
القرآن الكريم / سورة العنكبوت / التفسير المقروء
سورة العنكبوت
مقدمة
قدمنا لسورة العنكبوت، وبينا العلاقه التي بينها وبين سورة القصص التي من قبلها، سورة العنكبوت سورة مكيه، نزلت بمكة إلا عشر آيات من أولها، وهي تسع وستون آية، وافتتحت سورة العنكبوت بالحروف المقطعه.
الٓمٓ ﴿1﴾
وتكلمنا في هذه الحروف من قبل كثيرًا لنبين الحق فيها، قالوا وقالوا وقولهم مردود؛ قالوا أسماء للسور، أسماء للنبي صلى الله عليه وسلم، أسماء لله تبارك وتعالى، هذه الحروف تجمع الأسم الأعظم، هذه الحروف دلاله على أسماء أخرى "الم" الله لا إله إلا هو محمد رسول الله، أو الله يعلم، إلى آخر ما قيل في هذه الحروف، وقلنا من قبل أنها سر الله فلا تطلبوه، ولله تبارك وتعالى في كل كتاب سر، وسره في القرآن فواتح السور، وفي هذه السورة دليل يرد أقوال هؤلاء الناس جميعًا، يقول الله تبارك وتعالى:
أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓا۟ أَن يَقُولُوٓا۟ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿2﴾
إذا ً وجود الإستفهام بعد الحروف ﴿الم﴾ يدل دلاله قاطعه على أن هذه الحروف مستقله بذاتها، لاعلاقه لها بإسم السورة، أو بأسماء، أو بقَسَمْ، إلى آخر ماقيل، والعرب في الجاهلية مشهورون بالفصاحة والبلاغة، وكان المشركون يترصدون ويتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم ليجدوا عثرة أو ذلة يمسكوها عليه، وقد قرأ عليهم القرآن وفيه فواتح السور، وثبت أنه قرأ عليهم بمكة سورة فصلت "حم"، وقرأ عليهم سورة ص، قرأ عليهم السور بمكه، وفيها فواتح السور فشهدوا له بالبلاغة والفصاحة، ولم يأخذوا عليه هذه الحروف، ولو كان فيها ذلة أو عثرة لأخذوها عليه، إذا ً لابد وأن يكون ذلك أمرا ً متعارف عليه بينهم، فربما كانت للإستفتاح كقولهم "ألا" "وأما" للإستفتاح، وطالما كان كلام الله لايشابه كلام البشر فوجب أن يكون الإستفتاح مختلفًا عن استفتاح البشر أيضا، قرعت أسماعهم هذه الحروف، وكانوا يلغَوْا في القرآن، ويشوشوا حتى لايسمعوه، فقرعت هذه الحروف أسماعهم، فتعجبوا، فسمعوا، فإذا سمعوا لها سمعوا مابعدها، وإذا سمعوا مابعدها رقّت القلوب، ولانت الأفئده، ولله تبارك وتعالى الحكمة في هذا، ولكنها من المتشابهات التي نفوّض العلم فيها إلى الله تبارك وتعالى، ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ الإستفهام للتقرير، وهو أيضًا للتقريع؛ بمعنى هل ظن الناس -لأن الحسبان بمعنى الظن غير الحُسبان بمعنى الحساب- أحسب: أظنّ، هل ظن هؤلاء الناس أن يتركوا غير مفتونين بمجرد القول أنهم آمنوا؟ وهل يكفي القول؟ الإيمان وإن كان خالصًا، ومن خلوص، لايؤدي إلا إلى الخلاص من الخلد في النار، ولكن العمل الصالح، والجهاد، والصبر على الطاعه، والصبر عن المعاصي، ورفض الشهوات، والصبر على المصيبات يؤدي إلى عوالي الدرجات؛ لأن العبد بالصبر على ذلك كله يستحق الأجر والثواب، أما الإيمان الخالص، المجرد عن العمل، فلا يؤدي إلا إلى الخلاص من الخلد في جهنم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحكي لنا عن ربه أنه ينادي ويقول (اخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذره من ايمان)، إذا ً فالإيمان لايخلّد صاحبه في النار، أما العمل الصالح فينجية أصلًا من النار، ويدخله الجنة بغير عذاب، وبغير حساب، لذلك يقول الله تبارك وتعالى أحسب الناس أن يتركوا غير مفتونين؟ غير ممتحنين؟ غير مبتلين؟ ﴿ أَن يَقُولُوا آمَنَّا ﴾ لمجرد القول، هل حسبوا ذلك؟ قد ذكرنا من قبل كيف سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أي الناس أشد بلاءا ً فقال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وأن المرء يبتلي على قدر دينه، فإن كان في دينه ضعف، أو رقه، هُوِّن عليه، وأشد الناس بلاءا ً الأنبياء، وهكذا يقول الله تبارك وتعالى:
وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا۟ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ ﴿3﴾
الإفتتان هنا والفتنه بمعنى الإمتحان، ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ إذا ً فهي سُنَّة جارية في كل الأمم، إذا ًهي عادة الله تبارك وتعالى منذ الأزل أن يفتن الأمم، وأن يفتن الناس، وطالما كان هذا هو سُنّة الله تبارك وتعالى فلا يتوقع خلافها، ولابد أن يفتن المؤمن، وأن يبتلي، وأن يمتحن؛ لأن هذا هو سنة الله تبارك وتعالى، ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾، وهل ربنا تبارك وتعالى لم يعلم بعد فيمتحن الإنسان حتى يعلم أصادق هو أم كاذب هو؟ الله تبارك وتعالى من الأزل، ولكن رحمة الله تبارك وتعالى إقتضت ألا يحاسب الناس على سبْق علمه فيهم، بل أراد أن يمتحنهم فإذا بهم يظهرون ما خفى في نفوسهم، وما إنطوت عليه صدورهم، فيحاسبون على علم الواقع، لا على علم الغائب، لا على علم الغيب، بل يتعلق الحساب بعلم المشاهد، بما وقع منهم، ولايتعلق الحساب بالعلم الأزلي؛ لأن الله تبارك وتعالى قد علم من الأزل الصادق من الكاذب إذا ً ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾ أي فليظهرن ماسبق به العلم أمام الناس، وأمام الأشهاد، وأمام الناس أنفسهم حتى لاتكون لهم حجه على الله، ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ الصدق : الحق، ضد الكذب، يعلم الذين آمنوا، ويعلم المنافقين الذين إدَّعَوْا الإيمان بألسنتهم وانطوت قلوبهم على الكفر، أو الصِدْق هنا من الصَدْقْ، وهو الصلب، أي الثابت في إيمانه، والكذب من كَذَّبَ في الحرب : إنهزم، أي ليعلم الله تبارك وتعالى ويظهر الصادق الثابت في إيمانه، والمضطرب في إيمانه، الضعيف، أو ليعلم الصادق من حيث أن ما قاله بلسانه من إيمان إنطوى عليه قلبه، والكاذب الذي إدعى الإيمان بلسانه وقد إنطوت نفسه على الكفر، وقُرأت ﴿فَلَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيُعْلِمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ من الإعلام : الإظهار، إما الإظهار في يوم القيامه بالعلامات ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ﴾ [سورة الرحمن آية:٤١] ، أو ﴿فَلَيُعْلِمَنَّ﴾ ليظهرنَّ أمرهم لأنفسهم يوم القيامة، فإذا بالإنسان يجد عمله حاضرًا ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾[سورة الإسراء آية:١٤] أو ﴿فَلَيُعْلِمَنَّ﴾ ليُعْلِمنَّ الناس، فليُعلِمنَّ الأمة أمر هؤلاء المنافقين، وأمر هؤلاء الصادقين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ﴿من أسرّ سريره ألبسه الله رداءها﴾ ولذا الصالحون والصادقون، أهل الله تبارك وتعالى، إذا نظروا في وجوه الناس رأوا سرائرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها، وكما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿... قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ...﴾ [سورة آل عمران آية:١١٨].
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿4﴾
ظن هؤلاء الكفار الذين إرتكبوا الشرور والمعاصي أن يسبقونا، أن يفوتونا، السبْق : الفَوْت، والإعجاز إذا سبقك لاتدركه، أعجزك أن تدركه، أن يسبقونا: يفوتونا، ويعجزونا فلا نقدر على مؤاخذتهم، ولانقدر على بعثهم، أو عقابهم، ﴿ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ بئس الحكم الذي حكموا به، بئس ماقالوه، وبئس ماظنوه، وبئس ما اعتقدوه.
مَن كَانَ يَرْجُوا۟ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَـَٔاتٍۢ ۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴿5﴾
﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ﴾ يرجو:يأمل، أي من كان يأمل في رؤية وجه الله تبارك وتعالى ، أو من كان يأمل في لقاء الله في الجنة، أو من كان يأمل في ثواب الله تبارك وتعالى، أو يرجو هنا بمعنى الخوف، يتوقع وينتظر العاقبه إما الثواب، وإما العقاب، ويخاف لقاء الله تبارك وتعالى وحسابه، إن كان الأمر كذلك ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ الأجل: الموعد، وإذا كان اللقاء آتيًا، إذا كان الموعد آتيًا، كان اللقاء كائنًا لامحاله، هناك موعد للّقاء، فإذا جاء الموعد لابد وأن يحدث اللقاء، ولذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ لم يقل فإن لقاء الله حادث؛ لأن ذلك لاشك فيه، وإنما عبّر بحضور الأجل، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ السميع لأقوال العباد، العليم بأفعالهم وما انطوت عليه صدورهم ونفوسهم.
وَمَن جَـٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـٰهِدُ لِنَفْسِهِۦٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿6﴾
﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ من جاهد التعذيب في أول الإسلام، وقيل أن الآيات نزلت بسبب هؤلاء المعذبين بمكه في أول الإسلام، وإن كانت الآيات نزلت بسبب معين إلا أن العبره بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والآية ماضٍ حكمها في أمة محمد إلى أن تقوم الساعه، ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ...﴾ [سورة آل عمران آية:١٨٦] ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [سورة البقرة آية:١٥٥] فحكم الآية ماض إلى يوم القيامه مهما كان سبب النزول، ﴿وَمَن جَاهَدَ﴾ جاهد التعذيب، جاهد نفسه، جاهد الأذى، صبر على الطاعه، وصبر عن المعاصي، فإنما يجاهد لنفسه؛ لأن الله تبارك وتعالى لاتضره المعاصي، ولاتنفعه الطاعات، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ كان الله ولم يكن معه شيء، إذا ًفالله تبارك وتعالى مستغنٍ بذاته عمّا سواه، فطاعتك لنفسك، ومعصيتك عليك، وقيل أن فيها معنى آخر تحتمله اللغه ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ أي ومن جاهد، وهذا الجهاد يبتغي به حفظ نفسه ليس مخلصًا لله، فعليه وزر ذلك؛ لأن الله غني عن العالمين، أي من جاهد لا يبتغي بجهاده إلا مدح الناس، وحظوظ النفس من أمور الدنيا، فإن الله غني عن العالمين، لايضره أن تفعل هذه الطاعات إستظهارا ً بها، شهرة، إعلانًا عن نفسك للناس، ليس جهادا ً من أجل الله، فالله تبارك وتعالى غني عنك، وعن جهادك المزعوم.
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِى كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿7﴾
الذين آمنوا وعملوا الصالحات يبشرهم ربهم تبارك وتعالى بأمرين، والآية يلاحظ فيها أن الله تبارك وتعالى قرن الإيمان بالعمل، من آمن بلسانه، وقلبه، وصَدَّق كل ذلك العمل، ﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ الكفر : الإخفاء، وإذا وضع الزارع الحب في الأرض وردم عليه فقد كفر الحب، أخفاه، وسُمِي الزراع كفارا ً لأنهم يكفرون الحب في الأرض، والكافر سمي كافرا ً لأنه أظهر الجحود ويخفي في نفسه فطرة الله التي فطر الناس عليها، حيث أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، شهدها الكل بما فيهم فرعون، وأبوجهل، وكل الكفار، إذًا الكافر أخفى فطرة الله، وأظهر الجحود والنكران، ﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ لنخفينَّ عنهم سيئاتهم، إذا ً فإذا عمل الإنسان سيئة وكان من المؤمنين الذين يتبعون السيئة الحسنة، أخفى الله السيئة عن الكتبه والحفظة، فمُحيت من الصحائف، وأنسى الجوارح ما ارتكبتة من معاصي، فإذا جاء ذاك الرجل الصالح يوم القيامة لايوجد عليه شاهد بذنب، صحائفه بيضاء ناصعه، والملائكة والحفظه قد أنساها الله ما ارتكب، والجوارح كذلك قد نسيت، إذا هم يقفون أمام الله بغير خطيئة بغير سيئة، هذا هو الأمر الأول، الأمر الثاني: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الجزاء الحسن: الحسنة بحسنة، الجزاء الأحسن: الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء، أو ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وكأن الحساب على أحسن الأعمال تقوّم وتحسب عليها كافة الأعمال، فإذا سجدت في عمرك ألف سجدة، أحسن سجدة في عمرك، سجدة خشعت فيها، وتذللت، وفاضت عيناك بالدموع، فأخذت على هذه السجدة ألف حسنة، وباقي السجدات لم ترق إلى هذه الدرجة، حسبت جميع السجدات على هذه السجده، الكريم يضاعف لمن يشاء.
وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حُسْنًۭا ۖ وَإِن جَـٰهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌۭ فَلَا تُطِعْهُمَآ ۚ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿8﴾
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ ، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَسَنا ﴾ ، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحسانًا﴾ ثلاث قراءات، قرن الله تبارك وتعالى عبادته وطاعته ببر الوالدين، فقال: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [سورة الأسراء آية:٢٣] أيضًا قرن شكره بشكر الوالدين فقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [سورة لقمان آية:١٤] ولم يحدث إلا في هذا، ﴿وَوَصَّيْنَا﴾ أي أمرنا، أو التوصية بمعنى القول، أي وقلنا للإنسان أحسن إلى والديك إحسانًا، أو وصينا الإنسان أن افعل حسنًا بوالديك، والإحسان إلى الوالدين هو البر، ولا يشترط في هذه الآية ولا في غيرها من الآيات التي أمرت ببر الوالدين أن يكون الوالدان مسلمين، بل حتى لو كان الأب والأم على الكفر وجب البر بهما، فرضًا لاسُنَّة ولاندبًا، وحديث أسماء الشهير الذي رواه الإمام البخاري حين تقول: جاءتني أمي وهي راغبه مشركه في المدينه في العهد الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين جاءت من مكه إلى المدينة فسألت رسول الله، فقلت: يارسول الله جاءتني أمي وهي راغبه أفأصلها قال: نعم صلي أمك، وذهب رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الخروج للجهاد فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال اذهب ففيهما فجاهد، وذهب آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، فقال: هل لك والدان؟ قال: نعم، وتركتهما يبكيان، قال: ارجع فاضحكهما كما ابكيتهما، ويسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم ويقول يارسول الله! هل بقى علي من بر والدي شيء بعد مماتهما أبرهما به؟ قال: نعم، الصلاه عليهما، والإستغفار لهما، وانفاذ عهدهما من بعدهما، وأكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لارحم لك إلا من قبلهما، ذلك الذي بقى عليك، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لايجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه، ويُسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله يا رسول الله؟ فيقول الصلاة على وقتها، فيسأل السائل: ثم أي؟ فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بر الوالدين، فيقول: ثم أي؟ فيقول صلى الله عليه وسلم ثم الجهاد في سبيل الله. إذا ً فبرُ الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله، أيضًا يقول النبي صلى الله عليه وسلم إن أبرّ البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يُوَلِي، أن تصل أهل ود أبيك بعد مماته من الذين كان يحبهم، فتصلهم، وتحبهم، وتودهم، وحين سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أحق بحسن صحابتي يارسول الله ؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال ثم أبوك، فثبت من ذلك أن محبة الأم، وبر الأم، والشفقه على الأم، يجب أن تكون ثلاثه أضعاف البر بالأب، والشفقه بالأب، وعلل العلماء ذلك بأن الأم تحتمل ثلاثة أمور لا يحتملها الأب، أولًا: صعوبة الحمل، ثانيًا صعوبة: الوضع، ثالثًا: صعوبة الإرضاع والتربية، وتلك أمور ثلاثة لايحتملها الأب، فوجب أن تكون محبة الأم والإشفاق عليها ثلاثة أضعاف محبة الأب والإشفاق عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم يومًا: رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قالوا: من هذا يارسول الله؟ من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم حين يوصي ببر الوالدين، ويأمر بذلك، وينهي عن العقوق، يقول من أكبر الكبائر شتْم الرجل والديه، فقالوا: يارسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم؛ يشتم الرجل أبا الرجل، فيشتم أباه، ويشتم الرجل أم الرجل فيشتم أمة، كالسباب الذي نسمعه علنًا بل وفي بعض وسائل الإعلام للأسف الشديد، بر الوالدين من أهم الأمور وإن كان كافرين، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ إذا ً معنى ذلك وإن كانا كافرين، وجاهداك على الإشراك والكفر، لاينفي هذا وجود البر، ينفي أمرا ً واحدا ً: الطاعة، لأنه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويقول: ﴿لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي ما ليس لك به علم بألوهية، فنفى الألوهية بنفْي العلم بها، فمعنى ذلك أن مالا علم لك به لا يجوز إتباعه، ولو لم يعلم بطلانة، فما بالك إذا علم بطلانه؟ وقد عُلم بطلان الألوهية إلا لله تبارك وتعالى، ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ إذًا لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق، لكن لم يقل فلا تبرهما، بل وجوب البر قائم مهما حدث، ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ تهديد ووعيد لهؤلاء العاقّين لوالديهم، ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ وكأن الله تبارك وتعالى بعد أن وصى الإنسان بوالديه هدد، توعد أن إليه المرجع فيحاسب البار، ويحاسب العاق، كلٌ بحسب عمله، ثم يؤكد ويبشر الطائعين فيقول:
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى ٱلصَّـٰلِحِينَ ﴿9﴾
كمال الصلاح، منتهى أمل المرسلين والنبيين، وقالوها الأنبياء كما قال سليمان: ﴿... وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [سورة النمل آية:١٩] ، وقالها يوسف: ﴿... تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [سورة يوسف آية:١٠١] إذا ً فالصالحون هو منتهى الكمال، فكمال الصلاح منتهى أمل المرسلين، والنبيين، والصالحين في كل زمان ومكان، وها هو ربنا تبارك وتعالى يبشر، ويعد من أبر والدية، ومن أطاع الله، وصبر على الإبتلاء، الذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنَّهم في عداد الصالحين، منتهى الكمال، منتهى العلو في الدرجات، وتلك منازل الأنبياء والمرسلين، والذين آمنوا بالله ورسله أولئك مع الصديقين، والشهداء، والنبين، والمرسلين، وهكذا يبشرنا ربنا تبارك وتعالى أن الإنسان إذا فاز، ونجا من العذاب، ونجا من السؤال، ودخل الجنة، فهو في منازل الأبرار مع الصالحين، والشهداء، والأنبياء، والمرسلين، وحسن أولئك رفيقًا، وقد قيل أن هذه الآيات نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ﴿... وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ كان سعد بن أبي وقاص من السابقين في الإسلام، وقيل أنه رابع أربعة في الإسلام، وكان شابًا بارًا يتحدث الناس عن بره بأمه، وحين أسلم غضبت أمه غضبًا شديدا، ً وحاولت معه فلم يجدي ذلك، وعذبوه فلم يرتدد، ولم يفتتن في دينة، فحلفت أمه أن تضحى ولا تذهب إلى الظل، تبقى في الشمس، لاتأكل، ولاتشرب حتى تموت، أو يعود إلى دين آبائه، فإن لم يعد وماتت عَيَّرهُ الناس، وأشاروا إليه، وقالوا هذا قاتل أمه، فبلغه ذلك، وحين بلغه ذلك لم يتردد، وثبت على دينه، وعلى إيمانه، رغم الحب الشديد والبر الشديد بالأم، فأجبروه فذهب إليها وقال: ياأمي والله لقد علم العرب أني أبُّر الناس بأمه، يا أمي والله لو أن لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما رجعت عن دين الله، وعن دين محمد، وتركها وانصرف، فنزلت الآيات تحدث عن سعد بن أبي وقاص ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾ ، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأتني بأبيك، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ان الله عز وجل يقرئك السلام، ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعتة أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك، اتريد ان تاخذ ماله؟ فقال: سله يارسول الله، هل انفقه الا على احدى عماته، او خالاته، او على نفسي؟ فقال له رسول الله: إيه دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ماسمعته اذناك، فقال الشيخ: والله يارسول الله مازال الله عز وجل يزيدنا بك يقينًا، لقد قلت في نفسي شيئًا ماسمعته اذناى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قل وانا اسمع، قال: قلت:
"غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا *** تُعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ *** إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ *** لِسُّقْمِكَ إِلا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ *** كَأَنِّي أَنَا الْمْطَرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي *** طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَايَ تَهْمُلُ *** تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا *** لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ *** فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي*** إِلَيْهَا مَدَى مَا فِيكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ *** جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً *** كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ *** فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي *** فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُثَاقِبُ يَفْعَلُ *** فأوليتني حق الجوار ولم تكـن *** عليّ بمال دون مالـك تبخـلُ."
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب هذا الولد الذي يشكو أباه، وقال: اذهب أنت ومالك لأبيك، أيها الأخ المسلم، بر الوالدين مهما كانا على طاعه، أو على عصيان، والقرآن حافل بهذه الأوامر، وها هو الخليل، أبو الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأكمل تسليم، انظر كيف كان يعظ أباه، ويدعوه إلى الإسلام: يأبت، يا أبت، يا أبت، الخطاب، والأدب، واللباقه، يا أبت، كلمة فيها الحنان، وفيها الرقه، وفيها الإشفاق، ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [سورة مريم آية:٤٥] إنتقاء الألفاظ لم يقل عذاب من الجبار، الرحمن لايعذب، الرحمن يرحم، أنما الذي يعذب هو الجبار والقهار، وانظر إلى الشفقه حتى بعد أن قال له الأب بغلظه الكفر ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [سورة مريم آية:٤٦] انظر إليه يقول: ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾ [سورة مريم آية:٤٧] ويأمل في الإجابه ويقول: ﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [سورة مريم آية:٤٧].
