على الدين الحنيف، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾‬‬‬‬‬
‫والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مراد بهذا الخطاب والأمة أيضًا كذلك؛ لأنه عقّب الكلام في هذه الآية بقوله‫:‬ ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٣١]،‬‬‬‬‬‬‬
‫إذا ً فالكلام للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة، وقد صُدِرت الآية بالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تشريفًا له، وتعظيمًا لقدرة، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ تقويم الوجه‫:‬ أي تقويم القصد، والجد في العمل في طريق هذا الدين الحنيف، تمثيل للإستقامة، والإقبال على هذا الدين، وعدم الإلتفات عنه إلى غيرة، والإهتمام بهذا الدين بالعمل عن طريقة، فقال ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ والتعبير بالوجه عن الكل، واختص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء، فأشرف ما في الإنسان وجهه، أيضًا الوجه جامع لجميع الحواس؛ ففيه البصر، وفيه السمع، وفيه الحواس التي يستدل بها العبد على وجود الخالق، المهيمن، المدبر، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ قوِّم وجهك، واستقم، ولا تلتفت، ويصبح البصر، والسمع، وجميع الحواس، واللسان، والذكر، كل ذلك مسخّر للغرض، وهو الإقامة، والإقبال على الله، والإستقامة على الدين الحنيف، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾، الحنف‫:‬ في الأصل ميل إصبعيّ الإبهام في القدم إلى الداخل، والجنف‫:‬ ميل الإصبعين إلى الخارج، وأصبح يُعبَّر بالحنف عن الميل عن الباطل إلى الحق، ويعبر بالجنف عن الميل من الحق إلى الباطل، فالميل إلى الخارج بُعد عن القصد، والميل إلى الداخل إتجاه للقصد، وإلى الإستقامة، من هنا الحنف ميل إلى الحق، والجنف ميل إلى الباطل، من قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ...﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٨٢] الجنف‫:‬ الميل عن الحق، الإثم‫:‬ القصد لارتكاب المعصية والمخالفه، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ أي مائلًا عن كل المِلَلْ، وعن الباطل إلى الحق، ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾كلمة أثارت الخلاف بين العلماء، ماهي الفطرة التي فطر الناس عليها؟ ﴿فِطْرَةَ اللَّه﴾ فطرة منصوبة، والإعراب إختلف، وبإختلاف الإعراب إختلف المعنى، واختلف القصد، فهي إما منصوبه على الإغراء، وإما منصوبه على المصدرية، وإما الوقف بعد حنيفًا، وإما الوصل أوْلى، كل ذلك طبقًا للمعنى، وإذا تتبعنا آراء العلماء في كلمة فطرة، لوجدنا أن البعض يقول أن فطرة الله المقصوده بهذه الآية هي العهد الذي أخذه الله تبارك وتعالى على آدم في عالم الذَرْ ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٧٢] هذا هو الفطر‫:‬ العهد، وعليه فكل مولود يولد على هذا العهد، فإن مات صغيرًا قبل البلوغ، وقبل سن التكليف، فهو على العهد الذي أخذ عليه في عالم الذر، فهو من أهل الجنة، سواء كان إبنًا لمسلم، أو إبنًا لمشرك؛ لأنه ولد على الفطرة التي هي العهد الذي أخذ عليه، ولم يغيره، أولم يبلغ السن الذي فيه تكلف، ويصبح مرهونًا بعمله، ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أي لم يحدث تغيير لهذا العهد الذي أخذ على بني آدم، وما من مولود يولد إلا ويولد على هذا العهد الذي أخذ في عالم الذر، منذ الأزل، من قبل الخلْق، وقال بعضهم بل الفطرة‫:‬ الإسلام، ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ...﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٩]، منذ خلق آدم ولا دين إلا الإسلام، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ أي أقم وجهك للدين، واتبع الدين، واتبع الفطرة التي هي الإسلام، فما من مولود إلا ويولد على الإسلام، ورد آخرون وقالوا‫:‬ لو أن المولود فطر على الإسلام لما كفر أحد على الإطلاق، ولأسلم جميع الخلائق، طالما فُطروا على الإسلام ولا تبديل ولا تغيير لخلق الله، وقال بعضهم‫:‬ الآية عامة أريد بها الخصوص، وقد تُعبِّر العرب بالعام عن الخاص، وجاءت كثيرًا في القرآن، وذاك أمر يُعرف من علوم القرآن، ﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ أي فطر المؤمنين عليها، الناس‫:‬ كلمة عامة أريد بها الخصوص، وهم المؤمنون خاصة، واستدلوا على ذلك بأن الله تبارك وتعالى جاء بالعام في القرآن وقصد به الخاص كقوله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(٢٤)تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ(٢٥)﴾ [سورة الأحقاف آية‫:‬ ٢٤, ٢٥] هل دمرت السموات؟ هل دمرت الأرض؟ فقال تدمر كل شيء، كلمة عامة أريد بها الخصوص، وهو بيوتهم على وجه الخصوص، ولم تدمر كل شيء على الإطلاق، وكذلك من قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٤٤] هل فتح عليهم أبواب الرحمة؟ إذًا فقد يأتي العموم بمعنى الخصوص، وتصبح كلمة الناس عامة قصد بها الخصوص وهم المؤمنون، ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ أي فطر المؤمنون عليها، الذين هم في كتاب الله سبق في علمة الأزلي بأنهم يؤمنون، ففطرهم على الإيمان، وقال آخرون بل الفطرة هي الخِلْقه من قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ [سورة فاطر آية‫:‬ ١] أي خالق السموات والأرض، ومن قول الله تبارك وتعالى أيضًا محدثًا عن مؤمن القرية‫:‬ ﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [سورة يس آية‫:‬ ٢٢] أي الذي خلقني، إذًا فالفطرة هي الخِلْقة، الخلقه التي خلق الله عليها الناس، فريق للجنة، وفريق للسعير، فهناك من خُلق للجنة أزلًا، وهناك من خُلق النار أزلً، ً وقال الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٧٩] إذًا فقد خلق الله خلقًا للجنة من الأزل، هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي، ففطرة الله هنا مقصوده بها ما أراده الله أزلًا لهؤلاء الخلائق، ففطر أناسًا على الإيمان، وفطر أناس على الكفر، ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ فمن خُلق سعيدًا لا يشقى أبدًا، ومن خُلق شقيًا لايسعد أبدا،ً وقال آخرون كل ذلك مردود، وخير مانستدل به حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو هريرة في الصحاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿ما من مولود إلا يولد على الفطرة؛ أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟﴾ أي إذا ولدت البهيمة، ولدت صغيرًا سليمًا من العيوب، غير مقطوع الأذن، غير مشقوق الأنف، فإن ولدت البهيمة سليمة، لا تحسون فيها من جدعاء، أي لاتجدع أنفها، ولا تقطع قرونها، ولا تشق أذنها، لم تكن كذلك كانت سليمة، ثم يأتي الناس بعد ذلك الكفار فيشقون الآذان، ويجدعون الأنوف، فيقول هذه بحائر، هذه سوائب، وهكذا، فكذلك الإنسان يولد على الفطرة، أي سليمًا من العيوب، ثم تأتيه العوارض، من ضمن العوارض الأبوين؛ يغيران الفطرة، يغيران السلامة التي ولد عليها، فيجعلون منه يهوديًا، أو نصرانيًا، أو مجوسيًا، ﴿من من مولود إلا يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كم تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء﴾، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه‫:‬ إقرأوا إن شئتم ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ قالوا يا رسول الله ومن يموت صغيرا؟ قال رسول الله‫:‬ الله اعلم بما كانوا عاملين، ويفسر هذا الحديث أخر في صحيح البخاري، حديث الرؤيا التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيها‫:‬ أما الرجل الكبير كذا كذا فهو إبراهيم، والأطفال حوله هم الأولاد الذين ماتوا صغارًا فهم في الجنة، قالوا وأولاد المشركين يارسول الله! قال وأولاد المشركين، إذا الله أعلم بما كانوا عاملين، أي عند البلوغ، أعلم بما كانوا عاملين، أما قبل البلوغ فهم على الفطرة غير مؤاخذون بشيء، غير مرهونين بأعمال، أما القول بأن الفطرة هي الإسلام، فهو مردود؛ لأن الإسلام قول باللسان، وإعتقاد بالجنان، وعمل الجوارح، والله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٧٨] إذًا فالطفل حين يولد لا يعلم شيئًا، ولا يمكن أن يكون معتقدًاً لإيمان، أو كُفر، أو تصديق، أو إنكار، فالطفل لا يعلم شيئًا، إذًا فلا يمكن أن تكون الفطرة هي الإسلام، ولو كانت كذلك ما كفر أحد، وكذلك الخصوص؛ الآية عامة، ولا تخصيص إلا بنص، وإن كان القياس في التخصيص صحيحًا لأنه قاس على آيات أخرى، إذا ً الخلقه هنا بمعنى الهيئة التي خُلق عليها الإنسان، والإعدادالذي تم في القلب بحيث يصبح المولود مهيئا لإدراك الحق، ولمعرفه الدين، وللإستدلال على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وكما أن الله هيأ الأعين منذ الولاده للإبصار، وهيأ الآذان منذ الولادة للسماع، وهيأ اللسان للنطق، هيأ العقل أيضًا، وهيأ قلب المولود أصلًا لإدراك الحقائق، ولمعرفة الصح والصحيح، ومعرفة الحق والإستدلال بمصنوعات الله على وجوده، فلو خُلِّي المولود وما خُلق فيه من إستعداد، وتهيئة، لأدرك الحق لا محاله، وإنما تدخل عليه العوارض كالأبوين مثلًا، وهو مثال للعوارض، يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، وكذلك الشياطين، والهوى، والمجتمع، والبيئة، والناس، وهكذا، عوارض تعترض على الإنسان فتغيّر من الهيئة، والإستعداد، كما تعترض الآفة البصر، فبعد أن كان مبصرًا يصبح ضريرًا، وكما تعترض الآفة الأذن فتبطل إستعداد السمع فيها، إذًا فالفطرة هو ما هُيء في المولود، وفي الإنسان دون البهائم؛ فالبهائم خُلقت، وخُلق فيها ما خلق في الإنسان من حواس، وجوارح، وأعضاء، ومُيِّز الإنسان عن البهيمة بشيء زائد، وهو الإستعداد الفطري، والتهيئة القلبيه لإدراك الحقائق مجردة، والإستدلال بمصنوعات الله على وجوده، وهذا يتفق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، وكقوله صلى الله عليه وسلم‫:‬ أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، إذا ً فلم يُفطر الإنسان على كفر، ولم يفطر على إيمان، ولو فطر على ذلك لما تغير، والملاحظ أن الإنسان قد يؤمن، ثم يكفر، وقد يكفر ثم يؤمن، وربنا يقول‫:‬ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ١٣٧] والتغير في الفطرة وارد في الحديث، كل مولود يولد على الفطره، ابواه يهودانه،.. إذًا فقد غيروا الفطرة، هنا تصبح كلمة فطره تعني هيئة، خِلْقه، فيها الإستعداد لإدراك الحقائق، ليست هي الإسلام، هي الكفر أو الإيمان، ليست هي ما قيل من أنها هي البداءه التي بدأ الله عليها الخلْق، وإنما هي الإستعداد الذي ركّبة الله تبارك وتعالى في بني آدم، والتهيئة لإدراك الحقائق وقبول الدين، ولو خُلِّي الإنسان حين يولد وما فطر عليه من الإستعداد السليم البريء من العيوب لأدرك لا محالة أن هذا الكون له صانع، وله خالق، وقد لا يدرك الشريعة، قد لايدرك الصلاة والصيام، وما أراده الله من عبادة، وما أمر، ومانهى، والجنة، والثواب، والعقاب، لا يدرك هذه التفصيلات لأنها لا تدرك بالعقل، ولا بالقلب، وإنما تدرك بالشرع والنقل، تدرك بمعرفة الدين من الرسل، لكنه لابد وأن يدرك بالفطرة السليمة، أي الإستعداد السليم، إذا تأمل في مصنوعات الله على وجود الخالق، ولذلك يخاطب الله الناس في القرآن عمومًا، وفيما لاحظناه وتلى علينا في سورة الروم أن الله يخاطب الناس بمصنوعاته؛ السموات، والأرض، الرياح، وهكذا، إذًا فهو يخاطب الفطره السليمة التي فطر الناس عليها، الإستعداد لإدراك الحقائق، وقبول الدين، ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾، ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ خبر أن الله تبارك وتعالى لا يغير خلقه، ولا يغير سنتة في الخلق، فيُفطر الناس جميعًا سواء على الفطره السليمة‫:‬ التهيئة، والإستعداد لقبول وإدراك الحقائق، أو هي أمر ينهى ربنا عن تبديل الخلْق؛ بشق أذن البهائم، وجدع الأنوف، وإيجاد البحائر، والسوائب، والوصائل وما إلى ذلك، فيحرموا ما أحل الله تبارك وتعالى، ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أمر بعدم الفعل، أي نهى عن التبديل، وعن التغيير؛ لأن الشيطان قال أنه سيُمني بني آدم، ويضلهم، ويجعلهم يغيرون خلق الله، فالله ينهى عن هذا التغيير فيما يفعلونه في البهائم، أو لا تبديل لخلق الله أي لا تبديل للدين، فإن الدين عند الله الإسلام منذ الأزل، والذي أمرت يا محمد أنت وأمتك أن تتبعه وتقيم وجهك، ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ إما المقصود به الملة، الإسلام، أي الدين القيم، المستقيم، الذي لادين سواه، إن الله لا يقبل من الناس سوى الإسلام، ومن إبتغى غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه، أو ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ أي ذلك القضاء المستقيم؛ لأن الدين بمعنى االقضاء أيضًا، وبمعنى الجزاء، أو ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ الحساب البيّن، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يعلمون أن الإسلام هو دين الفطره، وأن الإسلام هو الدين الحنيف، وأن الإسلام هو الدين الذي إرتضاه الله تبارك وتعالى لعباده منذ الأزل، ويتوجه الخطاب إلى الأمة ليدل على أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، له وللأمة فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُوا۟ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴿31﴾