التودد إلى الله، والترحم على الأب، أيها الأخ المسلم، بر الوالدين يؤدي إلى أعلى الدرجات، وعقوق الوالدين يعادل الشرك بالله، وكلكم يعلم أن الله تبارك وتعالى نهى عن قولة "أف"، فما كان أكبر أولى بالنهي، و "أف" كلمة من حرفين، يتأفف بها الإنسان، أو يتضجر، أو يعلن بها عن ضجره وإن أطعت، فإذا أمرك أبوك بأوامر متكرره، فأطعت مائة مره، وفي المره الواحده بعد المائه أطعته وقلت "أف"، دخلت النار بهذه الكلمه، وإن كنت مجاهدًا في سبيل الله، وإن كنت داعيًا من الدعاه، نشرت الإسلام في الأقطار، مهما قلت، عقوق الوالدين يعادل الشرك بالله، إياكم! ، بر الوالدين لاينتهي بموتهما بل بر الوالدين إلى أن تموت أنت، بر الوالدين بعد الممات الصلاه عليهما والإستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة أهل مودتهما، وصلة الرحم التي لا رحم إلا من قِبَلهما، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وإن مات الأب وعليه الحج وجب عليك أن تحج نيابه عنه، وإن ماتت الأم وعليها الصيام صمت عنها، وأورده البخاري في صحيحه أن يصوم الإبن عن أمه وعن أبيه، وأن يحج عنه، وأن يتصدق عنه، فبر الوالدين لاينتهي بموتهما. أيها الأخ المسلم، البار بأبويه فائز ناجٍ، والعاق لا فوز له ولا نجاه، ثق من هذا؛ لأن الله تبارك وتعالى قرن عبادته وطاعته ببر الوالدين، وقرن شكره بشكر الوالدين، أيها الأخ المسلم، في الآيه وعيد وتهديد، ﴿... وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
تمضي سورة العنكبوت لتبين أحوال المنافقين، ولتؤكد أن الله تبارك وتعالى يبتلي خلقه بما يشاء ليميز المؤمن من المنافق، فيقول الله تبارك وتعالى:
"غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا *** تُعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ *** إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ *** لِسُّقْمِكَ إِلا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ *** كَأَنِّي أَنَا الْمْطَرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي *** طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَايَ تَهْمُلُ *** تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا *** لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ *** فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي*** إِلَيْهَا مَدَى مَا فِيكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ *** جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً *** كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ *** فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي *** فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُثَاقِبُ يَفْعَلُ *** فأوليتني حق الجوار ولم تكـن *** عليّ بمال دون مالـك تبخـلُ."
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب هذا الولد الذي يشكو أباه، وقال: اذهب أنت ومالك لأبيك، أيها الأخ المسلم، بر الوالدين مهما كانا على طاعه، أو على عصيان، والقرآن حافل بهذه الأوامر، وها هو الخليل، أبو الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأكمل تسليم، انظر كيف كان يعظ أباه، ويدعوه إلى الإسلام: يأبت، يا أبت، يا أبت، الخطاب، والأدب، واللباقه، يا أبت، كلمة فيها الحنان، وفيها الرقه، وفيها الإشفاق، ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [سورة مريم آية:٤٥] إنتقاء الألفاظ لم يقل عذاب من الجبار، الرحمن لايعذب، الرحمن يرحم، أنما الذي يعذب هو الجبار والقهار، وانظر إلى الشفقه حتى بعد أن قال له الأب بغلظه الكفر ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [سورة مريم آية:٤٦] انظر إليه يقول: ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾ [سورة مريم آية:٤٧] ويأمل في الإجابه ويقول: ﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [سورة مريم آية:٤٧].
التودد إلى الله، والترحم على الأب، أيها الأخ المسلم، بر الوالدين يؤدي إلى أعلى الدرجات، وعقوق الوالدين يعادل الشرك بالله، وكلكم يعلم أن الله تبارك وتعالى نهى عن قولة "أف"، فما كان أكبر أولى بالنهي، و "أف" كلمة من حرفين، يتأفف بها الإنسان، أو يتضجر، أو يعلن بها عن ضجره وإن أطعت، فإذا أمرك أبوك بأوامر متكرره، فأطعت مائة مره، وفي المره الواحده بعد المائه أطعته وقلت "أف"، دخلت النار بهذه الكلمه، وإن كنت مجاهدًا في سبيل الله، وإن كنت داعيًا من الدعاه، نشرت الإسلام في الأقطار، مهما قلت، عقوق الوالدين يعادل الشرك بالله، إياكم! ، بر الوالدين لاينتهي بموتهما بل بر الوالدين إلى أن تموت أنت، بر الوالدين بعد الممات الصلاه عليهما والإستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة أهل مودتهما، وصلة الرحم التي لا رحم إلا من قِبَلهما، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وإن مات الأب وعليه الحج وجب عليك أن تحج نيابه عنه، وإن ماتت الأم وعليها الصيام صمت عنها، وأورده البخاري في صحيحه أن يصوم الإبن عن أمه وعن أبيه، وأن يحج عنه، وأن يتصدق عنه، فبر الوالدين لاينتهي بموتهما. أيها الأخ المسلم، البار بأبويه فائز ناجٍ، والعاق لا فوز له ولا نجاه، ثق من هذا؛ لأن الله تبارك وتعالى قرن عبادته وطاعته ببر الوالدين، وقرن شكره بشكر الوالدين، أيها الأخ المسلم، في الآيه وعيد وتهديد، ﴿... وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
تمضي سورة العنكبوت لتبين أحوال المنافقين، ولتؤكد أن الله تبارك وتعالى يبتلي خلقه بما يشاء ليميز المؤمن من المنافق، فيقول الله تبارك وتعالى:
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ وَلَئِن جَآءَ نَصْرٌۭ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿10﴾
الإيمان قول وعمل، وإن كان الإيمان قول باللسان إلا أنه لابد وأن تكون عقيدة ً أيضًا بالجنان، والله تبارك وتعالى لايترك الناس يقولون آمنّا وهم لايفتنون، بل يبتليهم ويمتحنهم بالخير، بالشر، بالنفع، بالضر، بالمصائب، بنقص الولد، بنقص الأنفس، بنقص الأموال؛ ليميز الصادق الثابت في إيمانه، والكاذب أو المتردد في إيمانه، المنافق، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ أي يقول بلسانه، ويندرج في سلك المؤمنين، يخادعهم، ويخادع الله، والله تبارك وتعالى لا يُخدع؛ لأنه يعلم ما في الصدور، هؤلاء الناس زعموا الإيمان، وتكلموا بألسنتهم، وحين أوذوا، أذاهم المشركون بمكه، وسلّطوا عليهم صنوف العذاب، ثبت صادق الإيمان كبلال، وصهيب، وأبو عمار، وأم سميه، كل هؤلاء ثبتوا على الإيمان مهما لقوا من تعذيب الكفار، وهناك فريق حين عُذب وأوذى ترك الإيمان، وارتد، وعاد إلى دين آبائه، وعاد إلى الجهاله، فيقول الله تبارك وتعالى أن هؤلاء ساوَوْا بين عذاب الناس، وبين عذاب الله، جعلوا فتنه الناس، أي عذاب الناس، وإيذاء الناس، يساوي عذاب الله تبارك وتعالى يوم القيامه للكفار، هؤلاء قد ضلوا ضلالاً بعيدًا؛ لأن العذاب في الدنيا إذا قام به الإنسان مهما كان جبارا ً أقصى ما يصل إليه القتل، الحرق، أقصى ما يصل إليه الإنسان الجبار في تعذيبه لغيره أن يقتله، أما عذاب الله تبارك وتعالى يوم القيامه فلا موت فيه، لايُقضى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها، كما أن العذاب في الدنيا رغم قلته، وضعفه بالنسبه لعذاب الله، وقلة الزمن لأن الدنيا عمرها محدود، كما قال السحرة آمنوا لفرعون ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [سورة طه آية:٧٢] والحياه الدنيا عمرها قصير، لكن عذاب الله تبارك وتعالى لانهاية له، خلود، ولاموت في العذاب، أيضًا هؤلاء الذين فُتنوا بتعذيب الناس نسوا أن أصناف العذاب، وألوان العذاب في الدنيا محدوده بقدرة الإنسان، وقدرة الإنسان محدوده، أما قدرة الله تبارك وتعالى فهي غير محدوده، وعذابه غير محدود، وليست هناك مده ينتهي فيها هذا العذاب، كما أن المُعَذَّب في دينة، أو من أجل دينه، في الدنيا عنده الأمل في موت الجبار، عنده الأمل في النصر من الله، عنده الأمل والرجاء في الأجر في الآخره، هناك أمل قد يخفف من عذابه، كما أن العذاب إذا شذ وزاد عن حدته فقد الإنسان وعيه، فلا يشعر بشيء، فإن زاد عن ذلك مات واستراح من العذاب، أما في الآخره فلا أمل للمعذبين، وهناك ينادوا يا مالك ليقضي علينا ربك، يطلبون الموت، قال إنكم ماكثون، لاموت ولا أمل؛ لأن النصر من الله، ولايشفع أحد عند الله إلا بإذنه، فهؤلاء في الآخره لا أمل لهم في النجاه، ولامهرب، ولامنجى، ولا ملجأ، ولانهاية، وتلك إشارة إلى غاية الضلاله، والجهالة، فإذا أوذى في الله جعل فتنه الناس كعذاب الله، ويتضح نفاقه إن جاء نصر من ربك، فتح، أو غنيمه، أو نصر على الأعداء، في هذه الحاله، في حاله الأمن، في حالة النصر، في حالة الغنائم، يدَّعي هؤلاء المنافقون أنهم من المؤمنين ﴿ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ أي كنا معكم على إسلامكم، ودينكم، فأعطونا مثل ما تأخذون، فيرد الله تبارك وتعالى عليهم ويقول: ﴿ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ بلى يعلم ما في صدور العالمين.
وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ ﴿11﴾
وتأتي هذه الآية لتؤكد أن الله تبارك وتعالى لايحاسب الناس على سبْق علمه فيهم، ولو حاسب الله الناس على سبق العلم فيهم فالله يعلم ماهو آت كما يعلم ماقد فات، يستوى العلم لديه، لو أراد الله تبارك وتعالى أن يحاسب الناس بعلمه فيهم لخلق الجنه، وخلق النار، ثم خلق الناس جميعًا، وأدخل فريقًا الجنة، وأدخل فريقًا النار، هؤلاء مستحقون الجنة لعلمه السابق بطاعتهم وبإيمانهم، وهؤلاء داخلون النار لعلمه السابق فيهم بنفاقهم وكفرهم، ولكن الله تبارك وتعالى أراد أن يحاسبهم على أعمالهم التي تظهر إلى الوجود، فيراها الناس، ويراها الحفظه، ويدونها الكتبة، وكل ذلك مصادف وموافق لسبق علمه فيهم، فإذا جاءوا يوم القيامه كانت حجة الله بالغه على عباده، وأعمالهم شاهدة عليهم، ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [سورة الإسراء آية:١٤] فلا إنكار، وإن أنكر ما كُتب في الصحف ختم على فمه، ونطقت الجوارح بما إرتكبت، فشهوده منه، ولذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾، ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾ الله يعلم المنافقين من الأزل، من قبل أن يخلقهم، ولكن حين يقول وليعلمّنَّ أي وليظهرنّ علم الغيب إلى الشهاده، فيراه الناس، ويراه أصحاب الأعمال، فتكون الحجه عليهم، ويحدثنا القرآن عن جهاله من الجهالات، وضلاله من الضلالات لصناديد قريش وكفار مكه، فيقول:
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّبِعُوا۟ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـٰيَـٰكُمْ وَمَا هُم بِحَـٰمِلِينَ مِنْ خَطَـٰيَـٰهُم مِّن شَىْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ ﴿12﴾
اتبعوا سبيلنا: أي دينوا بديننا، واتركوا محمدًا، واتركوا دينه، وعودوا إلى دين آبائكم، واعبدوا مانعبد، وإتبعوا طريقنا في العباده، وفي الدين، ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ فعل أمر، وكأنهم يأمرون أنفسهم بحمل خطايا هؤلاء، وإن كان الكلام في صيغة الأمر إلا أنه يفهم منه الشرط، والجزاء أي إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم، إن كان هناك بعث، وإن كان هناك عذاب تحملنا عنكم أوزاركم، والحمل هنا ليس بمعنى الحمل على الظهر، ولكن بمعنى الحِماله، أو التحمل، أي تحمَّل فلان عن فلان كذا، أي إن كان هناك بعث، وإن كان هنا عقاب فنحن مسؤلون عن تحمّل النتائج، ونتحمل عنكم العذاب، ويرد الله تبارك وتعالى عليهم مكذبًا لهم: ﴿وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ لأن الله تبارك وتعالى بحكمته قضى ألّا تزر وازره وزر أخرى، ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [سورة النجم آية: ٣٩] ﴿ ...وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ... ﴾ [سورة فاطر آية: ١٨] ولايجزى والد عن ولده، ولامولود هو جاز عن ولده شيئًا، كل امريء بما كسب رهينه، ﴿ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ يكذبهم ربنا تبارك وتعالى، بمعنى أنه لو سمح لهم بحمل أوزار الذين أضلوهم بغير علم ماحملوها، وما وافقوا على ذلك، بل هو وعد الكاذب، وعد المخلف فهم يكذبون، ويخلفون وعدهم ولو سمح لهم مانفَّذُوا وعدهم.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًۭا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ۖ وَلَيُسْـَٔلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَمَّا كَانُوا۟ يَفْتَرُونَ ﴿13﴾
هؤلاء المضِلُّون يحملون أثقالهم: أوزارهم، وعُبِّر عن الذنوب بالأثقال، وكأن الذنب ثقيل لا يستطيع الإنسان أن يحمله كالأحمال الثقيله، فيعبر عن الذنوب بثقلها؛ لأن العبد إذا حمل ذنوبه على ظهره يوم القيامه زحف على وجهه، وما استطاع حملها، فيقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ وهذه الأثقال الإضافيه ليست أوزار الذين أضلوهم، بل هي أوزارهم في أعمالهم، وأوزار مثل أوزارهم، لكل ضال وزرا ً وأيضًا مثل ذلك الوزر على من أضلهم، ﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ السؤال هنا سؤال تقريع، سؤال توبيخ، سؤال تبكيت، وليس سؤال يعقبة إعتذار؛ لأنه لايؤذن لهم، فلا يعتذرون ولايستعتبون، وماهم بمعتبين، فنفى السؤال عنهم، السؤال الذي يعقبه إعتذار؛ لأن السؤال قد يكون عتابًا، وإذا كان السؤال فيه العتاب رُدَّ عليه بالإعتذار فقُبل العذر، فهؤلاء لايسألون سؤال إستعتاب، وإنما السؤال تقريع، وتوبيخ، وتبكيت، وفضيحة، ﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ الإفتراء : الكذب، واختلاق الكذب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما داعٍ دعى إلى ضلاله فاتبع، فان له مثل اوزار من اتبعه، ولاينقص من اوزارهم شيئًا، وايما داعٍ دعى الى هدى فاتبع، فان له مثل اجور من اتبعه، ولاينقص من اجورهم شيئًا) رواه الإمام مسلم عن أنس بن مالك، إذا ً فإذا علَّمت إنسانًا الصلاة، فكلما ركع أو سجد له أجره، ولك أيضًا مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيئًا، وإذا علَّمت إنسانا ً آية من كتاب الله كلما قرأها له بكل حرف عشر حسنات، الحد الأدنى من الثواب، والله يضاعف لمن يشاء، فإذا كان القاريء يأخذ على قرأنه أجًرا عشر حسنات على كل حرف، في نفس الوقت الذي تدوّن فيه الملائكة لهذا القاريء عشر حسنات على كل حرف، تدون لك في صحيفتك عشر حسنات دون أن تدري، مهما إبتعد عنك القاريء، وفرّقت بينكم الأيام، أيّما داع إلى هدى له الأجر على دعوته، وله أجر من عمل بها، وكذلك كل من دعى إلى ضلاله له الوزر، وله مثل أوزار الذين اتبعوه، وهناك أيضًا من يحمل أوزار الغير بغير إضلال،من هؤلاء؟ الظلمة؛ لأنه يؤتى بالعبد يوم القيامه، وتزيد حسناته عن سيئاته كثيرًا، ويستعد لدخول الجنة، ورجحت كفه الحسنات، وها هو يهمّ بالدخول فيوقف، ويأمر ربنا تبارك وتعالى الملائكة أوقفوه، واقتصوا منه عن ظلمه، فيؤخذ من حسناته لمن ظُلم على يديه في الدنيا، سب هذا، شتم هذا، وهتك عرض هذا، وهكذا، وتفرغ الحسنات، فتقول الملائكه يارب فرغت حسناته، من أين نقتص والظلمه لم تفرغ مظالمهم؟ فيقول الله تبارك وتعالى: خذوا أوزارهم فاطرحوها عليه فيأخذوا من سيئاتهم فيطرحوها عليه، فتتضاعف السيئات، وتنتهي الحسنات فيؤمر به فيطرح في النار، آيات سورة العنكبوت في الإبتلاء، في الإختبار، في تمييز المؤمن من المنافق، الثابت في إيمانه والضعيف، الذين يتحملون الأذى في سبيل الدعوه إلى الله، الذين يتحملون الإيذاء في سبيل الثبات على العقيدة، والدين، والإيمان، ربنا لو أراد لأطبق الجبال على أهل مكه، ولنجّى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، ولكن الله تبارك وتعالى يرى، ويسمع، ويرى التعذيب فيهم، ويسمع به، ويأذن به، ويتركهم، كي يكونوا قدوة، ومثل يحتذى به لأمه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعه، لو شاء الله لنصرهم، ولو شاء الله ما عُذِّبوا، ولكن الله تبارك وتعالى أراد أن يبين للناس الثبات في الإيمان مهما كان التعذيب، ومهما كانت ألوانه، والضعف في الإيمان، وعدم الثبات لمجرد التعذيب البسيط، اليسير الذي ينقضي بانقضاء حياة المعذب فيموت، ويضرب المثل للرسول وللأمه بأول المرسلين، ويضرب المثل أيضًا بأول المهاجرين، أما أول المرسلين فهو نوح عليه السلام، ما لقى نبي من قومه ما لقى نوح من قومه، أشد الأنبياء معاناه في الدعوه على الإطلاق، أشدهم معاناه، واحتمالًا على الأذى، والصبر على الدعوه، نوح بلا إستثناء، وهو أول المرسلين إلى الأرض، وإن كان آدم نبيًا، ولكنه لم يكون رسولًا، أما نوح فهو أول رسول على الإطلاق، وهو الأب الثاني للبشر بعد آدم؛ لأن الطوفان أهلك كل ما على الأرض، ثم نشأت من بعد ذلك الذرية ممن حُملوا مع نوح في السفينة، وكانوا حوالي ثمانين شخصًا بين رجل وامرأه، ولذا يقول الله تبارك وتعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًۭا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ ﴿14﴾
فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَصْحَـٰبَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَـٰهَآ ءَايَةًۭ لِّلْعَـٰلَمِينَ ﴿15﴾
القصة مختصره، وقد جاءت في سورة هود تفصيلًا، جاءت هنا مختصرة للتذكير، وكما قلنا تسليه للرسول صلى الله عليه وسلم، أي إن أوذيت يامحمد من قومك، وإن صبرت على التكذيب، وعلى الإساءه، وعلى الإيذاء، صبرت قليلًا، ها هو نوح لبث في قومه ألف سنه إلا خمسين عامًا، محمد صلى الله عليه وسلم لبث في مكه ثلاث عشرة سنه يصبر هو وأصحابه على الأذى، أما نوح فلبث تسعمائه وخمسون سنه، بعث نوح وعمره أربعون سنه، وزمان البعثه تسعمائة وخمسون سنة، ثم عاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس، ثم مات، فربنا يذكّر النبي صلى الله عليه وسلم ويسرِّي عنه تسليه له ولأصحابه الذين أوذوا في الله ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ لم يكذّبه قومه فقط، بل كان الرجل إذا حضره الموت، وهو على فراش الموت، يطلب أبناءه ويأمرهم بعدم إتباع ذلك الرجل، يوصي عند الممات بالكفر بنوح، من هنا قال نوح لربه: ﴿ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ [سورة نوح آية:٢٧] من كثرة ما رأى، يموت الناس، ويأتي بعدهم أجيال وراء أجيال، مايلد الكافر إلا كافرًا، إن تذرهم يضلوا عبادك لأنهم يوصونهم بالكفر، ولايلدوا إلا فاجرًا كفارًا، ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ الطوفان يطلق على كل كثير مطيف بالجميع، مطر، فيضان، ظلام، موت، قتل، إذا كثر كثرة شديدة، وأطاف بكل ماهو موجود يسمى طوفان، ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ طوفان الماء لأن الأرض تفجرت ينابيع، والسماء فُتحت أبوابها وانهمر منها الماء، فالتقى الماء على أمر قد قدر، وكانت سفينة نوح تسير في الماء وليس على الماء فقط، لأن ماء السماء إلتقى بماء الأرض، وهي تمشي فيهمه، وتجري بهم في موج كالجبال آية، لذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ ظالمون لأنفسهم، مشركون بالله تبارك وتعالى، ﴿ فَأَنجَيْنَاهُ ﴾ نوح، ﴿ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ من ركبوا معه، وأُمروا بالركوب معه، ﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾ الضمير على السفينة، أي وجعلنا السفينة ﴿ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ علامة، أو وجعلناها الضمير على النجاه، أو وجعلناها أي القصة، أو الطوفان، أو الحادثه ﴿ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ علامة لكل العالمين من يومها إلى أن تقوم الساعه، الكل يُقر بالطوفان، لاتنكره أمه من الأمم، اليهود، والنصارى، الكل لاينكر، أيضًا ذِكر قصة نوح لايذكرنا بإيذاء قومه فقط، لايذكرنا بمقولته ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا(٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(٦)وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(٧)ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(٨)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(٩)﴾ [سورة نوح آية: ٥-٩] بجميع أنواع الطرق في الدعوة ولايلقى منهم إلا الأذى والسخرية، حتى وهو يصنع السفينة، كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، أيضًا تذكرنا القصة بأمر غاية في الشدة من أنواع الإبتلاء، نوح في سفينتة يرى ويعلم المصير، أنبأه الله تبارك وتعالى بما يكون، ويعلم أنه لا نجاه إلا لهذه السفينة ومن عليها، يرى إبنه من صلبه أمامه، ويدعوه للنجاه يابني إركب معنا، وهذه الإشارة لقول الله تبارك وتعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ فعقّه، وعصاه، وقال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، أرأريت شعور الأب حين يرى إبنه يغرق أمامه، ولايستطيع أن ينقذه، قد يموت الإبن، وقد يحتمل الأب، أما أن يرى الإبن يموت أمام عينية، ولا يملك له شيئًا، فذاك أمر في غاية الشدة، لابد من نبي، أو رسول، أو وليّ حتى يحتمل هذا، وياليته الغرق فقط، بل نوح يعلم بأن هذا الغرق يعقبه الخلد في جهنم، فتنه، وابتلاء، كيف صبر؟!!! وتأتي بعد قصة نوح المختصره في إشاراتها، التي يفهمها كل متأمل، قصة إبراهيم وكيف اُبتلى بأبيه، ابتلى نوح في إبنه، وابتلى إبراهيم في أبيه، وتؤكد قصة إبراهيم قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ وهاهو المثل:
وَإِبْرَٰهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ ۖ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌۭ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿16﴾
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ إبراهيمَ منصوبة، أي واذكر قصة إبراهيم إذ قال لقومه، ﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾إن كنتم تعلمون النفع من الضر، والخير من الشر، فعبادة الله خير لكم اعبدوه واتقوه، ثم بيّن لهم الضلاله التي هم عليها فيقول:
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰنًۭا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًۭا فَٱبْتَغُوا۟ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُوا۟ لَهُۥٓ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿17﴾
الأوثان :جمع وثن، كل ما صنع من الحجارة، أو الجص، أو الخشب فهو وثن، أما ما صنع من المعادن كالذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص فهم صنم، فيقول: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ لأنهم كانوا يصنعونها بأيديهم، ويعبدونها، وكان أب إبراهيم أشهر صانع لهذه التماثيل، ولذا قال إبراهيم أتصنع آلهه؟ وعاتبه على ذلك، أنت تصنعها فكيف تعبدها،ويعبدها الناس وقد صنعتها أنت بيدك؟ ، ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ ﴿وَتَخْلُقُونَ أَفِكًا﴾ ، أيضًا ﴿وتخْلِقون﴾ ﴿وتُخَلِّقُون﴾ قراءه تكثير؛ لأنهم كان يصنعون الأوثان والأصنام بمختلف الأشكال؛ ودًا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا، أصناف وأسماء من الآلهه، فكثرة الآلهه التي خلقوها ووضعوها، تُقرأ ﴿وَتَخْلُقُونَ أَفِكًا﴾، قرأت أيضًا ﴿وتَخَلَّقُون إفكًا﴾ تخلق الرجل كتخرص وتكذّب، وكأن الخلق الوحيد الذي يتصف به هو الكذب، إذا فقد بيّن إبراهيم في مقالته وتخلقون إفكا الحجه الدامغه، كيف تخلق الشيء ثم تعبده، كيف يعبد الخالق المخلوق، لو أعملت عقلك قليلًا لتبين لك سفاهه هذا الرأي ثم يؤكد فيقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ ﴾ هذه الأصنام والأوثان لايملكون رزقًا ،هل تنزل هذه الأوثان المطر؟ هل تنبت لكم النبات والزرع؟ هل تأتيكم بالرزق؟ لايملكون لكم رزقًا، فابتغوا عند الله الرزق، عند الله القادر، الذي ينزل الغيث، وينزل المطر، وينبت النبات، ويسخر لك الرزق، والفلك في البحار والأنهار، وسخر لكم ما في الأرض جميعًا، ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أو ﴿تَرْجَعُونَ﴾ قراءتان، ورتب إبراهيم الكلام، إبتغوا عند الله الرزق، إذًا فإذا سألت فاسأل الله، إسأل القادر، إسأل الرازق، الذي عنده خزائن كل شيء، ﴿وَاعْبُدُوهُ﴾ هو المنفرد بالعباده، المتوحد بالطاعه، ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ أي قيدوا ما أنعم عليكم به بالشكر؛ لأن الشكر قيد النعم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم قيدوا النعم بالشكر، بعقلها، قالوا وما عقل النعم يارسول الله؟ قال الشكر، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾[سورة إبراهيم آية:٧] ما من عبد شكر الله تبارك وتعالى على نعمة إلا وثبتت، ودامت حتى يموت، بل وزادت لأن الشكر قيد النعم، ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ وعد من الله عز وجل الصادق في وعده.