الإنابة‫:‬ الرجوع، الإنابة‫:‬ الطاعه، الإنابه‫:‬ التوبة، الإنابه‫:‬ الإنقطاع، ناب، ينوب، والنَوْبة‫:‬ المرة، إذًا فالنوبة‫:‬ الرجوع إلى ماكنت عليه، الرجوع مره بعد مره، إذًا فالإنابه هي الرجوع إلى الله بالتوبه والإستغفار، هي الإقبال على الله تبارك وتعالى، والإستقامة على دينة وأمره، أو الإنابه‫:‬ الإنقطاع عن كل ما سوى الله، من القطْع، من الناب سمي الناب من الأسنان ناب؛ لأنه هو القاطع الذي يقطع الطعام، ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ منقطعين إليه عما سواه، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ١٦٢]،﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ﴾ اتقوا الله‫:‬ إخشوه، إتقوا الله‫:‬ خافوه، خافوا حسابه وعقابه، واعملوا ليوم توقفون فيه بين يديه فيسألكم عن كل صغيرة وكبيره، وكتاب لايغادر صغيرة ولا كبيره إلا أحصاها، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ إقامة الصلاة ليس أداء الصلاة؛ أداء الصلاة شيء، وإقامة الصلاة شيء آخر، أداء الصلاة أن تصلوا، أما إقامة الصلاة أن تأتي بالصلاة على وجهها كما أمر الله، وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال صلوا كما رأيتموني أصلي، فإقامة الصلاة‫:‬ المداومه عليها، تعديل أركانها، الإتيان بها على الوجه الذي أمر به ربنا تبارك وتعالى، وما سنّة لنا رسولنا، ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ المشركين الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعًا، في هذه الكلمة قولان؛ القول الأول‫:‬ المشركين هم أهل الكتاب؛ اليهود، والنصارى، فالنصارى خرجوا عن دينهم الصحيح، وتفرقوا شيعًا، فريق يقول أن المسيح هو الله، وفريق يقول أن المسيح ابن الله، وفريق يقول أنهم ثلاثة أقانين في شيء واحد، وكذلك اليهود؛ فريق قال إن عزير ابن الله، وهكذا، فكل فريق من هؤلاء فرِحٌ بما هو عليه، معتقد بأنه هو على الحق، والكلام عن أهل الكتاب والمشركين، وقال فريق آخر من العلماء ومن الصحابه وعلى رأسهم السيدة عائشه أن الكلام ليس في أهل الكتاب، الكلام في أهل المله، الكلام لأهل القبله؛ لأن الكلام صُدِّر لإمامهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الكلام لهم ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ ﴿فَارقوا دِينَهُم﴾ قراءه، شيعًا‫:‬ فرقًا، كل فرقه تشايع إمامها، وزعيمها، الذي سنّ لهم هذا الدين، أي يشيع بعضهم بعضًا، يتشيعون لمذهب واحد، فالكلام لأهل القبله، وهل يشرك أهل القبله؟ نعم قد يحدث ذلك، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك الخفي، وهو أخفى من دبيب النمل، فالمراءون الذين يراءون الناس، ولا يذكرون الله إلا قليلًا، هؤلاء الذين يبتغون مديح الناس، ويبتغون الشهرة بين الناس، ويبتغون الرياسة والزعامة، هؤلاء الذين يبتغون الملك، والسلطان، وألسِنّة الذكر في الدنيا من الناس، فيصبح كريمًا، أو يجود بماله حتى يقال كريم، ويقرأ القرآن ويقرأ العلم، ليقال عالم، ويصلي ليقال عنه مصلي، ويحج البيت حتى يأمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، وهو من كل ذلك براء، إذًا فقد أشرك مع الله غيره لأنه لم يبتغ بالصلاة وجه الله، ولم يبتغ بالحج وجه الله، ولم يبتغ بالنفقة وجه الله، إذًا فقد أشرك نوعًا من الشرك، لم يعبد الصنم، ولم يعبد الشيطان، ولكنه عبد الهوى، أشرك هواه مع الله، فالكلام لأهل القبله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُوا۟ دِينَهُمْ وَكَانُوا۟ شِيَعًۭا ۖ كُلُّ حِزْبٍۭ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴿32﴾
‫﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ أي فارقوا سنّ رسول الله، أو ﴿فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ إختلفوا، وتحزبوا، ولو نظرت لحال الأمة الآن لأدركت أن مقالة السيدة عائشة، ومن ذهب مذهبها من الصحابة، وبعض العلماء أيضًا كانوا على حق، فلو نظرت إلى حال الأمة الآن لوجدت فيهم الشيعة، والشيعة تسعة مذاهب‫:‬ زيديه، وعلوية، وإلى آخره، ولوجدت منهم السنّة، أو من يزعمون أنهم أهل السنة، ولوجدت منهم الدروز، ولوجدت منهم الصوفيه، ولوجدت منهم جمعية شرعية، ولوجدت منهم ولوجدت منهم فرق، وطوائف وكأنها ملل، وكأنها أديان، كل بما لديهم فرحون، ثلاث وسبعون فرقه، فكل منهم يزعم أنه الفرقه الناجية، حتى أن هناك فرق من الشيعة وصلوا بخروجهم عن المله ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ ، فالرجل منهم لا يصلي خلف أي إمام، بل يصلي في الحرم منفردًا، ولا يسجد على أي أرض، بل يخرج من جيبة، أو من سرواله قطعه من الحجر من أرض كربلاء، لا يسجد إلا عليها حيثما كان وكأنها الحجر الأسود، بل وقبل السلام يضرب فخذية بكفيه، ويقول علنًا أخطأ الأمين، أخطأ الأمين، أي أخطأ جبريل بالنزول بالرساله على محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يجب أن ينزل بها على عليّ، فيُخَطِيء الأمين، حتى الكذب في لسانه لا حجة له، لأنه يقول أخطأ الأمين، وطالما وصفة بالأمانه فكيف يصفه بالخطأ، ولكن العقول تشتت، والفطرة السليمة إنتهت، فكيف تصفه بالأمانه وتلحق به الخطأ، وكيف يرسل اللهملكًا لايدري الخطأ من الصواب؟ وألم يكن يعلم الله أنه سوف يخطيء، فنفيت العلم عن الله! أنزله بأمر فأخطأ تنفيذ الأمر فاختار الله إختيارا خاطئًا أيضًا !! أنه على الإسلام، ولهم إمام وأئمة، وينتظرون الإمام السابع، أو ينتظرون الإمام المنتظر، شيعة وتقوم لهم دوله، وتزعم أنها على الإسلام، وتهدر دماء المسلمين في كل مكان إنتقامًا شخصيًا فرديًا، أي إسلام هذا؟! فإذا نظرت إلى لبنان لوجدت الدروز يقتتلون مع الشيعة، ولوجدت أهل السنة يقتتلون مع الفريقين، ولوجدت المسلمين هناك يقاتل بعضهم بعضًا، والعدو يتربص بهم وينظر، أهم على صواب؟ أهذا هو الإسلام؟ ربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿ ...هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [سورة الحج آية‫:‬ ٧٨]، ربنا يحدثنا عن الأنبياء جميعًا‫:‬ ﴿... أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [سورة يوسف آية‫:‬ ١٠١]، يوصي إبراهيم ويعقوب منذ القدم‫:‬ ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٣٢] المسلمون، لم يقل شيعة، ولم يقل صوفيه، ولم يقل سنّية، خير تسمية هي تسمية الإسلام، وماتفرق المسلمون إلا بهذه المذاهب، وهذه الفرق، وهذه الشيع التي لا تبغي من وراء هذه التسميات إلا الخصوصية، وإلانعزال عن الأمة، وتفريق الأمة عن كلمة واحده، ودين سواء، نحن معشر المسلمين، والإسلام إذا إجتمع عليه الناس، ولم يتفرقوا، لأصبحوا أمة واحدة يخشاها العدو، ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ سماهم ربنا شيعًا، تشيعوا، كل فريق متشيع لمبادئة، ولمذهبه، وهو مذهب واحد، ودين واحد، وإله واحد، ورسول الله واحد، وإسم واحد "الإسلام"، هل هناك شرف في أي إسم سوى الإسلام؟!‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتحدثنا الآيات في سورة الروم عن طبع الناس، وطبيعة الخلائق، أو طبع الأكثر منهم إلا من عصم الله، يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬
وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّۭ دَعَوْا۟ رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌۭ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴿33﴾ لِيَكْفُرُوا۟ بِمَآ ءَاتَيْنَـٰهُمْ ۚ فَتَمَتَّعُوا۟ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿34﴾ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنًۭا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا۟ بِهِۦ يُشْرِكُونَ ﴿35﴾
‫﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ الضُر‫:‬ القحط، الجوع، البلاء، المرض، الفقر، كل ذلك ضُر في نظر الناس، أما في لحقيقة فكل ما يأتي من الله فهو خير محض، كل ما هناك أن الأشياء إذا رأيتها بنظرك الدنيوي رأيت فيها نافعًا وضارًا، فالنافع نافع في نظرك، والضار ضار في نظرك، أما في الحقيقة فما من ضُر، وما من بلاء إن كان الشكل كذلك، فما هو إلا برقع يختفي وراءه الخير، والنعماء، والسراء، فربما الفقر إن إعتبرته ضرًا يصلح لك، ولو أغناك الله لفسد حالك، وربما المرض لو اعتبرته ضرًا يصلح لك، ولو صح بدنك لأفسدت في الأرض، ولفعلت، ولفعلت، وهكذا، لكن الخطاب للناس بما يعقلون، وبما تعارفوا عليه، ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ إذًا فقد نسوا الأصنام، وتركوا الشركاء، وعلموا حين البأساء والضراء أن النافع هو الله، وأن الضار هو الله، ولا يكشف السوء إلا الله، فدعوا الله منيبين إليه، مقبلين عليه، منقطعين عن الشركاء له، مخلصين، راجعين إليه بالتوبه، والإنابه، والتعبير بالمس ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرّ﴾ لبيان أنه مهما كان من بلاء، وضر، وقحط فهو مجرد مس فقط، ولذا تجد الإنسان يمرض، فإذا شفاه الله نسى الألم، وكأنه مس، ولو لزمه المرض وتمكن منه تمامًا، ما كان شُفى أبدًا، لكن الله يعقب الأيام على الناس فيداولها بينهم، ويبسط الرزق تارة، ويقبض الرزق تارة، ويصحك تارة، ويمرضك تارة، لتعرف وتعلن‫:‬ أنه يحوّل ولا يتحول، ويغير ولا يتغير، وأنه هو الله، فتلجأ إليه، تشكر في النعماء، وتصبر في الضراء، لكن الناس إذا مسهم ضر دعوا ربهم منيبين إليه، ﴿ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً﴾ لم تغشاهم الرحمة، ولم تملأ قلوبهم، بل ذاقوها فقط، حتى إذا أذاقهم منه رحمة‫:‬ بمعنى أن الإنسان يتغير بسرعة، بمجرد ما يأتي الضر، بمجرد المس، بداية البلاء يضرع، ويلجأ إلى الله، مع بداية الرخاء، وكشف الضُر ينسى الله، ويعود إلى ما كان عليه، وتجده مريضًا، يدعو الله، ويطلب من الناس الدعاء له، فإذا جاءتة بعض العافيه، أول ما يفكر فيه ماذا يفعل، وماذا يصنع، وأين يذهب، وينسى الكلام عن الصدقة، وعن الوصية، وهكذا، ﴿ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن قال‫:‬ ﴿فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ ولم يقل الناس، إذا مس الناس ضر جميعًا تضرعوا إليه منيبين إليه، فإذا ذهب الضر، وجاء الخير، فريق فقط، وهم الكفار، أو المنافقون، أو الذين لا يعرفون الله، فمن رحمتة بنا أن قال‫:‬ ﴿فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ ولم يحكم على الكل، وإلا ما نجى أحد، لكن هناك فريق يعصمه الله، فيلهمه الشكر على النعماء، والصبر على الضراء، ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ يشركون بربهم، ويعودون إلى الأصنام، فينحر الذبائح بعد ذهاب الضر، هؤلاء هم المشركون على الحقيقة، وهناك من الناس الذين يشركون شركًا خفيًا، فيقول لولا الطبيب فلان ما شفيت، نسى الله (واذا مرضت فهو يشفين)، لولا شفاعة فلان ماحدث كذا، لولا تفكيري، وتدبيري، وتخطيطي، ما حولت الخسارة إلى مكسب، أشرك نفسه، أشرك الطبيب، أشرك عقله، ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، اللام ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ لام العاقبة، أي يؤدي بهم الشرك إلى الكفر، أو اللام لام لكي، أشركوا ليكفروا، أو اللام لام الأمر، وإذا كانت اللام لام الأمر فهو للتهديد والوعيد الذي لا قبل لمخلوق به، كما ذكر ربنا كثيرا من الأوامر في القرآن للتهديد وليست للأمر كقوله تعالى‫:‬ ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ... ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٢٩] إذا ً فالأمر بمن شاء يؤمن ومن شاء يكفر هو أمر للتهديد، وليس للتخيير، لا يخيرك ربنا بالإيمان أو الكفر، فهو أمر للتهديد، فكذلك اللام هنا إذا كانت لام الأمر، "ليكفروا": أي دعهم يكفروا، ودعهم يتمتعوا، فسوف يعلمون حين يأتي يوم الحساب، يوم ينادي فيه الله لمن الملك اليوم، ﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ هؤلاء الذين أشركوا، وأشركوا الأصنام، وأشركوا الآلهه، وأشركوا الرؤساء، وأشركوا الشياطين، وهكذا، هل نزل عليهم سلطان يتكلم؟ والكلام هنا ليس نطقًا باللسان، وإنما كلام دلاله، فالكلام قد يكون نطق باللسان، والكلام قد يكون دلاله، فالشمس تتكلم كلام دلاله بأن هناك من يسيّرها، والزرع يتكلم كلام دلاله بأن هناك من أنبته وأخرجه، وهكذا، ولذا يقول الله تبارك وتعالى عن كتاب ينطق‫:‬ ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [سورة الجاثية آية‫:‬ ٢٩] إذا ً فالنطق نطق دلاله، وليس نطق اللسان، فكذلك يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا﴾، والسلطان‫:‬ البرهان، السلطان ما تستعين به للنجاة من عمل تستوجب به عقوبه، السلطان ما تستطيع به أن تدفع عنك عملًا تستوجب عليه عقوبه، كقول سليمان في شأن الهدهد‫:‬ ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [سورة النمل آية‫:‬ ٢١]، فكذلك الله تبارك وتعالى يقول هنا‫:‬ ﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا﴾ كتاب سماوي، أو حجة، أو رسول، ﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا﴾ ينطق نطق دلاله ﴿ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ﴾، أيها الأخ المسلم، الله الله، هو الله، أقم وجهك للدين حنيفًا، النافع هو الله، والضار هو الله، والرازق هو الله، والمحي هو الله، والمميت هو الله، والفعال لما يريد هو الله، الستار هو الله، الشافي هو الله، المعافي هو الله، هو الله ولا شيء سواه، أين أنت من الله؟ أين إقبالك على الله؟ أين حبك لله؟ أين إتجاهك إلى الله؟ أين لجوئك إلى الله؟ كم مره تذكر الله؟ هو يذكرك وأنت تنساه، ولو لم تذكرك الله ما أبصرت لحظه، وما سمعت همسة، وما أكلت لقمة، وما مشيت خطوة، الله يذكرك فيرعاك، ويكلأك في مشيك، وفي منامك، ومعقبات يحفظونك من أمر الله من أن تتخطفك الشياطين، حرس من الله عليك، ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ٤٢] كم مرة تذكر الله في اليوم؟ كم مرة تذكر الله؟ كم مرة تستغفر الله؟ إذا مرضت لم تسأل الله أن يشفيك؟ إذا افتقرت لم لا تسأل الله أن يرزقك؟ وإذا نمت لم لا تسأل الله أن يحفظك؟ وإذا إستيقظت لم لا تسأل الله أن يرزقك؟ سل الله؛ السؤال دعاء، والدعاء عبادة، بل الدعاء مخ العبادة، وإذا لم تدع ربك غضب عليك، وكلما سألت رضى عنك، وكلما إذددت في السؤال، و إذددت طمعًا فيه، أعطاك مما عنده، أيها الاخ المسلم، هلمّ إلى الله، وارجع إليه؛ فإن الله تبارك وتعالى يبسط كفه بالليل لمسيء النهار حتى يتوب، ويبسط كفه بالنهار لمسيء الليل حتى يتوب، وينادي هل من تائب فأتوب عليه، وهل مسنغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫إن العباد يتقلبون بين العدل والفضل، والخلائق جميعًا في ملك الله تبارك وتعالى، في هذه الدنيا دائرون في دائرة الحلم، فالله هو الحليم، وما أصاب الناس من سراء أو ضرّاء فهم بين العدل والفضل، فما أصاب الناس من رحمة فذاك من فضل الله تبارك وتعالى لا لأنهم يستحقون، وما أصاب الناس من بلاء أو ضُر أو عقوبه فبعدل الله تبارك وتعالى وهم لا يظلمون، سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والمؤمن يعرف ذلك حق المعرفه، فهو كخامة الزرع؛ إن أصابته سرّاء شكر، وإن أصابته ضرّاء صبر، في حاله اليسر، والرحمة، والنعمة، يعلم أن ذلك من فضل الله لا لأنه يستحق، وليس بعمله، وليس بجهده، ولكن الله تبارك وتعالى يتفضل على من يشاء فيشكر، وبالشكر يقيّد النعمة فتدوم ولا تزول، وإذا أصابته ضرّاء، أو أصابه بلاء علم أن ذلك بما كسبت يديه، فربما قصر في طاعه، وربما أساء، وربما عصى فلجأ إلى الله تبارك وتعالى نائبًا راجعًا بالتوبه والإستغفار لعل الله يرفع عنه البلاء، وهو في هذه الحاله يأمل كل الأمل في الله، ولا ييأس من رحمة الله أبدًا؛ فإنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون، وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ...﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٧٩]، ويقول‫:‬ ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [سورة الشورى آية‫:‬ ٣٠] ذاك هو سنَّة الله في خلقه والتي عرفها المؤمنون، وفي سورة الروم التي نحن بصددها يبيّن لنا ربنا تبارك وتعالى حال أكثر الناس إلا من عصمهم الله تبارك وتعالى بالعلم والفضل، فيقول عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةًۭ فَرِحُوا۟ بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴿36﴾
‫﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً﴾ إذًا فالله تبارك وتعالى هو الذي يبسط الرزق، وهو الذي يتولى الخلائق بالنعم، فإذا أذاقهم رحمه ﴿فَرِحُوا بِهَا﴾ والفرح في القرآن عمومًا مذموم إلا فرح واحد وهو الفرح بالطاعه، وبفضل الله، وبالقرآن؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ٥٨] الأمر بالفرح في حاله واحده، هو الفرح بأن يعطيك الله تبارك وتعالى علمًا في الدين، أو يعطيك شيئًا من القرآن، أو يمنحك ويوفقك لطاعه، وهنا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا﴾ إذًا هذا الفرح مذموم؛ لأنهم حين يفرحون بالنعمة ينسون المنعم، لم يفرحوا بفضل الله، ولا بمنّ الله، إنما فرحوا بالنعمة، والفرح بالنعمة يؤدي إلى البطر والأشر، فيعتقد الإنسان أنه هو صاحب هذه النعمة بجهده، وبكدّه، وبعرقه، أو بعقله، أو بفكرة، كما قال قارون‫:‬ ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٧٨] والفرح بالنعمة يجعل الإنسان يتمسك بها، ولا يشعر أنها زائلة، الدنيا كلها إلى زوال، فمهما أوتيت من رزق فهو إلى زوال، إما في معصية، وإما في طاعه، وإما بالموت يزول هو عنك، فإما أن تزول النعمة عنك، وإما أن تزول أنت عنها بالموت، وما من نعمة في هذه الدنيا إلا وهي زائلة، ولا يدوم إلا نعيم الله، نعيم الجنة، فالفرح بالنعمة يجعل الإنسان يتمسك بها، وينسى الموت، وينسى المنعم، وينسى حق الله تبارك وتعالى في هذه النعمة، فذاك ديدن الناس وطبيعتهم إلا من عُصم، إلا من رُحم، فإذا أصاب الناس رحمة فرحوا بها، ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ وهذه الكلمة في غاية الأهمية لتعلم أن الله إذا أراد بالناس خيرًا أراد الخير لذاته، وذاك هو الأساسي، وهو الأصل، فإن أصيب الناس بضر، أو أصاب الإنسان سيئه، فذاك لأنه أتى فعلًا يستحق به هذه السيئه، لذلك يقول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ إذًا هو يصيبك بالرحمة، ويذيقك الفضل بداية منه، دون إستحقاق منك، هو يمنح الناس، ويرحم الناس، وينعم على الناس إبتداءًا، سابق فضل من الله، أما إذا أصابك بسيئه، أو بضر، فمن أجل إنك أتيت فعلًا تستحق عليه هذا الضر، والبلاء في الدنيا، إما ابتلاء وامتحان حتى تضرع إلى الله، وحتى نلجأ إليه، وحتى نعلم أن الدنيا لا دوام لها، وأن كل شيء زائل، وإما أنه عقوبه على فعل أتيته، وإن كانت الضراء أو السيئه عقوبه فهي أيضًا رحمة من الله؛ لأن الله إذا عاقب الإنسان في الدنيا إستحيي أن يعاقبه في الآخره، فلا يعاقب الله تبارك وتعالى العبد مرتين، وما من شيء يصيب المسلم إلا ويكفر الله به عن سيئاتة، ويرفع بها من درجاتك، فما من شيء يصيبك من مرض إلا وهو كفّاره لمعاصي أتيتها حال الصحه، وما من نقص يصيبك في المال إلا بسبب عدم إعطاء الحق أثناء اليسار، كان معك المال فأنفقت المال في غير ما خلقه الله، أو لم تؤدي حق العباد الفقراء في مالك فيصيبك الله تبارك وتعالى بالفقر عقوبه، ويأخذ منك ما كان يجب أن تعطيه راضيًا مختارًا حال الغنى، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ من قنِط، يقَنط‫:‬ يئس، وقرأت ﴿يَقْنِطُونَ﴾ من قنَط، يقنِط، والكلمتان بمعنى واحد‫:‬ اليأس، يقنطون‫:‬ ييأسون من أن الله تبارك وتعالى سوف يبدل عسرهم يسرًا، يائسون من الله تبارك وتعالى، لا يعاجل بالعقوبه، ولا تستمر العقوبه على عبد، وإنما هي إذاقة، هي مس لتذكيرك بوجود الله تبارك وتعالى، ولعلك ترجع إلى الله، ذاك حال الناس غير المؤمنين، غير ثابتي الإيمان، أو الكافرون أيضًا، إذا أذاقهم رحمة فرحوا بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون، فينعي عليهم القرآن ذلك، ويبيّن أن ذاك مذموم، فيقول الله تبارك وتعالى ملفتًا النظر فيقول تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَوَلَمْ يَرَوْا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ ﴿37﴾
إذًا يجب على العبد أن يعلم أن الله تبارك وتعالى هو الباسط، وهو القابض، فإذا بُسطت لك الدنيا فبفضل الله، وإن ضُيِّق عليك فبعدل الله، فأنت بين الفضل والعدل، إما هو متفضل عليك فأنت في سعة، ودعه، وأمن، ورخاء، وإما أنت قد أصبت شيئًا، وارتكبت من المحظور أشياءًا، فعفى الله عن الكثير منها، وأخذك بالقليل، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [سورة الشورى آية‫:‬ ٣٠] فالعبد قد يرتكب مائة سيئة؛ يعفو الله عن تسع وتسعين سيئة، ولا يؤاخذ إلا على سيئة واحده، الحلم والعفو صفات الله الباريء، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ﴾ إذًا فبسط الرزق رحمة، وقبض الرزق عدل من خلال الرحمة أيضًا كي تعلم، وكي تذكر، وكي تلجأ إلى الله تبارك وتعالى، ولذا يقول تعالى‫:‬ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ علامات ودلائل على الطريق، للمؤمن الذي يعلم عن ربه ما يجب له أن يعلم، وبعد الإتيان بذكر البسط والقبض في الرزق، يتذكر الإنسان أن في الدنيا فقراء وأغنياء، فيقول الله تبارك وتعالى آمرًا النبي صلى الله عليه وسلم، القدوة، فالخطاب له وللأمة‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَـَٔاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌۭ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴿38﴾
‫﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ توقف فيها العلماء، وقالوا إذا ً فللقريب الفقير حق، وتصبح الصدقه على الفقراء من ذوي الرحم فريضه، قال بعضهم بل الأمر على الندب، ولكن القول الأول أرجح واصح؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ في شأن المسكين يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(٢٤)لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(٢٥)﴾ [سورة المعارج آية‫:‬ ٢٤, ٢٥] وفي شأن ابن السبيل فهو واحد من ثمانية من مصارف الزكاة، وكذلك المسكين إذًا فالزكاة فريضه، وطالما كانت الفريضه من ضمنها ومن مصارفها المساكين، والفقراء، وأبناء السبيل، إذًا فالفقير ذي الرحم أولى من الفقير الغريب، وعليه لا تصح صدقة الفقير إذا كان ذو الرحم محتاجًا، تبطل الصدقه لأنك تركت الحق الواجب، وأتيت بشيء مندوب، بمعنى لو أنك تركت صلاة الظهر الفريضه، وصليت لله مائة ركعة هل تسقط عنك فريضه الظهر؟ أبدًا، الفريضه أولًا، من هنا كانت الصدقه على الفقراء ذوي الرحم فرضًا وواجبًا، بل ومقدمه على عتق الرقاب، ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(١١)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(١٢)فَكُّ رَقَبَةٍ(١٣)﴾ [سورة البلد آية‫:‬ ١١-١٣] أعلى ما يتقرب به من الإنفاق فك الرقاب، ومع ذلك ثبت أن الصدقه للقريب الفقير أفضل وأعظم أجرًا من عتق الرقاب، ثبت ذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعتقت زوجته السيدة ميمونه أم المؤمنين وليدة، جارية صغيره لها، أعتقتها فقالت يارسول الله‫:‬ اعتقت وليدة لي، فقال أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك، بعد أن أعتقت الرقبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لها‫:‬ لو أعطيتها أخوالك، وكان أخوالها فقراء، أي لا تعتقها وتتصدق بها عليهم تخدمهم، أو يبيعوها ويأخذوا ثمنها، كان ذلك أعظم لأجرها من عتقها لهذه الوليدة، فتبيّن من هذا الحديث أن الصدقة على الفقراء الأقارب أفضل من عتق الرقاب، وحين يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ قد يكون الحق مال؛ إذا كنت غنيًا وقريبك فقيرًا، فإن كان القريب ليس فقير بل أنت الفقير، فهل لهذا القريب غير المحتاج حق عليك؟ نعم، صلة الرحم، القول الميسور حاله العسر، والصدقه حاله اليسر، ﴿وَالْمِسْكِينَ﴾ والمسكين كذلك، فإن كنت غنيًا فللمسكين حقٌ في مالك، وإن كنت فقيرًا فللمسكين حق في قولك، القول المعروف، الكلمة الطيبه صدقه، ﴿ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ إما أن تمنحه من مالك، ومن مال الزكاة إذا قطعت به الطريق، إبن السبيل‫:‬ ابن الطريق، المسافر في بلد غير بلده، فرغ زاده، أو فقد ماله، يصبح فقيرًا محتاجًا لأموال الزكاة، ولوكان غنيًا في بلده، ولا يشترط أن يرد ما أعطى من مال، مهما كان غنيًا في بلده، وإذا كان ابن السبيل غير محتاج، استنتج العلماء أن ضيافه ابن السبيل حق، وواجب أن تفتح له دارك، أن تستضيفه في بيتك، فحق الضيافه لابن السبيل واجب وفرض، ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الذين يريدون وجه الله، الذين يأتون من الأعمال مايبتغون به ثواب الله، هم في أعمالهم مخلصون لله، لا يقصدون إلا رضا الله سبحانه وتعالى، يبتغون وجة الله‫:‬ أي جهة الله، أو يبتغون ذات الله، هؤلاء المفلحون الذين فازوا بما طلبوا، المفلح والفالح الذي يشق الأرض، والفلاح يشق الأرض ليبذر الحب، فكذلك المفلح هو الذي يشق طريقه إلى النجاح، ففاز بمطلوبه، فهؤلاء المفلحون لأنهم شقوا طريقهم إلى الجنة، وإلى النعيم المقيم، وإلى رضا الله تبارك وتعالى، ثم يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًۭا لِّيَرْبُوَا۟ فِىٓ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرْبُوا۟ عِندَ ٱللَّهِ ۖ وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَوٰةٍۢ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ ﴿39﴾