وَإِن تُكَذِّبُوا۟ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌۭ مِّن قَبْلِكُمْ ۖ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ ﴿18﴾
﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ فلستم أول المكذبين، قيل أنها من قول إبراهيم، وقيل إنقطع الكلام، وجاء الكلام لمشركي مكه في وسط قصة إبراهيم تشبيهًا، أي إن كُذبت يا محمد فقد كُذب أبوك إبراهيم من قبل، وإن أساءوا إليك فقد أساءوا إليه من قبل، فرد عليهم كما رد هو على قومه، ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ الرسول يبلغ، لايهدي من يشاء، ولا يمكن له، ولايضل من يشاء، ولا ينبغي له، وإنما الرسول عليه البلاغ فقط، والهادي هو الله، ويتساءل إبراهيم عليه السلام، أو هو النبي صلى الله عليه وسلم، إن كانت المقاله مقاله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السؤال موجّه من الله تبارك وتعالى فيقول:
أَوَلَمْ يَرَوْا۟ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥٓ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌۭ ﴿19﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ ، أو ﴿أَوَلَمْ تَرَوْا﴾ لأن الكلام السابق ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا﴾ فيه الخطاب، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ إذا مشيت في الأرض، وتنبهت لما تراه، لوجدت أن هناك ما يفني، وهناك ما يوجد، في كل شيء، في البيوت، بيوت تدمّر وتهدم وبيوت تبنى، في النبات يحصد ويجمع ثم ينبت غيره، في الناس يموت الناس ويأتي الأنجال والأولاد والأحفاد وهكذا، لو نظرت فيما حولك لوجدت أن الله تبارك وتعالى يبدأ الخلق ثم يعيده، ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ سهل غير ممتنع، وخلق نملة كإيجاد أمه، وخلق إنسان كإيجاد كافة الأكوان ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [سورة لقمان آية:٢٨] كن فيكون.
قُلْ سِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُوا۟ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلْـَٔاخِرَةَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ ﴿20﴾
نحن الآن منذ ملايين السنين الحمل مستمر، والولاده مستمره، والناس تتكاثر، وهكذا يبدأ الخلق ويعاد الخلق، وما رأينا صعوبه في ذلك، وما رأينا يومًا توقف الإنتاج، إنتاج الناس، إنتاج الحيوان، إنتاج النبات، ما توقف، المطر ينزل، والنهر يجري، وتصب الأنهار في البحار، هل فرغت مياه الأنهار؟ هل إمتلأت البحار ففاضت على القارات وعلى اليابسه فاغرقتها؟ جميع الأنهار على وجه الأرض تصب في البحار، أين يذهب هذا الماء؟ ولم لمْ تمتليء البحار وتفيض على اليابسه؟ والمطر أين يذهب؟ والنبات ينمو، ويُحصد، ويأتي غيره، مابخلت الأرض أبدًا، وهكذا من ملايين السنين، تنبت الأرض الزراعيه النبات في كل عام، وفي كل دوره صيفًا وشتاءًا، بصفه مستمره، ألم تفرغ؟ ألم ينتهي ما فيها من ذرات؟ أو.. أو.. وهكذا إلى أن تقوم الساعه، إن ذلك على الله يسير، يبدأ الخلق ثم يعيده، ﴿فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ حض على التعلم، حض على التأمل، حض على الحفريات والبحث لرؤية ماكان عليه الناس من قبل، ﴿ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ ﴿ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْأخرى﴾ قراءه أخرى نفس المعنى، وسار العلماء فعلًا، وبحثوا، تقصّى، وتحريات، وتصوير من الأرض، وتصوير من الجو، وحفر، فهل وصلوا كيف بدأ الخلق؟ هل عرفوا كيف وجد آدم؟ هل عرفوا أي الأشياء أول؟ الدجاجه أم البيضه؟ الشجر؛ أنت تأخذ البذور من النخله، فتزرع، فتخرج نخله أخرى، إذا ً فالبذره من النخله، والنخله من البذره، أيُها أول؟ كيف بدأ؟ لم تكن هناك نخله، ولم تكن هناك بذره، كان الله ولم يكن شيء، فإذا أراد شيئًا قال له كن فيكون من العدم، هو ليس محتاج لبذره كي ينبت الشجره، وليس محتاج لشجرة كي يأخذ منها البذره، وليس محتاج للبيضه ليأخذ منها الدجاجه، وليس محتاج للدجاجه ليأخذ منها البيضه، بل هو القادر على أن يقول كن فيكون، كن للمعلوم الذي هو غير موجود، لأنه لو كان موجودًا ما خوطب بالوجود، وقد وجد من قبل، إذا أراد شيئًا يقول له هل هو موجود حتى يخاطب؟ وإن كان موجودًا فكيف يقول له كن؟ هو الله وإذا أراد شيئًا يقول له كن، إذًا فهو يقول للمعلوم في علمه الأزلي كن في الوجود فيخرج من الغيب إلى الشهاده، ومن قدر على الإبتداء قدر على الإعاده بعد الإفناء، وفي عقول الناس الإعاده أسهل أم الإبتداء؟ الإعاده أسهل من الإنشاء، فحين يقول انظروا، وسيروا، وتأملوا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخره، إن الله على كل شيء قدير: كل الممكنات في قدرته سواء.
يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴿21﴾
يعذب من يشاء أن يعذبه، ويرحم من يشاء أن يرحمة، يعذب من يشاء بعدله، ويرحم من يشاء بفضله، فالناس تتقلب بين العدل والفضل؛ فإن أصابك خير فهو من فضل الله وليس باستحقاقك، وإن دخلت الجنة فهو بفضل الله وليس بعملك، فلن يدخل أحدكم الجنة عمله حتى الرسل، وإن عشت سعيدًا، وإن منحت ما منحت فكل ذلك من فضل الله، وإن عُذِّب إنسان في الدنيا، أو ابتلى، أو إمتحن، أو عُذِّب في الآخره، أو دخل النار، فبعدل الله، وهم لا يظلمون، سبحانه وتعالى لا يُسأل عما يفعل، وهم يسألون.
وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ ۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا نَصِيرٍۢ ﴿22﴾
المعجز : الذي يفوتك، الذي لاتقدر عليه، الذي يقوى عليك، أو يقوى على قدرتك فيسبقك، ويفوتك، ولاتدركه، فربنا تبارك وتعالى خاطب هؤلاء ويقول لهم أنتم لستم بمعجزين في الأرض، والله تبارك وتعالى ينالكم، ويصل إليكم عذابه، وتصل إليكم قدرته، ويصل إليكم إرادته حيثما كنتم في الأرض، في ظاهرها، فوق الجبال، في باطنها، و كذلك حتى لو كنتم في السماء، ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ... ﴾ [سورة النساء آية:٧٨] ، أو ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء﴾ أي من في الأرض لايعجز الله في الأرض هربًا، وكذلك من في السماء لايعجز الله من الملائكة والمقربين إلى آخره، وأضمرت كلمة "من"، أي ولا من في السماء معجز، كما قال تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾ [سورة الصافات آية:١٦٤] مقدرة فيها "من"، وتصبح وما منا إلا من له مقام معلوم، فكذلك ﴿وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ ما لكم من دون الله وليّ يتولى أموركم، ولانصير ينصركم من الله، هل يمكن للإنسان أن ينتصر على القضاء والقدر؟ هل يمكن للإنسان أن يهرب من قضاء الله؟ هل يمكن للإنسان أن يحارب الله؟ هل يمكن للإنسان أن يفر من الله؟ إلى أين؟ إذا أردنا الهروب منه إلى أين نهرب؟ أين المهرب من الله؟ وأين الملجأ من الله؟ هل هناك ملجأ ومهرب من الله؟ هل تستطيع أن تهرب من الله؟ نعم تستطيع أن تهرب من الله، وتستطيع أن تجد الملجأ، أين الملجأ و أين المهرب ؟ هو الله، لا ملجأ من الله إلا إلى الله، فكأنك تهرب من عقاب الله إلى رحمة الله، وكأنك تهرب من عذاب الله إلى نعيم الله، وتهرب من قضاء الله إلى قضاء الله، وهكذا، لأنك حيثما توجهت، وأينما سرت وجدت الله، حيثما تولوا فثم وجه الله، حيثما كنتم فهو معكم، فأين الملجأ؟ وأين المهرب؟ وأين النجاه؟ هو الله، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: لاملجا ولامنجى منك إلا إليك، من الله وإلى الله.
ثم في سياق قصة إبراهيم عليه السلام، والتي تليت علينا من خلال سورة العنكبوت، تأتي آية إعتراضيه تعترض القصه، وهذه الآية تقرر أمرًا غاية في الأهميه، يقول الله تبارك وتعالى:
ثم في سياق قصة إبراهيم عليه السلام، والتي تليت علينا من خلال سورة العنكبوت، تأتي آية إعتراضيه تعترض القصه، وهذه الآية تقرر أمرًا غاية في الأهميه، يقول الله تبارك وتعالى:
وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِـَٔايَـٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِۦٓ أُو۟لَـٰٓئِكَ يَئِسُوا۟ مِن رَّحْمَتِى وَأُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ ﴿23﴾
تبين لنا وتوضح هذه الآية أن منكري البعث، الذين كفروا بآيات الله، الكتاب، آيات القرآن، أو الآيات بمعنى الدلائل التي تدل على وجود الله، الواحد، القهار، الخالق، من تقلب الليل والنهار، ومن خروج وحصاد النبات، ومن بدء الخلق ثم إعادته، وهكذا، هؤلاء الذين كفروا بالآيات، بالدلائل الداله على وجود الله تبارك وتعالى، أو كفروا بآيات القرآن، وأيضًا كفروا بلقاء الله، كذبوا بالبعث، وكذبوا باليوم الآخر، ﴿أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي﴾ إذا ً فهم يائسون من رحمة الله، هل يئسوا هم وقد نسب اليأس إليهم ، أم أويسوا آيسهم الله من رحمته، وهل اليأس تم في الدنيا، أم أن اليأس سوف يتم في الآخره؟ كل ذلك يحتمله اللفظ ﴿ يَئِسُوا ﴾ الفعل ماض، ولكنه يتحدث عن المستقبل، التحقيق والوقوع، حتى إذا حشر الناس، وبعثوا، ورأى الكفار موقفهم، وذلهم، وخزيهم، وعارهم، يئسوا من الرحمة، ويئسوا من الجنة، ويحدثنا الله عن ذلك اليأس الذي يتم في الآخره بصيغة الماضي، وكأنه تحقق، واقع لا محاله، أو الله أيئسهم بسبب كفرهم ومعاصيهم، أيئسهم من الرحمة فساروا في غيهم، أو أن العله في الكفر بالله، وبآيات الله، وبالبعث، أن المعاصي كثرت، والكفر، والفجور، ساروا فيه بعيدًا، وقطعوا شوطًا كبيرًا فيئسوا من العوده والرجوع، وحين يئسوا من العوده والرجوع إلى الله، ويئسوا من رحمته، ويئسوا من توبته عليهم، ساروا ومضوا في طريق الضلال حتى وصلوا إلى أقصى درجات الضلال، وهو الكفر، والتكذيب بالبعث، وكأن المعصية والصغائر مع المداومه عليها تورث الكبائر، فإذا إرتكب العبد الكبائر، وسار في غيه مرتكبًا لهذه الكبائر، حدث له اليأس من الرحمة، اليأس من التوبة، اليأس من العوده، فتورثه الكبائر الكفر بالله، وإنكار البعث حتى يُسقط عن نفسه خوف العذاب، وحتى يمضي في غيّة آمنًا من الحساب، ولذا يقول الله في أكثر من موضع في القرآن: ﴿ ... إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [سورة يوسف آية:٨٧] ، ﴿وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ عذاب في الآخره، موجع لاطاقه لبشر بإحتماله، وهذه الآية تفيد أيضًا أنه لا يأس من رحمة الله أبدًا، وأن العبد مهما إرتكب من ذنوب، ومهما إرتكب من كبائر، ومهما وصل في غيّة حتى ولو إلى الكفر، فباب التوبه مفتوح، وطريق العوده قائم، فعليه أن يسارع بالعوده، ولاييأس من رحمة الله أبدًا، ويعود الكلام مره أخرى إلى قصة إبراهيم، يخبرنا بمقالة قومه:
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوا۟ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَىٰهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ ﴿24﴾
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ ، ﴿فَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ﴾ قراءه أخرى، بالرفع فهى إسم كان، (جوابَ) بالنصب فهي خبر كان، ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ نسب ربنا تبارك وتعالى الكلام، والمكر، ومقاله السوء للقوم جميعًا، وإذا تأملت لوجدت أن البعض أفتى بقتله، والبعض الآخر أفتى بإحراقه، واستقر الرأي على الإحراق، والقائلون بالقتل، والقائلون بالحرق، ليسوا جميع القوم، وإنما هم طائفه منهم، الرؤساء، صناديد الكفر، رؤوس الضلاله، وحين قيلت الكلمه في قوم، ورضى بها آخرون، حق عليهم أن ينسب إليهم القول، وأن ينسب إليهم الفعل، وكأن الراضى عن الشر حكمه حكم من إرتكب الشر، والساكت عن الحق شيطان أخرس، ومن رضى بالمعصيه ولم يرتكبها، ولم يشاهدها، ولكنه رضى عنها، فحكمه حكم من إرتكب المعصيه، فهؤلاء الناس الذين يرون المنكر، ولايقوّموه بأيديهم، أو بألسنتهم، أو ينكروه بقلوبهم، كلٌ بحسب وضعه وطاقته، ورضوا بالمعاصي، ورضوا أن يفشي المنكر بينهم، حكمه حكم من إرتكب المنكر، رغم أنهم لم يرتكبوه؛ لأن الله هنا يقول: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ قومه بمعنى جميع الناس الذين كفروا، الكل بلا إستثناء، هل يُتخيل أن يجمع القوم، أمه بأكملها على الكلام؟ أم أن الذي يقرر هم الرؤساء، الأتباع يرضون بما قرره الرؤساء فيتبعوهم، كما فعل قوم فرعون مع فرعون، هو الذي قرر ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [سورة الزخرف آية:٥١] وهو الذي قال الله في شأنه: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [سورة الزخرف آية:٥٤] فلم ينج أحد من قومه من العذاب، والكل أغرق، بل وفي يوم القيامه يقدم قومه فأوردهم النار، كما تقدمهم في الدنيا يتقدمهم في الآخرة إلى النار، هذه اللفته يجب الإنتباه إليها، لأن الناس إذا فشى فيهم المنكر، ولم يقوّموه، ولم ينكروه، ولم يضربوا على أيدي مرتكبيه، أوشك الله أن يعمّهم بعذاب من عنده، ولا ينجو منهم الصالحون، طالما سكتوا عن المنكر، لاينجو منهم أحد، وذاك معانٍ لأحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم ﴿لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ويدعو خياركم ولايستجاب لهم﴾ بل ويقول الله تبارك وتعالى في شأن تعذيبه لبني إسرائيل: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [سورة المائدة آية:٦٣] وقال أيضًا في شأنهم: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [سورة المائدة آية:٧٩] وهكذا يتضح هذا المعنى أيضًا في قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وحكيت لنا القصه بالتفصيل في سورة هود، و سورة إبراهيم، وفي سور سابقه، وجاءت هنا مختصره، وكلكم يعلم أنهم أوقدوا النار أربعين يومًا يسعروها، ويوقدوها، ويمونوها بمزيد من الوقود، بل واحتاروا كيف يضعوه فيها فاخترعوا له آله تقذفه من بعيد حتى لا يقتربوا هم من النار ولهيبها، من شدة أوارها، المنجيق هم الذين إخترعوه، وقيدوه بالسلاسل، وقذفوه بهذه الآله إلى وسط النار، الجحيم الذي إصطنعوه، وينزل جبريل فيقول يا إبراهيم ألك حاجه؟ فيقول أما لك فلا، واما له فعلمه بحالي يغني عن سؤالي، ﴿فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾ لم تفعل النار شيئًا إلا أنها قد حلت قيوده فأصبح طليقًا، وإذا بالنار بردًا وسلامًا على إبراهيم، والأغرب، والأعجب من ذلك أن ينبت في مكان النار روضه خضراء يانعه، لذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ آيات : علامات، ودلالات، ومعجزات داله على أن الله تبارك وتعالى صدق حين يقول: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [سورة غافر آية:٥١] ، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ لأن المؤمن هو الذي يعتبر، أما غير المؤمن فلا يتعظ، ولا يعتبر ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(١٠٦) ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٠٥, ١٠٦] ويحدثنا ربنا عن مقاله إبراهيم الختاميه، آخر مقاله قالها إبراهيم لقومه، فيها لفتات وتأملات.
وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰنًۭا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍۢ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًۭا وَمَأْوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِينَ ﴿25﴾
﴿مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾ ﴿مَّوَدَّةُ بَيْنِكُمْ﴾ ﴿مَّوَدَّةً بَيْنَكُمْ﴾ ﴿مَّوَدَّةٌ بَيْنَكُمْ﴾ أربع قراءات بنفس المعنى، قاعدة أساسيه، سنّة الله تبارك وتعالى في خلقه، ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله قطع وانفصل، فهؤلاء ينبههم إبراهيم أن إجتماعهم على الكفر، وعبادتهم للأوثان، يتوادون بها، ويجتمعون عليها كما يجتمع أهل المعاصي على المنكر، وتراهم متحابين، متوادين، مجتمعين، متكاتفين على المنكر، ترى ذلك في جلسات الخمر، وجلسات الميسر، وجلسات المعاصي، وحفلات الزنا، تجد الموده، والمحبه، والتآلف، والترابط، ظاهرًا للعيان، كل ذلك في الدنيا، فهو ينبّه إن الذين اتخذتموهم أوثانًا وآلهه، عبدتموهم من دون الله، هذا الإتخاذ، وذاك الإجماع على الكفر، والضلال، توادد بينكم، وتحابب، باطل زاهق، ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يوم الحق، يوم العدل، ﴿يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ﴾ تكفر الأوثان بمن عبدها، ويكفر العبده بالأوثان، ويتبرأ الرؤساء من الأتباع، ويتبرأ الأتباع من الرؤساء، وتحل البغضاء محل المحبه، وتحل العداوه محل الموده، ليس هذا فقط بل ﴿ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا﴾ يدعو كل فريق على الفريق الآخر باللعنه، ﴿ ... هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة الأعراف آية:٣٨] ، ﴿وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ الجميع؛ الآمر، والمأمور، التابع، والمتبوع، الرئيس، والمرؤوس، الكل بما عبدوه من أوثان، وأصنام، وآلهه، ورؤساء، الكل في جهنم، مأوكم النار، ومالكم من ناصرين ينصرونهم من العذاب، أو يمنعوا الله عنهم، وهكذا، وصدق الله تبارك وتعالى حيث يقول: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [سورة الزخرف آية:٦٧] وصدق ربي تبارك وتعالى حيث يقول: ﴿ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [سورة مريم آية:٩٥] ثم يتداركنا برحمته، ولطفه، وحنانه، فيقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [سورة مريم آية:٩٦] الود المفتقد يوم القيامه، كل امرئ ملهي، مشغول بنفسه، ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾[سورة عبس آية:٣٧] أما الصالحون، المتوادون في جلال الله، المتحابون في جلاله، والمجتمعون على كلامه، إذا حشروا يوم القيامه كان ودهم قائمًا لاينفصل، ولاتنتهي المحبه، بل هم محشورون إلى الله ليسوا فردًا فردًا، بل مجعول لهم ودًا، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [سورة مريم آية:٩٦].