‫﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا﴾ ﴿وَمَا أتَيْتُم مِّن رِّبًا﴾ قراءتان يتغير فيهما المعنى، ﴿ لِّيَرْبُوَ﴾ ﴿لِّتَرْبُوَ﴾ قراءتان، إما أن الربا في هذه الآية هو الربا المعلوم، والمحرّم، والذي جاء تحريمة في سورة البقرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٧٨]، ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٧٥] ذاك قول أن الآية في هذا الربا المحرم، وهناك قول آخر، وأعتقد أنه الأرجح، يقول أن الربا في هذه الآية ليس هو الربا المحرّم، بل الربا المباح، فهل هناك ربا مباح؟ قالوا نعم، الربا ربوان؛ ربا محرم، وربا مباح، أما الربا المحرّم‫:‬ فهو ما جاء في سورة البقرة، الإقراض بفائدة، وأنواع الربا معلومه، وشُرحت من قبل، أما الربا المباح‫:‬ فهو أمر يهدي الرجل غيره هدية، أو يهب له هبه، وهو ينتظر ردها بأفضل منها، إذًا فهو يطلب الزيادة، وعليه قسَّموا الهبات إلى ثلاث أنواع؛ النوع الأول‫:‬ الهبة إبتغاء وجه الله فقط، فذاك الذي يراد به وجه الله، كالصدقة للفقراء، وصلة الرحم، وإعطاء المسكين، وابن السبيل، وما إلى ذلك، والهدايا بين الناس المسلمين المتآخين في الله للتحابب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿تهادوا تحابوا﴾، ذاك النوع الأول، وذاك يثاب المرء عليه في الدنيا بالزيادة في المال، والبركة، وفي الآخرة بثواب الله، والجزاء الجزيل، النوع الثاني‫:‬ الهبة من أجل الناس، أي لا يراد به وجه الله، بل أرادوا به وجوه الناس، يمدحوا عند الناس، أي يقال عليهم كرماء، التفاخر، العلو، والتمييز، وما أُريد وجه الناس فذاك هو الرياء، وفي هذه الحالة تصبح الصدقه باطله، لا ثواب عليها، لا دنيا، ولا أخرى، بل قد يعاقب عقاب المرائين، وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ...﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٦٤] إذًا فالإنفاق إذا أريد به وجوه الناس، المدح، والذكر على ألسنتهم فذاك مرفوض، باطل، مذموم،النوع الثالث من الهبات‫:‬ أن تهب لغيرك هبه، أو هدية، أو عطيه، وأنت تنتظر منه أن يرد لك هذه الهبة، أو هذه العطيه مضاعفه، كهبه الفقير للغني، فالغني غير محتاج، فإن وهبه الفقير، وإن أهداه وينتظر أن يرد الغني حسب غناه، إذًا فهو يعطي مال ليزيد هذا المال في أموال الناس بالرد، وكهبة المرؤوس لرئيسه، والرعيه للسلطان، فإذا وهب، وأهدى المرؤوس للرئيس، فهو ينتظر من الرئيس الرد، إما بهديه أغلى، أو بمنفعة أخرى، فهي تشبه الرشوة، فهو يهدي الرئيس لينال الترقيه، أو الحظوه، أو التقرير الجيد، إذًا فالنوع الثالث هو الهبة التي يراد بها الرد، والثواب بأزيد منها، فهو طلب للربا، والربا بمعنى الزيادة، وذاك النوع الثالث من الهبات هو النوع المقصود بالآية، وهو مباح غير أن فاعله لا ثواب له في الدنيا، ولا عطاء له في الآخرة؛ لأنه أراد زيادة من الناس فحصل عليها، فإن حصل عليها، وإن لم يحصل ذاك أمر له، وله أن يعود في هبته كما قال بعض الفقهاء، طالما أعطى الهدية من أجل الرد فلم يرد المُهدي إليه جاز له أن يذهب ويطلب منه رد الهدية، هذا وإن كان مباحًا، غير حرام، إلا أن الله تبارك وتعالى ذكره في هذه الآية وقال‫:‬ ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ﴾ قراءة أخرة ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّتَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ أي تربوا أنتم، وتصبحوا ذوي زيادة، ﴿فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ﴾ أي لا يثيب الله عليه فاعله، ولا يجازيه به، لأنه إبتغى به الدنيا، وابتغى به الزيادة لدى الناس، فلو أن الله لم يحرمه إلا أن المؤمن يستشعر أنه من الأمور المحظورة على كامل الإيمان، كامل الصلاح، لأن هذا النوع وإن كان مباحًا للعامه، الهدايا، وأن تطلب مقابلًا لها، إلا أنه محرم على رسول الله، لو كان فيه خير ما حرم على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، حرم على الرسول صلى الله عليه وسلم بنص؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى له في أول الإنزال، وبدء البعث، ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [سورة المدثر آية‫:‬ ٦] أي لا تعطي، ولا تمنَّ على الناس مستكثرًا مما لديهم، فيردون إليك المن والعطاء بأكثر مما أعطيت، وطالما نُهى رسول الله إذًا فهو لا خير فيه، وإن كان يعفى عنه العامه، أو غير مؤاخذين عليه، وإنما لايثابون عليه لادنيا ولا أخرى، وتصبح الآي كما قلنا في الربا المباح، وليس الربا المحرم، ويأتي المقابل ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ المقابل للربا المباح، العطاء من أجل مقابل، فالزكاة عطاء بلا مقابل، بلا عوض، فيُبتغي بالزكاة وجه الله، ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ الذين ضاعفوا ثوابهم، وضاعفوا الحسنات، والله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٦١]، أو ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ الذين ضاعف الله لهم أموالهم في الدنيا، وضاعف لهم الثواب في يوم القيامه، في الآخره، لأن المُضعف قد تكون كالمقوي‫:‬ ذو القوة، الموسر‫:‬ ذو اليسار، المُضعف‫:‬ ذو الأضعاف، ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ أي أصحاب الأضعاف، الأضعاف في أموالهم بأن الله يبارك لهم، والأضعاف في الثواب، لأن الله تبارك وتعالى يضاعف لهم العطاء يوم القيامه‫.‬ أيها الأخ المسلم، الأعمال بالنيات، وحددها النبي صلى الله عليه وسلم وقال‫:‬ ﴿إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى﴾، فكذلك في النفقه، وفي العطاء، وفي الإنفاق، والهبة، وفي العطيه، كلٌ مرهون بنيته لا بعمله، فمن ابتغى وجه الله فأولئك هم المفلحون، وأولئك هم المضعفون، ومن ابتغى وجوه الناس فأولئك الذين خسروا البركه في أموالهم، وخسروا الثواب في الآخره، وقد يعاقبون معاقبة المرائين الذين رائوا، وعبدوا، وأنفقوا رياءًا، ليس إبتغاءًا لوجه الله‫.‬ أيها الأخ المسلم، أخلص نيتك لله، وابتغي وجه الله في كل ما تأتي وماتذر، والله تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا، من لوازم الألوهيه أشياء، ولا يوصف إلاله بالألوهيه إلا إذا إتصف بأشياء، ومن لوازم الألوهيه الواضحه؛ الخلق، والرزق، والإماته، والإحياء، وهناك صفات للألوهية كالعلم، والسمع، والقدره، والوجود، إلى آخر الصفات اللازمه للذات العليه، لكن من لوازم هذه الصفات أي ظهور الصفات مظهر الفعل، تظهر الصفه في الوجود بالأفعال، فهذه اللوازم، أو الأفعال التي يتصف لا بهاإلا الإله؛ الخلق، الإيجاد، الرزق، لأن للرزق دوام الكائن والخلائق؛ لأن الإله إذا خلق، ولم يبقى الخلق، وانتهى، وتلاشى، واستطاع أن يخلق، ولم يستطع أن يبقى ماخلق، وعليه فالخالق، الإله، إذا خلق من لوازم الألوهيه أن يوجد ما به يدوم ويبقى المخلوق، ولا يزول إلا بإرادته، لا يزول بنفسه، لذا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [سورة فاطر آية‫:‬ ٤١] لأنهما لو زالتا من زواتهما، من أنفسهما، لعجز الإله أن يبقيهما، لذا يقول الله تبارك وتعالى يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولإن زالتا بأمره إن أمسكهما من أحد غير الله، هل يمسكهم أحد غير الله؟ كذلك الخلق، طالما خلق الشيء فالإله القادر على خلقه لابد وأن يكون قادرًا على إبقائه، إذًا فالرزق يعني قوام المخلوق، فرزق النبات‫:‬ الماء، والشمس، والهواء، ورزق الإنسان‫:‬ الطعام، والشراب، وهكذا، فالخلق، والرزق، ثم الإماتة، أن يَفنى ويعدم ما أوجده بإرادته المنفرده، أي لا يعدم المخلوق من نفسه، أو لعدم وجود ما به قوامه، وإنما يعدم بإرادة الموجد، ثم إن أعدمه وأفناه فهو لابد وأن يكون قادرًا على الإنشاء، والإعاده كما قدر على الإبتداء، من هنا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۖ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَىْءٍۢ ۚ سُبْحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿40﴾
حددت الآيات في كلمات أربع لوازم الألوهية، التي هي من أفعال الله تبارك وتعالى، لايشاركه فيها مخلوق، فيستفهم إستفهام إنكاري عليهم، هل من شركائهم من يفعل من ذلكم شيئًا واحدًا؟ خلْق؟ فليخلقوا ذبابه، أو بعوضه، أو نملة، هل يفعلون شيئًا إماته، أو إحياء، أو رزق، أو خلق؟ ﴿هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ﴾ وحذف الرد لأنه لا رد، لم يقل لا يستطيعون، أو لايقدرون، حذف الرد لأنه لا رد، لأن الرد معلوم لنا كمؤمنين، ولهم، للكفار أيضًا، الرد معلوم، مستغن عنه، لذا يقول الله تبارك وتعالى مقدسًاً ذاته، ومنزهًا صفاته، فيقول‫:‬ ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ تقدست ذاته، وتنزهت صفاته أن يشاركه في أفعاله، أو صفاته أحد من خلقه، ثم يقول الله محذرًا ومبينًا وموضحًا لنا ولمن يأتي بعدنا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿41﴾
‫﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٧٩]،﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٣٦] فكذلك يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ لا لأن الله تبارك وتعالى عاجز عن إرادة ملكه، ولا لأن الله تبارك وتعالى لايقدر أن يمنع الفساد، ولا أن هناك من يشاركه في خلقه فيفسد ما أصلحه، وإنما ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وقد أذن الله تبارك وتعالى للمعاصي أن تقع في ملكه ليعاقب المسيء، ولتكون حجة الله بالغه على عباده يوم القيامة؛ لأن الله تبارك وتعالى لو خلق الخلْق، وبعلمه الأزلي أخذ الصالحين فأدخلهم الجنة، وأخذ الكافرين والظالمين فأدخلهم النار بعد الخلْق مباشرة بعلمه الأزلي فيهم، لقال الكفار وأصحاب النار لم أدخلتنا النار؟ فإن قال لهم بكفركم وعصيانكم لقالوا وهل عصينا؟ وهل كفرنا؟ من أجل هذا تركهم الله، وجعل الدنيا لهم دار إبتلاء، وسمح وأذن لهم أن يفعلوا ما يشاءون، فوقعت المعاصي، وأذن الله أن تقع في ملكه، ولو شاء ما وقعت، ولو شاء الله ما أشركوا، وها هو تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ١٠٧] لاتمنعهم، ولا تحفظهم، ولا نملك أن تمنع المعاصي، ولا تملك أن تهدي من أضل الله، وإنما الله هو الذي ترك المعاصي أن تقع في ملكه؛ ليعاقب المسيء، ويتبين للناس جميعًاا يوم القيامه، وللملائكة، وللملأ الأعلى أن الله تبارك وتعالى ليس بظلام للعبيد، ﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٤٤]، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ﴾ أوّل العلماء كلمة الفساد هنا بأمرين؛ الأمر الأول‫:‬ المعاصي، ما نراه في دنيانا، من كفر، وقتل، وسرقه، ونهب، وسلب، ومخدرات، ومسكرات، وتطاول الرعاع إلى آخر ما نراه من معاصي، ومن كفر، ومن فجور، ذاك هو الفساد المعنيّ في الآية، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ أي أن الله لا يأمر بالفحشاء، وإن ماوقع وقع باختيار الناس وبأيديهم وبإرادتهم، فهم مخيرون في الطاعه أو العصيان، وقال فريق آخر من العلماء بل الفساد ليست المعاصي، وإنما الفساد هو محق البركة، قلة الزرع، قلة الضرع، في البر محقت البركة، لا تغلّ الأرض ما كانت تغلّ من قبل، حتى الطعوم ليست كما كانت، كل شيء تغير طعمه إلى أسوأ، وقلت البركة، وفي البحر أيضًا ظهر الفساد في البحر بغرق السفن، بغلو أسعار النقل للتجارة فتغلوا أسعار الأشياء نتيجة غلو أسعار النقل، أيضًا البحر فيه اللآليء، فيه القواقع، فيه الأسماك، تستخرجون منه حلية تلبسونها، وتستخرجون منه لحمًا طريًا، وتبتغون فيه من فضل الله بنقل التجارة، التجارة يغلو سعرها، واللحم الطري إذا خرج من البحر خرج قليلًا لا بركة فيه، ويأتي الناس ويشكون إذا أكلوا السمك جاءتهم الأمراض، من أين؟ وكيف يمرض السمك، وربنا يصفه ويقول لحمًا طريًا، والشيء الوحيد الذي أحلت ميتة هو البحر، وكأن الميتة في البحر تحفظ، فهي بركة، فمحق البركة في البحر قلة الصيد، إذًاً فالفساد هو قلة البركة، الفساد غلو الأسعار، الفساد عدم وجود الأشياء، الفساد أن الغني لايجد ما يريدة رغم وجود المال، وأن الفقير لا يستطيع أن يجد قوته، هذا هو الفساد، فإن كانت البركة قد قلّت فما حدث حدث بسبب المعاصي، أن الناس إذا أطاعوا الله بارك الله لهم في الرزق، والعبد يحرم الرزق بالمعصية، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿قد يحرم العبد الرزق بالذنب يصيبه﴾، وربنا سبحانه وتعالى يقول‫:‬ ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [سورة الأعراف:٩٦]، فإذا عصوا وبعدوا كما فعلت سبأ حين أعرضوا ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سورة سبأ آية‫:‬ ١٦] بعد الجنتين التي وصفهما الله تبارك وتعالى لنا في القرآن، فظهر الفساد في البر والبحر، وانسحقت البركه، وقل التراحم بما كسبت أيدي الناس من معاصي، ومن شرور، من كفر، ومن فجور، ﴿لِيُذِيقَهُم﴾ لام العله، أو لام العاقبه، أي سمح الله تبارك وتعالى بذلك، وقلت البركة في كل شئ ليذيقهم الله تبارك وتعالى ﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ وليس كل الذي عملوا، فالله لو أخذ الخلائق بذنوبهم ماترك عليها من دابه، لكن الله حليم، إن أخذ أخذ على القليل، ويعفو عن الكثير، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ يرجعون عن غيهم، يرجعون عن المعاصي، يرجعون عن الفسق، يرجعون إلى الله تائبين مستغفرين، بيّن الله لنا أن الفساد حين ظهر في البر والبحر كان ذلك بما كسبت أيدي الناس، والله تبارك وتعالى لا يأتي إلا بالخير، ولا يفعل إلا ما فيه الصلاح، ولكن الناس طغوا، ونسوا ربهم، ووقعت أول جريمة في البر بقتل إبن آدم لأخيه، وأبت الأرض أن تشرب الدماء، واحتار القاتل كيف يواري سوءة أخيه، فتلطف الله تبارك وتعالى ببني آدم جميعًا فأرسل غرابًا يعلمه كيف يوارى سوءة أخيه، وارتكبت الجرائم في البحر، وكان الفقراء يهربون خوفًا على أرزاقهم، وكانت كل سفينة تؤخذ غصبًا، ولولا أن الله تبارك وتعالى قيّض خضر لأصحاب السفينة لأخذها الجبار، ﴿... وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٧٩] ظهر الظلم، وحين يظهر الظلم بين الناس يأتي الفساد، فساد الذمم، وفساد الضمائر، وتبخل الأرض بكنوزها، ويتصارع الناس على الماده، وعلى الزائل، وتنزع الرحمة من قلوبهم، كل ذلك بما كسبت أيدي الناس، والله تبارك وتعالى بلطفه يعجل للناس بعض مظاهر العقوبه، ويعجل بعض مظاهر الغضب لعلهم إليه يرجعون بالتوبة، والإستغفار، يقول الله تبارك وتعالى في سورة الروم‫:‬ ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ بعض الذي عملوا، من لطف الله لا يؤاخذ الناس بكل معاصيهم، ولا يتعجل في العقوبه وإنما يمهل ولا يمهل، ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٦١] ثم يقول الله تبارك وتعالى لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قُلْ سِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ﴿42﴾
أي قل لهم يا محمد لهؤلاء المكذبين والمنكرين، سيروا في الأرض فانظروا نظر إستعبار واستدلال كيف كان عاقبه الذين من قبل، كيف كان عاقبة فرعون، كيف كان عاقبه عاد، كيف كان عاقبة ثمود، كيف كان عاقبة مدين، كيف كان عاقبة الذين من قبل، كيف دمرهم الله، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا، ثم يستأنف الكلام لبيان العلة في الإهلاك، لم أهلكهم، فيقول‫:‬ ﴿كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ﴾ إستئناف لبيان علة الإهلاك، لإن الله لا يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، وإنما يهلك القرى إذا عمّ الفساد، وساد فيها الظلم، وإذا كثر الخبث، ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ﴾ يبيّن أنه إذا عمّ الظلم حقت كلمة العذاب، ولو كان فيهم من يؤمن، ولو كان فيهم من لا يشرك، لأن الله تبارك وتعالى يقول كان أكثرهم مشركين، ولم يقل كان كلهم، إذًاً كانت هناك قلة لم تكن مشركة، كانت على إيمان، ولكن هل كان إيمانهم إيمانًا كاملًا، لا تشوبه المعاصي والفساد؟ هل كان إيمانًا بالقول وبالعمل، أم كان إيمانًا باللسان فقط؟ لِمَ لمْ ينجيهم الله تبارك وتعالى، وحقت كلمة العذاب على الجميع؟ ينبهنا حديث رسول الله صلىى الله عليه وسلم ويجيب على هذا التساؤل‫:‬ ﴿لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده﴾، ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [سورة الأنفال آية‫:‬ ٢٥] إذًا فالفتنة قد لا تصيب الظالمين على الخصوص بل تعمّ الجميع، متى يحدث ذلك؟ أنبأنا القرآن في شأن بني إسرائيل أن الله غضب عليهم، ومسخهم، وجعل منهم القردة والخنازير، لماذا؟ ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [سورة المائدة آية‫:‬ ٧٩] ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [سورة المائدة آية‫:‬ ٦٣] إذًا إذا سكت أهل الصلاح عن الحق، وخاف العلماء من الحكام، أو من السلطان، ولم يأمر أهل المعروف بالمعروف، ولم ينهَوْا عن المنكر، عمّ الفساد، وحلّ السخط، ونزل الغضب، وأهلك الجميع بذنب بعضهم، فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب العلماء في كل مكان وزمان، ومالم يأمر العلماء بالمعروف، ومالم ينهون عن المنكر، كانوا في الإثم مع الآثمين سواء، وعمّهم الله جميعًا بعذاب من عنده، ونزلت الفتنه، لا تصيب الذين ظلموا منهم خاصه، بل تعمّ الجميع، لذا ينبهنا النبي صلى الله عليه وسلم ويقول‫:‬ ﴿من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وليس وراء ذلك ايمان﴾ تغيير المنكر باليد، وباللسان، وبالقلب مسئوليه كل مسلم، مسئوليه كل رجل يؤمن بالله تبارك وتعالى، كلٌ مكلف في أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي جميع الأمم عليه مسئوليه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كلٌ على حسب استطاعته، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ثم يتوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ٱلْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌۭ لَّا مَرَدَّ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍۢ يَصَّدَّعُونَ ﴿43﴾
‫﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾ تكرار لآية سابقه في نفس السورة ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ...﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٣٠]، الخطاب هنا مكرر للتأكيد، ولتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب، وقد يكون الخطاب له وللأمة، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾ الدين المستقيم الذي لاعوج فيه، الظاهر، الواضح، البالغ الإستقامه، وهو الدين الإسلامي، لأن الإسلام هو الدين الذي إرتضاه الله لعباده منذ الأزل، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ٨٥]، ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ٦٧] وقال يوسف‫:‬ ﴿ ...تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [سورة يوسف آية‫:‬ ١٠١] ، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ يوم القيامة، يوم الساعة، يوم التغابن، ﴿لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ أي لايرده الله؛ لأن الله قد أوجده، وسبق في قضائة أنه يقع في وقت مخصوص، وزمان مخصوص، وبكيفيه مخصوصه، فالله لايرده، وإذا لم يرده الله فلا قبل لأحد على رده، والآية قد تحتمل التقديم والتأخير، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ أي (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ مِنَ اللَّهِ لَّا مَرَدَّ لَهُ) أن ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ متعلق ب﴿يَوْمٌ﴾، أي يأتي اليوم من الله، أي بأمر الله، بقضاء الله لامرد له، لايقدر مخلوق على رده، ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ أي يتصدعون‫:‬ يتفرقون، يومئذ يتفرقون؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير، ففي يوم القيامة، وإن كان الناس يحشرون جميعًا، إلا أن المجرمين يعرفون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، وأما المؤمنون الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا،ً فهم أهل الود، وهم أهل المعروف، وهم أهل الشفاعة، فيتميز الناس، يتميز المؤمن من الكافر، المؤمنون يحشرون زمرًا، كل أمة تحت لواء نبيها، كل فريق يتميز؛ فهؤلاء وكتبهم بأيمانهم، وهؤلاء يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم لا يقولون إلا مقالة واحدة‫:‬ ﴿... رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [سورة التحريم آية‫:‬ ٨] والآخرون يحشرون خزايا، نادمين، صمًا، وبكمًا، وعميًا، مقرنين في السلاسل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُۥ ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًۭا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴿44﴾ لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن فَضْلِهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْكَـٰفِرِينَ ﴿45﴾
‫﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾: أي من كفر بالله تبارك وتعالى، وبالبعث بالرسل، فعليه جزاء كفره، لا ينال إلا ما يستحق، وكل امرء بما كسب رهين، ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾، ﴿يَمْهَدُونَ﴾ المهاد‫:‬ الفراش، ومهّد الفراش مهدًا‫:‬ سوّاه، وهيأه، ومهد الطفل‫:‬ الفراش الليّن، الذي يُعد للطفل ليّنًا هيّنًا بحيث لايؤذي نعومه جلده، ورقة عظامه، ﴿فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ إذًاً هم يجهزون، ويهيئون منزلًا لأنفسهم وفراشًا، هل هذا التمهيد في القبر، أم في الجنة؟ هم لأنفسهم يمهدون، ولابد أن هذا التمهيد في القبر، أيضًا في الجنة فهم يسوون لأنفسهم منازل الجنة بأعمالهم الصالحه، وكذلك يسوون لأنفسهم حفرة النور في المقابر، فالقبر إما حفرة من حفر النار، أو روضه من رياض الجنة، هؤلاء الذين مهدوا لأنفسهم في قبورهم، ومهدوا لأنفسهم في أخراهم، هم الذين آمنوا في الحياة الدنيا، وعملوا الصالحات، ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ فالآية تدعو للتأمل، ﴿لِيَجْزِيَ﴾ اللام لام العله، لام لكي، فهي عله إما ل ﴿يَمْهَدُونَ﴾ أي الذين آمنوا وعملو الصالحات يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله، فهي علة ﴿يَمْهَدُونَ﴾، أو يومئذ يصدعون ليجزى الله الذين آمنوا، إذًا فهم يتفرقون يوم القيامه ليجزى الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الأمر الثاني‫:‬ أن الآية جاءت بذكر الثواب للمؤمنين، ولم تأت بذكر العقاب للكافرين، ولكنه قال‫:‬ ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ تشعر الآية، ويشعر هذا التعبير أن يوم القيامه المقصود به الثواب للمؤمنين، وليس المقصود به العقاب، أما الغضب، وأما العذاب للكفار فهو أمر عارض، لم تقم الساعه له، بل قامت لجزاء المؤمنين، تتلقاهم الملائكة بالبشرى "نحن اولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الاخره"، هؤلاء هم المقصودون بالذات من يوم القيامة، أيضًا يقول الله تبارك وتعالى في الآية‫:‬ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ﴾ إذا ً فالجنة، ونعيم الجنة، والحوض المورود، والظل الممدود، وكل ما في الجنة من نضرة الوجود، ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(٢٢)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(٢٣)﴾ [سورة القيامة آية‫:‬ ٢٢, ٢٣] النظر إلى وجة الكريم، والشرب من حوض النبي الأمين، ودخول الجنة وما هُيء فيها من نعيم، كل ذلك محض فضل من الله، ليس عن استحقاق، ليس بعملكم، وصدق الصادق المصدوق حيث يقول‫:‬ ﴿لن يُدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا‫:‬ ولا انت يارسول الله، قال‫:‬ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، قالوا فيما العمل يا رسول الله؟ قال تدخلون الجنة برحمة الله، وتقتسمونها بأعمالكم﴾ وهنا يبين لنا ربنا تبارك وتعالى أن الثواب والنعيم محض فضل، ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ إذًا فقد حلّت عليهم اللعنه؛ لأن الله إذا غضب على أحد لايرضى عنه أبدًا‫.‬ أيها الأخ المسلم، العمل الصالح فضل من الله تبارك وتعالى، ليس الثواب فقط، بل ما يمهد لهذا الثواب، وما يهيء لهذا الجزاء، فإذا رزقك الله تبارك وتعالى العمل الصالح، فتلك منَّة كبرى من الله، ونعمة عظمى أن يوفقك للعمل الصالح، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم دائمًا وأبدًا يسال الله تبارك وتعالى أن يوفقه للعمل الصالح في كل شيء، حتى في أعمال القلوب، فكان يدعو ويقول "اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك"، يسوق الله الآيات تلو الآيات، والبراهين تلو البراهين، والحجج تلو الحجج؛ لعل الناس يتفكرون، ولعل العاصين يعودون، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمِنْ ءَايَـٰتِهِۦٓ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَٰتٍۢ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِۦ وَلِتَجْرِىَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِۦ وَلِتَبْتَغُوا۟ مِن فَضْلِهِۦ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿46﴾
‫﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾: من الدلائل الداله على قدرته تبارك وتعالى ، وعلى تمام رحمتة، ﴿ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ والمتأمل في القرآن يجد أن الرياح بصيغة الجمع تأتي فيما يتعلق بالرياح الممطرة، رياح الرحمة، وإذا جاءت بصيغة الإفراد، الريح، فهي تعني الريح المدمرة، والتي بين طياتها العذاب، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ أي تسوق البشرى للناس، إذا هبّت استبشر الناس، وتوقعوا نزول المطر، فتحيي البلاد، وتحيي العباد، ﴿وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾ يذيق الناس من رحمتة بنزول المطر لسقى الزرع، ولإحياء النبات، ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ وقال‫:‬ ﴿بِأَمْرِهِ﴾ ولم يقل ولتجري الفلك فقط؛ لأن الرياح حين تهب قد تهب ولكن لا تكون مواتيه للسفن، لا تكون مواتية للفلك، وقد تكون شديدة فتغرقها، وقد تكون عكسيه فتوقفها، لذا يقول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ إذا ً فالرياح مهما هبّت فلكي تجري الفلك بهذة الرياح، لابد من توفيق الله تبارك وتعالى ومن تدبيرة لتجري الفلك بأمره، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ بتجارة البحر، وبالتنقل بين البلدان، والتي يفصل الماء بينها، ولا يمكن الوصول إليها برًا، فسخر الله لنا الفلك، وكل مادرسة الناس عن نظرية الطفو، وما تبعها من إختراع السفن والفلك، وما إلى ذلك، فالله تبارك وتعالى هو الذي خلق ذلك، وهو الذي سخر الفلك لتطفو، وهو الذي أعطى الماء هذه الكثافه، والتي بها استطاع أن يحمل السفن على ثقلها، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ بالتجارات، بالتعارف، وبالسفر، وبالتنقل بين البلدان بعضها وبعض، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ تشكرون نعمة الله، ولا تكفروها، وتعلموا أن الله هو الرازق، هو المحي، هو الميت، هو المدبر، هم المسخر لكل شيء، فما من شيء إلا وسخرة الله تبارك وتعالى لك، لو نظرت، وتأملت لوجدت أن الإنسان من أضعف المخلوقات، ﴿...وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٢٨] ولكنك تجد الطفل الصغير يسوق الجمل الكبير، كيف استطاع هذا الطفل الصغير أن يسيطر على هذا البعير ذو الحجم الكبير؟ لأن الله سخّرة له، ولرأيت الفتاة الصغيرة، حديثه السن، تجلس تحت البقرة وتحلب، وتأخذ منها اللبن، رزق وليدها، طعام صغيرها، وإذا بها تستسلم لهذه الجاريه، وتجود بألبانها، لأن الله سخرها، وتجد النحل يسعى، ويرشف من رحيق الزهور، وتأتي أنت به وتجعل له الخلايا، وتصنع له البيوت، ثم تأخذ هذا العسل الذي أفرزته طعامًا لها، تأخذه ببساطه لأن الله تبارك وتعالى أوحى للنحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا، ومن الشجر بيوتًا، ومما يعرشون، ولولا أنه أوحى إلى النحل، وأمرها أن تسكن في البيوت التي يصنعها لها بنو آدم ما سكنت النحل في بيت يصنعه إنسان، وما استقرت، وما أفرزت عسلًا، وفي كل خطوة، وفي كل نفس، تجد أن الله تبارك وتعالى سخر لك أعضاءك؛ تغمض عينيك وقتما تشاء، وتحرك إصبعك وقتما تشاء، كيف أطاعتك العين؟ وكيف تحركت الأجفان؟ كيف نطق اللسان؟ وكيف خرج بالكلمات؟ كل ما في الكون مسخّر لابن آدم، فهل من شاكرين؟ هل من مقرين لله بالألوهيه والواحدانيه؟ ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ فإن شكرتم كان جزاؤكم جنةً، وحريرًا، ونعيمًا، وملكًا كبيرًا من فضل الله؛ لأنك إن شكرت فإنك تشكر على نعمة سابقه، لأن المنعم إذا أنعم عليك وجب عليك الشكر، فقد أنعم الله تبارك وتعالى عليك بكل شيء، فمهما عبدت، ومهما عملت من صالحات، ومهما شكرت، فإنك تشكر على نعمة سابقه، وكل ثواب لاحق من فضل الله محض فضل، وإذا لم يشكر الناس كان جزاؤهم جزاء من قبلهم، ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُوا۟ ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿47﴾
‫﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الدلائل، والبراهين؛ كعصا موسى، وكإحياء عيسى للموتى، وكسفينة نوح إلى آخر الآيات، جاءوا بالبينات، وجاءوا بالدلائل، والإجابه حُذفت للعلم بها، فقد سبق أن قص الله علينا قصصهم، ﴿فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ أي فكفروا فانتقمنا منهم، وحذفت كلمة (فكفروا) للعلم بها، ﴿الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ الذين كفروا، الذين أشركوا، لأنه ليس بعد الكفر ذنب، وليس فوق الشرك جرم، فكلما تأتي كلمة إجرام في القرآن تعني الكفر، وتعني الشرك ﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(٧٤)لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(٧٥)وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ(٧٦)﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٧٤-٧٦]، ﴿فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والآية بهذه الصياغه تُشعر أن الإنتقام من المجرمين كان من أجل نصر المؤمنين، ولم يكن من أجل غضبة الله تبارك وتعالى عليهم، أو من أجل أن ينتقم الله تبارك وتعالى لذاتة، وإنما تشعر الآية أن الإنتقام من المجرمين، وتدمير الكفار، وإهلاك القرى، كان بسبب واحد؛ هو نصر المؤمن، والإنتصار لهم، لذا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إشعار بأن الإنتقام كان لنصر المؤمنين، وإشعار أيضًا بفضل المؤمنين، وكرامتهم على الله تبارك وتعالى، حيث جعل لهم حقًا عليه فقال‫:‬ ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وكأن المؤمنين لهم على الله حق بفضله، هو الذي جعل هذا الحق على نفسه إشعارًا لفضل المؤمنين، وكرامتهم على الله تبارك وتعالى، فأهلك القرى من أجلهم، وانتقم من المجرمين لنصرهم، وجعل لهم حقًا عليه بالنصر في الدنيا وفي الآخرة، وقال في موضع آخر‫:‬ ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٥١] ونصر المؤمن في كل مكان، وفي كل زمان، بأساليب كثيرة وعديدة، ﴿... وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [سورة الفتح آية‫:‬ ٤] فقد نصر الله حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ببيض الحمام، ونسيج العنكبوت، وامتن على الحبيب المصطفى فقال تبارك وتعالى‫:‬ ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ٤٠] وقد ينصر الله تبارك وتعالى المؤمن بلسان أخيه المؤمن، لذا يقول صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿ما من امرئ مسلم يذب، أو يرد عن عرض اخيه المسلم الا كان حقًا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامه﴾ ثم تلى قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أيها الأخ المسلم، إذا رد الله عنك نار جهنم يوم القيامه، فهل بعد ذلك فوز؟ وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٨٥] هل بعد ذلك فوز؟ وكيف يرد الله عنك نار جهنم بأمر سهل ميسور؛ أن ترد عن عرض أخيك المسلم، سواء كنت تعرفه أو لا تعرفه، طالما كان مسلمًا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام رد الله عنك نار جهنم‫.‬ أيها الأخ المسلم، ماهو العرض؟ العرض هو موضع المدح والذم من الإنسان، فإذا إتُهم إنسان بالبخل فقد وقعت في عرضه، وإذا إتهمت إنسانًا بالفسق فقد وقعت في عرضه، وإذا مدحت إنسانًا بالكرم فقد زكيت عرضه، فالعرض موضع المدح والذم من الإنسان، فإذا وقع بعض الناس في أعراض المسلمين فقمت أنت تذب عن عرض المسلم، وتدفع عن عرض المسلم، كان حقًا على الله أن يرد عنك نار جهنم، إذًا فمن يقع في عرض المسلم يوقعه الله تبارك وتعالى في قعر جهنم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫من آيات الله البينات الرياح، والرياح ليس لها سبب ظاهر في العلم، وكلنا يعلم أن حرارة الشمس تبخر المياة سواءًاً في البحار، أو المحيطات، ومن هذا البخر يصعد بخار الماء إلى السماء، وإذا تصاعد بخار الماء إلى السماء تصاعد بغير إنتظام، وتصاعد فوق المياه التي تبخر منها، فإذا بالرياح تهب، فتجمّع هذا البخار وتجعله سحابًا، وهبوب الرياح وإن كان العلماء قد رصدوا إتجاهاتها، وعلموا تقريبًا بمواعيدها نتيجة الرصد المستمر، ولكن علة هبوب الرياح لا زالت مجهوله لدى العلماء، فمن أين تأتي هذه الرياح؟ وكيف تهب هذه الرياح؟ وذلك النظام الدقيق الذي يتحكم في مسار هذه الرياح، والتي ينشأ من تجمع السحاب في مناطق بعينها، بل ومن هذه الرياح أيضًا يتشكل السحاب، فمنه ماهو منبسط، ومنه ماهو متطابق، طبقًا فوق طبق، ومنه ما هو مطبق، ومنه ماهو منخفض، ومنه ما هو مرتفع، ومنه ماهو ساكن لا يتحرك، ومنه ما هو سائر في إتجاهات بعينها، منه ما هو متفرق، ومنه ما هو متجمع، كل ذلك بفعل الرياح، ومصدر الرياح غير معلوم، ومحرك الرياح من حيث العلم الدنيوي غير معروف، ويجيبنا القرآن في سورة الروم، والتي نحن بصددها مبينًا لنا الحق، يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬
ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرِّيَـٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابًۭا فَيَبْسُطُهُۥ فِى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُۥ كِسَفًۭا فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَـٰلِهِۦ ۖ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦٓ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿48﴾
‫﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ إذا ً فقد عُلمت الإجابة، الله هو الذي يرسل الرياح، من أين؟ وكيف؟ ومن أين نشأت؟ ومادتها؟ كل ذلك من قدرة الله، ويبين لنا أن هذه الرياح إذا هبّت فهي تهب بمقدار، وتهب في أوقات، وتهب بنظام، ولغرض، ولحكمة، ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء﴾ تحركة، ﴿فَيَبْسُطُهُ﴾: يجعله منبسطًا، ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء﴾ وكلمة السماء لا تعني السموات المبنية، السبع السموات، وإنما كلمة سماء تعني ما فوقك، فكل ما فوقك يسمى سماءًا، ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾ أي في سمْك السماء، موازيًا للسماء، يبسطه كيف يشاء، طبقًا، مطبقًا، منبسطًا، خفيفًا، ثقيلًا، متجمعًا، متفرقًا، هو يبسطه في السماء كيف يشاء، ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾ أو ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسْفًا﴾ قراءتان؛ الكِسْف، والكِسَفْ، جمع كِسْفه والكِسْفه‫:‬ القطعة، فهو يبسط السحاب في السماء منبسطًا، ممتدًا في الأفق، يغطي السماء جميعها، أو يجعله قطعًا؛ قطعة ها هنا، وقطعه ها هنا، ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ﴾ المطر، وَدَقَ، يَدِقُ، وَدُقًا،ً أمطر، ونزل، وتقاطر، ودق الشيء‫:‬ تقاطر، ودق الماء‫:‬ تقاطر، فترى الودق‫:‬ المطر، ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ ﴿مِنْ خللِهِ﴾ قراءه، الخلل، والخلال، من بين طياته، أي يخرج من بين طيات هذا السحاب، يتقاطر المطر بمقدار، وبموعد، وبكمية، وإلى مكان، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم، ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أصاب به‫:‬ أي أصاب بالمطر، ﴿مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾ هو لا يصيب العباد بالمطر، وإنما يصيب أرض العباد، يصيب البلاد، فإصابة الأرض، وإصابة البلاد، والخير الذي ينزل على الأرض، ينزل من أجل أهلها، من هنا يقول تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يفرحون، ويأملون، وتأتيهم البشرى، بأن الأرض سوف تحيي، يحي الزرع، ويحي الضرع بهذا الماء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِۦ لَمُبْلِسِينَ ﴿49﴾ فَٱنظُرْ إِلَىٰٓ ءَاثَـٰرِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ ﴿50﴾ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًۭا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّۭا لَّظَلُّوا۟ مِنۢ بَعْدِهِۦ يَكْفُرُونَ ﴿51﴾