أيها الأخ المسلم، المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، وصية الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: ﴿يحشر المرء مع من أحب ﴾ فانظر من تُحب ، ومن توادد لأنك معه محشور، ثم يقول الله تبارك وتعالى:
أيها الأخ المسلم، المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، وصية الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: ﴿يحشر المرء مع من أحب ﴾ فانظر من تُحب ، ومن توادد لأنك معه محشور، ثم يقول الله تبارك وتعالى:
فَـَٔامَنَ لَهُۥ لُوطٌۭ ۘ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّىٓ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿26﴾
﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ ويا للعجب! رسول، ونبي، بل هو أبو الأنبياء، هو الذي أوتي الرشد من نعومة أظفاره، هو الذي لم يسجد لصنم، هو المتأمل المتفكر في آيات الله، رأى الكوكب، ورأى القمر، ورأى الشمس، وخرج على قومه جميعًا بمقاله الحق ﴿ ... قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(٧٨)إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(٧٩)﴾ [سورة الأنعام آية:٧٨- ٧٩] شاب يخرج على قومه جميعًا فيقول هذه المقاله الطيبه، مقاله الحق، مقاله الصدق، ويؤمن له إثنان فقط، حتى أن الله تبارك وتعالى حدد واحدا ً منهم فقال: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ لوط إبن أخيه، وقيل أنه آمن به من قبل الإحراق، وقيل بل حين رأى النار عليه بردا ً وسلامًا آمن به، لوط فقط من الرجال جميعًا، ومن النساء لم تؤمن سوى سارة إبنة عمه وزوجته، فقط إثنان من الأمه التي بعث إليها إبراهيم، ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ القائل إبراهيم، وهنا يجب الوقف حتى لا يختلط عليك المعنى فنقول ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ وتقف، ثم تقول ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ القائل هو إبراهيم بعد أن أصبحت النار عليه بردًا وسلامًا، وطفئت بنور الله، وخرج إبراهيم سالمًا، محلول القيد، قرر الهجره، وترك هؤلاء الكفار الذين لاتجدي معهم الآيات، فقال: ﴿ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾، وهل لربنا مكان يهاجر إليه؟ ربنا تبارك وتعالى متعال عن المكان وعن الزمان، فقد كان قبل خلق المكان، وقبل خلق الزمان، وهو الآن على ماعليه كان، إذا ً فالمعنى الظاهري غير مراد، والمعنى إني مهاجر إلى رضا ربي، أو إني مهاجر إلى حيث أمرني ربي، ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العزيز: القوي، الغالب، الذي منعني من أعدائي، وسيمنعني من كل عدو في المستقبل لأنه العزيز، القوي، الغالب، القهار، الذي لايدرك، الحكيم الذي يأمرني بما فيه صلاحي، ولا يأمرني إلا بما فيه سعادتي في الدنيا وفي الآخره، لأنه حكيم لا تصدر أوامره إلا عن حكمه، فإن كان قد أمره بالهجره، وترك هؤلاء الأقوام، فقد أمره بما فيه صالحه، ويمتن الله تبارك وتعالى عليه فيقول:
وَوَهَبْنَا لَهُۥٓ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ وَءَاتَيْنَـٰهُ أَجْرَهُۥ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُۥ فِى ٱلْـَٔاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ ﴿27﴾
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾ ولم يأت ذكر إسماعيل؛ لأن إسماعيل هو أكبر الأبناء، ولم تكن فيه آية، أو معجزة في ولادته، أو في الحمل به، أما الآيه والمعجزة التي إمتن الله بها على إبراهيم فهي أن تلد سارة، تلك المرأه التي آمنت به، وصدقته، وخرجت معه، وهاجرت معه، وبلغت من العمر أرذله، ووهن العظم منه، وحين اليأس من الولد، جاءت الملائكه فبشرته بإسحق الولد بل وبشرته بالنافله الحفيد يعقوب من صلب إسحق فتبشره الملائكه بالولد وبولد الولد، بل وأنهما من الأنبياء ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ منذ إبراهيم لم يبعث رسول، ولم يأت نبي إلا وهو من صلب إبراهيم، إلى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء من صلب إبراهيم، فهو من ولد إسماعيل وإسحق ويعقوب، وجاء من نسل يعقوب الأنبياء؛ يوسف، ويحيى، وزكريا، وعيسى، وموسى، وهكذا، فلم يأت نبي ولا رسول إلا من صلب إبراهيم، أيضًا لم ينزل كتابًا من السماء إلا لنبي ورسول من صلب إبراهيم، فجعل الله تبارك وتعالى، وحصر النبوة، وحصر الكتب في ذرية إبراهيم، ﴿وَالْكِتَابَ﴾ جنس الكتاب، "ال" الجنس؛ أي التوراه، والإنجيل، والقرآن، والزبور، جميع الكتب بالكامل في ذرية إبراهيم، ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ الأجر في الدنيا، لو تأملنا ماذا يكون الأجر في الدنيا، لوجدنا والله وأعلم أولًا الأنبياء و الرسل من ولده، الكتب في أيدي أبنائه وذريته إلى أن تقوم الساعه، كل مله تنتمي إليه، وتنتسب إليه، وتدعي أنها تتبعه، اليهود والنصارى والله يرد عليهم: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [سورة آل عمران آية:٦٧] الكل يعترف بنبوته، الكل يثنى عليه، يصلي عليه الناس إلى أن تقوم الساعه، وأمه محمد يشركونه في الصلاة على النبي "اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" فالصلاة عليه إلى أن تقوم الساعه، الثناء عليه إلى أن تقوم الساعه، الذكر الحسن، الذكر الطيب، النبوة، الكتاب، كل ذلك في ذريته، ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لمن الصالحين: هذه الكلمة تدل على أن الإنسان المرضي عنه له إسمان: إسم في الدنيا، وإسم في الآخره لا يعلو عليها أبدا ً أي إسم، أما الإسم في الدنيا فهو المسلم فقط، لا فخر فوق كلمة مسلم، والذين ألحقوا بها ألقاب أدّنوْا من منزلة المسلم، فالشيعي أدنى من المسلم، والصوفي أدنى من المسلم، والسنِّي أدنى من المسلم، كل إسم إختُرع لتمييز طائفه من المسلمين أدنى، وأقل منزله، وأقل في الدرجة، وإهانه؛ لأن كلمة مسلم أرقى الكلام، كلمة رسول هل بعد كلمة رسول كلمة؟ مهما قلت في محمد كل مكارم الأخلاق تجمعها كلمة رسول، هي أشرف كلمة، وأعلى مقام يمنحه إنسان على وجه هذه الدنيا، رسول وكذلك مسلم، وكفى بالكلمة فخرًا أن الذي أطلقها هو الله ﴿... هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ... ﴾ [سورة الحج آية:٧٨] ورسول الله لم يسمي أمته بغير هذا الإسم، فقال المسلم أخو المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه، وهكذا، ولو أبقينا على هذه التسميه التي سمّاها لنا الله، أو سمّاها لنا إبراهيم من قبل، والتي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته: ﴿يا معشر المسلمين﴾ هكذا كان نداؤه علينا، لو أبقينا على هذه الكلمة ماحدث التنافر، والتباعد، والتباغض الذي نراه الآن، والتقاتل بين الشيعه والدروز، وبين السنية والصوفيه، بين هؤلاء وهؤلاء؛ لأن الكل فرّق دينه، واختار لنفسه إسمًا يميزه عن غيره، في حين أن المسلمون في توادهم وتراحمهم كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضًا، والناس سواسيه كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وصدق ربي ﴿... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ... ﴾ [سورة الحجرات آية:١٣] كفاك أن تقول أنا مسلم، لا تقول سني، ودرزي، وشيعي، وصوفي، وما إلى هذه التسميات ما أنزل الله بها من سلطان، وما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قالها أصحابه، بل قالوا نحن المسلمون وكفى بذلك فخرًا، وكفى بالإسلام نعمه، تلك تسميه الدنيا، أما التسمية في الآخرة فهي الصالح والصالحون، واسمع إبراهيم ماذا قال فيه ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ في عداد الصالحين، إذا ً كلمة صالح في الآخره تكفي لأن تصل إلى منازل المقربين والأبرار، وهذه الصفه هي التي تمناها الأنبياء ها هو يوسف يقول: ﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [سورة يوسف آية:١٠١] في الآخره، وعيسى بن مريم حين يبشر ربنا تبارك وتعالى أمه، وتنزل الملائكه وتقول: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(٤٥)وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ(٤٦)﴾ [سورة آل عمران آية:٤٥, ٤٦] أيضًا يقول الله تبارك وتعالى في شأن سليمان، في أوج النعمة، وأوج الشكر لله، حين سمع مقاله النملة ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [سورة النمل آية:١٩] الكمال كله هو الصلاح، واللقب، والصفه التي يتصف بها الناجون يوم القيامه، والشافعون، والأنبياء، والمقربون، هي صفة الصلاح، وأدخلناه برحمتنا في الصالحين، وجاءت كثيرًا في كل الأنبياء، أدخلهم ربنا تبارك وتعالى برحمته في الصالحين، أيها الأخ المسلم، التنافر، والتباعد، والتباغض، والتمزق، والخلافات في التسميات، وفي الفرعيات، ولو إجتمعت الأمه على صفه الإسلام، وتحت رايه الإسلام "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ماوقع مايقع الآن، وما كان هناك حروب بين المسلمين، يقتل بعضهم بعضًا من أجل الدنيا، في كل بلاد المسلمين تمزق، وتناحر، وتباعد نشأ من التسميات التي اخترعت وما أنزل الله بها من سلطان، هل هناك سنّي وغير سنّي؟ ما معنى سنّي وغير سنّي؟ وإنما المعنى أن تكون مسلمًا، وإذا كنت مسلمًا بحق فأنت متبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشك، بغير تسميه، حتى الصوفيه الذين يعلمون الناس مكارم الأخلاق تنافروا، وكل شيخ وله طريقه، وكل طريقه ولها إسم؛ شاذليه، وخلوتيه، ونقشبنديه، وأحمديه، إلى آخر هذا الكلام، كله ضلال، إبتغاء الشهره، إبتغاء المال، إبتغاء الدنيا، ومن ابتغى وجه الله لدعى إلى الإسلام مجردًا، الإسلام يعلو ولايعلى عليه، الإسلام أن تسلم وجهك لله، الإسلام تآخى، وتوادد، وتراحم، لافضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ليس بالحجه، ليس بالكلام، ليس بالعمامه، ليس بالجلباب، ليس بالمظهر، وإنما أكرمكم عند الله أتقاكم.
يا أيها الأخ المسلم، تمضي بنا سورة العنكبوت، وتحكي لنا عن قوم إبتدعوا فاحشه مافعلها أحد من قبل، فمن دعى إلى ضلاله فاتبع كان عليه وزر من اتبعه، دون أن ينقص من أوزارهم شيئًا، ومن سنّ سنّه سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى أن تقوم الساعه، والذين يقص الله تبارك وتعالى علينا قصتهم، إبتدعوا فاحشه لم تفعل على الأرض من قبل، ولذا يقول الله تبارك وتعالى:
يا أيها الأخ المسلم، تمضي بنا سورة العنكبوت، وتحكي لنا عن قوم إبتدعوا فاحشه مافعلها أحد من قبل، فمن دعى إلى ضلاله فاتبع كان عليه وزر من اتبعه، دون أن ينقص من أوزارهم شيئًا، ومن سنّ سنّه سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى أن تقوم الساعه، والذين يقص الله تبارك وتعالى علينا قصتهم، إبتدعوا فاحشه لم تفعل على الأرض من قبل، ولذا يقول الله تبارك وتعالى:
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦٓ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍۢ مِّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿28﴾
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ٱلْمُنكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوا۟ ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ ﴿29﴾
قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِى عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴿30﴾
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ أي و اذكر لوطًا، ﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ﴾ أو ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ﴾ بهمزة الإستفهام، الفاحشة: لاتطلق إلا على المعصية الكبيره، وغالبًا ما تطلق على الزنا، وتطلق على اللواط، ولاتطلق على شيء من المعاصي سواهما، من هنا تأتي الكنايه ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ﴾ سؤال توبيخ وتبكيت، أو ﴿ إِنَّكُمْ﴾ على الخبر، ﴿ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ هم الذين إخترعوها، ثم يؤكد ويقول: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾ ظهر المراد من كلمة فاحشه، إذا ًهم قد إختاروا الرجال دون النساء، خلق الله تبارك وتعالى لهم النساء مطهرات، وجعل نساءنا حرثًا لنا كالأرض، ترمي فيها الحب فتنبت الزرع، وكذلك النساء ترمي فيها النطفه فتنبت لك الولد، فهؤلاء أتوا الرجال دون النساء، ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ﴾ أي تقطعون سبيل التكاثر والتوالد، لأن ماتفعلوه مع الرجال يقطع عليكم النسل، ولا يأتيكم الولد، وتنتهي الأمه، أو ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ﴾ الطريق، كانوا قطاع طرق، جمعوا إلى المعاصي الكفر، وإتيان الرجال، وقطع الطرق، والسلب، والنهب، وقيل بل كانوا يجلسون على رؤوس الطرق وأمامهم الصواني، والقصاع فيها الحصى، وإذا مر غريب، أو مر رجل قذفوه بالحصى، فمن أصاب بحصوته كان أوْلى به يأخذه حيث يريد، أمور غريبه رويت عن هؤلاء الناس، الأدهى ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾ النادي : المكان الذي يجتمع فيه أناس، ولا تطلق كلمه نادى أبدًا إلا إذا وجد في المكان أناس، يشترط إطلاق كلمه نادي على مكان إجتماع، أن يتواجد فيه مجتمعون، ﴿الْمُنكَرَ﴾ ماينكره العقل، و ينكره الشرع، وتنكره الفطره السليمه، ماذا كانوا يفعلون؟ كانوا يقيمون الحفلات، ويجتمعون على المنكر في هذه الحفلات، فتظهر السوءات، وتنكشف العورات، ويفعلون ما يفعلون، وبعضهم ينظر إلى بعض، لا يستترون، لا يأتون الرجال خفيه، بل يأتون الرجال علنًا، وينظر بعضهم إلى بعض، وقد بقى من هذه الفواحش الكثير في أمتنا الإسلاميه، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ ذلك كان جوابهم، منتهى الإنكار، منتهى العمى، منتهى الضلاله، طلبوا العذاب بدلًا من أن يطلبوا الهدى، كالإنسان الذي أدمن على المخدرات، والمخدرات حكمها حكم الخمر، فإذا كان أمامه العلاج والدعاء إلى الله أن يشفيه، ترك ذلك، وطلب الإستمرار في الهلاك، فإن قيل له ذاك حرام،ومذهب للعقل، سعى للإتلاف، وكذلك هؤلاء، لم يطلبوا الهدايه من الله، لم يطلبوا من الله أن يعصمهم من الفواحش، بل سدروا في غيهم، أنكروا البعث، انكروا وجود الله، كذبوا لوط، وتحدوا، وقالوا ﴿ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ هنا لجأ لوط إلى ربه، وبهذه المقاله تبين له أنه لا أمل، ولانجاه، وقد أغلقوا أبواب الرحمة بأيديهم، وسدوا أبواب الرجوع بأنفسهم، فقال داعيًا لله تبارك وتعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ وحين قال المفسدين، لم يقل المكذبين؛ لأنه حين يقول المفسدين، معنى هذا أنهم جمعوا إلى الضلاله الإضلال، فسدوا وأفسدوا غيرهم، فسأل الله تبارك وتعالى أن ينصره على القوم المفسدين، أيها الأخ المسلم، وماذا بعد؟ نرى أمة الإسلام فشت فيها المنكرات، وتفشى فيها التخريب، والتنافر، إختلفت طوائف المسلمين في إمور، إن كانت من الدين فإنها من القشور، وتركنا العدو ينهش فينا بجميع وسائل الإفساد، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿يوشك ان تتكاكا عليكم الامم كما تتكا الاكله على قصعتها، قالوا: اومن قله نحن يومئذ يارسول الله؟ قال بل انتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله الرهبه من قلوب اعدائكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا وما الوهن يارسول الله؟ قال:حب الدنيا، وكراهيه الموت﴾
حين يئس لوط عليه السلام من إيمان قومه، ورأى فسادهم وإفسادهم، استنصر ربه ودعاه متضرعًا ﴿ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ ودعوة النبي على قومه لاترد، ومامن نبي دعى على قومه فخاب رجاؤه، أو رد دعاؤه، وحين يقول لوط ذلك علل الإستنصار، وعلل طلب الإهلاك بأنهم مفسدون في الأرض، وطالما ضلوا وأضلُوا، ونسب إليهم الفساد والإفساد، فقد حقت عليهم كلمة الإهلاك، إستجاب ربنا تبارك وتعالى للوط، وأرسل ملائكته، وما أدراك ما ملائكة الرحمن، يقول الله تبارك وتعالى:
حين يئس لوط عليه السلام من إيمان قومه، ورأى فسادهم وإفسادهم، استنصر ربه ودعاه متضرعًا ﴿ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ ودعوة النبي على قومه لاترد، ومامن نبي دعى على قومه فخاب رجاؤه، أو رد دعاؤه، وحين يقول لوط ذلك علل الإستنصار، وعلل طلب الإهلاك بأنهم مفسدون في الأرض، وطالما ضلوا وأضلُوا، ونسب إليهم الفساد والإفساد، فقد حقت عليهم كلمة الإهلاك، إستجاب ربنا تبارك وتعالى للوط، وأرسل ملائكته، وما أدراك ما ملائكة الرحمن، يقول الله تبارك وتعالى:
وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَٰهِيمَ بِٱلْبُشْرَىٰ قَالُوٓا۟ إِنَّا مُهْلِكُوٓا۟ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا۟ ظَـٰلِمِينَ ﴿31﴾
نزلت الملائكة، وقبل أن تذهب الملائكة إلى لوط مروا بإبراهيم، وقد علمنا من الآيات الماضيه في سورة العنكبوت أن إبراهيم هاجر، وهاجر معه لوط، ولم يؤمن به إلا لوط وامرأة إبراهيم، ساره إبنه عمه، ومر في طريقه ببلد فيها ملك جبار، وكلنا يعلم قصته، وكيف أُهديت هاجر لساره، ونزل إبراهيم بالشام، ونزل لوط بقريه سادوم، وأرسل إلى أهلها، وكان من شأنهم ماقص علينا، فمرت الملائكة بإبراهيم لتعطيه البشرى من الله تبارك وتعالى بالولد وبالنافله بعد أن يئست إمرأته من الولد، كبر إبراهيم، وامرأته عاقر، وجاءته الملائكه بالبشرى، وبعد أن بشروه، وذهب عنه الروع، أخبروه بأمر قوم لوط، وبقضاء الله فيهم، ﴿ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ وعللوا الإهلاك بـ ﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي، فاستحقوا الإهلاك، ويرد إبراهيم معترضًا:
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًۭا ۚ قَالُوا۟ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُۥ وَأَهْلَهُۥٓ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُۥ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ ﴿32﴾
﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا﴾ هل هو إعتراض؟ يعترض الموجب بالمانع، موجب الإهلاك إن أهلها كانوا ظالمين، والمانع للإهلاك وجود نبيهم ورسولهم فيهم، إن فيها لوطًا فكيف تهلك القريه؟ وكيف تهلك الأمه وفيهم رسولهم؟ أو هو إخبار من إبرهيم للملائكة بأن القريه فيها رجل صالح، وقد ترحم الأمة برجل واحد، وكم من فساد وإفساد، وكم من معاصي، يَحْلُم الله تبارك وتعالى على مرتكبيها، فيمهلهم لوجود الصالحين، ولولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهام رتع، لعم الأرض عذاب الله تبارك وتعالى، فيقول إبراهيم: كيف يتم الإهلاك وفيها هذا الرجل الصالح، هذا النبي، وهذا الرسول، وتسلم الملائكه بمقالة إبراهيم، لم ينكروا عليه ذلك، سلموا له بمقالته، ونسبوا إلى أنفسهم مزيد العلم، فقالوا: ﴿ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا﴾ عِلْم إبراهيم علم بظاهر الأحوال، وعلم الملائكه منسوب إلى إعلام الله تبارك وتعالى لهم، ﴿ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا﴾ تسليمًا لإبراهيم، بمقالته أيضًا مزيد علم لأن الله تبارك وتعالى يعلم خائنة الأعين، وماتخفي الصدور، لذا قالت الملائكة: نحن أعلم بمن فيها، ﴿ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ ﴾ أو ﴿لَنُنْجِيَنَّهُ ﴾ ، ﴿ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ كانت : فعل ماض، كانت في علم الله تبارك وتعالى الأزلي، من الغابرين :الماضين، أو الغابرين: الباقين في القريه المهلكين مع المهلكين، الباقين في العذاب، الباقين في الإهلاك، تأقيتًا للإهلاك بخروج لوط ومن آمن معه، إذًا فهم أعلم بمن فيها، ﴿ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ أي الذين آمنوا معه، ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾ استثناء من الأهل، فقد كفرت، وأخبرت قومها بالأضياف، وخانت لوط في دعوته.
وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًۭا سِىٓءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًۭا وَقَالُوا۟ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا ٱمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ ﴿33﴾
تركت الملائكة إبراهيم، وانتقلت إلى لوط، ودخلوا عليه في صورة الرجال، البهاء والجمال في أكمل صورة، في صورة البشر، لذا كان إحساس لوط، وشعوره الموصوف في هذه السورة، وفي غيرها من السور ﴿سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ سيء بهم أي مساءه مجيء الأضياف، والأنبياء قدوه في الكرم، ولا يمكن أن يتضرر، أو يتضايق نبي بوجود الأضياف، فإكرام الضيف واجب، ولكن لوط في بلد سوء، وفي قريه فساد، فخشى على الأضياف أن يساء إليهم، وأن يعاملوا بمثل ما يعامل به الناس في هذه القرية، فيقول تبارك وتعالى ﴿ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ نفذت طاقته ووسعه، ولم يحتمل، وفرغ صبره، والذَرْع في الأصل من الذراع، المقياس، ومن ذراع الرجل، وإذا قلت ضاق ذرعه عكسها رحب زرعه، لأن طويل الذراع ينال مالا ينال قصير الذراع، أيضًا في قولهم ذرع البعير: إمتد، واتسع خطوه، فإذا زادت أحماله وضاق بحملها، ولم يحتمل، مدّ عنقه، وضاقت خطوته، فيقال: ضاق ذرع البعير، أي لم يحتمل، عُبِر به عن الطاقه، ضاق ذرعه أي ضاق عن احتمالهم ذرعه، أو إحتمال الموت، ﴿ سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ فعاجلوه بالإطمئنان وبالبشرى، ﴿ وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ لاتخف علينا، ولا تحزن مما أنت فيه من ضعف، أو من مجيء قومك، أو لا تخف من قومك، ولا تحزن علينا، وأعلموه أنهم رسل ربه لن يصلوا إليك، ﴿إِنَّا مُنْجُوك﴾ قراءه، ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ ترديد لما قالوه لإبراهيم.
إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰٓ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ رِجْزًۭا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُوا۟ يَفْسُقُونَ ﴿34﴾
وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةًۢ بَيِّنَةًۭ لِّقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ ﴿35﴾
﴿ إِنَّا مُنزِّلُونَ﴾ قراءة، ﴿ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء﴾ الرجز : العذاب، والرجز في الأصل : الإضطراب، إرتجز : إضطرب، وارتعد، وارتعدت منه الفرائص، وكل إضطراب يسمى إرتجاز، وطالما أن العذاب لابد وأن يصاحبه إضطراب، وإرتعاد الفرائص، والخوف، والإرتعاش، فعُبر عن العذاب بلازمه من الإضطراب، فسمى العذاب رجزًا، ﴿ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء﴾ لبيان أن هذا العذاب ليس إيلامًا فقط، بل إرهابًا، وإرعابًا وإخافه، ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ تعليل لإنزال العذاب بهم، ثم يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ تركنا منها: من القرية، قيل أن الله تبارك وتعالى ترك بعض مساكن قوم لوط عبره لكل من مر عليها، وقيل أن أنهارهم إسوّد ماؤها، فبقى سواد الماء على الأرض، وقيل أن الحجاره التي أمطرت بها القرية بقى منها بعضها علامه، بل وهي باقيه إلى يوم القيامه، يرسلها الله تبارك وتعالى على كل من يرتكب ما ارتكبه آل لوط، ﴿بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ لأنهم هم المنتفعون بما يتلى عليهم من آيات وعظات وقصص، وينتقل الكلام إلى قوم آخرين، والقصص هنا مختصره، وفصل في سورة هود، وسورة الأعراف.
وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًۭا فَقَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَٱرْجُوا۟ ٱلْيَوْمَ ٱلْـَٔاخِرَ وَلَا تَعْثَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿36﴾
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا۟ فِى دَارِهِمْ جَـٰثِمِينَ ﴿37﴾
مدين قِبل اليمن، أرسل إليهم شعيب النبي والرسول، ودعاهم إلى الله، ودعاهم لإيفاء الميزان، وإعطاء الناس حقوقهم ﴿ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ(١٨١)وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(١٨٢)﴾ [سورة العنكبوت آية: ١٨١, ١٨٢] دعاهم وقال لهم: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [سورة هود آية: ٨٨] وأخذ نفسه أولًا بما دعاهم إليه، وهكذا القدوة في كل زمان ومكان، ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ عبّر بالمسبب عن السبب، أي واعملوا لهذا اليوم إن كنتم مرجون الثواب فيه، أو إن كنتم تخافون العذاب فيه، لأن الرجاء يأتي بمعنى الخوف، ويأتي أيضا بمعنى الأمل، ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ عثى، يعثو، عُثُّوا، ً عَثِىَ، يَعْثىَ، عِثيا :أفسد في الأرض أشد الفساد، الزياده عن الحد في الإفساد هو العثو، وهو العُثِى، ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الزلزله، الإرتعاش، صاح بهم جبريل صحيه واحده، أسمعتم زئير الأسد؟ مخلوق ضعيف، دابه من دواب الأرض، صغير الحجم، أسمعتم صوت الرعد الذي يشعر الإنسان بالخوف وبالرعب أحيانًا؟ ماهو إلا صوت تسبيح ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ [سورة الرعد آية: ١٣] فإذا كان هذا هو صوت التسبيح، فكيف بصوت الغضب؟! الرعد، والريح، والبرق، كل ذلك أمور تفعلها ملائكه موكلون بها، فذاك الرعد والبرق فرقعه صوت ملك واحد، فما بالكم بزعيم الملائكه، أمين الوحي، أمين السماء، ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ [سورة التكوير آية: ٢٠] جبريل الذي حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته الملائكيه خرّ في الأرض جاثمًا، كاد أن يهوي من الجبل، من الخوف، عاد يرجف فؤاده، زملوني، زملوني، دثروني، دثروني، إذا ظهر جبريل في الأفق سد ما بين السماء والأرض، ستمائه جناح، كل جناح يسد مابين السماء والأرض، فإن صاح هذا الملك صيحه واحده، كيف تكون؟ صاح بهم جبريل صيحه ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ باركين على الرُكب، والأيدي، والصدور، جثم الطائر: وقع على صدره من الرعب، والهلع، والخوف، رجفه زلزلت منها القلوب، ودُمرت منها البيوت.
وَعَادًۭا وَثَمُودَا۟ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَـٰكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُوا۟ مُسْتَبْصِرِينَ ﴿38﴾
﴿وَعَادًا وَثَمُودًا﴾ قراءه، ﴿وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ﴾ الخطاب لأهل مكه، وصناديد قريش، لأنهم في أسفارهم إلى الشام، وإلى اليمن كانوا يمرون على هذه الديار، وحتى يومنا هذا من سافر إلى الأردن لوجد هناك منطقه فيها الجبال، وفي هذه الجبال نحتت البيوت نحتًا ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ﴾ [سورة الشعراء آية: ١٤٩] يزورها السواح، من أعجب ما يرى المرء، هذه الآثار بيوت كانت عامره فأصبحت خرابه، ﴿وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ﴾ تبين لكم من بقايا هذه المساكن، وتبين لكم كيف أنها الآن خاوية على عروشها ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ [سورة القصص آية: ٥٨] تبين لكم أنه لم يبق منهم شيء، لاملك، ولامال، ولاجاه، ولا سلطان، ولا قوة، عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ من أخطر ما يصاب به المرء أن يعمل العمل فيراه حسنًا، وهو عند الله سوء، ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(١٠٣)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(١٠٤)﴾ [سورة الكهف آية: ١٠٣, ١٠٤] من الناس من يرتكب السوء، ويعلم أنه سوء، فهو إلى باب التوبة قريب، ومن الناس من يعترف بالخطأ، فهو إلى طريق العودة قريب، ومن الناس من يجادل ويكابر، وإذا دعوته للصلاح إدّعى أنه من المصلحين، وأخذته العزه بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد، والأسوأ من كل هؤلاء الذي يرتكب الخطأ، ويعمل السوء، ويصر على أن ذلك هو الصلاح بعينه، فزين لهم الشيطان أعمالهم ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ عن سبيل الله عن طريق الحق، ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ الأدهى أنهم كانوا ذوي عقول، وكانوا ذوي بصائر، وبصَّرهم أنبياؤهم ورسلهم بعاقبة أعمالهم، بصّروهم، وأفهموهم، وجادلوهم بالحسنى، وأنذروهم، ومع ذلك أصروا، واستكبروا، وجادلوا فاستحقوا الإهلاك، والعذاب.
وَقَـٰرُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ ۖ وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَٱسْتَكْبَرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا كَانُوا۟ سَـٰبِقِينَ ﴿39﴾
﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ وقُدِّم ذكر قارون مع أن فرعون أشد منه عتوًا في الأرض؛ لأن فرعون إدعى الألوهيه، ولكن قارون قُدِّم في الذكر لقرابته من موسى، وكان أولى به أن يكون من أشد أتباعه إيمانًا وصدقًا، قارون كان من قوم موسى، ﴿وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ العصا تنقلب إلى ثعبان مبين، اليد البيضاء أضوأ من الشمس، تحولت أنهارهم إلى الدم، إنتشرت الضفادع في بيوتهم حتى أن الرجل منهم إذا تثاءب قفز الضفدع في فمه، إنتشر فيهم القمل، إذا حك جسده تساقط القمل من جسده، وكأنه التراب، أو الغبار، الضفادع والدم آيات مفصلات، والطوفان، مع ذلك إستكبروا في الأرض ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴾ أي فائتين، سبقه أي فاته وأعجزه، أي وما كانوا سابقين لله تبارك وتعالى، فائتين يفوتوه، أو لا يدركهم بعذابه وأخذه، أو ﴿وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴾ في الكفر فقد سبقهم أقوام وأقوام.
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنۢبِهِۦ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًۭا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿40﴾
﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾ كلًا من هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم أخذناه بذنبه، ﴿ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ كآل لوط، والحاصب: الريح التي تهب وتقذف بالحصباء، والحصباء : الحصى الصغير، وكلكم يعلم أن قرى لوط أهلكت بعذاب غريب؛ فقد أمر جبريل فأدخل جناحًا من أجنحته الستمائه جناحًا واحدًا تحت أراضيهم، ورفع القرى بما فيها، كاملة، مستويه، ولم يسقط منها حجر، ولم يتكفيء فيها إناء، رفعها كامله لم تهتز دون أن يشعروا، فأوصل القرى إلى السماء الدنيا حتى سمعت الملائكه صياح الديكه، وعواء الكلاب، وفجأه قلبها فهوت من شاهق، ثم أرجمت بالحصاه، ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾ كثمود، ومدين، صيحة جبريل، ﴿وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ قارون، وها هي بحيرة قارون إلى الآن، هل يمكن لأحد أن يصل إلى قعرها؟ هل يمكن لأحد أن يصل إلى كنوز قارون؟ وإلى دورُه؟ خسف به، وبداره، وخدمه، وحشمه، ويتجلجل فيها إلى أن تقوم الساعه، ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا﴾ كقوم نوح، وكفرعون، وقومه، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ الله تبارك وتعالى ليس بظلام للعبيد، ماكان الله ليظلمهم: أي ماكان ليعاملهم معامله الظالمين، فيعاقبهم بغير جرم، أو يأخذهم بغير ذنب، ﴿وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ظلموا أنفسهم، كفروا، وارتكبوا الفواحش، ولم يسمعوا للرسل، ولم يجد معهم إنذار، ولم يجد معهم إعلام، واستكبروا في الأرض، وظنوا أنهم فائتين وسابقين، فأخذهم الله تبارك وتعالى أخذ عزيز مقتدر، أيها الأخ المسلم، يضرب الله تبارك وتعالى مثلًا غايه في الغرابه لهؤلاء الذين عبدوا من دون الله أصنامًا، وأوثانًا فيقول:
مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتًۭا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ ﴿41﴾
العنكبوت حشرة، أو كائن دُوَيْبه صغيره، كثيره الأرجل، ضئيله الحجم، ضعيفه، تتخذ بيتًا في الهواء من خيوط، والعنكبوت فيها الواو والتاء مزيدتان كطاغوت، ورهبوت، وجبروت، وهي تجمع على عناكب، وعناكيب، وعُكُب، وأَعْكُب، وعِكَاب، وهي للتأنيث أقرب، ويُعبر بكلمه عنكبوت عن المفرد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، العنكبوت نسج مرتين بأمر الله: مره لحمايه داوود حين طلبه جالوت، ومره على نبينا صلى الله عليه وسلم ليحميه في الغار، ولذا ورد أنه قد نهى عن قتله، ﴿كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ وكلكم رأى بيت العنكبوت، أوهن وأضعف البيوت بيت العنكبوت، لايقى من حر، ولا يقى من برد، ولا يمنع عدوًا، ولا يحصن صاحبه، ضعيف لايجدي، لاينفع، لايقى مطر، ولا برد، ولا حر، ولا عدو، لا يقى من شيء، أوهن البيوت وأضعفها على الإطلاق في الوجود كله بيت العنكبوت، ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وقف لازم والمعنى لوكانوا يتدبرون، ويتعلمون، ويرجعون إلى العلم النافع، لعلموا أن أوهن البيوت، وأضعف البيوت، هو بيت العنكبوت، وذاك مثل لهؤلاء الذين اعتمدوا واتكلوا على آلهه، أصنام، أوثان، أو ملائكه، أو رسل، لا تنفع، ولا تضر، ولا تشفع، ولا تملك لنفسها نفعًا، ولا ضرًا كبيت العنكبوت، فلو كان هؤلاء يرجعون إلى العلم الصحيح لعلموا ذلك، وهنا يجب الوقف، وإن كان المعنى ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ لو متعلقه ببيت العنكبوت وجب الوصل، وأصبح الوصل أولى، وتغير المعنى وأصبح ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي لو كانوا يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ما اتخذوا آلهه من دون الله، لو كانوا يعلمون، هل كانوا يعلمون؟ أم لم يكونوا يعلمون؟ من لم يعلمه الله لا يعلم، والعلم بالتعلم كما قال سيد المرسلين عليه أفضل صلاه وأكمل تسليم: (إنما الحلم بالتحلم وإنما العلم بالتعلم)
إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِۦ مِن شَىْءٍۢ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿42﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ "ما" بمعنى الذي إن الله يعلم الذي يدعون من دونه، ﴿مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ من للتبعيض من أي شيء، فالله تبارك وتعالى يعلمهم، ويراهم، ويسمعهم، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ القاهر، الغالب، الحكيم فيما يأتي من أمور، وفيما يفعل، وفيما لا يفعل، أو هو مثال وتأكيد للمثال السابق، هؤلاء اتخذوا من دون الله آلهه، فحكمهم حكم العنكبوت، اتخذت بيتًا وهو أهون البيوت، لا يقى من شيء، فكذلك مثل المشرك، المشرك لايعبد من دون الله من شيء، وتصبح ما نافيه، وليست موصوله، بمعنى الذي ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ أي ما يدعون شيئًا ذا بال، أو شيئًا ينفع، أو شيئًا يشفع، لايدعون شيئًا على الإطلاق، لا شيء، لا نفع، ولا ضر، ولا شفاعه، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ إذا ً فالموحد يعلم أن الله هو العزيز الحكيم، فيعبد القوي، الغالب، القاهر، الحكيم، الذي لا يأمر الناس إلا بما فيه صلاحهم، وأما هؤلاء الذين عبدوا ما عبدوا من شيء ينفع ولايشفع.
وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا ٱلْعَـٰلِمُونَ ﴿43﴾
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾ المَثَل بالعنكبوت، والمَثَل بالذباب، والمثل بالبعوض ،كما ضرب الله تبارك وتعالى أمثالًا كثيره، ﴿نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ نبينها، ونوضحها، لتقريب المعقول من المحسوس، تقريب اليوم الآخر، والعذاب، والإيمان، كل ذلك من الأمور المعقوله، فيقرب الله تبارك وتعالى لأفهامنا، وأفهام الناس مايريده، وما يقوله، بالمحسوسات التي تراها الأعين، وتلمسها الأيدي، ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ أتعرفون من هم العالمون؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿العالم من عقل عن ربه، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه﴾ يقول الله تبارك وتعالى بعد ضرب هذه الأمثال:
خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ بِٱلْحَقِّ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿44﴾
﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أي خلقها محقًا، غير قاصدٍ بخلقها باطلًا، لم يخلقها لعبًا، ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ [سورة الأنبياء آية: ١٦] ماخلقها لاهيًا، أو لاعبًا، بل خلقها بالحق، وللحق، أو ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أي بقول الحق، وبكلمه الحق، حيث قال: ﴿كن فيكون﴾، قوله الحق، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ لأنهم هم المنتفعون بذلك، والآية تدليل وختام لضرب الأمثال، تدليلًا على أن الله تبارك وتعالى الذي خلق، وقضى، وقدّر، وهدى، خلق السماء ومافيها من كواكب، وشموس، ورياح، وسحب، ونجوم، ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾ [سورة الملك آية: ٣] وخلق الأرض وما عليها، كل ذلك آيات دالات على وجود الله، خلق الله السموات والأرض بالحق؛ لأن الغرض من خلق السموات والأرض أن يسوق لنا الخير، ودلائل، بينات على وجود ذاته، وعلى كمال صفاته، من أجل ذلك قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ هم المنتفعون، الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، ويهتفون من أعماق قلوبهم: ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٩١].
ثم يتوجه بالخطاب إلى سيد المرسلين، وهو المراد بهذا الخطاب هو والأمة، فيقول له:
ثم يتوجه بالخطاب إلى سيد المرسلين، وهو المراد بهذا الخطاب هو والأمة، فيقول له:
ٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ ۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴿45﴾
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ أمر للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمه بتلاوة القرآن، سواء كنت حافظًا لآياته، أو قارئًا فقط، مداومه القراءه، ومداومه التلاوة؛ لأن مداومه التلاوة وإن كان فيها ما فيها من ثواب، وأجر، وحسنات، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ﴿لا اقول الم حرف، بل الف حرف، ولام حرف، وميم حرف﴾ وبكل حرف عشر حسنات، ويضاعف الله لمن يشاء، لا من أجل الثواب، والعباده، والتضرع فقط، وإنما من أجل التأمل؛ لأن الآيات السابقه كلها في ضرب الأمثال، في التفكر، في العظه، في العبره، ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ ، ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ ، ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ إذا ً ترداد القراءه، وترديد الآيات، والمداومه على التلاوة، لابد وأن تورث العلم، والفكر، والعقل، والإيمان، والتدبر، وقد نقرأ الآيات عشرات السنين، ولايفتح لنا من معانيها إلا بعد مضى سنوات وسنوات، ونكتشف فجأه فيها المعنى ظاهرًا واضحًا بنور الله، أين كان؟ وتلوناها مرارًا وتكرارًا، وقرأناها في الصلاة، وفي خارج الصلاة مئات المرات، إي وربي! وفجأه تفتح لنا فيها معان لم تكن ظاهره، وهكذا فضل القرآن، وتلاوة القرآن، كلما قرأت كلما رزقك الله الفهم، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، وأحسن، وأفضل، وخير ما فُسر به القرآن القرآن، إي وربي! ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ استزاده من الثواب، استزاده من رضا الله تبارك وتعالى، من قرأ القرآن جالس ربه، الله قاريء وأنت سامع، هو المتكلم وأنت المستمع، وأنت المنصت، القرآن جليس وأنيس من أراد جليسًا وأنيسًا فالقرآن، القرآن خير جليس، وخير أنيس، ويؤنس صاحبه في قبره، إي وربي، ويشفع له يوم القيامه، إي وربي، ويقف بينه وبين ربه شافعًا محاجًا عن صاحبه حتى لايمس حتى بالسؤال، بل وسورة واحده من القرآن، سورة تبارك، تسمى المانعه؛ من قرأها كل ليله قبل أن ينام لا يُسأل في قبره، تمنع عنه السؤال، تقف أمام الملائكة إذ جاءت لتسأل فتقف، فتدور الملائكه فتدور تبارك، وتقف بينه وبين الملائكه حتى لا يسألوه من ربك؟ وما دينك؟ وماذا كنت تقول في ذلك الرجل؟ حتى لا يرتعد، أو لا يخاف، تسمى المانعه لأنها تمنع من فتنه القبر وسؤاله، سورة واحده، ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ أمر من الله له وللأمه بمداومة القراءة والتلاوة، كم من الصحف تقرأ؟ كم من المجلات تقرأ؟ كم من الكتب تقرأ؟ علمت أبناءك القراءه والكتابه، وجئت لهم بالكتب يقرأوها، هل أعطيتهم كتاب الله؟ هل أمرتهم بتلاوته؟ هل علمتهم كيف يقرأوه؟ أم غفلت عن ذلك ؟ إرجع إلى ربك، وأدرك مافاتك، فما زال في العمر بقيه، ولازالت الفسحه أمامنا، وباب التوبة مفتوح، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة، وإقامه الصلاة ليست مجرد أداء الصلوات، بل إقامة الصلاة تعديل أركانها، الإتيان بها كما يجب، وكما ينبغي بالخشوع، وكلكم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا في المسجد يومًا يصلي، ويعبث بلحيته أثناء الصلاة، فنظر إليه وأشار وقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وليس كل مصّلٍ يصلي، كما يقول الله في حديث قدسي: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يتطاول بها على أحد من خلقي، الصلاة صلة بين العبد وربه، حتى من إسمها الصلاة أصلها صلوه، ولذا تجدها في المصحف مكتوبه بالواو وليس بالألف ؛لأن الأصل الصلوة والصلوات جمع، والصلوة: المره من الصله، وكأن الصلاه في كل ركعه، أو في كل فريضه، تحدث صله بين العبد وربه، فكيف تغفل عن هذه الصله؟ وكان السلف إذا وقفوا للصلاة إصفرت منهم الألوان، وارتعدت منهم الأبدان، وإذا سئل أحدهم عن ذلك قال: إني إذا وقفت بين يدي الملك إرتعدت، واصفر لوني، وارتعشت، فكيف بملك الملوك؟ وكلكم يعلم حديث الله القدسي الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ إذا قال العبد: الحمدلله، قال الله تبارك وتعالى: حمدني عبدي ... إلى آخر الحديث) حتى قال الله تبارك وتعالى: ولعبدي ماسأل، لأن العبد يسأل في الفاتحه إهدنا الصراط المستقيم، لعبدي ماسأل، الفاتحه مقسومه بين العبد وبين الله، وإذا أقبل العبد على الله بوجهه في الصلاة أقبل الله عليه، وأنت ترفع يديك، وتكبر تكبيره الإحرام "الله أكبر" ، إذا ً فالله أكبر من كل شيء، الله أكبر على الإطلاق، تطرح من ذهنك كل الأفكار، وتطرح من قلبك كل الهموم، أنت الآن تقف بين يدي القادر، الملك، من بيده ملكوت كل شيء، الذي يشفيك، ويرزقك، ويميتك، ويحييك، الذي يمنحك ويعطيك، هو الله، موعد ولقاء، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ هل هو خبر؟ هل هو أمر؟ الجمله في صياغتها من حيث اللغه العربيه خبر، هل الصلاة تنهى بذاتها، أم هي سبب للإنتهاء؟ فإن كانت الصلاة سبب للإنتهاء، أصبح هذا الخبر بمعنى الأمر، وكأن الله تبارك وتعالى يسوق إلينا الأمر في صيغه الخبر، وكأننا أطعنا ونفذنا، كما قال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [سورة الحشر آية: ١٠] ولم يجيئوا بعد، ولم يقولوا، ولكنه أمر في صيغه الخبر، وكذلك ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ أمر من الله في صيغة الخبر، للتأكيد على الأمر، وعلى طاعه الأمر؛ لأن على المصلى أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر طالما يقف بين يدي الله، فكيف تقف بين يديه وقد عصيته؟ كيف تقف وقد أكلت مال هذا، واغتبت هذا، وسببت هذا؟ إنته عن الفحشاء، والمنكر وإلا قد لاتقبل لك صلاه، أو ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ خبر فعلًا، والمعنى أن الإنسان إذا صلى، وداوم على الصلاة، كفّر الله تبارك وتعالى عنه سيئاته، ومحى عنه الخطايا، لأنه كلما وقف تذكر الله، وكلما تذكر الله إتعظ، واعتبر، وابتعد عن الشر، وابتعد عن الفواحش، وذاك مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه من شيء؟ قالوا: لايبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا، من الصلاة إلى الصلاة كفاره لما بينهما، وقيل أن المقصود بكلمة الصلاة هنا القرآن الذي يقرأ في الصلاة، ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ أي واقرأه أيضًا في صلاتك؛ لأن القرآن في الصلاة تزجر القاريء، وتبعده عن المعاصي، وتذكره بالله؛ لأنه يقرأ أخبار، وأنباء، وقصص الأولين، ويعلم الأمر والنهي، ويتعظ من القراءه ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ أي القراءه في الصلاة، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ قد يكون المعنى إن ذكرتم أنتم الله في صلواتكم وقراءتكم، فذكر الله لكم، والثناء منه عليكم أكبر من ذكركم له، من قول الله تبارك وتعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [سورة البقرة آية: ١٥٢] فإن ذكرت الله ذكرك، وذكر الله لك أكبر من ذكرك له، من أنت؟ ومن تكون حتى يؤثر ذكرك في الله، في ملكوت الله، أو في عظمه الله، فقد كان الله ولم تكن أنت، ولكن إذا ذكرك الله، كيف يذكرك؟ ذِكّر الله تبارك وتعالى للعبد بالهدايه، وإفاضة نور العلم عليه، وتبييض وجهه، ووضع القبول له في الأرض، الله إذا ذكرك أحبك، والله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا نادى جبريل: ياجبريل، إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادى جبريل في الملأ الأعلى: يا أيها الملأ، إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه الملأ الأعلى، ثم يوضع له القبول في الأرض، فتحبه الأحجار، والأشجار، تحبه الحيطان، تحبه الوحوش، والحيتان أيضًا، أيضًا يقول الله في حديث قدسي: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، أيها الأخ المسلم، ذكر الله أكبر، ذكره لكم، وثناؤه عليكم، وهدايته لكم، أو ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ أي أن ذكرك لله أكبر من كل شيء في الثواب، وفي التذكر، وفي الإنتهاء عن الفحشاء والمنكر؛ لأنك لو ذكرت الله تبارك وتعالى حق الذكر، وشغل ذكر الله قلبك، لايمكن أن تجرؤ على الإقتراب من العصيان، فذكر الله تبارك وتعالى في النهي عن الفحشاء والمنكر أكبر من الصلاة في نهيها عن الفحشاء والمنكر، وأكبر من كل شيء، ذكر الله أكبر في الثواب، وأكبر في التذكّر، وأكبر في التدبّر، وأكبر في العلم، وأكبر في القرب من الله، وأكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر، وفي النهي عن المعاصي، وخير الذكر القرآن، كلام الله، أيها الأخ المسلم، ويختم ربنا تبارك وتعالى الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ مخيفة، وعيد، وقد تكون بشارة، ولكن أينا يطمئن لنفسه؟ وأينا يضمن خاتمته؟ وأينا يطمئن لعمله؟ فحين يقول الله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ تخيف، توعد، تهديد، إذا كان الله يعلم ماتصنعون، إنتبه الإنسان في كل ما يقول، في كل ما يأت، في كل ما يذر، في كل ما يعمل، طالما أن الله تبارك وتعالى يراك، ويسمعك، ويعلم ماتصنع، أين أنت منه؟ وأين المهرب، وأين الملجأ، إذا سألك، وأتى بك، وقاللم فعلت هذا، وكيف فعلت ذلك، أيها الأخ المسلم، يروى لنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة تبارك وتعالى فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ﴿ينادي ربنا تبارك وتعالى يوم القيامه، بعد أن تنتهي شفاعه الشافعين، ينادي ربنا تبارك وتعالى ملائكتة، فيقول: ياملائكتي أخرجوا من النار من ذكرني يومًا، أو خافني في مقام﴾ .