‫﴿وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ إذا تأخر المطر ولم ينزل، تجد هؤلاء العباد قبل نزول المطر، تجدهم في شدة اليأس، في شدة الحزن، الآيات تحدثنا عن الكفار، المتذبذبين، المتزعزعين الذين لا يثبتون عند النعمة، ولا يثبتون عند النقمة، لا يشكرون عند الرحمة، ولا يصبرون عند المنع، فهؤلاء من قبل أن ينزل عليهم ﴿مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ والتكرير في كلمة من قبله؛ من قبل نزول المطر، ومن قبل السحاب، تفيد معنى أن المطر دائمًا ينزل، وقد عهده الناس، واعتادوا عليه، ومن النادر أن يمنع ربنا المطر، فهذه الندرة في منع المطر تجعل هؤلاء الذين إعتادوا على الإنعام مبلسين، والإبلاس شدة اليأس، شدة الحزن الناشيء عن اليأس الذي لا أمل معه، ولذا سمي إبليس إبليسًا؛ً لأنه أبلس من رحمة الله، يئس من رحمتة يأسًا لا أمل معه، فهؤلاء من قبل أن ينزل عليهم المطر، ﴿مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ الآية تنعي على الكفار قلة تثبتهم، وتزلزلهم، وعدم شكرهم على النعمة، وعدم صبرهم على الجدب، أو على القحط، ثم يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَانظُرْ﴾ فانظر يا محمد، ولينظر كل ذي عقل، كل ذي تدبر، نظر اعتبار، نظر تدبّر، نظر تأمل، ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ﴾ ، أو ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَرِ رَحْمَتِ اللَّهِ﴾، ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ ﴿كَيْفَ تُحْيِي﴾ قراءات، الأثر هنا‫:‬ المطر الذي نشأ من السحاب، الذي تكوّن بتسخير الرياح التي أرسلها الله تبارك وتعالى، انظر إلى أثر هذه الرحمة، ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ كيف يحيي الأثر إذا كانت القراءة بالإفراد، (تُحيي) أي كيف تحيي الرحمة، ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ إذا نظرت نظر إستدلال، واعتبار، وتفكر، ووجدت الأرض ميتة، فإذا نزل المطر خرج الزرع، واهتز، وخرجت الثمار، ونبتت الأشجار ألوان، وأشكال، وطعوم مختلفه، أنواع لا عد له ولا حصر، حتى بعد أن تحصد، وتنتهي وتعود الأرض كما كانت ميتة، ينزل المطر مرة أخرى، تحي مرة أخرى، بدء، وإعادة، إيجاد، ثم فناء، ثم إيجاد، وهكذا الأرض تحي، ثم تموت، ثم تحي، ثم يموت، فإذا نظرت إلى ذلك نظر إستدلال لابد وأن تصل إلى النتيجة، ﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ولو نظرت إلى النخلة؛ جذور، جذوع، ساق مرتفعة في السماء، فروع، أوراق، ثم ثمار ملونه، وذات طعوم، البلح، والأنواع المختلفه منه، كل ذلك يفنى ولا يبقى من النخلة إلا نواه، فإذا وضعت هذه النواه الصغيره التي لا يزيد حجمها عن عقله الإصبع في الأرض نشأت منها شجرة أخرى، ونخلة أخرى، الكرم، العنب، بذرة واحده من عنبه واحده، منها ينشأ العنب مرة أخرى، والكرم مرة أخرى، والشجر مرة أخرى، إذا نظرت إلى ذلك لا تستبعد أن يموت الإنسان، ويتحلل، ويصبح ترابًا، ورميمًا، وتتحطم العظام، وتتهشم، ويتهرأ اللحم، ولا يبقى شيئًا من جسم الإنسان إلا شيئًا يسيرًا، وهي عظمة صغيرة جدًا في آخر العمود الفقري، لا يأكلها التراب أبدًا، منها ينبت الإنسان، وينشأ مرة أخرى، ﴿كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كل المقدورات في قدرة الله سواء، ليس هناك يسير وعسير، أو سهل وصعب، فالله على كل شيء قدير، تعني أن كل المقدورات في قدرته سواء بكلمة كن، بغير مادة، بغير شيء، ثم يقول الله ناعيًا على المستعجلين، غير الثابتين، ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا﴾ وتأمل أن كلمة ريح تختلف عن كلمة رياح، الرياح مبشرات، والريح عقيم لا تلقح، لا لقاح فيها، ولا مطر، ﴿فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا﴾ السحاب الذي حركة الرياح، إذا كان مصفرًا فلا مطر فيه، أو الرياح إذا كانت صفراء فلا أمل فيها، أو الزرع؛ لأن الزرع إذا اصفر يبس، ومات، إذا رأوه مصفرًا ﴿لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾ يكفرون نعمة الله تبارك وتعالى، يائسون، ولاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، لظلوا يكفرون فلا أمل مع كل هذه الآيات، التفكير البسيط، التأمل في أي شيء، لابد وأن ترى الله، لابد وأن ترى قدرة الله في أي شيء تتأمل فيه، من هنا ورغم كل تلك الآيات يقول الله تبارك وتعالى لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا۟ مُدْبِرِينَ ﴿52﴾ وَمَآ أَنتَ بِهَـٰدِ ٱلْعُمْىِ عَن ضَلَـٰلَتِهِمْ ۖ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِـَٔايَـٰتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴿53﴾
‫﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء﴾ الموتى هنا ليس الموتى الذين ندفنهم في المقابر، أو ساكني القبور، وإنما الموتى هنا ميتوا الأحياء، الذين يمشي بين الناس حيًا وهو ميت القلب، ميت العقل، ميت الضمير، أطلق الله تبارك وتعالى عليه هذه الصفة لأنهم أماتوا قلوبهم، وأماتوا عقولهم، فهم كالموتى سواء لا ينطقون، ولا يتحركون، ولا يفعلون شيئًا كالموتى، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ والغريب في التعبير أنه قيّض الحكم في عدم إسماع الصم بأن يولوا مدبرين؛ لبيان إستحاله الإسماع، بمعنى أن الأصم وإن كان أصمًا إذا واجهك، ونظر إليك، وتكلمت، قد لا يسمع الكلام، لكنه يتفهم من حركات الشفاه بعض الكلام، وقد يتفطن لما تريدة، إن نظر إليك من حركات يديك، أو تعبيرات وجهك، أو حركات الشفاه، يتفطن الأصم لبعض الكلام، فإن أعطاك ظهره، وولى، وانصرف، ولم ينظر إليك، لا أمل واستحاله في السماع، واستحاله في التفهم، أو التفطن، ولذا قيّض الحكم به فقال تعالى‫:‬ ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ تيئيس، ربنا تيئس، ربنا ييئس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمان هؤلاء، لاتحزن عليهم، ولا يضيق صدرك، لا أمل فيهم فهم أموات، لا يمكن أن يتحركوا، أو يسمعوا، ماتت القلوب، ماتت الحواس فيهم، أيضًا هم صُم، صمُّوا آذانهم عن إستماع الحق، وولوا مدبرين، وأعطوك ظهورهم، فكيف تسمعهم؟ بل كيف يتفطنوا للكلام بمجرد النظر إلى الشفاه؟ ، ﴿وَمَا أَنتَ بهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ﴾ ، ﴿بِهَادِ الْعُمْيِ﴾ في سورة الروم كلمة (هاد) بغير ياء في سورة النمل فيها الياء، وهذا رسم للمصحف فقط، تقيد برسم المصحف العثماني، وهما في النطق والمعنى سواء، الأعمى في الدنيا يحتاج لمن يقوده، يحتاج لمن يبصّره بالطريق، لكن هؤلاء الذين عميت منهم البصائر، فهم لهم أبصار، ولهم عيون لكن هذه العيون لاتبصر الحق، عليها الغشاوة والضلاله، وحتى لو أردت أن تهديهم، وتأخذ بأيديهم، إمتنعوا عنك، وولوا عنك، ﴿إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾ إذًا إذا تكلمت، وأردت الإسماع، فأنت تسمع المؤمن الذي سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه يؤمن، والذي تفتح قلبه لإشراقات الحق، فإن أسمعت المؤمن ذو الإستعداد الفطري للإيمان، والذي تفتحت أذنه، وألقى بسمعه، وتفكر، وتدبر، وأراد أن يصل إلى الحق، وفي قلبه فطره الإيمان لم تشوش، هذا تسمعه، فإن سمع أسلم، وأسلم أي إستسلم لأمر الله ونهيه، ﴿فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾ أي فهم مستسلمون لأمر الله ونهيه، سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وتساق الدلائل والآيات، إذا عمى الإنسان عن السحاب، وعن الرياح، وعن النبات، وعن الماء، وعن إحياء الأرض، وعن كل ماهو مشاهد في هذه الدنيا، فلينظر إلى نفسه، أقرب شيء إليك نفسك التي بين جنبيك يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍۢ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعْدِ ضَعْفٍۢ قُوَّةًۭ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعْدِ قُوَّةٍۢ ضَعْفًۭا وَشَيْبَةًۭ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۖ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ ﴿54﴾
أو﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضُعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضُعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضُعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ ، الضَعْفْ والضُعْفْ لغتان بمعنى واحد، وهما قراءتان، وقال بعض اللغويين الضَعف بالفتح هو الضعف في الرأي، ضعيف الرأي سفيه، والضُعف في الجسد، سواء كان هذا، أو ذلك فالضَعف والضُعف في الرأي والجسد مثبت في هذه الآية، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ﴾ النطفة هل لها قوة؟ هل لها حركة؟ هل لها تصريف؟ الطفل الوليد حين يولد، أرأيت الوليد يولد، هل يدري بما حوله؟ غاية في الضعف، إذا لم تحمله بعنايه تكسرت منه العظام، إذا لم تعطه الطعام مات، لايدري حتى كيف يطلب الطعام، سوى أن يصرخ، حتى في صراخه لايدري أنه يصرخ، ولكن الله يلهمه الصراخ حتى تعلم الأم أن الطفل جوعان، هو نفسه لا يصرخ بإرادة، فلا إراده له، أي ضعف هذا في الجسد؟ وأي ضعف هذا في الرأي؟ هو الذي خلقكم من ضعف، ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً﴾ ينمو كما تنمو الشجرة بعد أن كانت ضعيفه، صغيرة إذا بها تقوى وتشتد، ويصبح الجذع ضخمًا، قويًا، من الصعب أن تحركة، فكذلك الإنسان يتحول من الضعف إلى القوة، يشب، يحبو، ثم يزحف، ثم يسير مستندًا، ثم يقف قائمًا معتدلًا، حتى إذا جرى الطفل لا يستطيع أن يقف دفعه واحدة، وتجد حتى في إتجاهاته لا يميزها، ولا يميز المسافات، والأبعاد، ولا يدري النافع من الضار، أي شيء يجده في الأرض إلى فمه رأسًا، دون تدبر أنافع هو أو ضار، منتهى الضعف في الرأي وفي الجسد، وبعد ذلك يأتيه الإدراك، والفهم، والتعلم، ثم القوة، وتتكون العضلات، والأعصاب، والعظام، ثم يشب وإذا به في غاية الشباب والقوة، قوة في الإدراك، قوة في الرأي، قوة في البدن والجسد، من الذي جعل الطفل الوليد يشب؟ هو الله، من الذي حوّل الضعف إلى قوة؟ هو الله، من الذي جعل العظام الهشه تصبح قويه، هو الله، حتى رأس الوليد إذا لمستها وجدتها غاية في اللين، والرقه، بغير عظام، تجد إصبعك ينفذ في هذا الرأس في مناطق غاية في الحساسيه، المخ ظاهر، والعظام منفصله لم تلتئم بعد، إذا بهذه العظام تثبت وتقوى، بماذا؟ بأي شيء؟ بلبن الأم، التي لا سلطان لها على إدراره، هو ينزل، ويتحول لبن الأم في تركيباته الكيميائية والغذائية دون تدخل منها، ودون تغيير للطعام الذي تأكله، بل هو اللبن في الأيام الأولى له لون وشكل، وكلما شب الطفل شهرًا بعد شهر يتغير تركيب لبن الأم، ولا يعوّضه شيء في الوجود، ثم بعد ذلك يأكل طعامًا عاديًا يأكله الأب، نفس الطعام، الأب لا يزيد طوله، ولا ينمو عن ذلك النمو الذي وقف عليه، والطفل ينمو بنفس الطعام، لم لا ينمو كما ينمو الوليد؟ من الذي حوّل هذا القصير إلى طويل؟ وهذا الضعيف إلى قوي؟ وهذا الطفل الوليد إلى شاب فتىّ؟ّ هل هو الطعام، ونحن نأكل جميعًا نفس الطعام؟ هو الله، هو الله، بل قد يكون الوليد ذكر، وقد يكون الوليد أنثى، فإن كانت أنثى إذا بصدرها يتحول ويبرز، وإن كان ذكر نما الشعر في جسده، ولا ينبت الشعر في جسد الأنثى، واللبن واحد، والطعام واحد، ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾ كل كبير منا جرّب هذه المرحله، كنت تجري، وكنت تصعد الدرج سريعًا، وتنزل سريعًا، قوة تشعرها في نفسك، وفجأه تجد أن القوى تخور، والأسنان كنت تحطم بها ما تشاء، والآن تخشى على أسنانك من عظمه صغيره، فإذا جاءت على سنك، أو على ضرسك، كسر الضرس، كسرت السنة، وإذا وقعت، كم يقع الطفل؟ يقع مرارًاً وتكرارًاً ويقوم ولا شيء فيه، وإذا وقع الكبير وقعه بسيطه، كسرت رجله، ووضعت في الجبس شهور وشهور، وقد لاتعود إلى ما كانت عليه، ضعف في كل شيء، في جميع القوى، في الرأي، ينسى ولم يكن ينسى، يسهو ولم يكن يسهو، يخطيء في التدبير ولم يكن يخطيء، تضعف العينان، ويصبح لا يرى كما كان يرى، ويضعف سمعه ولا يسمع كما كان يسمع، قواه الجنسية تضعف، شهوة الطعام تضعف، في كل شيء يبدأ في الضعف، ويبدأ في الشيبة، بعد الشبيبة تبدأ الشيبة، المفاصل، والعضلات، والأعضاء، والأسنان، والحواس، وكل شيء، وكأنه يعود مرة أخرى إلى مرحلة الطفوله، وكلما كبر سنه كلما زاد ضعفه، وقلت قوته، وتصبح زيادته في نقصان، ويصبح نقصة في زيادة، وكلما كبر إحتاج للإعانة وبعد أن كان يمشى معتدلًا ينحنى، ويحتاج لمن يسندة، ولمن يحمية، وقد يحتاج لمن يطعمه ويسقيه، كيف ذلك والطعام هو الطعام، والشراب هو الشراب، كيف ذلك؟ هو الله، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء﴾ وفي الآية تنكير وتكرير "ضعف" من غير ألف ولام التعريف، "قوة" من غير ألف ولام التعريف؛ لبيان أن ضعف الطفل مخالف لضعف الشيخ، فالضعفان مختلفان، فالتنكير والتكرير لبيان الخلاف والإختلاف، ضعف الطفل فيه الأمل، والتحول من ضعف إلى قوة، وضعف الشيخ ضعف آخر، ضعف فيه النقصان، ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [سورة يس آية‫:‬ ٦٨]، ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء﴾ يخلق ما يشاء من ضعف، ومن قوة، ومن شيبة، ومن شباب، ومن شبيبه، يخلق ما يشاء، ﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ كل شيء يعلمه، وكل شيء خاضع لسلطانه وقهره، وإذا كانت الأضداد ممكنه، فاختيار الشيء منها يدل على العلم؛ لأن الله تبارك وتعالى يخلق الضعف، ويخلق القوة، فإذا إختار ضعف ما، واختار قوة في وقت ما، دل ذلك على العلم، لذا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ يخلق مايشاء، وهو العليم بما يفعل، القدير في تحقيق إرادته‫.‬ أيها الأخ المسلم، إذا تأمل الإنسان في نفسه وفيما حوله، لابد وأن يصل إلى وجود الله تبارك وتعالى، وإلى قدرة الله تبارك وتعالى، وإلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم الذي ساق لنا هذه الدلائل، وهذه الآيات، وهذه البينات الداله على وجود الله تبارك وتعالى، وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب بقلم، وما سافر في البحار، وماسافر في الفيافي، وما إختلط بأناس، وما علم وما تعلم، بل هو الأمي العربي الذي لا يعرف القراءه والكتابه، وها هو يأتينا ببينات، ودلائل، وآيات لقدرة الله، وتفسيرات لظواهر كونيه لا يعلمها إلا الله، إذًا فكل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على صدق النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به عن ربه، تختتم سورة الروم بما تختتم به الدنيا فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا۟ غَيْرَ سَاعَةٍۢ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا۟ يُؤْفَكُونَ ﴿55﴾ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ وَٱلْإِيمَـٰنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ ۖ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿56﴾
‫﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ المجرمون‫:‬ الكفار، وكلمة إجرام في القرآن تعني الكفر، ﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٧٤]، ولا يخلد في النار إلا الكفار، ﴿يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ هل في يوم القيامة كذب؟ هل في يوم القيامه إدعاء؟ نعم، كما كذبوا في الدنيا يكذبون يوم القيامة، وكما صرفوا عن الحق في الدنيا، يصرفون عن الحق يوم القيامه، وربنا تبارك وتعالى يقول في شأنهم‫:‬ ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [سورة المجادلة آية‫:‬ ١٨] ويوم يسألهم عن إشراكهم يكذبون، ويقولون‫:‬ ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٢٣] فكذلك حين البعث، يقسم المجرمون الكفار مالبثوا غير ساعة، مالبثوا أين؟ في الدنيا؟ في القبر؟ بين النفختين؟ الكلمة تحتمل المعاني الثلاثة، ولكن هناك بين النفختين همدة يوقف فيها كل شيء، عند النفخه الأولى، نفخة القيامة، أو نفخة النهاية، يصعق من في السموات، ومن في الأرض إلا من شاء الله، حتى الموتى في قبورهم يصعقون، ويتوقف عنهم عذاب القبر، فالقبر إما حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، فبعد ما يموت الكافر يعذب في قبرة، ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ...﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٤٦] وهكذا عند النفخة الأولى يصعق كل من في السموات ومن في الأرض من ملائكة، وإنس، وجن، كل شيء إلا من شاء الله، ولا ندري من هؤلاء الذين عافاهم الله من الصعق، ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [سورة الزمر آية‫:‬ ٦٨] بين النفخة الأولى والنفخة الثانية مدة حددها النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين، ولم يبين هل هي أربعون يومًا؟ أربعون ساعة؟ أربعون دقيقة؟ أربعون سنة؟ أربعون قرنًا؟ لم يبين، ولكن هذه الهمدة بين النفختين لا يشعر بها أحد، حتى المعذبين في قبورهم يتوقف عنهم العذاب في هذه الفترة، فيقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة في هذه المسافة، أو يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة في الدنيا، حياتهم في الدنيا بالقياس إلى ما يرونه من هول الموقف، ومن الخلد المنتظر في جهنم، ففرعون مثلًا عاش في الدنيا كم من السنين؟ مائة، مائتان، ألف! كم عاش فرعون إلة يعبد في الأرض من دون الله؟ كم مر عليه في قبرة يعذب؟ آلاف السنين، ولا زالت الدنيا قائمة، ولم تقم الساعة بعد، كم من آلاف السنين سوف يبقى في العذاب؟ فإذا قيست مسافة الدنيا التي عاشها الإنسان بمسافة الموت في القبر، أو بمسافة البعث، أو بمسافة يوم القيامة الذي حدثنا ربنا تبارك وتعالى عن طوله أنه خمسون ألف سنة، من هنا يقسم المجرمون أنهم ما لبثوا غير ساعة، إما يقصدون الدنيا، وإما يقصدون الهمده والخمود بين النفختين، أو يقصدون القبر؛ لأن القبر مهما طالت المدة فيه لا يقاس بزمان يوم القيامة، أو بزمان الآخرة، حيث الخلد الذي لا موت بعدة، يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة، ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾ أي كما كانوا يؤفكون في الدنيا، يصرفون عن الحق، أُفِكَ الرجل، ومأفوك‫:‬ صرف عن الحق إلى الضلال، والإفك هو الكذب، والبعد عن الحقيقة إلى غير الحقيقة، فهم كذلك كانوا يؤفكون‫:‬ أي يصرفون عن الجنة كما صرفوا في الدنيا عن الحق، ها هم يوم القيامه يصرفون أيضًا عن الحق، ولايدرون هل لبثوا ساعة؟ ويقسمون كذبًا كما كانوا يقسمون كذبًا في الدنيا، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ﴾ رد عليهم الأنبياء، والعلماء، ومؤمنوا الأمم، والملائكة، هؤلاء الذين أوتوا العلم والإيمان، ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ إذا ً فهم يعلمون المدد، ويميزون الأوقات، ولايقسمون كما أقسم هؤلاء، هؤلاء الذين أوتوا العلم والإيمان يقولون لقد لبثتم في كتاب الله‫:‬ في قضائه، في كتاب الله‫:‬ في علمه، في كتاب الله‫:‬ في اللوح المحفوظ، الأجل المضروب لكم، في كتاب الله‫:‬ في القرآن الذي أنبأنا عن البعث ويوم البعث، أو الآية فيها تقديم، وتأخير، ومجاز هذا الكلام (وقال الذين اوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يوم البعث)، أتوا العلم في كتاب الله تحدد أن الذين ردوا عليهم، وتكلموا هم أهل الكتاب، أهل القرآن، حملة علم الله تبارك وتعالى، ﴿فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ الفاء جواب لشرط محذوف تقديرة إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَيَوْمَئِذٍۢ لَّا يَنفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴿57﴾
في هذا اليوم، لاينفع الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، والكفر، والتكذيب، وإنكار البعث معذرتهم، أي حتى لو أن إعتذروا لايقبل منهم إعتذار، فما بالك ولايؤذن لهم فيعتذرون أصلًا،ً لايؤذن لهم فيعتذرون، وحتى لو أعتذروا لاتقبل منهم معذرة، ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ فيطلب منهم العتبى، استعتبته فأعتبني، إسترضيته فأرضاني، أصل الكلمة‫:‬ العتْب، والعتْب أن تتكلم مع صديقك الذي أساء إليك، تطلب منه أن يزيل الإساءه، وأن يعود عن إساءته، فإذا حدثته عن إساءته، وحدثك هو عن إساءتك، أصبح عتابًا، ومعاتبه، والعتبى‫:‬ الرجوع من ما يغضب إلى ما يرضى، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لربه مناجيًا له‫:‬ (لك العتبى حتى ترضى)، فالإستعتاب أن تطلب منه العتب، فهؤلاء لا يستعتبون‫:‬ أي لايطلب منهم العتبى، حيث أن الآخرة دار جزاء، وليست دار عمل، الدنيا فيها العمل، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والعمل الصالح يكفر العمل السيء، ولكن في الآخره هل هناك عمل؟ لا عمل هناك فكيف يعود إلى ما يرضى؟ وفي الآخره لا عمل، الدنيا عمل ولاجزاء، والآخره جزاء ولا عمل، ثم يقول الله تبارك وتعالى في آخر السورة‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍۢ ۚ وَلَئِن جِئْتَهُم بِـَٔايَةٍۢ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ﴿58﴾ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿59﴾
‫﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ أمثال من مختلف الأشياء، ضرب الله لنا الأمثال حتى نعي، حتى نفكر، حتى نستخدم عقولنا، حتى نتدبر، حتى نؤمن، حتى نعرف الله، حتى نرتدع، ثم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ﴾ معجزة كعصا موسى، كناقة صالح، كما طلبوا منه، ﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾ حتى لو جئتهم بالآيات، المعجزات كالعصا، والناقة، وكذا، وكذا، لقال الذين كفروا‫:‬ إن أنتم إلا مبطلون، أي تأتون الباطل، أي أنتم سحرة، كما قال فرعون لموسى‫:‬ ان هذا الا ساحر مبين، ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يعلمون الحق، ولا يتبعون الحق، يطبع الله تبارك وتعالى على قلوبهم بطابع الكفر، فإن طبع على قلبه بطابع الكفر لن يؤمن، من يهدية بعد أن يضله الله؟ فمن يهدي من أضل الله؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴿60﴾
فاصبر يا محمد، إن وعد الله بنصرك وبإظهار دينك على الدين كله حق لابد وأن يحدث مهما طال الزمان، وعدك بالنصر، ووعدك بأن يظهر دينك على الدين كله، والله تبارك وتعالى محقق وعده لا محاله، لا خلف في وعد الله، ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ إنتقل الخطاب، وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن المراد مؤمنوا الأمه، إستخفه‫:‬ حمله على الخفه، والخفه‫:‬ القلق، والتردد، وعدم الثبات، والرعونه، أيضًا إستخفه‫:‬ إستجهله، وزعزعه، وأخرجه مما كان عليه إلى ما هو عليه، إتبعه، إذًا فالكافر يستخف المسلم‫:‬ أي يخرجه عن دينه، ويجعله تابعًا له في الكفر، ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ لايحملنك على الخفه، أو لا يستجهلنك، أو لا يستفزنك عن دينك، ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ الإيقان، واليقين هو الإيمان الصادق، الثابت، الذي لا يتزعزع‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم، إنتهت سورة الروم، وفي هذه السورة آية لابد وأن تتدبرها وتحفظها‫:‬ ﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾[سورة الروم آية‫:‬ ٤٤] وكلنا يمهد في الدنيا، ينشيء المسكن، ويجهزة بالفراش الوثير، ويجهزه بالدهان، والأجهزة العصرية، كلنا يأتي بالثياب، ويجهز مكان إقامته، والقبر حفره مظلمة ظلام لا يعدله ظلام في الدنيا، وضيق القبر لايعدله ضيق في الدنيا، ووحدة الإنسان في القبر لا تعدلها وحده في الدنيا، ولا ينجي الإنسان منها إلا أن يكون قد مهد لنفسه بعمل يؤنسه، فلا يؤنسك في قبرك إلا عملك، ولايظلك إلا عملك، ولا ينير القبر إلا عملك، وأول ما يسأل عنه الإنسان في قبرة‫:‬ عن ربه، وعن دينه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، وتفتح له طاقة يرى منها المقعد في الجنة، ويرى منها المقعد في النار، فإن كان من الناجين؛ رأى مقعد النار أولًا، فإذا أخذه الفزع قيل له هذا مقعدك من النار أنقذك الله منه، فانظر إلى مقعدك من الجنة، ويفتح له طاقة فيرى المقعد في الجنة، ثم تقول له ملائكة القبر‫:‬ انظر إلى مقعدك من الجنة، واستمتع بالنظر إليه حتى تبعث إليه، وإن كان من الآخرين؛ فتحت له طاقه الجنة أولًا، ويقال له انظر إلى مقعدك من الجنة، فإذا إغتر، وخالطة الأمل، وهيء إليه أنه من الناجين، أغلقت الطاقه، وفتحت طاقة جهنم، ويقال له ضيعت مقعدك من الجنة بسوء عملك، فانظر إلى مقعدك من النار حتى تبعث إليه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أيها الأخ المسلم، أي منظر تريد أن تراه ألوف وألوف السنين؟ وقد تكون ملايين في هذا الموقف بعمل بسيط؛ بالصلاة على وقتها، بالذَّب عن عِرض المسلم، تنجو من النار‫.‬ أيها الأخ المسلم، بالأعمال البسيطه، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها،مايريد الله أن يجعل عليكم من حرج، ولكن يريد أن يطهركم بالخلق الكريم، بحسن الجوار، ببر الوالدين، بالعطف على الفقير، بالصدقه، بالكلمة الطيبة، بأمور يسيره، بسيطه، تنجو من النار، ومن عذاب الجبار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