الجُزءُ الحادي والعشرون
يأمرنا الله بالدعوه إليه بالحكمه والموعظه الحسنه، وفي سورة العنكبوت يبين لنا ربنا تبارك وتعالى كيف تتم الدعوه إليه، وخاصه دعوه أهل الكتاب، فيأمرنا بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأهل الكتاب أقرب إلى الإيمان من عبده الأصنام والأوثان؛ فأهل الكتاب يؤمنون بالله، ولهم نبيهم، وبين أيديهم كتابهم، فيقول الله تبارك وتعالى:
الجُزءُ الحادي والعشرون
يأمرنا الله بالدعوه إليه بالحكمه والموعظه الحسنه، وفي سورة العنكبوت يبين لنا ربنا تبارك وتعالى كيف تتم الدعوه إليه، وخاصه دعوه أهل الكتاب، فيأمرنا بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأهل الكتاب أقرب إلى الإيمان من عبده الأصنام والأوثان؛ فأهل الكتاب يؤمنون بالله، ولهم نبيهم، وبين أيديهم كتابهم، فيقول الله تبارك وتعالى:
وَلَا تُجَـٰدِلُوٓا۟ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوٓا۟ ءَامَنَّا بِٱلَّذِىٓ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَٰحِدٌۭ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ ﴿46﴾
وفي هذه الآية يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاتصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاتسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق، وإما أن تصدقوا بباطل) فكيف تسألوا أهل الكتاب وعندنا كتاب الله تبارك وتعالى لا يغادر صغيره ولاكبيره؟ بل أحصى ربنا تبارك وتعالى فيه كل شيء، ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ أي بالخصله الحسنه، بالحكمه، بالموعظه الحسنه، قابلوا فظاظتهم بالعلم، واكظموا غيظكم، وقابلوا جهلهم بالحلم، ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ قال بعض المفسرين أن الآية منسوخه بآية القتال، وهذا القول مردود، فالآية محكمه، وهي لكل عصر، ولكل أوان، فالدعوه إلى الله ليس لها زمان ولا مكان، وأهل الكتاب قائمون إلى أن تقوم الساعه، ونحن مطالبون كأمه إسلاميه، والعلماء على الخصوص، بدعوه أهل الكتاب إلى الله بالحكمه، والموعظه الحسنه، بالمجادله التي تهدف إلى الوصول إلى الحق، والتي لاتهدف إلى الإنتصار في الكلام، بل بالخُلُق القويم، وبالحلم يجب أن تتم الدعوه لأهل الكتاب، فإذا كان هذا هو شأن المجادله مع أهل الكتاب، فمن باب أولى أن يكون الجدال بين المسلمين المختلفين في بعض الفروع بعضهم وبعض بالتي هي أحسن، فإذا كانت المجادله مع الذين كفروا وقالوا: يد الله مغلوله ، وقالوا المسيح ابن الله، وقالوا إن الله هو المسيح بن مريم، وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، فإذا كان الجدال مع هؤلاء بالتي هي أحسن، فكيف يكون الجدال مع من أقرّ بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا، لذا يأسى الإنسان ويأسف لمايراه من سباب، تقاذف، وتكفير، وما إلى ذلك بين المسلمين بعضهم وبعض، كلهم خرجوا عن السنَّه، وخرجوا عن دين الله، وعن أمر الله تبارك وتعالى بالجدال بالحسنى، ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ أي ظلموكم؛ لأن كلمة ﴿ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ لو ترُكت على الإطلاق فكل أهل الكتاب ظالمون؛ لأنهم ظلموا أنفسهم، وأشركوا بالله تبارك وتعالى، وهم ظلمه بوصف القرآن لهم، وليس منهم من ظلم ومن لم يظلم، بل كلهم ظالمون، إذا ً معنى إلا الذين ظلموا منهم أي ظلموكم، وقاتلوكم، وغدروا بكم، ونقضوا عهدهم كقريظه وبني النضير، هؤلاء لا يتم معهم الجدال بالحسنى، بل يتم معهم الجدال بالسيف، بالقتال حتى يعطوا الجزيه عن يد وهم صاغرون، فهؤلاء الذين نقضوا عهدهم، وهؤلاء الذين ظلمونا بالقتال، لا نجادلهم، وإنما نقاتلهم، وندفع شرهم بالقتال، وأهل الكتاب في الآية هم أهل الكتاب في كل زمان ومكان، والأمر عام للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأهل صحابته، وعصره، وزمانه، أيضًا لنا ولكل مسلم إلى أن تقوم الساعه، ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ وتلك وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصية الله لنا في أكثر من موضع، وهذه الآية ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ تفيد أمران، الأمر الأول: تعلمنا ماذا نقول، ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ ، وهو القرآن، ﴿ وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ أي التوراة والإنجيل، اللذان نزلا من الله، وليس الذي حرفه أهل الكتاب، ﴿ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ تلك مقاله المؤمن، ومقاله المسلم، تأليف لأهل الكتاب، ذلك الأمر الأول، الأمر الثاني: في الآية تعريض لأهل الكتاب، حيث اتخذوا أحبارهم، ورهبانهم أربابًا من دون الله، فحين نقول لهم ﴿ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ﴾ أي هذا هو الإله الذي يجب أن يطاع، وأن يعبد، وليست الأحبار، وليست الرهبان، ففي الآية تعريض خفى لما اتخذوه من آلهه، ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [سورة التوبة آية: ٣١].
وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ ۚ فَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يُؤْمِنُونَ بِهِۦ ۖ وَمِنْ هَـٰٓؤُلَآءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِۦ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِـَٔايَـٰتِنَآ إِلَّا ٱلْكَـٰفِرُونَ ﴿47﴾
﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ أي كذلك يا محمد أنزلنا إليك الكتاب كما أنزلنا إليهم الكتب، فيه أمر بتوحيد الله، بعبادة الواحد الأحد، أنزلنا إليك الكتاب بهذه الحكمه، والموعظه الحسنه، والجدال بالتي هي أحسن، حتى أن القرآن لو نظرت في الحوار الذي أداره مع هؤلاء المشركين، عبدة الأصنام، تجد أن القرآن جادلهم بالتي هي أحسن، وسألهم من خلقكم، من خلق السموات والأرض، من نزل من السماء ماءًا فأحيا به الأرض من بعد موتها، وهكذا، ﴿ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ الكلام عن أهل الكتاب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، كعبد الله سلام، وأشباهه من أهل الكتاب الذين أسلموا وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالذين آتيناهم الكتاب: أي من قبله، يؤمنون به، ومن هؤلاء: أي من مكه، ومن قريش، ومن العرب، ومن هؤلاء أيضًا من يؤمن به، ومايجحد بآياتنا: ينكرها، ويكفر بها إلا الكافرون، الذين سبق في علم الله أنهم يكفرون، لايؤمنون، وقد يكون المعنى ﴿ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ ليس المقصود أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، إنما المقصود أهل الكتاب من قبل بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، كورقه بن نوفل، وغيره ممن أتوا الكتاب، وآمنوا بأن هناك خاتم المرسلين، الذي سوف يبعث من أمة العرب، لايقرأ، ولا يكتب، ويأتي بقرآن، وجاءت الصفات فآمنوا به قبل أن يبعث، وآمنوا بالقرآن قبل أن ينزل، ﴿ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ أي آمنوا به، ولم يحرّفوه، آمنوا بك يا محمد، وبالقرآن من قبل أن تجيء، ومن قبل أن تبعث، ومن قبل أن يوحى إليك القرآن، ﴿وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ أي من أهل الكتاب المعاصرين، ﴿ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾كعبد الله بن سلام، وهكذا فالآية كلها في أهل الكتاب السابقين والمعاصرين، أو الآية في أهل الكتاب المعاصرين، وأيضًا في العرب المعاصرين، ﴿وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾، وتأتي الحجه الدامغه، والدليل الساطع، والبرهان القاطع على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الله تبارك وتعالى:
وَمَا كُنتَ تَتْلُوا۟ مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَـٰبٍۢ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًۭا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ ﴿48﴾
ماكنت قبل القرآن تقرأ، بالتالى يصبح لدى الكفار حجه أنك قرأت الكتب السابقه، قرأت التوارة، وقرأت الإنجيل، وجئت بمثيل لها من عندك، فأنت درست، وتعلمت، و قرأت، فينفي الله تبارك وتعالى عنه القراءه والكتابه ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ﴾ أيضًا ماكان يتلى عليك لأنه كان في مكه، ولم يكن في مكه أهل كتاب، فأهل الكتاب من حيث هم يهود كانوا في المدينه، والنصارى كانوا بالشام، والحبشه، فلم يكن في مكه أهل كتاب، وإنما كان فيها عبده الأصنام، والأوثان، ﴿وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ تأكيد على أنه لم يكن يقرأ، ولم يكتب أيضًا؛ لأنه ربما يكتب، فيؤلف مايسمع، والتأكيد بكلمه اليمين لدفع توهم المجاز، بل الكلام عن الحقيقه، إذا ً فهو لايقرأ، ولايكتب، وظل النبي صلى الله عليه وسلم أميًا حتى مات، في بعض الكتب قال بعض الناس أنه تعلم القراءه والكتابه بوحي من الله، وعُلِّمه، وأخذوا بعض الأحاديث على ظاهرها كصلح الحديبيه؛ حين قال لعلي رضى الله عنه أمحها يا علي، قال والله ما أنا بالذي أمحها، قال أين هي؟ فمحاها، وكتب -أي أمر بالكتابه- لأنه لو عُلم القراءه والكتابه لما كان ذلك معجزه، والمعجزه لاتتبدل، ولاتتغير، بل المعجزه تظل معجزه إلى يوم الدين، ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا يقرأ، ولا يكتب، ﴿إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ المبطلون: الذين يحرفون الحقائق، ويأتون بالباطل ليدحضوا به الحق، يبطلوا الحق ويصوره في صورة الباطل، والمبطلون هنا فريقان، الفريق الأول: أهل مكة الذين يزعمون أنه قرأ الكتب السابقة، أو أمليت عليه فكتبها، أو ألف القرآن، وطالما كان لا يقرأ ولا يكتب، وجاء بالقرآن فليس لهم حجة، الفريق الثاني من المبطلين: أهل الكتاب؛ لأن قصة النبي الخاتم جاءت في كتبهم أنه لا يقرأ ولا يكتب، فلو كان يقرأ ويكتب لأرتاب فيه أهل الكتاب لأنه قد خالف النعت الذي جاء في كتبهم أن النبي الخاتم أمي لايقرأ ولا يكتب. ومن هنا يقول الله تبارك وتعالى:
بَلْ هُوَ ءَايَـٰتٌۢ بَيِّنَـٰتٌۭ فِى صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِـَٔايَـٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّـٰلِمُونَ ﴿49﴾
دليل آخر على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف لأصحابه، وأتباعه الذين وصفهم الله تعالى، أيضًا تأكيد للنعت الذي جاء في الكتب السماويه السابقه لأمه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث قال في الكتب السابقه: اناجيلهم في صدورهم، ما من كتاب حفظ على مر الدهور، ما من كتاب سماوى حفظه أحد إلا الأنبياء الذين نزل عليهم الكتاب، وكان الناس، والأصحاب، والمقربون، يقرأونه، ويتلونه قراءه، وتلاوة، ولم يحفظوه، وما حفظ كتاب على الإطلاق إلا القرآن، وحفظ القرآن في الصدور يورث العلم، لذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ﴾ أي القرآن، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ واضحات الدلاله، ﴿ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ فوصف حمله القرآن بالعلم، والله حين يقول: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [سورة الحجر آية: ٩] حفظ الله للقرآن بحفظه في صدور العلماء، يتوارثونه جيلًا بعد جيل إلى أن تقوم الساعه، والقرآن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يفترق عن صدور العلماء حتى يجتمعوا على حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ ينكرها ويكفر بها ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ الذين ظلموا أنفسهم، أو ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ النبي صلى الله عليه وسلم وليس القرآن، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس آيه بل هو آيات، ودلائل، وبراهين على وجود الله، يهدى إلى الهدى، وإلى الصراط المستقيم، ويبعد عن الضلاله، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، آيات بينات في صدور الذين أتوا العلم، في صدور أهل الكتاب الذين آمنوا بكتابهم، وانتظروا بعثه النبي الخاتم، فحين جاء موافقًا للنعت الذين قرأوه في كتبهم، والصفه التي وصفها الله به، صَدَّقوا به، وآمنوا به بالصدور، وبالقلوب، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ كعبد الله بن سلام، وغيره من أهل الكتاب الذين أقروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والقول الأول أقرب إلى الصواب، وأشبه؛ لأن الله وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلماء أمتة بأن الأناجيل في صدورهم ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ ويرد القرآن على مقاله أهل مكه، وصناديد قريش، وأئمة الكفر:
وَقَالُوا۟ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَـٰتٌۭ مِّن رَّبِّهِۦ ۖ قُلْ إِنَّمَا ٱلْـَٔايَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٌۭ مُّبِينٌ ﴿50﴾
﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ ،﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَة مِّن رَّبِّهِ﴾ قراءتان، والآيات التي طلبوها :كعصا موسى، كإحياء عيسى للموتى، كناقة صالح، طلبوا آيات ومعجزات تدل على نبوته، كتلك الآيات التي نزلت مع الأنبياء السابقين، فيقول الله تبارك وتعالى للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، آمرًا له بالرد: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ﴾ أي أن النبي من الأنبياء لايستطيع أن يستجلب الآية، أو يصنعهابنفسه، بل الآيات بأمر الله، وبإرادة الله، وهي عند الله، إن شاء أرسلها مع أنبيائه، وإن شاء منعها، فالآيات عند الله، ولاينزلها إلا هو، ولا يأمر بها إلا هو، ولا يملك رسول ولا نبي، مهما كانت منزلته، ومهما كانت درجته أن يأتي بالآيات من نفسه، أو أن يصطنعها ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ تلك وظفية الرسول ووظيفة الرسل جميعًا من قبل، نذير ينذر، ويبين، ويعطي المهله للناس حتى يؤمنوا، ويبين لهم الأمر، والنهي، والحلال، والحرام، يبين لهم الإنذار، يخوفهم، يبين لهم سوء عاقبه أعمالهم، ثم يقول الله: إن كان الأمر أمر آيات، ودلائل، وأمر براهين، وأمر معجزات.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَرَحْمَةًۭ وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ ﴿51﴾
﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ وهذا الكتاب بلغتهم، بلغه العرب، وهم أهل الفصاحه، والبراعه، والمنطق، والبيان، وتحداهم الله أن يأتوا بمثله فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بسورة واحده فعجزوا، ثم إن القرآن آية مستمرة دائمة إلى يوم القيامه، أما الآيات الأخرى فتضمحل، وتذهب، وتُنسى مع مر الزمن، وحين أحيى عيسى الموتى، أحياهم في فتره من الزمان، ثم لم يحيى الموتى بعد ذلك، أو هو رُفع إلى السماء، وكذلك عصا موسى، وكذلك ناقه صالح، فهذه الآيات المادية كانت لزمان غير زماننا، ثم هي آيات مرهونه بزمانها، أنما القرآن فهو آية مستمره، لاتنتهي، ولا تنقضي بموت محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بحرق المصاحف، ولا بضياع الكتب، ولا بجهل الناس، وعدم معرفتهم القراءه والكتابه، بل هو بصفه مستمره موجود في صدور الناس، ومنهم من لا يقرأ ولا يكتب، ومنهم الضرير الذي لا يرى، ومع ذلك صدره وعاء للقرآن، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً﴾ في آية إنزال القرآن على أميّ، لايقرأ ولا يكتب، وفي وجوده في صدور الذين أتوا العلم، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً﴾ لأن القرآن رحمة في الدنيا وفي الآخره؛ فرحمته في الدنيا أنه يهدينا من الضلاله، وينقذنا من السوء، وينجينا من العذاب، ويبين لنا الطريق إلى الله سبحانه وتعالى بما شرعه لنا، يبين لنا الأمر، والنهي، والحلال، والحرام، والأحكام، وهو رحمة أيضًا في الآخره؛ لأن في الآخره حملة القرآن يشفع لهم القرآن، وقراء القرآن يشفع لهم القرآن، وربنا ينادي ملائكته، ويسأل عن جيرانه، أين جيراني؟ أين أحبابي؟ فتقول الملائكة يارب من هذا الذي ينبغي له أن يجاورك؟ فيقول: أين قراء القرآن، وعُمّار المساجد؟ فالقرآن رحمة كبرى دنيا وأخرى، ﴿وَذِكْرَى﴾ لأنه يذكّر بالآخره، ويذكر بالموت، ويذكر بالله، ولا يخْلق عن كثرة الرد مهما قرأت، ومهما تلوت لاتنتهي عجائبه، ولاتنتهي غرائبة، ومهما قرأت من أشعار، ومهما سمعت من أغاني، ومهما قرأت من كتب، ومهما أعجبك من كلام الآخرين، مره، ومرتان، وثلاث مرات، وهكذا، تمل القراءه، وتمل الشعر، وتمل الأغاني، تمل كل ما يمكن أن تقرأه، أو تحفظه من كلام الناس، ويأتيك كلام جديد، وتنسى القديم وهكذا، أما القرآن فلو قرأته طوال عمرك، ولو عمرت الدنيا بأسرها وكلها ما مللت قراءه القرآن أبدًا، وما مللت سماع القرآن أبدًا، وفي هذه وحده آية ومعجزة، ﴿ وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ لأنهم هم المنتفعون بهذا القرآن، ثم ينهي الجدال، وينهى الكلام معهم، فيقول:
قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًۭا ۖ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۗ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱلْبَـٰطِلِ وَكَفَرُوا۟ بِٱللَّهِ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ ﴿52﴾
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا﴾ الشهيد: الشاهد الذي رأى، وسمع، ويشهد بما رآه، وبما سمعه، والشهداء في أمور الدنيا قد يخطيء المرء منهم، وقد ينسى، وقد يفهم خطًأ، وقد يقدم أو يؤخر الحوادث والكلمات، وقد لا يأتي بالأمر على حقيقتة، فقد يضل، وقد ينسى، أما ربنا فهو لايضل ولاينسى، ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إذا ً فقد أقر المشركون بعلم الله ولم ينكره، وحين سئلوا من خلق السموات والأرض، أقروا بأنه الله، وحين سئلوا من نزل من السماء ماءًا فأحيا به الأرض أقروا بأنه الله، وحين سئلوا عن علم الله تبارك وتعالى أقروا بعلمه بمن في السماء وبمن في الأرض، وإذا أقررت بعلم الله لابد وأن تقبل شهادة الله، فالله تبارك وتعالى يعلم ما في السماء والأرض، ولا يمكن أن يسمح لدعيّ يدعي عليه، ويؤلف كلامًا لايمكن أن يسمح له بذلك، ويدعه يضل الناس، ويؤيده بنصره، ويؤيده بالملائكة، ويؤيده بالقرآن، فلا يُنسى، ولايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من هنا إكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بشهاده الله تبارك وتعالى، ولذا جاء في القرآن شهادة الله وشهادة أيضًا بالقرآن، فقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ [سورة الفتح آية: ٢٩] تلك شهاده له بالرسالة، وقال: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [سورة النساء آية: ١٦٦] فشهد الله بالرساله، وشهد له بالصدق، وشهد له بأن هذا القرآن وحيٌ من الله، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ الباطل: إبليس، الباطل: الشياطين، الباطل: الأصنام، الباطل: الكتب المحرّفة، آمنوا بالباطل بأن عيسى هو ابن الله، ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامه، فقد إشتروا الكفر بالإيمان، وهي تجارة خاسره لا محاله، الذي إشترى الكفر بالإيمان خسر، واشترى الأصنام بالله خسر، واشترى الضلاله بالهدى خسر، واشترى الفسق بالطاعه خسر، الخسران في الدنيا في التجارة، أو في المال، أو في الولد، ليس بخسران؛ لأن الدنيا عمرها قصير، وزادها قليل، وخطرها حقير، ومهما خسرت في الدنيا فيعوضك عنها الله تبارك وتعالى في الآخره، فما من مصيبة، وما من أمر يصاب به المسلم إلا ويكفر الله به من سيئاته، ويرفع به من درجاته، حتى الشوكه يشاكها المسلم يكفر الله بها عن سيئاته، ويرفع بها من درجاته، حتى الشوكة يشاكها المؤمن تكفر الله بها من سيئاته ويرفع بها من درجاته، أما خسارة الدين فهي أكبر، وخسارة النفس هي أكبر خسارة؛ لأنه ليس لها تعويض، ولأنه لا أمل بعدها، فالخسران المبين هو خسارة الدين، والمصيبة الكبرى هي المصيبة في الدين، من الغريب أن يستعجل الكفار عذاب الله، فقالوا: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٢] وقالوا أيضًا: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [سورة ص آية: ١٦] قطهم: نصيبهم من العذاب، طلبوا أن يأتيهم هذا النصيب في الدنيا قبل الآخره، وقالوا أيضًا: ﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ...﴾ [سورة الإسراء آية: ٩٢] استعجلوا العذاب كثيرًا، وورد هذا في القرآن في أكثر من موضع، فيقول الله تبارك وتعالى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ ۚ وَلَوْلَآ أَجَلٌۭ مُّسَمًّۭى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةًۭ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿53﴾
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ لايستعجلوه بالهدى ولا بالتقوى، وإنما إستعجلوه بالعذاب، وليس بالرحمه، ﴿ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ﴾ لأجابهم الله تبارك وتعالى إلى طلبهم، لولا هذا الأجل المسمى، الأجل المسمى: الموعد، هذا الموعد قد يكون وعد الله للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه لا يعذبهم وهو فيهم، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٣] أو هذا الأجل المسمى هو الموعد في يوم القيامه، حيث يوم الجزاء؛ لأن الله تبارك وتعالى قضى ألا يدمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو يهلكهم كما أهلك الأمم السابقه، وإنما قضى سبحانه وتعالى أزلًا أن يمهلهم إلى يوم القيامه بوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، ثم بعد إنتقاله باستغفار الصالحين، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٣] أو الأجل المسمى: هو موتهم، ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [سورة يونس آية: ٤٩] فالأجل هنا أي الموعد الذي ضربه ربنا تبارك وتعالى لكل شيء ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سورة القمر آية: ٤٩] كل شيء أنزله الله، أو خلقه خلقه بقدر، وبمقدار، بموعد، لا يتقدم، ولايتأخر، لا في الوجود، ولا في العدم، فيقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ﴾ معلوم لدى الله، محدد، مقدر، ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ ليس معنى أن العذاب أجل أنه لا يأت، بل آت لا محاله، وإذا أتى فسيأتيهم بغير إستعداد، وبغير إنتظار، والعذاب إذا جاء فجأه كان أشد وأنكى مما لو كنت تنتظر، وكذلك الموت إذا إستعد الإنسان للقاء الله، وأحب هذا اللقاء، من أحب لقاء الله احب الله لقاءه، وللإنسان أجل وأمل، فإذا كان خط الأجل أقرب إليه من خط الأمل لم يطل أمله، ولم يغتر بالدنيا، بل توقع الأجل قبل الأمل، وكان أمله مقصور محصور، أما إذا كان خط الأجل أبعد إليه من خط الأمل، فالأجل قصير وبسيط، وهكذا، أما إذا كان الأمل بعيد، ويأتي الأجل فيقطع الأمل، ويأتي فجأه الموت بغير إستعداد هنا يقول العبد: ﴿...قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(٩٩)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ... (١٠٠)﴾ [سورة المؤمنون آية: ٩٩, ١٠٠] ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويقول: اللهم اني اعوذ بك من موت الفجاءه الذي يفجأ الإنسان على غير إنتظار، أما المؤمن والصالح حتى لو مات فجأه، دون أن يمرض مثلًا، لكنه ينتظر الموت في الصباح وفي المساء، وطالما كان منتظرًا للموت، متفكرًا فيه، حين يأتيه فجأه في نظر الناس، ولكن في نظره هو ليس فجاءه؛ لأنه متوقع له في كل خطوه، متوقع ومنتظر له في كل نفس، فيقول الله: ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ فجاءهم بغته في غزوة بدر فقتلوا من حيث لاينتظرون، وجاءهم فجأه حين ماتوا بغير قتال، وسوف يأتيهم أيضًا بغته حين يبعثون، ويكرر مرة أخرى مُسفِّهًا لطلبهم فيقول:
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌۢ بِٱلْكَـٰفِرِينَ ﴿54﴾
إن جهنم محيطه بالكافرين، أي سوف تحيط بهم جهنم يوم القيامه، فلا يملكون منها فكاكًا، ولا فرارًا، ولا ملجًأ ولا منجى أحاطت بهم، وأحاط بهم سرادقها، أو الآن هم يستعجلون بالعذاب، ولا يشعرون أن جهنم قد أحاطت بهم فعلًا في الدنيا؛ لأن المعاصي والكفر أحاط بهم، والمعاصي والكفر التي توجب جهنم إذا أحاطت بالعبد فقد أحاطت به جهنم؛ لأنها سبب لإحاطه جهنم به، ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [سورة البقرة آية: ٨٢]
يَوْمَ يَغْشَىٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا۟ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿55﴾
﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ يغشاهم: يغطيهم، ويحيط بهم من كل جانب، كإحاطه الغشاء بمن فيه، وحين يقول من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، لايقصد الفوقيه والتحتيه فقط، بل يعبر بالفوق والتحت عن كل الجهات؛ لأن جهنم محيطه بكل جانب من فوق، ومن تحت، ومن الإمام، ومن الخلف، وعن اليمين، وعن الشمال، فهو يعبر بالبعض عن الكل، ﴿وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أو﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فهذه المقاله إما أن يقولها الله تبارك وتعالى، وإما أن تقولها الملائكه بأمره، ويتوجه الخطاب للمؤمنين، الصابرين، الذين صبروا على الأذى، ومكثوا بمكه يعبدون الله تبارك وتعالى، ولايتضررون بما يصيبهم من أذى الكفار، فيحثهم الله تبارك وتعالى عن الهجره فيقول:
يَـٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّ أَرْضِى وَٰسِعَةٌۭ فَإِيَّـٰىَ فَٱعْبُدُونِ ﴿56﴾
﴿ يَا عِبَادِيَ﴾ ﴿ يَا عِبَادِي﴾ قراءتان، ﴿ إِنَّ أَرْضِي﴾ ﴿ إِنَّ أَرْضِيَ﴾ قراءتان، ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ الفاء في كلمة ﴿فَإِيَّايَ﴾ تفيد معنى الشرط؛ أي إذا لم تستطيعوا الإخلاص في العباده في أرض الكفر، فأخلصوا العباده لي في أرض أخرى، فهو حث ودعوه على الهجره إلى أن تقوم الساعه، لا هجره بعد الفتح من مكه إلى المدينه، ومن أرض الإسلام عمومًا، ولكن إذا جاء الزمان، أو أصبح إنسان مسلم في أرض كفر، يحض على الكفر، ولا يتمكن من عباده الله، ويؤذى في الله، ويمنع عنه الصلاة، يمنع من الصيام، وتغلق المساجد، ولايستطيع أن يجاهر بكلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، إذا ً وجبت عليه الهجره إلى أرض يعبد فيها الله مخلصًا له الدين، ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ...﴾ [سورة النساء آية: ١٠٠] وهذا حث للناس على الهجره بدينهم أن يفروا بدينهم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من فر بدينه من ارض الى ارض ولو قيد شبر استوجب الجنة، وكان رفيق محمد وابراهيم عليهما السلام)
أيها الأخ المسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم محدثًا لنا، منبئًا بأحوال آخر الزمان، يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمات، يتتبع بها مشارف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن، أيها الأخ المسلم، الدعوه إلى الله، والجهاد في سبيل الله بالكلمه، وبالمنطق، وبالحجه، وبالبرهان، وباللسان، وبجميع الوسائل التي يستطيعها المسلم؛ الجدال بالتي هي أحسن، ومحاوله تثبيت الإسلام في أرضه التي يحيا ويعيش عليها، لأنك في الأرض إذا قلت نفسي ثم نفسي في دينك، وإسلامك، وتركت المنكر يتفشى، وتركت المعاصي تعمّ، يأتي زمان ينتصر الباطل فيه على الحق، ويأتي زمان يتولى أمر الناس الجبارون، والظالمون، والكفار، فيلجئوا الناس إلى الكفر، ويرهبوهم في أمر دينهم، أما إذا نشرت الإسلام، ونشرت مكارم الأخلاق، وتألفت القلوب، وتوحدت الكلمه، أصبح المسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وها نحن نرى في جميع الدول الإسلاميه التي هزمت، وهزمها الكفار، والتي إنحسر الإسلام عنا، إنحسر بإهمال المسلمين، وبتفرقهم، وتحزبهم شيعًا وأحزابًا، فمن قديم حدثت الفتن؛ لأنه نشأت طوائف كالمرجئه، والقدريه، والجبريه، والخوارج، والمعتزله، هؤلاء حين تفرقوا، وتشيعوا، وتشيع كل فريق لإمام، هؤلاء فاطميون، وهؤلاء علويون، وهؤلاء عباسيون، وهؤلاء، وهؤلاء، تفرقت الأمه، وانشغلوا بمعاركهم الداخليه عن العدو المتربص بهم في الخارج، فانحسر الإسلام، وانقطعت الفتوحات، وابتدأ الإسلام ينحسر، حتى أصبح غريبًا في دياره، وبعد هذه الطائفيه، والموجه من الفتن، جاءت فتن أخرى، وتفرق الناس فرقًا طبقا لمذاهبهم، وانتشرت المذاهب الفقهيه، بعدها إضمحلت المذاهب الكلاميه، فالمرجئه، والقدريه، والجبريه، كل هؤلاء كانوا يمثلون مذاهب كلاميه، فلسفه، ومنطق، وصفصطائيه، ربنا واحد، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومكارم الأخلاق متفق عليها، لايحرِّم أحد الحلال، ولا يحلل أحد الحرام، فتكلموا في أمور ماينبغي للعقل أن يعمل فيها، أين الله؟ أهو في كل وجود موجود؟ أهو في السماء؟ وبدأوا يتكلموا عن المعاصي والكبائر، أيخلد صاحب الكبيرة في النار، أم لا يخلد؟ هل القدر والقضاء مفروض على الناس؟ هؤلاء الجبريه الذين إعتقدوا أنه لا خيار للإنسان، وأن هناك أناس للنار، وهناك أناس للجنة جبْرًا دون خيار، فنسبوا لله الظلم، وهناك أناس تسيبوا، هؤلاء القدريه، الذين جعلوا الإختيار للإنسان، وأن الإنسان خلق الأعمال، كلام، وخلاف إنتهى بعد خلاف باللسان إلى خلاف بالسيف، ثم إنتقل الخلاف بعد ذلك إلى الخلاف المذهبي في الأمور الفقهية، أذان أم هما إثنان؟ محراب أم هذه بدعه؟ منبر أم ننزل، وقف النبي صلى الله عليه وسلم على منبر، وكان من ثلاث درجات، جاء أبو بكر ووقف على الدرجه الثانيه، وجاء عمر ووقف على الدرجه الأولى، ونحن نصعد عشر درجات، لو كانت المسأله بالقياس لحفرنا في الأرض مائة ألف درجة، يجب أن يقف الإمام على مكان عالى حتى يراه الناس، خلافات مذهبيه أين توضع الأيدى؟ على السره؟ على الصدر؟ على البطن؟ هل نفتح الأقدام؟ كيف نقف؟ أنقول حرمًا أم لا؟ أنصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان أم لا؟ أمْ وأَمْ وأم، خلافات مذهبيه تقاتل الناس فيها، جماعات كذا، وجماعات كذا، وهكذا، بدأ الناس يتفرقون فرق مذهبيه، أيضًا تفرقوا فرق أخرى؛ شيعه، وصوفيه، وأنصار للسنه، وجماعة شرعيه، والله لن تقوم للإسلام قائمه، ولن تتوحد كلمة الأمه، ولن ينتصر المسلمون حتى يجتمعوا جميعًا على كلمة سواء، "نحن المسلمون"، كما سمانا الله، أو كما سمانا إبراهيم الخليل، المسلم أخو المسلم، لا يكذبه، لا يظلمه، لايخذله، كفى بالمرء شرًا أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه. المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه. نحن المسلمون إذا إتفقنا على ذلك، واتحدنا كمسلمين، ونصبح أمه إسلاميه، ليست جامعه عربيه، وليست قوميه عربيه، وإنما هي الأمه الإسلاميه، دينها واحد، وربها واحد، ورسولها واحد، وكلها جسد واحد، هنا وهنا فقط إذا تحققت هذه الدعوه، أصبح الإسلام قويًا، وأصبح المسلمون أقوياء، في مركز القوة، ومركز الإنتصار، وحين نرفع راية الإسلام نبدأ في التنافس بالعلم، والحجه، والبرهان،ـ والجدل بالتي هي أحسن ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ الذين قالوا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، الذين قالوا عزير ابن الله، وقالوا المسيح ابن الله، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، يأمرنا ربنا بأن نجادلهم بالتي هي أحسن، فكيف بجدال المسلمين؟ فحين إشتد أذى المشركين لمن آمن وأسلم بمكه صبروا، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، وأشتد الأذى، وحين إستأذنوه في رد الأذى لم يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: لم أومر بقتال، ثم أذن الله تبارك وتعالى لهم في الهجره، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجره إلى الحبشه، ثم أمرهم بعد ذلك بالهجره إلى المدينه، وحضهم الله على هذه الهجره، وطمأنهم، ووعدهم خيرًا، ويقول الله في هذا الشأن في سورة العنكبوت ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ ﴿يَا عِبَادِيَ﴾ أو ﴿يَا عِبَادِي﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ والخطاب لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهم المخصوصون بالخطاب، ﴿ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ أو ﴿ إِنَّ أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ﴾ ، ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ والفاء تفيد الشرط، أو هي جواب للشرط؛ أي إذا ضاقت بكم الأرض، واشتد الأذى، ولم تتمكنوا من إظهار الدين، والقيام بما يجب في عبادتكم نحو الله من إخلاص وخلوص، فعليكم بالعباده في أرض أخرى، والهجره إلى حيث تجدون الأمان، تعبدون الله مع عباده الصالحين، إذا لم تتسع لكم الأرض، إذا لم تتمكنوا من إخلاص العباده في هذه الأرض، فأرض الله واسعه، فعليكم أن تهاجروا وتعبدوا الله في أرض أخرى، تجدوا فيها الأمان، وحين يؤمر العبد بالهجره، ولم يعتد عليها، يترك الأهل، والمال، والبيت، والديار، وما إعتاد عليه من نعومه أظفاره إلى أرض لايدري ماذا يصيبه فيها، وماذا ينتظره هناك، أمر صعب على النفوس، من هنا يحقر الله تبارك وتعالى شأن الدنيا، ويجيب على هذا التساؤل فيما لو تساءلته النفوس، فيقول:
أيها الأخ المسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم محدثًا لنا، منبئًا بأحوال آخر الزمان، يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمات، يتتبع بها مشارف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن، أيها الأخ المسلم، الدعوه إلى الله، والجهاد في سبيل الله بالكلمه، وبالمنطق، وبالحجه، وبالبرهان، وباللسان، وبجميع الوسائل التي يستطيعها المسلم؛ الجدال بالتي هي أحسن، ومحاوله تثبيت الإسلام في أرضه التي يحيا ويعيش عليها، لأنك في الأرض إذا قلت نفسي ثم نفسي في دينك، وإسلامك، وتركت المنكر يتفشى، وتركت المعاصي تعمّ، يأتي زمان ينتصر الباطل فيه على الحق، ويأتي زمان يتولى أمر الناس الجبارون، والظالمون، والكفار، فيلجئوا الناس إلى الكفر، ويرهبوهم في أمر دينهم، أما إذا نشرت الإسلام، ونشرت مكارم الأخلاق، وتألفت القلوب، وتوحدت الكلمه، أصبح المسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وها نحن نرى في جميع الدول الإسلاميه التي هزمت، وهزمها الكفار، والتي إنحسر الإسلام عنا، إنحسر بإهمال المسلمين، وبتفرقهم، وتحزبهم شيعًا وأحزابًا، فمن قديم حدثت الفتن؛ لأنه نشأت طوائف كالمرجئه، والقدريه، والجبريه، والخوارج، والمعتزله، هؤلاء حين تفرقوا، وتشيعوا، وتشيع كل فريق لإمام، هؤلاء فاطميون، وهؤلاء علويون، وهؤلاء عباسيون، وهؤلاء، وهؤلاء، تفرقت الأمه، وانشغلوا بمعاركهم الداخليه عن العدو المتربص بهم في الخارج، فانحسر الإسلام، وانقطعت الفتوحات، وابتدأ الإسلام ينحسر، حتى أصبح غريبًا في دياره، وبعد هذه الطائفيه، والموجه من الفتن، جاءت فتن أخرى، وتفرق الناس فرقًا طبقا لمذاهبهم، وانتشرت المذاهب الفقهيه، بعدها إضمحلت المذاهب الكلاميه، فالمرجئه، والقدريه، والجبريه، كل هؤلاء كانوا يمثلون مذاهب كلاميه، فلسفه، ومنطق، وصفصطائيه، ربنا واحد، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومكارم الأخلاق متفق عليها، لايحرِّم أحد الحلال، ولا يحلل أحد الحرام، فتكلموا في أمور ماينبغي للعقل أن يعمل فيها، أين الله؟ أهو في كل وجود موجود؟ أهو في السماء؟ وبدأوا يتكلموا عن المعاصي والكبائر، أيخلد صاحب الكبيرة في النار، أم لا يخلد؟ هل القدر والقضاء مفروض على الناس؟ هؤلاء الجبريه الذين إعتقدوا أنه لا خيار للإنسان، وأن هناك أناس للنار، وهناك أناس للجنة جبْرًا دون خيار، فنسبوا لله الظلم، وهناك أناس تسيبوا، هؤلاء القدريه، الذين جعلوا الإختيار للإنسان، وأن الإنسان خلق الأعمال، كلام، وخلاف إنتهى بعد خلاف باللسان إلى خلاف بالسيف، ثم إنتقل الخلاف بعد ذلك إلى الخلاف المذهبي في الأمور الفقهية، أذان أم هما إثنان؟ محراب أم هذه بدعه؟ منبر أم ننزل، وقف النبي صلى الله عليه وسلم على منبر، وكان من ثلاث درجات، جاء أبو بكر ووقف على الدرجه الثانيه، وجاء عمر ووقف على الدرجه الأولى، ونحن نصعد عشر درجات، لو كانت المسأله بالقياس لحفرنا في الأرض مائة ألف درجة، يجب أن يقف الإمام على مكان عالى حتى يراه الناس، خلافات مذهبيه أين توضع الأيدى؟ على السره؟ على الصدر؟ على البطن؟ هل نفتح الأقدام؟ كيف نقف؟ أنقول حرمًا أم لا؟ أنصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان أم لا؟ أمْ وأَمْ وأم، خلافات مذهبيه تقاتل الناس فيها، جماعات كذا، وجماعات كذا، وهكذا، بدأ الناس يتفرقون فرق مذهبيه، أيضًا تفرقوا فرق أخرى؛ شيعه، وصوفيه، وأنصار للسنه، وجماعة شرعيه، والله لن تقوم للإسلام قائمه، ولن تتوحد كلمة الأمه، ولن ينتصر المسلمون حتى يجتمعوا جميعًا على كلمة سواء، "نحن المسلمون"، كما سمانا الله، أو كما سمانا إبراهيم الخليل، المسلم أخو المسلم، لا يكذبه، لا يظلمه، لايخذله، كفى بالمرء شرًا أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه. المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه. نحن المسلمون إذا إتفقنا على ذلك، واتحدنا كمسلمين، ونصبح أمه إسلاميه، ليست جامعه عربيه، وليست قوميه عربيه، وإنما هي الأمه الإسلاميه، دينها واحد، وربها واحد، ورسولها واحد، وكلها جسد واحد، هنا وهنا فقط إذا تحققت هذه الدعوه، أصبح الإسلام قويًا، وأصبح المسلمون أقوياء، في مركز القوة، ومركز الإنتصار، وحين نرفع راية الإسلام نبدأ في التنافس بالعلم، والحجه، والبرهان،ـ والجدل بالتي هي أحسن ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ الذين قالوا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، الذين قالوا عزير ابن الله، وقالوا المسيح ابن الله، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، يأمرنا ربنا بأن نجادلهم بالتي هي أحسن، فكيف بجدال المسلمين؟ فحين إشتد أذى المشركين لمن آمن وأسلم بمكه صبروا، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، وأشتد الأذى، وحين إستأذنوه في رد الأذى لم يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: لم أومر بقتال، ثم أذن الله تبارك وتعالى لهم في الهجره، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجره إلى الحبشه، ثم أمرهم بعد ذلك بالهجره إلى المدينه، وحضهم الله على هذه الهجره، وطمأنهم، ووعدهم خيرًا، ويقول الله في هذا الشأن في سورة العنكبوت ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ ﴿يَا عِبَادِيَ﴾ أو ﴿يَا عِبَادِي﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ والخطاب لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهم المخصوصون بالخطاب، ﴿ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ أو ﴿ إِنَّ أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ﴾ ، ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ والفاء تفيد الشرط، أو هي جواب للشرط؛ أي إذا ضاقت بكم الأرض، واشتد الأذى، ولم تتمكنوا من إظهار الدين، والقيام بما يجب في عبادتكم نحو الله من إخلاص وخلوص، فعليكم بالعباده في أرض أخرى، والهجره إلى حيث تجدون الأمان، تعبدون الله مع عباده الصالحين، إذا لم تتسع لكم الأرض، إذا لم تتمكنوا من إخلاص العباده في هذه الأرض، فأرض الله واسعه، فعليكم أن تهاجروا وتعبدوا الله في أرض أخرى، تجدوا فيها الأمان، وحين يؤمر العبد بالهجره، ولم يعتد عليها، يترك الأهل، والمال، والبيت، والديار، وما إعتاد عليه من نعومه أظفاره إلى أرض لايدري ماذا يصيبه فيها، وماذا ينتظره هناك، أمر صعب على النفوس، من هنا يحقر الله تبارك وتعالى شأن الدنيا، ويجيب على هذا التساؤل فيما لو تساءلته النفوس، فيقول:
كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴿57﴾
أي أنك مهما توقعت من شر، في فقد مال، في فقد أهل، في ترك الديار، ماذا تتوقع أن ينتظرك في أرض تهاجر إليها، ولاتدري ماذا ينتظرك، مهما توقعت من فروض، أو من مخاطر، فلا شك أن أخطر شيء، وأصعب شيء على النفس، هو الموت، وطالما كان كذلك، وأن الموت آت لا محاله، إذًا فكل ما دون الموت حقير، مهما فقدت من مال، أو جاه، أو دار أو خلاّن، أو أصحاب، كل ذلك يهون أمره إلى جانب الموت، من هنا يحقر الله شأن الدنيا، وشأن ما تركه في حال الهجره، فيقول: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ لا ينجو منه أحد، والتعبير بكلمة ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ تدل على أن للموت طعمًا، نسأل الله أن يجعله راحة لنا جميعًا، وأن يرزقنا بعده سعاده، ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾قراءتان، إذًا فالمرجع إلى الله، وإذا عرفت الله فرحت بلقاء الله، ومن فرح بلقاء الله فرح الله بلقائه، إذا عرفت أن المرجع إلى الكريم، إذا عرفت أن المرجع إلى الرحيم، إذا عرفت أن المرجع إلى الذي تولاك وأنت نطفه، وأنت علقه، وأنت مضغه، وأنت طفل لا تعي، ولا تبصر، ولا تسمع، ولا تعقل، فرزق أمك الحنان، تسهر كي تنام، ورزق أباك العطف، يسعى، ويكد، ويكدح، ويأتي الرزق ويقدمه لك قبل أن يأخذه لنفسه، لو علمت ذلك لهانت الدنيا في عينيك، فالله هو الموعد، وإلى الله المرجع، ثم يعد الله الذين آمنوا، وصدقوا، وعرفوا حقارة الدنيا، فلم يتمسكوا بها، وهاجروا تصديقًا لوعد الله، وإيمانًا به، ورغبه في إخلاص العباده، فيقول:
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفًۭا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ۚ نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَـٰمِلِينَ ﴿58﴾
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا﴾ ﴿لَيُبَوِّئَنَّهُم﴾ ﴿لَنُثوِّيَنَّهُم﴾ ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ ﴿فنِعْم أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ قراءات، ﴿لَنُثوِّيَنَّهُم﴾ من ثوى بالمكان : أقام به، ﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُم ﴾ أي لنجهزنه لهم، ولنعدن لهم مكانًا يخلدون فيه، غُرفا: جمع غرفه، والغرفه ليس ما تعارفتم عليه، بل الغرفه في اللغه هي العُلِيَّه المشرفه، الغرفه: مكان عال، محفوظ من الحشرات، والدواب، وهوام الأرض، يشرف على ما سواه من أماكن تلك هي الغرفة، ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ من خلالها الأنهار، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ العاملين الذين عملوا بهذا، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ويشرح لنا النبي صلى الله عليه وسلم شأن هذه الغرف، فيقول إن أهل الجنه ليتراءون الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر، من الأفق من المشرق، أو من الغرب لتفاضل ما بينهم، أرأيتم الكوكب الدري، الذي يرى حين الشروق، أو الغروب، أنت ترى الليل جميع النجوم بسبب الإظلام، فتظهر النجوم، ويظهر ضوؤها، أما أن ترى الكوكب بالنهار عند الغروب، ولم تظلم الدنيا بعد، أو عند الشروق، وقد إنصرف الظلام، إذا ً لابد أن يكون هذا الكوكب أشد لمعانًا، وأشد ضياءًاً من غيره، حتى أنك تراه وقت الشروق، ووقت الغروب، ولذا يقول الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق، أو من المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف غرف أخرى، فهي غرف متنوعه، وليست كلها على وتيره واحده، أو على شكل واحد، بل هي غرف يعلم الله ما فيها؛ لأنه قد أعد لعباده الصالحين مالاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيصف نوعا ً آخر من الغرف فيقول: في الجنة غرفًا يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام إليه أعرابي فقال يا رسول، لمن هذه الغرف؟ قال صلى الله عليه وسلم لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام، ﴿ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ ويعرفهم ربنا تبارك وتعالى فيقول:
ٱلَّذِينَ صَبَرُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿59﴾
﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ صبروا على أذى المشركين، صبروا على مشاق الهجره، فالسفر قطعه من العذاب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبروا على الطاعه، صبروا عن المعاصي، صبروا على المشاق، والتكاليف، والعبادات، والطاعات، ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ مفوضون الأمور إلى الله في كل شؤونهم، فالله هو الفعال لما يريد، ولايقع في ملكه إلا ما يريد، فهم يوكلون أمورهم إلى الله، وتأتي آية قد يتبادر إلى الذهن عدم الإرتباط بينها وبين ماسبق، يقول الله فيها:
وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍۢ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴿60﴾
بقليل من التأمل يتضح الإرتباط؛ هؤلاء أمروا بالهجره فحزنت قلوبهم لترك الديار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين الهجره، نظر إلى مكه، وقال: ﴿والله إنك لأحب البلاد إلىّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت﴾ ، فبالإضافه إلى الحزن، بالإضافه إلى ترك الأهل، والديار، والأموال، بالإضافه إلى القلق مما ينتظره، هناك تساؤل آخر قد يتبادر إلى الذهن، أنت قد تهاجر إلى أرض غريبه، وقد قال بعض الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أنهاجر إلى أرض لا أهل لنا فيها، ولا مال؟ من يطعمنا؟ ومن يسقينا؟ إذا ذهب الخوف، وإذا ذهب القلق، هناك قلق من نوع آخر، من أين نأكل؟ كيف نتكسب؟ كيف نحيا؟ كيف نعيش؟ وتأتي الآية، وكأنها لتجيب على التساؤل، وكأنه قد سئل، فيقول الله: ﴿وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ﴾ "كأين" كلمه مكونه من جزأين: كاف التشديد، وأي الإستفهاميه المنونه، وصارت كلمه واحده، "كأين" لتفيد وتحل محل كلمه كم الخبريه، المفيده للتكثير، تأتي لتبين عدد مبهم، تفتقر إلى التنوين بعدها، ﴿وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ﴾ كلمة دابه تفيد التكثير، والدابه ماتدب على الأرض، فربنا يلفت نظر هؤلاء المتسائلين عن الرزق، وكيف يتأتى لهم، كم ترى، وكم تسمع، وكم تعرف من دواب؟ ﴿ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ لاتدخره، ولاتتكسبه، فالطيور لاتزرع، ولاتحصد، ولاتصنع، ولا تتاجر، وتأكل يومًا بيوم، فهي لاتدخر رزقها، ولا تعمل من أجله، ولا تسعى كيف ترزق، لا تحمل، ولا تتحمل من الحياله، أي لا تكلف، ولا تفعل، وليست مسئوله عن نفسها، أو ما تحمل على ظهرها من الحمل، وليس من الحماله، فهي تحمل المعنيين، ولا تتحمل مسئوليه الرزق، ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ أي وأنتم كذلك، والآية تبين أمر غايه في الأهميه، معنى أن الله تبارك وتعالى يرزق الدواب التي لا تحمل رزقها؛ العصافير، والطيور، والهوام، والنمل، والنحل، وإلى غيره من دواب تراها، يرزقها بغير أن تسعى، بغير أن تزرع، بغير أن تحصد، بغير أن تعمل، أو تدخر، وكذلك أنتم ترزقون، وبالتأمل في هذه الآية يتضح لك أن الناس يستوون في الرزق، يستوى منهم الحريص، الساعي، المجتهد، والمتوكل، يستوى الراغب، والقانع، يستوى الحيول ذو الحيله، والعاجز، وعليه لا يغتر الجليد أنه مرزوق بجلده، ولايتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه، فأنتم تستوون مع الدواب؛ سعيت، أو لم تسعى، توكلت على الله في رزقك، أو لم تتوكل، قنعت بما قسمه الله لك، أو رغبت في المزيد، لن تنال إلا ما كتب الله لك، كنت ذا حيله، أو كنت عاجزًا، فالكل بفضله، ومن فضله مرزوق، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ السميع لمقالتكم حيث قلتم من يطعمنا، ومن يسقينا؟ كيف نحيا، وكيف نرزق؟ العليم بنياتكم، العليم بما يصلح شأنكم، وهو السميع لمقالتكم، العليم بما إنطوت عليه صدوركم، ويأتي التساؤل المفحم المقنع:
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴿61﴾
إقرار من المؤمن والكافر من خلق السموات والأرض، كان الله ولم يكن شيء، أنت حين ولدت، وآباك، وأجدادك، الكل، حين وجد، رأى السماء فهي موجوده من قبل، ورأي الأرض، فأنت لم تصنع السماء، ولا الأرض، ولا النجوم، ولا سخرت الشمس، أو القمر، ولا تدخلت في الشروق، أو الغروب، ولا حيله لك في مواعيد الشروق، أو مواعيد الغروب، أو زوال الشمس، أو بزوغ القمر، فهو الذي خلق السموات والأرض، وأوجدها من عدم، وهو الذي سخر الشمس والقمر في الغروب، وفي الشروق، وفي التوالى، وهكذا، ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ يؤفكون: يصرفون، والأفك : القلب، التحول، أي أنى يصرفون عن عبادة الخالق، الواحد، القهار، القادر، إلى عبادة غيره، الذي خلق السموات والأرض من العدم، وسخر الشمس والقمر، ملايين السنين وأنت تراها، أليس ذلك بقادر على أن يبسط أو يقدر الرزق لك؟ أليس ذلك بقادر على أن يرزقك؟ ويطعمك؟ ويسقيك؟ كيف تسأل عن الطعام والسقاء؟ ألم تعلم أن الله خلق السموات والأرض؟ هذه القدره، هذا الإيجاد من عدم، وهذا التسخير للشمس والقمر، يغفل عن الرزق؟ أو يعجز عن الرزق؟ وتأتي الآية لتبين وتؤكد أن الله تبارك وتعالى هو المتصرف، والمتحكم في الرزق.
ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ وَيَقْدِرُ لَهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌۭ ﴿62﴾
البسْط: فتح أبواب الرزق حتى لاتدرى من أين يأتيك هذا الرزق، ويقدر: يضيق، ولكن بقدر، وبمقدار، والمقابله بين الألفاظ تفيد أن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يبسط الرزق يبسطه بلا حدود، والتقدير: التضييق بقَدَرْ ليس بغير حدود حتى لايبيت إنسان من غير طعام، أو لا يرزق مخلوق على وجه الأرض، ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ إذًا فالكلام قد يفيد معنى البسط والتقدير للعبد الواحد، فقد يبسط لك الرزق تاره، وقد يضيق عليك في الرزق تارة، فمره تجد، ومره لاتجد، مره تكسب، ومرة تخسر، الإنسان الواحد قد يفتقر، وقد يغتني، أيضًا لكل الناس، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ إذا ً لا تخرج الأمور عن العلم والحكمه، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿إن من العباد من يصلح له الفقر، ولو أغناه الله لفسد حاله، وإن من العباد من يصلح له الغنى، ولو أفقره الله لفسد حاله﴾ ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو انكم توكلون على الله حق توكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا، وتروح بطانًا) تغدو من الغدو في الشروق، تخرج الطيور خماصًا، حواصلها فارغه، تروح من الروح، قبل المغرب بطانًا، قد إمتلأت الحواصل، كيف؟ ومن أين؟ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ثم يلفت النظر ويسأل مره أخرى، حجه، وبرهان، ودلائل، وعظه، ومواعظ، وتبين، وتوضيح.
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۭ فَأَحْيَا بِهِ ٱلْأَرْضَ مِنۢ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿63﴾
السماء هنا المقصود بها السحاب، وكلمه سماء تفيد العلو، وتفيد السقف، كل ما فوقك يسمى سماءًا، وحين يقول الله: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [سورة الملك آية: ١٦] ليس معنى ذلك أن الله في السماء، بل تعني جهه العلو، السماء تفيد معنى العلو، كقوله هنا: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء﴾ وهل الماء ينزل من السماء؟ أم ينزل من السحاب؟ ينزل من السحاب، وسمى ربنا السحاب سماء لأنه فوق رؤوسهم، ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ لادخل للإنسان في نزول المطر، من الذي ينزل الماء ومن الذي يمنع نزول الماء؟ هو الله ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ المؤمن منهم والكافر، ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا﴾ موت الأرض: الجدب، قحط الناس الذين يعيشون عليها، لأن الماء إذا لم ينزل جفت الأرض، وإذا جفت الأرض لم تنبت، وإذا لم تنبت كانت كالأموات، لئن سألتهم ليقولن الله إقرارًا واعترافًا، ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الحمدلله الذي نزّل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها، الحمدلله الذي عصمنا من الشرك؛ فإذا سٌئلنا قلنا الله قولًا وعملًا، أما هم إذا سُئلوا قالوا الله ثم بعد ذلك في أعمالهم يشركون معه غيره، الحمدلله الذي بين، وأوضح، ودلل على قدرته، فساق إلينا الدلائل والبراهين، الحمدلله أيضًا أنهم أقروا، وقالوا هو الله، الحمد لله لكل ذلك، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ يقولون الله ثم بعد ذلك يشركون به غيره، يقرون بأن الله هو الخالق، هو المبديء لكل ما عداه، هو المسخّر للشمس والقمر، هو الذي يحي الأرض بعد موتها، هو الذي ينزل من السماء ماء، يقرون بكل ذلك، وبعد ذلك الإقرار يشركون به سواه، بل أكثرهم لا يعقلون، وتأتي الخلاصه، والنتيجه لهذه التساؤلات والإجابات، فيقول الله تبارك وتعالى:
وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا لَهْوٌۭ وَلَعِبٌۭ ۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلْـَٔاخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ ﴿64﴾
اللهو : الإشتغال بما لايعينك، ولا يهمك، واللعب: العبث، ويشبّه ربنا الدنيا باللهو واللعب، أرأيتم الصبيان الصغار في إجتماعهم على اللعب؟ يلعبون ساعه ثم ينصرفون زاهدين، متعبين، عما كانوا به مبهورين، وعما كانوا به يلعبون، وكذلك الدنيا لهو ولعب، ولكنه لهو الكبار، ولعب الكبار، والكبار سنًا، أم الكبار عقولًا، الذين يعلمون أن الدنيا لهو ولعب، يأخذون من الدنيا ما يفيد في الآخره؛ لأن الآخره هي خير وأبقى، وكل ما عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، أي يبقى ما إبتغى به وجه الله، ﴿ ... وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [سورة الكهف آية: ٤٦] ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ الحيوان: لفظ يطلق على ذي حياه، والإنسان يسمونه حيوان عاقل، وكل ما يحيي، ويدب، وينمو يسمى حيوانًا، ربنا تبارك وتعالى يطلق على الدار الآخره كلمة حيوان، وكأن الدار الآخره هي نفسها ذات حياة، كأنها هي حي يسعى، فإذا كانت الدار الباقيه، والآخره هي نفسها حياه، هي حيه، زيادة تأكيد، مبالغه في أنها لاتزول، ولاموت فيها، حيوان مصدر "حَيَ"، وأصلها "حييان" بالياء، فاجتمع المثلان فأُبدلت إحدى الياءين واوًا، ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي لو كانوا يعلمون ذلك أن الحياة الدنيا لهو، ولعب، وأن الآخرة هي الحيوان، هي الدار الباقيه، هي الحياه التي موت فيها، دار لا تزول كزوال الدنيا، دار لا موت فيها، كما أن الدنيا فيها موت، لو كانوا يعلمون ذلك ما آثروا الحياة الدنيا على الآخره، وما أثروا الزائل على الباقي، وما آثروا اللعب واللهو على النعيم الدائم، أيها الأخ المسلم، ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، فانظر لنفسك أيهم تختار، ثم يصف لنا ربنا تبارك وتعالى حال الكفار، وتضارب أحوالهم، وسفاهه عقولهم، فيقول عز من قائل:
فَإِذَا رَكِبُوا۟ فِى ٱلْفُلْكِ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴿65﴾
﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾ الفلك: السفن، وتطلق على المفرد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، ﴿ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي إذا ركبوا في الفلك، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنوا أنهم قد أحيط بهم، وتوقعوا الغرق، وخافوا، إتجهوا إلى الله موحدين لله، ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي غير مشركين به سواه، إذا ً فقد علّموا أن المنجي هو الله، وأنه لا نجاة إلا بالله، حين أحاط بهم الموت، وخافوا على أنفسهم من الغرق، دعَوْا الله مخلصين له الدين، ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ غريب!! ينجيهم وهو يعلم أنهم مشركون؟ بل وينجيهم وهو يعلم أنهم سيعودون إلى شركهم، كيف؟هو الله، ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾[سورة النمل آية: ٦٢] هو الله، المضطر إذا دعى أجيب، كافرًا كان أو مؤمنًا، فها هو ينجيهم وهو يعلم ما في نفوسهم، وهو يعلم أنهم سيعودون إلى الشرك، هو الله لايرد سائلًا قط، ولايخيب رجاء راجٍ قط، من أراد الدنيا أعطاه منها، ومن أراد الآخره أعطاه منها ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [سورة الإسراء آية: ٢٠] ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ يعودون إلى كفرهم، وشركهم، وعباده الأصنام، والآية لو تأملت فيها قليلًا لأصابك الخوف، التشبيه بالفلك، والبحر، والأمواج، والغرق، أمور كثيرة تحدث تلجيء الإنسان إلى الله، مرض إبنك مرضًا شديدًا، لجأت إلى الله، وذهبت، وجئت بالطبيب، فوصف له الدواء، فشُفى الغلام، ماذا تقول؟ ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ أم تقول: لولا أني أسرعت بإحضار الطبيب لضاع الولد، لولا مهارة هذا الطبيب لضاع الولد، أشكر الله، وأشكرك أيها الطبيب، أشركتة بواو العطف، أتقول ذلك؟ إحذر! تضيق بك السبل، ثم تنفرج بسبب، فتغفل عن أن خالق الأسباب هو الله، فتنفرج الأزمة، فتقول لولا أني فكرت في كذا، لولا أني فعلت كذا، لولا أني دبرت كذا لحدث كذا وكذا، ولو كلمة تفتح عمل الشيطان، ذاك شرك خفى، أعاذنا الله منه، هو الله، إذا مرضت فهو يشفين، هو يميتني وهو يحيين، هو يطعمني ويسقين، هو خلقني وهو يهدين، هو الله، هو خلق الأسباب، وخلق المسببات، فإياك أن تعميك الأسباب عن رب الأسباب، إياك وإلا دخلت في سلك هؤلاء، ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ لولا مهارة الربان، لولا متانه السفينه، لولا، ولولا، لولا الله ما نجونا، لولا الله ما أهتدينا، لولا الله ما أكلنا، ولا شربنا، لولا الله ماتكلمنا، ولولا الله ما تكلمنا، ولا أبصرنا، ولا سمعنا، هو الله، ثم يقول الله:
لِيَكْفُرُوا۟ بِمَآ ءَاتَيْنَـٰهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا۟ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿66﴾
اللام ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ ﴿لِيَتَمَتَّعُوا﴾ لام لكي أي يشركون لكي يكفرون بنعمة الله، يعبدون الأصنام، وينسون المنعم، ويجهلون، ويغفلون عن الذي نجاهم، وكذلك ليتمتعوا باجتماعهم على عباده الأصنام، وباجتماعهم على الشرك، ويأتي التهديد ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ حين يأتيهم العذاب الحق، وحين تأتي الساعه الحق، ساعتهم، وقرأت ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلْيَتَمَتَّعُوا﴾ اللام بالجزم، وليس بالكسر، وقرأت ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ وقرأت ﴿وَتَمَتَّعُوا﴾ وتصبح اللام هنا ليست لام لكي، وإنما هي لام التهديد، والوعيد، أو لْيتمتعوا لام الأمر، أي إفعل ما شئت، فإنك مجزيّ عنه، اصنع ما شئت فسوف ترى عاقبه عملك، ثم يأتي السؤال فيه التوبيخ:
أَوَلَمْ يَرَوْا۟ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًۭا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِٱلْبَـٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴿67﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ إذا كنت تخاف الله في البحر فقط، وإذا كنت تجأر وتضرع إليه خشية الغرق في البحر، ها أنتم في مكه، ألا ترون أن الله هو الذي جعل مكه حرمًا آمنًا، لا غارة فيه، ولا سلب فيه، ولا قتل فيه، وتعهد الناس ذلك من لدن إبراهيم، الله هو الذي جعل الحرم آمنًا، ﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ والعرب كانت تغير على الجيران، ولا تحفظ الجوار أبدًا، ولا ترعى حق الجوار، ويغيرون على بعضهم، ويأخذون الأحرار يحولوهم إلى عبيد، يباعون في سوق النخاسه، فيحدثهم ربنا بالمنطق، بالعقل، بما حولهم، ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ﴾ من الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، وها هي الناس تتخطف من حولهم، بمجرد أن يخرج خارج الحرم يخطف، ويسلب، ويقتل، ويهتك عرضه، كيف يخافون في البحر، ولا يخافون في البر، والله هو رب البحر والبر، هو الذي أنعم عليهم النجاه في البحر، وأنعم عليهم بالأمان في البر، ولذا يقول: ﴿ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ بالباطل : إبليس، الباطل: الشيطان، الباطل: الصنم، الباطل: الوثن، ﴿ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ العطاء الإحسان الإطعام الأمان أو الحق الإسلام أو الحق : الدين أو الحق: محمد صلى الله عليه وسلم ، ﴿ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ لأن الإسلام نعمة، ولأن محمد صلى الله عليه وسلم نعمة ولأن القرآن نعمة، ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ سؤال توبيخ، وتبكيت، وتعجب من أمر هؤلاء، ثم يقول الله:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُۥٓ ۚ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًۭى لِّلْكَـٰفِرِينَ ﴿68﴾
سؤال من أظلم من هذا الذي كذّب بالحق، الحق الواضح، أو افترى على الله الكذب، فزعم له الولد، وزعم له الشريك، ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [سورة التوبة آية: ٣٠] افتروا على الله الكذب، من أظلم منهم؟ لا أحد، فيأتي سؤال تقريري، ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾ مثوى: إقامه دائمه، بلى هي مثوى للكافرين، كيف لا يعلمون ذلك؟ هم يعلمون أن جهنم مثوى للكافرين، ومع ذلك يشركون بالله، ويفترون على الله الكذب، ويكفرون بالحق، وبالنعمه، أو السؤال أليس في جهنم مثوى للكافرين؟ فدعهم وكفرهم، ودعهم وشأنهم، فجهنم تنتظرهم، وتختم سورة العنكبوت بآية غايه في الأهميه والدقه:
وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُوا۟ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴿69﴾
الغريب أن الآية نزلت قبل فرض القتال، فالسورة مكيه، والآية نزلت بمكه قبل فرض القتال، وحين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لم أومر بالقتال، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ إذا ً كلمة الجهاد لا تعني قتال الكفار فقط، بل الجهاد كلمه أعمّ وأشمل، فقتال الكفار جهاد، والدفاع عن النفس جهاد، والهجرة في سبيل الله جهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهاد، ودفع حجج المبطلين جهاد، ومجادله أهل الكتاب جهاد، إبطال الشُبه، إبطال الحجج جهاد، التبيين للناس معاني التوحيد الخالص جهاد، مجاهده النفس والهوى جهاد، عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا وما ذلك الجهاد الأكبر يارسول الله؟ قال :جهاد النفْس، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ أي في رضائنا، إبتغاء مرضاة الله، كل ذلك جهاد، وقال ربنا تبارك وتعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ ولم يبيّن نوعيه الجهاد كي يطلق اللفظ ويعمّ كل ما يبتغي وجه الله، فأنت حين تخرج أموال الزكاه لاشك أن ذلك جهاد، خاصةً إذا كان المال كثير، ونصيب الزكاه وفير، الصلاة، الإستيقاظ للفجر، السعى للجمعه، الإنتظار في الشمس أو المطر، الإستماع للخطيب، العمل بما تعلم من عمل بمقتضى ما علم ورّثة الله، علم مالم يعلم فذاك الجهاد، البعد عن المعاصي، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، البعد عن اللهو، وعن اللعب، وعن التفاخر، وعن زينة الدنيا، جهاد الكلمة مطلقه، وخصوصًا أن الآية نزلت قبل فرض القتال، إذا ً فالجهاد ليس قتالًا فقط، ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ اللام للتأكيد، وكأن الله يؤكد ويقسم، ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ سبل الله، سبيل الجنة، سبيل الرضوان، سبيل شفاعة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، لنهدينهم سبلنا، التوحيد الخالص، أن يخلص الله تبارك وتعالى نياتهم، وأن يخلص عبادتهم، ويخلص الله أعمالهم لوجهة الكريم، فبعد أن يكونوا مخلصين، يصبحوا مخلَصين، ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [سورة الحجر آية: ٤٠] ، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ هل ربنا تبارك وتعالى مع المحسنين فقط؟ الله مع الخلائق جميعًا، مع النمل في حجرها، ومع الطائر في عشه، ومع الحيتان في أعماق المحيطات، الله مع الكل بالإحاطه، وبالقدرة، وبالعلم، وبالسمع، وبالتدبير، والتصريف، والتقدير، وهو مع المحسنين بالعون، والنصر، والعنايه، والرعاية، والهدايه، واللطف، والحنان، والعطاء، والكرم، والمغفره، والإجابه، والإستجابه، المحسن من هو؟ المحسن قد تعني كثير النفقه، والمحسن كلمه عامه، أشمل من كل هذا، المحسن الذي يحسن العباده، المحسن الذي يحسن العمل، المحسن الذي يتقن كل شيء، المحسن الذي ينفق ويتصدق، وكل ما يعمّ ذلك كلمة المحسن التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه: حيث كان جالسًا بين أصحابه، ويروى لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: كنا جلوسًا حول رسول الله، فجاءه رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه اثر السفر، فجلس بين يديه، ولصق ركبتيه بركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال أخبرني يا محمد عن الإسلام؟ فقال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاه، وتصوم رمضان، وتحج البيت إذا استطعت الي ذلك سبيلًا، قال صدقت، فتعجبوا رجل يسأل ثم يصدق، لأنه حين يقول صدقت فهو يعلم، فكيف تعلم وتسأل؟! فعجبنا لرجل يسأل ثم يصدق، ثم قال فأخبرني عن الايمان، قال الإيمان ان تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، وبالقضاء، والقدر، خيره، وشره، حلوه، ومره، قال صدقت، فعجبنا لرجل يسأل ثم يصدق، ثم قال فاخبرني عن الإحسان، فقال الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فإنه يراك، وكأن الاحسان مقامان، تعبد الله لأنك تراه، ذاك مقام، فإن لم تكن تراه، لم تستطع هذا المقام، فإنه يراك، قال صدقت، فعجبنا لرجل يسأل ثم يصدق، فقال فأخبرني عن الساعه، فقال ما المسئول عنها بأعلم بها من السائل، قال اخبرني عن أماراتها، قال أن ترى الحفاه العراه، رعاة الشاه، يتطاولون في البنيان، وان تلد الامة ربها، قال صدقت، ثم انصرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليّ بالرجل فذهبنا نلتمسه فلم نجده، فقلنا يارسول الله وكأنه طار في السماء، أو انشقت الارض فابتلعته، قال هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم.