القرآن الكريم / سورة القصص / التفسير المقروء

سورة القصص

مقدمة‬‬‬‬
‫لقاؤنا مع سورة القصص، وسورة القصص التي قص الله تبارك وتعالى علينا فيها قصة بني إسرائيل، قصة موسى، قصة قارون، وكأن السورة مصداقًا لقوله تعالى في آخر سورة النمل ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [سورة النمل آية‫:‬ ٧٦] وهاهو يقص عليهم الحق في أكبر شيء إختلفوا فيه، وهو قصة موسى، وكيف أعطى النبوة والرساله، يقول الله تبارك وتعالى في مفتتح السورة‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

طسٓمٓ ﴿1﴾
ثلاثة حروف، وقد تكلمنا كثيرًا فيما سبق عن هذه الحروف المقطعه في أوائل سبع وعشرون سورة أفتتحت بهذه الحروف؛ أربعه عشر حرفًا من حروف اللغه العربيه، أفتتحت السور بعضها بخمس حروف، بعضها بأربع، بعضها بثلاث، بعضها بحرفين، بعضها بحرف، وسقنا إليكم كلام العلماء في هذه الحروف، ولايصح إلا الصحيح، هذه الحروف من المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله، هو سر الله فلا تطلبوه، ولكل كتاب سر، ولله تبارك وتعالى في كتاب من كتبه المنزله سر، وسره في القرآن فواتح السور، يفوّض العلم بها إلى الله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى بعد هذا الإفتتاح‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
تِلْكَ ءَايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ ﴿2﴾
الكتاب : القرآن، والمبين : الواضح، الظاهر، البين، لا شك فيه ولا مراء، لا إختلاف فيه، ولا خطأ، أيضًا هو مبين موضح بان :إتضح وأبان، وهو يوضح الحلال والحرام، ويوضح لنا الأحكام، فهو مبين، يوضح لمن آمن به سبيله في الحياه، ومآله في آخراه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
نَتْلُوا۟ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ ﴿3﴾
‫﴿نَتْلُوا﴾ : جبريل هو الذي يتلو القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام بأمر الله تبارك وتعالى، ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ﴾ أي نقرأ عليك بقراءه جبريل، ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ﴾ "من" هنا للتبعيض، إذا ً فربنا تبارك وتعالى لا يقص كل القصص، بل طرفًا من قصة موسى وفرعون، بعضًا من هذه القصص، ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ بالصدق الذي لا كذب فيه، ولامبالغه، ولاشك، ولاريب، ولاباطل، ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ إذًا فالمنتفعون بالقرآن هم المؤمنون، أما الكفار فلا ينتفعون به؛ لأنهم لايصدقونه، بل يزيدهم ضلالًا على ضلال ، وكفرًا على كفرهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًۭا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةًۭ مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴿4﴾
‫﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ فرعون لقب وليس إسمًا، وهو لقب لكل من ملك مصر في تلك الأزمان الغابره، كما أن كسرى لقب لكل من ملك الفرس، وقيصر لقب لكل من ملك الروم، والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشه، فرعون هذا لا نعلم إسمه، ولم يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسمه، وكل ما قيل في أسماء هذا الفرعون لا أساس له، ولاسند، وليست العبرة بالأسماء، ولكن العبره بالحوادث، وبالأشخاص، وبتصرفات هذه الأشخاص، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ إرتفع، استكبر في نفسه فلم يعبد ربه، وخالقه، الذي مكنه من هذه الأرض، وآتاه الملك فيها، بل إدعى الربوبيه، وأمر الناس أن يعبدوه من دون الله، أيضًا علا على الناس، وتفاخر، واختال، واستكبر عليهم، ولم يتواضع لله الذي خلقه، لم يعلم أن الناس سواسيه كأسنان المشط، وأن كلهم لآدم وآدم من تراب، ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾ فرقًا وطوائف، شيع : جمع شيعة، وكل قومٍ إجتمعوا على أمر فهم شيعة، وهم شيَع، جعل الناس في مصر طوائف وأصنافًا، أصنافا للخدمه، فاستغل بنى إسرائيل، منهم الخدم، ومنهم الحشم، ومنهم البناءون، ومنهم الزراع، طوائف، وأصناف، وأنواع لخدمته، وخدمه أغراضه، وأيضًا فرّق بين الناس؛ فجعل أناس في العلو، وأناس في السفل، فرّق ليسود، ولم يجعل الناس في أمة واحده، سواسيه، بل جعلها شيعًا، فهؤلاء من المصريين، وهؤلاء من بني إسرائيل، وبث بينهم العداوة والبغضاء حتى يسود، ولا يجتمعوا عليه، ﴿ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ ﴾ جعلهم من الضعفاء، المقهورين، المغلوبين، وهم بنوا إسرائيل، ﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ ﴾ كلما تلد إمرأه من بني إسرائيل، إن ولدت ولدًا صبيًا ذبحه، وإن ولدت فتاه تركها للحياه، فهو يذبح أبناءهم، ﴿ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ ﴾ أي يترك الحياة، ويعطي الحياه للنساء والفتيات يخدمن في القصور، وسر الذبح أن فرعون رأى رؤيه، أو قيل له من أحد المنجمين، أو الكهان، أن ملكه يزول على يد مولود يولد من بني إسرائيل، فأخذ في الذبح، ثم رأى أنهم سوف ينتهي أمرهم، ويفنى الخدم، فأخذ يذبح عامًا ويترك عامًا، وقيل بل ذبح في عام واحد وهو العام الذي ولد فيه موسى نتيجه مقاله الكهان، وهارون ولد من قبل موسى في عام لا ذبح فيه، من أجل ذلك بقى على قيد الحياة، ﴿ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ المفسدين في الأرض، أفسد الأرض بعد صلاحها، لم يصلح، ولم يحكم بالعدل، بل الظلم والجور، إفساد وفساد، ثم يقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةًۭ وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ ﴿5﴾ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا۟ يَحْذَرُونَ ﴿6﴾
‫﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وإن كان الفعل مضارعًا إلا أنه حكايه عن حال ماضيه، وكلمة الله تبارك وتعالى سابقه من الأزل، وهذا المعنى ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ورد في كثير من الآيات؛ حيث قال الله تبارك وتعالى في شأن بني إسرائيل‫:‬ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [سورة السجدة آية‫:‬ ٢٤] وهي الكلمة التي تمت ﴿ ... وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ... ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٣٧] ، ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ﴾ المن : العطاء بغير مقابل، العطاء سابقه فضل، لا جزاءًاً على شيء سبق، ولاطمعًا في شيء لاحق، ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ الأئمة‫:‬ جمع إمام، والأئمة هم قاده الخير، وهم المقدمون على الناس في الدارين، في الدنيا، وفي الآخره، الإمام : القدوة في الخير أيضًا، الإمام : الداعي إلى الخير، والإمام قد يطلق على الملك والحاكم؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل منهم ملوكًا، ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة المائدة آية‫:‬ ٢٠] فالأئمة تعني الإمام، والملكْ، والحاكم، والداعي إلى الخير، وقائد الخير، والمقدم على الناس دنيا وأخرى، ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ واتضح لنا من الآيات الأخرى في السور الأخرى أنهم وارثون لبني إسرائيل، ﴿ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ التمكين في الأصل أن تجعل للشيء مكانًا يتمكن فيه، ويستقر، واستعير اللفظ لكل تسليطًا، وإطلاق الأمر، فالله تبارك وتعالى سلطهم، وأطلق أمرهم، وحكّمهم في الأرض، ومكّن لهم في الأرض، والله تبارك وتعالى يقول في موضع آخر‫:‬ ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ... ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٣٧] إذا وإن كانت الأرض هنا لم تذكر، إلا أنها ذكرت في موضع آخر، أي أرض ؟ الوراثه لمن ؟ ذكر في موضع آخر ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(٢٥)وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(٢٦)وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(٢٧)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ(٢٨)﴾ [سورة الدخان آية‫:‬ ٢٥-٢٨] إذا ً فقد ورث بنو إسرائيل فرعون في ماله، وأرضه، وسلطته، وسلطانه، ﴿ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ ويَرىَ فرعون يحذرون حَذِرَ يحْذَر : إحترز من أمر مخيف، وقد كان فرعون يحترز من أمر مخيف، وهو أن يزول ملكه على يد مولود من بني إسرائيل فاحترز، إحترز بذبح الأبناء، إحترس، واحترز، وأخذ الحرص، والحذر بذبح الأبناء، ومع ذلك الله غالب على أمره، فأراد أن يريه ماكان يحذر رغم إحتراسه، ورغم إحترازه، يأتيه الله بقدره وقضائه من حيث لا يحتسب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿7﴾
‫﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ الوحي يكون إما إعلامًا، وإما إلهامًا، وإما منامًا، فالوحي بالإعلام أن ينزل جبريل على الموحى إليه قيبلغه رسالة ربه، والوحي إلهامًا كما يحدث حتى للطيور ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٦٨] والوحي قد يكون بالمنام ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى‫.‬..﴾ [سورة الصافات آية‫:‬ ١٠٢] والوحي الذي تم لأم موسى لاتُدري كيفيتة، ولا تُعلم هل نزلت إليها الملائكة كما نزلت إلى مريم ابنة عمران ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ٤٣] أم نزل إليها جبريل، أم كان ذلك إلهامًا، أم كان ذلك منامًا، يفعل الله مايشاء، والله أعلم بمراده، ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ أمر بالإرضاع غريب؛ هل تحتاج الأم لأمر كي ترضع وليدها؟ حتى الحيوان والوحش، حتى مالا يعقل، ومن يعقل، بالغريزة، بالإلهام، ترضع، فكيف تؤمر بالإرضاع؟ ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ ﴾ إذاً للإستقبال، ظرف زمان للإستقبال، وقيل أن الوحي كان من قبل الولاده، وهذه الكلمة ﴿فَإِذَا خِفْتِ﴾ تفيد أن الوحي كان بعد الولاده، وربما تم الوحي على مرات، إذا خفت عليه من عدوه، من فرعون، ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ أمر غريب؛ إذا كنت خائفه على إبنك من فرعون، ومن الذبح، فألقيه في اليم، في البحر، وهو نهر النيل، أمر في غاية الغرابة، ﴿ وَلَا تَخَافِي ﴾ كيف لا تخاف؟! لا تخافي عليه من الضياع، أو لاتخافي عليه من الغرق، أو لاتخافي عليه من فرعون، ﴿ وَلَا تَحْزَنِي ﴾ ولاتحزني لفراقه لأن الأم تحزن لفراق وليدها، وخصوصًا إنه كان حديث الولاده، لاتحزني على فراقه، ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ سوف نرده إليك، رغم القائك له في البحر، ليس ذلك فقط، بل يقول الله تبارك وتعالى مبشرًا، ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ من الرسل، رسول إلى بني إسرائيل، ورسول إلى فرعون وقومه، والآية رغم قلة ألفاظها جمعت أمرين، ونهيين، وخبريين، وبشارتين، ونفذت الأمر مؤمنه، أراد الله تبارك وتعالى لها الإيمان والتصديق، أعطاها فصدَّقت رغم غرابة الأمر، وجاءت بالتابوت، وصنعته، وطلته بالقاد حتى لا ينفذ إليه الماء، ووضعت وليدها فيه، أي قلب هذا؟! وأي إحتمال؟!، وأخذته بيدها فطرحته في الماء، في النهر، والنهر يجري، والصندوق يجري أمامها، ولاتدري أين يكون، وإلى أين المصير، قوة إيمان، ويقين لا قبل للإنسان بتخيلها، وتربصت، وانتظرت وعد الله، وهاهي هاربه من قضاء، هاربه من خوف، هاربه من فرعون، ومن جنوده، فيقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَٱلْتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّۭا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا۟ خَـٰطِـِٔينَ ﴿8﴾ وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍۢ لِّى وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًۭا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾
أمر غاية في الغرابه، هي تهرب به من فرعون، وهي يوحى إليها، وتضعه في التابوت، وتثق بربها، وتلقي به في اليم بيديها، وإذا بفرعون يلتقطه، مماكنا نهرب؟ من فرعون، وتأمرني يا ربي بإلقائه في اليم ولاأخاف، هربًا من فرعون فتلقيه في يد فرعون؟ لذا هنا طاش صوابها، وطار عقلها، والمؤمن مهما كان على درجة من اليقين، مالم يثبته الله تهزة الأحداث، ولايثق في نفسه إلا مغرور، ولا يطمئن إلى عمله إلا مخدوع، ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ ﴿لِيَكُونَ﴾ اللام قالوا فيها لام لكي، لام العله، ولكن العله لم تكن كذلك في نفس فرعون، وفي نفس إمراته، بل كانت العله ﴿نتخذه ولدًا عسى أن ينفعنا﴾ لذا قالوا أن اللام وإن كانت لام لكي، لام العله، إلاأنها لام العاقبه، لام الصيرورة، لام العاقبه، أي لتكون العاقبه بخلاف ماتوقع فرعون، ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ حَزَنا وحُزْنا ً قراءتان، كالرَشَد والرُشْد والسَقَم السُقْم، ليكون لهم عدوًا وحزنًا، أمر غريب أن يلتقط الإنسان، والإلتقاط الأخذ بسرعه عن غير نية، وعن غير عمد، وعن غير طلب، الإلتقاط لا يكون عن طلب، لأنك تجد الشيء من مصادفه، فإذا وجدت الشيء فهو لقطه، ﴿... وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ... ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢١٦] ، ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ وهكذا يستدرج ربك من يشاء بما يشاء وكيف شاء، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٨٢] إذا ً التقطوه ليكون لهم عدوًا، وليكون لهم حزنًا، لأن فرعون وهامان وجنودها كانوا خاطئين، والخاطيء الذي يأتي الخطيئه، والخطيئة‫:‬ الذنب العظيم، كانوا مشركين، وكانوا مفسدين في الأرض‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الغريب في الأمر أن أم موسى حين ولدت، القابلة التي ولدتها كانت تنوي أن تذبح الوليد، أو تنمي خبره لفرعون، وحين نزل موسى، ارتعدت فرائص المرأه، وهالها الأمر، ووجدت النور يشع من بين عينيه، ووجدت قلبها قد تعلق به، وكأئنه وليدها الوحيد، فكتمت خبره، وهذا ماحدث حين إلتقط موسى من الصندوق، ورأته امرأه فرعون، لم تملك نفسها من حبه، لم تقوى على مقاومه الحب، والنور الذي يشع من هذا الوليد، وذاك مصداقًا لقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ ...وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٣٩] فما تراه عين إلا وتحبة، إلا الذين طمست أعينهم، وطمس على قلوبهم، وكان هذا هو سلاح النجاه، هو السلاح الذي دافع به موسى عن نفسه ضد القتل، سلاح النجاه، الحب في قلوب الناس، لم تملك إلا أن تقول ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي ﴾ قرة العين : تقر قرارًا، بمعنى الإستقرار، يطلق على الشيء المحبوب، الذي تشتهية النفس؛ لأن العين إذا وقعت عليه، قرت واستقرت، وسكنت، ولا تنظر لغيره، فكل شيء تقع عليه العين فلا تتحول عنه لغيره، وتسكن، وتستقر على هذا الشيء، يصبح هذا الشيء قرة عين، فقالت‫:‬ ﴿لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ وجمعت ﴿لَا تَقْتُلُوهُ﴾ بلغه التعظيم، لأنها تخاطب الإله المزعوم، وليس من الأدب أن تقول له لا تقتله، فتأدبت معه على أدبهم، فقالت‫:‬ ﴿لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ عسى : لعل، وقلنا أن عسى ولعل وسوف في كلام الناس تفيد الترجي والإحتمال، أما في كلام الله تفيد اليقين والجزم، هاهي التي تتكلم إمرأه من الناس فقالت عسى، يحتمل الكلام أن يحدث، ويحتمل ألا يحدث ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ لأنها لم تنجب من البنين، ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ كلام من الله تبارك وتعالى، تعقيبًا على كلامها على القصه، على الإلتقاط وهم لا يشعرون بالنتيجه، وهم لا يشعرون ما سوف يأتيهم من قبل هذا الوليد، أيكون لهم إبنًا حقًا كما أرادوا ؟ أينفعهم كما أرادوا؟ أم أن الله قضى وقدر من الأزل أمر آخر، أو ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ من كلامها، ولا تعني القراءه وهم لا يشعرون من كلام إمرأه فرعون، أي وبنوا إسرائيل لا يشعرون أنه إبننا أو وليدنا أو تبنيناه، أو هو منهم، لأنهم شكوا حين التقطوه من الذي يرمي أبنه في النهر فاحتملوا أن يكون من بني إسرائيل، وأنهم فعلوا به ذلك هربًا من الذبح، قالت ذلك واستوهبته فرعون فوهبه لها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَـٰرِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِۦ لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿10﴾
‫﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ أصبح‫:‬ صار، أو أصبح من الصباح، القته مساءًا وإذا به في الصباح في يد عدوها وعدوه، في يد فرعون، الفؤاد : القلب، والقلب محل العقل، ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ خاليًا من العقل، طاش صوابها، وطار عقلها، رأت وليدها أوقع في يد عدوة الذي تهرب منه، أو فارغًا من كل شيء إلا من ذكر موسى، لا تذكر شيئًا إلا موسى، أو فارغًا خاليًا من الوحي والبشارة، ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ نسيت كل ذلك، نسيت الوحي، نسيت البشارة، نسيت كلام الملائكة، لم تر إلا وليدها في يد فرعون، وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا فرْغا ً فَرِغا ً فَزِغا ً قَرِغا ،ً خمس قراءات فارغًا وفرْغا ً وفَرِغا ً بمعنى واحد خاليًا، فَزِعا ً : من الفزع، من الخوف، الهلع، والرعب، قَرِغا ً بمعنى خالي، ولذا يطلق على الرأس الذي يخلو من الشعر أقرع، وهي كلمة عربيه، ﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ﴾ تظهره، بدا يبدو بدْوا وبداءا ً : ظهر غاية الظهور، كان تظهر أمره وتنادي هو إبني، ﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ، الربط : الشد للتقويه، وهنا ربطنا على قلبها بمعنى شددنا على هذا القلب لنقويه، وهو بمعنى إلهام الصبر، فإذا ربط الله تبارك وتعالى على قلب عبد ألهمه الصبر، ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ المصدقين بوعد الله؛ لأن الله قال‫:‬ ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فإذا وثقت، وصدقت، وآمنت بهذه البشارة، وهذا الوعد، فهي من المؤمنين، ولم تتكلم، أما إذا أبدت به، وتكلمت، وفضحت السر، فإذا هي غير واثقه بوعد الله، تصبح من غير المؤمنين، وهاهي رحمة الله تبارك وتعالى تتغمدها، وتتولاها رغم إيمانها، ويقينها، وتصديقها، وإلقاء وليدها بيدها، إلا أن عقلها طاش، وطار صوابها لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين، ومع ذلك الحرص في البشر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِۦ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِۦ عَن جُنُبٍۢ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿11﴾
‫﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ قصية :تتبعي أثره، قصّه :قصّ أثره بقصته، واقتصَّهُ وتقصصه : تتبعه، ومنه القصص : الأخبار المتتبعه، سورة القصص أي الأخبار المتتبعه التي تتبعها الآيات، وتحكي لنا عنها، ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ تتبعي أثره، حرص البشر، لم تملك نفسها رغم الربط على قلبها، ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ﴾ ، ﴿عَن جَنْب﴾ ، ﴿عَن جَانِب﴾، مشت أخت موسى على الشاطيء، والتابوت تحمله الأمواج والمياه، ويسير وهي على الشاطيء تتبع هذا الصندوق عن بعد، لترى مايكون المصير، ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ لايشعر بها جنود فرعون، ولا يشعر بها ملأ فرعون، والعسس؛ لأنها تمشي بأسلوب لا يتطرق إليه الشك، وتنظر من بعيد، ومن جانب عينيها، ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰٓ أَهْلِ بَيْتٍۢ يَكْفُلُونَهُۥ لَكُمْ وَهُمْ لَهُۥ نَـٰصِحُونَ ﴿12﴾
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ﴾ من قبل رده لأمة، المراضع جمع مُرضع :المرأه التي ترضع، والتحريم هنا تحريم منع وليس تحريم شرع؛ لأن الله تبارك وتعالى لم يشرع الحرمان من الرضاعه، كما أن موسى غير مخاطب بالشرائع، وغير مخاطب بالتكليف، فحرمنا هنا بمعنى منعنا المراضع، كلما أتوه بمرضع لا يلتقم، ولا يقبل ثديها أبدًا، أو المراضع‫:‬ جمع مَرْضَع وهو مكان الرضاعه، كمرتع ومراتع، أو مرضع‫:‬ المكان، الثدي، أو المرضع : الإرضاع، حرمنا عليه المراضع أي الإرضاع، أو المرضعات اللائي يرضعن، أو الثدي مكان الإرضاع، ﴿ فَقَالَتْ ﴾ أخته يبحثون عن المراضع لأن هاهو يكاد يموت من الجوع، يمتص إصبعه، ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ أدلكم على أهل بيت، على إمرأه ترضعه، وتنصح له، وتحنو عليه، وتخاف عليه، ﴿ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ﴾ : الكفالة:الولاية، والرعايه، والعنايه، ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ هنا شك فرعون فيها، وقال هامان أنّى لك أن تعلمي أنهم له ناصحون ؟! لابد أنها تعرف أهله، وتعرف أمه، فقالت بل له، أي للملك، لفرعون، ﴿نَاصِحُونَ ﴾ لفرعون، ﴿وَهُمْ لَهُ﴾ لم أقصد الغلام، نفذ قضاء الله تبارك وتعالى، وقبلوا، وإذا بالفتاه تذهب لأمها، وتأتي بها، وجاءت الأم تسعى، ودخلت، وموسى لم يرضع، وبمجرد أن شم ريح أمه سكت عن البكاء، والتقم ثديها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِۦ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿13﴾
‫﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ﴾ سمح لها فرعون بأن تأخذه إلى بيتها، وأجرى عليها النفقه والرزق، وحين شك فيها قالت أنا امرأةٌ طيبةٌ، طيبةُ الريح، وطيبةُ اللبن، مامن طفل يأتي إلا ويقبل ثدييها، ونجت لأن الله تبارك وتعالى أراد ذلك، ﴿ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ ألم تكن تعلم أن وعد الله حق؟ كانت تعلم بدليل أنها ألقته في اليم، ونفذت، ولم يمكن أن تنفذ إلا إذا كانت تعلم أن وعد الله حق، إذا ً هنا حين يقول‫:‬ ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ تعلم علم المشاهده، وقبل ذلك كانت تعلم علمًا غيبيًا، كانت تعلم أن وعد الله حق بالغيب، تؤمن بالغيب وتصدق، أما حين رأت الوليد في يديها، وعادت به إلى بيتها، علمت علم اليقين، واقع يشاهد أن وعد الله حق، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله حق، أكثر آل فرعون لا يعلمون أن وعد الله حق‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسْتَوَىٰٓ ءَاتَيْنَـٰهُ حُكْمًۭا وَعِلْمًۭا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ ﴿14﴾
‫﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ الأشد :كمال القوة، كمال الجسم، يزيد الجسم وينمو حتى إذا وصل إلى المنتهى الذي لانمو بعده، ذلك هو الأشد، وقد يكون ويعبر به عن بلوغ الحلم، ﴿ وَاسْتَوَى ﴾ الإستواء‫:‬ الإعتدال، الكمال في العقل، وفي الفهم، وفي الجسم، ﴿ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ حكمًا : حكمه، علمًا : علم بالدين، فقه في الدين، دين آبائه، يعقوب، وإسحق، ويوسف، وآتاه ربنا تبارك وتعالى الحكمه، فلا تصدر منه السفاهه، ولا يفعل فعلًا يندم عليه، الحكمه ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ... ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٦٩] وقيل الحكم هنا بمعنى النبوة، والقول مردود؛ لأن النبوة لم تكن إلا بعد أن كلمه ربه في الطور، فالحُكم يعنى الحكمه، يعني الإحكام، يعني النبوة، يجيء بمعاني كثيره، وأصله من الحَكَمه، والحكمه : حديده اللجام، توضع في فم الفرس، بين أنيابه، ويربط بها اللجام، فيتحكم قائد الفرس في حركة الفرس، والحكمه والحُكْم التي تجعل صاحبها يحكم الأمور، يحكم الرأي، رأيه رشيد، وقوله سديد، وفعله أيضًا سديد، صواب لا خطأ فيه، هل اخُتص موسى بذلك من بين الناس جميعًا؟ واتينه حكمًا وعلمًا؟ أبدًا، يقول الله تبارك وتعالى مبشرًا لكل مؤمن ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ إذًا فقد جَزَى أم موسى بأن رد إليها وليدها، وحفظه من عدوه، وقرَّ عينها، وبشّرها، وجعل إبنها من المرسلين، جزاها بإحسانها، وتصديقها، وإيمانها، وكذلك في كل زمان ومكان، يجزي الله تبارك وتعالى المحسنين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫تلك كانت بعض معاني الآيات من أول سورة القصص، والقرآن له ظاهر، وله باطن، وظاهر القرآن مايحتمله من معنى للناظر فيه، وظاهر القرآن معاني الألفاظ، معاني الكلمات، أصل إستخدامها، من أين نشأت، مدلولات الألفاظ، ظاهر القرآن : الأحكام، والحلال، والحرام، كل ذلك ظاهر، وظاهر القرآن لكل الناس، والناس فيه سواء، وربما العالم يوضح بعض الأمور، وبعض الألفاظ التي لم يعتادها الناس، فقد دخلت اللغات الأخرى، ودخل اللحن في كلام الناس، ولكن في القديم كان الناس وكانت الأمة تسمع القرآن، ولاتحتاج لترجمان، فهم يتكلمون العربية، ويعرفون إعرابها، والباطن في القرآن أصله وأساسه التدبر، والتأمل، واستخلاص العظه والعبرة، هلمّ بنا نتأمل فيما مضى من آيات، وقد شرحت الألفاظ والمعاني، هلم بنا نتدبر العظه، نجد من ضمن ما هو موجود، ليس كل العبر والعظات، فلا يحيط به أحد، ولا يعلم تأويله إلا الله، ويأتي القرآن يوم القيامه بكرًا لم يفض رغم كلام العلماء، أولًا : فرعون يذبح أبناء بني إسرائيل خوفًا على ملكه، سواءًا أكان ذلك نتيجه رؤيا عبرت له، أو كلام منجم، أو كلام كاهن، الأمر أمران واحتمالان : أن يكون المنجم صادقًا، ذاك إحتمال، وأن يكون المنجم كاذبًا، وذاك احتمال آخر، إن كان المنجم صادقًا هل يجدي قتل الأولاد ؟ لايمكن؛ لأن المنجم إن كان صادقًا أن ملك فرعون سوف يزول على يد ولد أو وليد من بني إسرائيل مهما ذبح، وقد ذبح في عام واحد سبعين ألفًا، فإن كان المنجم صادقًا لن يجدي القتل مهما فعل، فلم قتل؟ ولم ذبح؟ وإن كان المنجم كاذبًا، وذاك الإحتمال الآخر، فإذا ً لا داعي للقتل أصلًا، ولا داعي للذبح أصلًا، ذاك كلام العقل، ذاك التدبر، فلم فعل فرعون ذلك ؟ دليلًا على حمقه، كان جاهلًا، كان أحمقًا، بهذا التذبيح حمق وجهاله، رغم أنه ملك ابن ملك، بل ويعبد من دون الله في الأرض، وصدق ربي حيث يقول‫:‬ ﴿... وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [سورة النور آية‫:‬ ٤٠] ، الأمر الغريب أيضًا لم سلّط الله تبارك وتعالى فرعون وقوم فرعون على بني إسرائيل وهم أبناء الأنبياء وحملة الشرائع؟ لم سلّطه عليهم فذبح أبناءهم واستحي نساءهم واستضعفهم؟ لم فعل بهم ذلك؟ وسبق أن قص علينا في سورة يوسف كيف دخل يعقوب وبنوه أرض مصر، وكيف تولى يوسف الملك والحكم، وقال يا أبتي هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًا ؟ ! كيف وقد أجلس أبويه على العرش وقال ادخلوا مصر أن شاء الله آمنين، ورفع ابويه على العرش، يوسف حكم مصر، ويوسف نبي يوحي إليه، ولابد أن يكون قد حكمها بشرع الله، وهو وإخواته تناسلوا في مصر، وأصبحوا أصل بني إسرائيل الموجودين في مصر، خليط مع المصريين الأصليين، أهل البلد، فكيف تحول الحال من ملك يدار بأيدي بني إسرائيل إلى خدمه واستذلال واستضعاف لماذا ؟ لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، تكاثر بنو يوسف، وبنو يعقوب، وبنو إسرائيل، إسرائيل لقب ليعقوب وليس إسمًا له، فبنوه الذين دخلوا مصر، والذين أرادوا بيوسف شرا ً، ثم تابوا وتاب الله عليهم، تناسلوا في مصر، وحكموا مصر، وتكاثروا، ولكنهم نسوا الشرع، وأفسدوا في الأرض، وبدلوا نعمة الله عصيانًا، فأذاقهم الله بما صنعت أيديهم بأس فرعون، سلطه الله تبارك وتعالى عليهم، فأذاقهم ما ذاقوه من تذبيح، واستحياء للنساء، يسومهم سوء العذاب، تأمل لأن الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أيضًا لم أراد الله أن يمكن لهم بعد ذلك، هل تاب عليهم ؟ نعم، أراد أن يتوب عليهم، وأراد أن يجعل منهم أئمة، لماذا ؟ لأن فيهم الكليم موسى، ومن أجل موسى ترحم أمته، ومن أجل موسى يرفع العذاب، ومن أجل موسى ينزل الشرع، ومن أجل موسى يزهق الباطل، ويظهر الحق، موسى ﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٤١] ،﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٣٩] ،﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٣٩] موسى كليم الله، كلمة الله تكليمًا، فرحمت الأمة من أجل واحد، من أجل موسى، إي وربي إنكم تنصرون، وترزقون، وتمهلون بالصالحين منكم، أيضًا الذي يدعو إلى التأمل أن الله تبارك وتعالى يقول لأم موسى، ويأمر بأمرين غاية في الغرابه، الأمر الأول بالإرضاع، أرضعيه هل كانت تنوي ألا ترضعه ؟ مستحيل، هل هي محتاجه لأمر بالإرضاع ؟ هل كل أم تلد تؤمر بالإرضاع، أم ترضعه بالغريزة حتى الوحوش، فلم أمرها ؟ قد، والله أعلم بمراده، الإرضاع غريزة، فعل، كالأكل، تشعر بالجوع فتأكل، فإذا كان الإرضاع أمر فأطاعت أم موسى الأمر، حدثت بركه الطاعه، فأنت إن أكلت لمجرد الأكل لا بركه في طعامك، وإن أكلت لتعطي البدن حقه، فسميت الله على الطعام، وحمدت الله بعد الطعام، حدثت لك بركة الطعام، وطاعه الله تبارك وتعالى لابد ولها أثر، ونتيجه، وبركة، لابد، فالمصلي قلما يصاب في عظامه بالتيبس من كثرة الحركه، الطاعه، فما بركه طاعة أم موسى في أمر الإرضاع إن كان ذلك حقًا ؟ أطاعت وأرضعت بأمر، ولم ترضع بغريزة، تأمل ألقت الوليد في التابوت، وألقت التابوت في النهر، وحمله النهر، وسار به حتى وصل إلى فرعون، أين المراضع، أين المراضع، هلم يافلانه، لا يرضع، نادوا هلم المراضع، تأتي المرضع وتمشي، وهكذا، ماذا كان يغذى؟ كيف كان يغذي موسى في هذه الفتره؟ وكيف عاش بغير رضاعه حتى جاءت أخته "هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم" نعم أين أنت؟ ومن هم؟ آتى بها فجاءت، فأعطيتها، فأعطوها، هذه المده كيف عاش بغير رضاعه؟ والطفل، كلكم يعلم، لا يقوى على الصبر أكثر من ثلاث ساعات، فهل من حين ألقته إلى أن رده الله إليها مضت ثلاث ساعات فقط أم أكثر من ذلك؟ قال بعض الناس حين كان يمص إصبعيه كان يدر له لبنًا، الله أعلم، وإن كان الأمر كذلك فلم صرخ؟ ولم بكى؟ ولم إبتغوا له المراضع؟ بركه الإرضاع رضعه واحده، تنفيذ لأمر الله، أبقت موسى هذه المده بغير حاجه إلى طعام، لأنها حين أرضعته أرضعته طاعه لأمر الله، ولم ترضعه غريزة، وأنظر إلى بركه الطاعه، الأمر الآخر الذي يدعو للتأمل أن تلقيه في اليم، كيف؟ هي تخاف وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ إذا ظرف زمان وتأتي بمعنى الشرط، إذا فعلت كذا يكون كذا، فإذا إنتفى الشرط إنتفت النتيجة، فإذا قال إذا خفت عليه فألقيه في اليم، إذا ً لو لم تخف، تلقيه في اليم أم تبقيه ؟ تبقيه؛ لأن الإلقاء في اليم في حاله واحده هى الخوف، إذا ً لو أبقته، ولم تخف، وحفظته، أكان يحفظ ؟ أبدًا، وحين تخلّت عنه، وألقته، الحافظ حفظه، إذا ً كل ما تخاف عليه إياك وأن تحتويه، وتحترزه، وتكنزه، كل ما تخاف عليه ألقيه، ولكل شيء يم، فالمال له يم، تلقيه يرد إليك، اليم للمال عباد الله الفقراء، كل خير تنفق فيه المال، ما أنفقت من شيء فهو يخلفه، إذا ً فإلقاء الغلام في اليم حين الخوف يعني أن كل ما تخاف عليه سلمه لله، هو خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، وأنظر كيف حفظ يوسف في البئر، تأمل في معاني القرآن، أيضًا أنظر في فعل الله تبارك وتعالى، فرعون يخاف، ويحذر أن يذهب ملكه على يد عدو له من بني إسرائيل، فيأتي الله تبارك وتعالى بالعدو إلى حجر فرعون، فيربيه في بيته، يربي من يخاف منه، هو الذي يربيه، ويطعمه، ويهدهده، ويحمله، ويضحك له، ويهش ويبش في وجهه، غايه في الغرابه، لا يغني حذر من قدر، وإذا جاء القدر عمى البصر، والله غالب على أمره، ليس لهارب منه نجاه، محيط بخلقه أبدًا، هاهو فرعون، يربي موسى بنفسه، ويجري على أمه النفقه، فترزق على رضاعه هي مأموره به أصلًا بغير أجر، أمر غريب، الأمر الأغرب أن إمرأة فرعون حين التقطت موسى، ووقع حبه في قلبها، وقالت لفرعون لا تقتلوه قرت عين لي، قال فرعون فأما لك فنعم أما لي فلا، ووالله لو قال نعم لهدى إلى الدين، ولآمن بموسى، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث ينبئنا بذلك، ويقول أنها حين قالت قرت عين لي كان قرة عين لها فآمنت، وضرب بها المثل ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة التحريم آية‫:‬ ١١] لأنها قالت قرة عين لي، أما هو يقول النبي صلى الله عليه وسلم لو قال نعم لأمن بموسى، الكلمة التي تنطق بها قد يكون فيها فلاحك، وقد يكون فيها هلاكك، الكلمة إي وربى، وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثير لايتسع المقام للتأمل والتدبر في هذه الآيات، ولك أن تتأمل ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [سورة محمد آية‫:‬ ٢٤] ، تأملوا القرآن وتدبروه، تجدوا الكنوز تحت الحروف، كنوز لا عدد لها ولا حصر، واعلموا أن الله تبارك وتعالى غالب على أمره، وأن العبد لايملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، وأن الله تبارك وتعالى هو الضار، وهو النافع، سلم أمرك لله تسلم وتسعد، وهاهي أم موسى، أسلمت لله فسعدت، وصدقها الله وعده، ورد عليها إبنها، وكان لها قرة عين، وصدقها الله كي تقر عينها ولا تحزن، ولتعلم أن وعد الله حق، ولكن أكثرهم لا يعلمون، ولكنا بفضل الله، والحمد لله، نعلم أن وعد الله حق، ولا نثق فى أعمالنا، ولا نعتمد على إيماننا وأعمالنا، وها قد وجدنا ايضًا أن أم موسى بالرغم من إيمانها وتصديقها والقائها لأبنها في اليم، طار عقلها إن كادت أن تبدي به لولا ان ربط الله على قلبها، وتذكرنا بقصة يوسف ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ...﴾ [سورة يوسف آية‫:‬ ٢٤] ، بل ويذكرنا بكلام الله فى سيد الخلائق أجمعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٧٤] .‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫بلغ موسى أشده، واستوى، ووهبه الله تبارك وتعالى حكمًا وعلمًا، ويقص علينا القرآن أن موسى بعد ذلك دخل المدينه على حين غفله من أهلها، تربي موسى في قصر فرعون، يغذى بماله، ويحاط بجاهه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍۢ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِۦ ۖ فَٱسْتَغَـٰثَهُ ٱلَّذِى مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِى مِنْ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ ۖ إِنَّهُۥ عَدُوٌّۭ مُّضِلٌّۭ مُّبِينٌۭ ﴿15﴾
‫﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا﴾ والكلام يقال في اللغه "ودخل حين غفل الناس" ولا يقال دخل على حين غفله، وجيء بكلمة "على" ليدل الكلام على أن المقصود الغفله، إذا ً فقد قصد موسى أن يدخل المدينة وأهلها غافلون، فلم ذاك ؟ لم قصد هذا ؟ قال العلماء فيها كلامًا كثيرًا؛ قيل أن موسى رُسمَ برسم فرعون، وركب مراكبه، وكان يطلق عليه موسى بن فرعون، وأن فرعون سبق في الدخول إلى المدينة، فلحقه موسى، ودخل خفيه، وقيل أن موسى حين أتاه الله حكمًا وعلمًا تبين له الحق، وعلم أن فرعون وقومه على ضلاله فخالفهم فعرفوا ذلك منه، فأبعدوه، فدخل مدين على حين غفله من أهلها، ﴿ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ وجد رجلين يقتتلان، يقاتل أحدهما الآخر، ﴿هَذَا﴾ إشارة، والإشارة هنا في الكلام لتدل على أنه حكايه عن حال ماضيه، كأن الناظر إذا نظر إلى المتقاتلين عرف أن أحدهما من شيعة موسى، والآخر من عدوه، من شعية موسى : من بني إسرائيل، من عدوه‫:‬ من أهل مصر، من قوم فرعون، ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ استغاث : طلب الغوث، وطلب الإغاثه، وطلب الإعانه، فاستغاثه الذي من شعيته على الذي من عدوه، وكيف عرف موسى أن هذا من شيعته، وهذا من عدوه؟ يعلم الله، أو كان الزي مختلفًا، ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ إستجاب موسى للإستغاثه، ووكز العدو المصري، وقرأت لكَزَ "فلكزه"، الوكز واللكز، واللهد، واللهز، كلها معاني متقاربه، وإن كان موضع الضربة يختلف، فالوكز في القلب، واللكز في الصدر، واللهز في العنق، وهكذا‫.‬. وكلها تعني أن الضربه كانت بجمع الكف، قبض موسى يده، وقبض كفه، ووكز المصري مبعدًا له عن الإسرائيلي، وكان في هذه الضربه، وفي هذه الوكزه موت هذا المصري، أنهى حياته، والقضاء‫:‬ الفراغ، قضى الشيء : فرغ منه، قضى موسى عليه أي أنهى حياته، غير عامد لم يتعمد القتل، أراد مجرد الدفع فقط، ولكنها قبضه لم يعلم موسى نتيجتها إلا بعد أن ضرب بها، حين وجد أن الرجل قد مات ولم يقصد، ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ هذا من عمل الشيطان، لأنه وكز الرجل، وكان يمكن له أن يصلح بينهما بالمعروف، بالكلام ليس بالضرب، ليس بالدفع، ربما أراد أن يصلح بينهما، ولكن أخذته الحميه، والإنتماء لقومه من بني إسرائيل، فأراد أن ينصر هذا الإسرائيلي وهو مؤمن، على ذلك الكافر، ولكنه تبين الخطأ، فقال هذا، ونسب الفعل أو الحض عليه للشيطان، لأن الشيطان هو الذي يحض الإنسان على الغضب، وقد نبهنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان خلق من النار، وأن النار تطفأ بالماء، وأن الإنسان إذا غضب جلس الشيطان على أنفه، على منخره، وأخذ يحضه، ووصف لنا الغاضب فقال : ألا ترون إلى إحمرار وجهه، وانتفاخ أوداجه، فأطفئوا الغضب بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ أو فليغتسل، وإذا غضب وهو لأن الشيطان يريد أن يعلو، ويقف، ثم يبطش وهكذا لأن النار من طبيعتها أن تعلو، فضدها أن تنزلها فإذا كنت قائمًا فاجلس، وإن كنت جالسًا فاضجع، وعليك بالإغتسال، أو الوضوء، يذهب غضبك لأن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، ﴿ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴾ ظاهر العداوة، ظاهر الإضلال، مبين واضح‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَٱغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُۥٓ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ﴿16﴾ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًۭا لِّلْمُجْرِمِينَ ﴿17﴾
إستغفر موسى، وعرف الطريق أن الخطيئة لا يكفرها إلا الإستغفار، ونسب الظلم لنفسه، وإن كان القتل قد حدث خطأ إلا أنه أيضًا نسب الظلم لنفسه ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ﴾ إذا ً فقد كان موسى يعرف ربه، وذااك مصداقًا لقوله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾، وكان ذلك قبل النبوة على أرجح الأقوال ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ الغفور للذنوب، الرحيم بعباده، من يغفر إن لم يغفر الله، هو الذي يغفر الذنوب، وهو الذي يرحم العباد، هو الغفور الرحيم، ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ بما أنعمت عليّ، ولم يذكر نوع النعمة، تحير فيها العلماء، بما أنعمت علي بالمغفره، إذًا فقد علم أن الله قد غفر له، وكيف يعلم ولم ينبأ بعد،فكيف عرف؟ ذاك قول، وقول آخر بما أنعمت علي من القوة؛ لأنه إكتشف أن لديه قوة لا قبل لأحد بها، حتى أنه حين وكز المصري قضى عليه، وقال بعضهم‫:‬ قال رب بما أنعمت علي وذاك قسم، أقسم بالإنعام، وهو الهداية، هديتني إلى الطريق، وعرفتني طريقك، ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ قسم محذوف الجواب، والجواب لأتوبن، ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾، والظهير‫:‬ المعين، وكأنه يسند ظهره إلى ظهره الآخر فيقويه، ويشده، لن أكون معينًا للمجرمين على إجرامهم، بمن يقصد هذا الكلام ؟ يقصد من بهذا الكلام موسى، لن أكون ظهيرًا للمجرمين، لفرعون وقومه ؟؟ وقد تبين له كفرهم، وإشراكهم، أم ظهيرًا للمجرمين لمن يدعو للخطأ، والخطيئة، وهو الإسرائيلي الذي إستغاثه، واستعانه، فاستفزه، فارتكب هذه الخطيئة في حقه، وحسنات الأبرار سيئات للمقربين، ونصر المظلوم واجب، ونصر موسى المظلوم، فلم استغفر؟ ولم قال ذلك ؟ وهل يقصد بها القوة ؟ يقصد بها المغفره؟ لن أكون ظهيرًا للمجرمين، فرعون وقومه المجرمين، الذين يستنقذون الناس على الخطأ، المجرمين هذا المصري الذي إستفز الإسرائيلي، ولولا موسى لقضى المصري على الإسرائيلي، وقال بعضهم بل هي دعاء، وكأنه يقول ربي بما أنعمت علي فاللهم لا تجعلني ظهيرًا للمجرمين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَصْبَحَ فِى ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفًۭا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِى ٱسْتَنصَرَهُۥ بِٱلْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُۥ ۚ قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰٓ إِنَّكَ لَغَوِىٌّۭ مُّبِينٌۭ ﴿18﴾
‫﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ خاف موسى، خاف من الله ؟ وكيف وقد إستغفر؟ ومهما غفر لعبد فلا يفارقه الخوف أبدًا، مهما كان من المقربين، أم خاف أن يُغشى أمره، ويُعلم ذنبه، ويصل إلى فرعون، فيؤخذ، ويقاد بذلك فيقتل ؟ أصبح‫:‬ في الصباح، إذا ًفالمعركه تمت ليلًا، أو أصبح‫:‬ أي صار، أصبح خائفًا يترقب‫:‬ يتوقع، ويتعسس، ويبحث، هل عرفوا؟ هل علموا؟ هل يطلبوه؟ هل تتبعوه؟ يترقب، وينتظر، ويترصد، ﴿فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ﴾ نفس الرجل الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس، هاهو اليوم يستصرخه مره أخرى، يستغيثه، يطلب منه العون، والإغاثه، والإستصراخ : طلب العون، وطلب الإعانه، وطلب الإغاثه بالصراخ؛ لأن المستغيث يصرخ طالبًا العون، هاهو يستصرخه مره أخرى، ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾ ﴿له﴾، لمن ؟ للإسرائيلي ؟ إنك لقوي، مبين، غوىّ، مغويّ، أو غوىّ : غاوي : ضال، بين الضلال، كل يوم في مشكل، كل يوم في معركه، كل يوم تستغيث، بسببك قتلت نفسًا بالأمس، وهاأنت اليوم تستصرخني مره أخرى على رجل آخر من قوم فرعون، أنت ضال، أنت مضل، أنت غاوي، هل كان الكلام للإسرائيلي ؟ أم ﴿قَالَ لَهُ﴾ أي للفرعوني المصري، إنك لغويّ مبين، حتى أنك تريد أن تستعبد هذا الرجل، وتستغله، وتقسو عليه مستندًا إلى قوة فرعون، وإلى أن هذا الإنسان من المستضعفين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِى هُوَ عَدُوٌّۭ لَّهُمَا قَالَ يَـٰمُوسَىٰٓ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًۢا بِٱلْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّآ أَن تَكُونَ جَبَّارًۭا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ ﴿19﴾
‫﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا﴾ أراد موسى أن يبطش بالعدو بالمصري مره أخرى كما فعل بالأمس، نصرةً للإسرائيلي، فلما أوشك على ذلك ﴿قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ﴾ ﴿قَالَ﴾ الإسرائيلي هو الذي قال؟ أم المصري هو الذي قال؟ وإن كان المصري هو الذي قال، فمن أين علم أن موسى قتل نفسًا بالأمس ؟ هل علم من كلام موسى مع الإسرائيلي حين قال له إنك لغوي مبين؟ إذا ً فقد فهم من ذلك أن قتيل الأمس كان بيد موسى، فقال أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ أم قالها الإسرائيلي، ولم قالها ؟ هل ظن أن موسى سوف يبطش به حين تشمر لذلك، وأراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، إعتقد الإسرائيلي أن موسى يريده فخاف، فقال أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس، فأفشى سر موسى الذي لا يعلمه إلا موسى والإسرائيلي، ﴿ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ ﴿ إِن تُرِيدُ﴾: أي ماتريد إلا أن تكون جبارا ،ً والجبار الذي يرغم الناس على فعل مالا يرتضوه، الجبار الذي لا ينظر في العواقب، الجبار : الذي يسفك الدماء بغير حق، ويفسد في الأرض بعد إصلاحها، لايرتدع، لا ينتصح، ﴿وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ لأن الإصلاح بالكلام، بالعظه، الموعظه، وليس بالقوة والبطش، إما قالها الإسرائيلي، وإما قالها المصري‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
وَجَآءَ رَجُلٌۭ مِّنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَـٰمُوسَىٰٓ إِنَّ ٱلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ ﴿20﴾
‫﴿يَسْعَى﴾: يسرع، إذًا رجل يأتي مسرعًا إلى موسى من أقصى المدينه، ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ هذا الرجل الذي جاء يسعى، ينصح موسى، ويخاف عليه، هو مؤمن آل فرعون الذي آمن بموسى بعد ذلك، وقال لفرعون وملأه‫:‬ أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟! ولم يكن آمن بموسى في ذلك الوقت؛ لأن موسى لم يكن قد أُرسل بعد، ولكنه كان يحبه، أو بينهما الألفه، أو كان رجل يعرف الحق من الباطل، جاء لموسى وحذره أن الملأ، والملأ أشراف الناس، الحكام، الوزراء، مستشاروا الملوك، وسموا ملأً لأنهم يمتلئون بما يحتاجه الناس من جاه، وسلطان، ومال، وسموا ملأ لأن الرهبه تملأ أعين الناس فيخافوهم، ويخشوهم، ﴿يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ يتشاورون، وسمى التشاور إئتمار لأن كل منهم يأمر صاحبه؛ هذا يأمر وهذا يأتمر، ومنه قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾[سورة الطلاق آية‫:‬ ٦] أي فليأمر كل منكم الآخر بالمعروف، يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًۭا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿21﴾
‫﴿فَخَرَجَ مِنْهَا﴾: من المدينه، ﴿ خَائِفًا﴾ خاف للمره الثانيه خوفًا أشد، وهذا يدل على أنه حين خاف أولًا خاف من القتل، خاف من القصاص، وخاف من فرعون، وهاهو يخرج خائفًا ﴿يَتَرَقَّبُ﴾: يترصد، ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ من فرعون وقومه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّىٓ أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴿22﴾
‫﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ﴾ إذًا فقد إتجه قصد موسى على التوجه تلقاء مدين، ومدين قريه النبي الصالح شعيب، توجه تلقاء مدين لأن القريه سميت على إسم مدين إبن إبراهيم، فهم نسب لإبراهيم، وهود نسب لإبراهيم؛ لأن موسى من ولد يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم، ومدين إبن إبراهيم، فهم أنساب، فتوجه تلقاء مدين عسى أن يجد الأمان، لماتوجه تلقاء مدين، ﴿قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾ إذا ً موسى لم يكن يعرف الطريق، ولا يعرف أين يتجة، فسأل الله تبارك وتعالى الهداية؛ أن يهديه الطريق، يدله على الطريق الذي يؤدي به إلى السلامة، ولا يلحق به فرعون وجنوده، ﴿قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾ ﴿عَسَى﴾ كلمة تفيد الترجي والرجاء إذا جاءت على لسان البشر، ﴿السَّبِيلِ﴾ : الطريق السواء، المعتدل، القصد الذي لا إعوجاج فيه، ولا خطر، ولا خوف فيه، طلب موسى أن يُهدي إلى الطريق، وأن يعرف السبيل إلى قوم مدين حيث يجد له هناك الأمان، الآيات تفيد أن موسى خرج بغير راحله، وبغير زاد، وبغير كساء، والمسافه بين مصر وبين مدين مسيرة ثمانية أيام بلياليها على الأقل، خرج ليس معه إلا شيء واحد، الثقه بالله، والتوكل على الله، فقد لجأ إليه طالبًا النجاه بين الظلمة، وطالبًا الهدايه إلى سواء السبيل، أيها الأخ المسلم من توكل على الله فهو حسبه، ولايخيب الله تبارك وتعالى أبدًا من دعاه، ولايرد أبدًا من رجاه، فيما سبق من آيات من سورة القصص دلائل، وعظات، ووعبر لكل متأمل؛ هاهو موسى يربي في قصر فرعون، وقصر فرعون موئل الضلاله، وموطن الشرك، وأس الفساد في الأرض، ظلم للعباد، كفر، إدعاء الألوهيه، لاشك أن قصر فرعون كان بؤره تتجمع فيها كل المعاصي؛ لأن من أشرك بالله وكفر كانت المعاصي الأخرى والكبائر في حقه لاشأن لها، ولاقيمه لها، لابد أن هذا القصر كان فيه من الفساد، والضلال، والإضلال مالا يخطر على بال، وموسى يربي في هذه البيئة، ومع ذلك لم يقلد فرعون، ولم يضل، ولم يفسق، ولم يخرج عن طاعه ربه، بل آتاه الله تبارك وتعالى حكمًا وعلمًا، من هنا يتبين لك أن من يهديه الله فلا مضل له، وأن الإنسان مهما وجد في بيئه صالحه، وكتبت عليه الضلاله لن يجدي به نصح ولا مواعظ، وأن الإنسان مهما ربى في بيئه فاسده، وأراد الله له النجاه فمن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، إذًا فالهادي هو الله، والحافظ هو الله، والمربي هو الله، الأمر الثاني : أن موسى دخل على حين غفله وتربص غفله الناس، قيل وقت الظهيره، وقيل وقت العتمة، ولم نُخبر لم دخل على حين غفله، واحتار العلماء، والقول الفصل في هذا لا يعلمه إلا الله، هل كان يترقب ويتعسس أحوال الناس من قبل فرعون باعتبارة إبنا ًله؟ هل كان يتعسس أحوال قومه وعرف أنه منهم فيتعسس أحوالهم، وينصر المظلوم منهم، ويتصدق على الفقير منهم، فدخل على حين غفله من الناس، من أهل فرعون وقومه؟ هل كان هاربًا كما قيل من فرعون لأنه أعلن العصيان وبدأ ينكر مافعلوه من إشراك؟ يعلم الله‫.‬ القصه أيضًا ذكرت موسى، وذكرت أم موسى، وأوحى الله إليها، ولم تذكر الأب، والد موسى، أحي هو أم كان ميتا ؟ لم يذكر القرآن شيئًا عن الأب، مما يدل على أن العبره في القصص دائمًا وأبدًا النتائج، والحوادث، وفعل الله تبارك وتعالى، وتدبير الله تبارك وتعالى، والعبرة ليست بالأشخاص، حتى أنه لم يذكر لنا الأب، وماذا كان حاله، وهل كان على قيد الحياة أو مات قبل أن يولد موسى، ما قصته؟ لم تُذكر، والكلام فيها لايجوز ولايصح، والسؤال أيضًا لايصح؛ لأن الله تبارك وتعالى لايقصص علينا القصص للتسلي، وإنما يقص علينا القصص للعبره، موسى وجد الرجلين يقتتلان فأعان صاحبه، والمؤمنون إخوة في كل زمان ومكان، وهاهو موسى ينصر المظلوم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبت الله تبارك وتعالى قدميه على الصراط يوم القيامه يوم تزل فيه الأقدام، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام﴾ ، وهاهو موسى من قبل أن يوحى إليه، من قبل أن يصبح رسولًا، ينصر المظلوم، ولكنه تجاوز الحد بالقتل، هل كان يقصد أن يقتل؟ لم يكن يقصد القتل، ومع ذلك قضى ربنا تبارك وتعالى على هذا العدو، وأنهى حياته، وإن كان السبب دفعه موسى، وإن كان السبب ضربة موسى، وقبضة موسى، والله تبارك وتعالى هو رب الأسباب، ولولا أن الله قضى بإنهاء حياة هذا الرجل مامات، وما أثرت فيه الضربه، وهاهو موسى يستغفر، ويتوب، وينسب الفعل إلى الشيطان، الحض، الإغواء؛ لأنه أخذته الحميه، أخذته العصبيه، لم يصلح بينهما بالمعروف، بل هاهو يدفع الرجل في صدره فيقضى عليه، رغم أن موسى قتل هذا الرجل خطًأ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكره بهذه القصه فقال له‫:‬ ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٤٠] إذًا فقد ذكّره الله تبارك وتعالى بقصة القتل، وهنا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ معنى ذلك أمران الأمر الأول : أن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعًا حتى القتل، ومن يستغفر يجد الله غفورًا رحيمًا، هاهو موسى قد قتل، ومع ذلك إستغفر فغفر له، وذاك أمل لنا جميعًا، مهما عملت، ومهما فعلت، ومهما إرتكبت، حتى القتل، فالاستغفار يمحو الذنوب، ويكفر السيئات، الأمر الثاني : أن الإنسان حتى لو غُفر له لايطمئن أن يؤاخذ أو يعاقب، وهاهو ربنا تبارك وتعالى رغم أنه غفر لموسى إلا أنه ذكره بها في باب الإنعام، والتذكير بالنعمة، ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾ وبالتالي ورغم الأمل في مغفره الله إلا أن الإنسان لا يأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، ومهما شعر الإنسان أو أحس أن الله قد غفر له ذنوبه فلابد وأن يبقى على وجل، حتى أن موسى يوم القيامه، في يوم الشفاعه، حين يلجأ إليه الناس، يعدد على نفسه أخطاءه فيقول لقد قتلت نفسًا، أيضًا موسى حين قال‫:‬ ﴿ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ قالها موسى من باب ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ لأن الركون إلى الظلمة يعرّض الإنسان للنار، وهكذا قال لنا ربنا تبارك وتعالى‫:‬ ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ١١٣] مجرد الركون، مجرد الإعتماد، مجرد الإطمئنان، مجرد أن تركن إليه، أن تسند إليه، أو تستفيد بجاهه أو بماله، الركون إلى الظالم يعرّض للنار، فإن كنت تعين ظالماً فكيف يكون الحال؟ التعاون على البر والتقوى، هاهو موسى يقول‫:‬ ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ هنا لم يستثن موسى، لم يقل إن شاء الله لن أكون ظهيرًا للمجرمين، هل ضمن موسى نفسه؟ إن كان الكلام ليس دعاء وإنما هو خبر، فهل ضمن موسى نفسه؟ كيف يضمن العبد نفسه؟ لابد وأن يستثني، بمعنى أن يقول إن شاء الله، الإستثناء في كل الأمور المستقبله مطلوب، وقد قال ربنا تبارك وتعالى لسيد الخلائق صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(٢٣)إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا(٢٤)﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٢٣- ٢٤] وإذا أخطأت وتكلمت عن مستقبل ولم تستثن عليك أن تقولها حين تذكرك، ولوبعد الكلام بساعات أو أيام، وتستغفر، وهاهو موسى يقول‫:‬ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين ولم يستثن، فلم يمضي إلا يوم واحد وإذا بموسى يقع في نفس ما وقع فيه بالأمس، لم يمض يوم على الوعد ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ فوقع، وابتلي في اليوم التالي وهاهو يريد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، ولا يصلح بالمعروف، بل يستخدم القوة التي رأى بالأمس أنها قضت على الرجل من غير قصد، إذًا لقد ابتلى من اليوم التالي لأنه لم يقل إن شاء الله، وتلك عظه وعبره تبين لك أن الإنسان لايضمن نفسه أبدًا، ولايضمن مايأتي به الغد، وإن الإنسان إذا أراد أن يفعل شيئًا فعليه أن يستثنى ويقول إن شاء الله؛ لأنه لايقع في ملك الله إلا مايريد، وأنه هو الفعال لمايريد، إلا الدعاء منعها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‫:‬ ﴿لايقل أحدكم اللهم اغفر إن شئت فان الله ليس بمستكره فاذا سألتم الله فاعزموا المساله اي ادعو الله وانتم موقنون بالاجابه﴾ فهو من سوء الأدب أن يقول اللهم إن شئت إغنني، أو إن شئت إغفر لي، فإن عليك أن تعزم المسأله وتطلب بإلحاح وتثق في الله تبارك وتعالى وفي الإجابه، ولكن هاهو موسى يعد، ويعطي من نفسه العهد ألا يكون ظهيرًا للمجرمين دون أن يستعين بمشيئه الله تبارك وتعالى، فابتلى من اليوم التالي، والغريب أن الأمر كان مكتتمًا، والذي فضح موسى هو الإسرائيلي، لأنه لم يكن يعلم أحد بما حدث إلا موسى وهذا الرجل، فحين أراد موسى أن يبطش بالذي هو عدو لهما إعتقد الإسرائيلي أن موسى أراده لأنه وبخه وقال إنك لغوي مبين، فقال أتريد أن تقتلني ففضحه، الذي نصره بالأمس يفضحه اليوم، وسبحان من بيده قلوب العباد يقلبها حيث شاء، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حيث يقول‫:‬ (إحبب حبيك هونًا ما؛ فقد يصبح عدوك يومًا ما، وابغض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يصبح حبيبك يومًا ما) ، الإعتدال حتى في العواطف، حتى في الحب والبغض، طلبه النبي صلى الله عليه وسلم منا؛ لأنك لاتدري مايتحول به قلب العبد في الغد؛ فحبيب اليوم قد يكون هو عدو الغد، وعدو اليوم قد يكون هو حبيب الغد، ولذا من آيات المنافق أنه إذا خاصم فجر، لم يترك مجال للرجوع، أما المؤمن إذا خاصم كان معتدلًا في خصامه، حتى لايسد أبواب الصلح، والرجوع، والموده، والمحبه، هاهو موسى يبتلي من اليوم التالي، ويفضحه الذي استنصره بالأمس ونصره موسى، ومن هنا فشى الخبر إلى فرعون، حيث جرى المصري، وسعى إلى فرعون يخبره بأن القاتل لقتيل الأمس هو موسى، ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ الأسباب، الله تبارك وتعالى ينجي، وينجي بسبب، ويرزق بسبب، لذا نبهنا ووصينا "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهم ارزقني، اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولافضه"، فربنا تبارك وتعالى خلق الأسباب، وخلق المسببات، فترك الأسباب جهل، وترك التوكل فسق، فأنت تأخذ بالأسباب، وتتوكل على الله، لكن لابد من الأخذ بالأسباب، وهاهو موسى أراد له الله النجاه، فكيف جاءته النجاه؟ بسبب جاء رجل من أقصى المدينه يسعى يحذره‫:‬ "ياموسى أخرج إني لك من الناصحين، الملأ يأتمرون بك ليقتلوك"، إذًا فقد جعل الله تبارك وتعالى لنجاه موسى سببًا وهو ذلك الرجل المؤمن الذي جازاه الله تبارك وتعالى على هذه الفعله الطيبة، وأن جعله مؤمن آل فرعون، وجاء ذكره في القرآن وكلامه بعد ذلك، أيضًا ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ إذا ً لا ينجي إلا الله، لايسوق الخير إلا الله، ولايصرف السوء إلا الله، فها هو يلجأ إلى الله، ويتوكل، ولكنه خاف، أصبح في المدينة خائفًا يترقب في المره الأولى بعد القتل، وهاهو في المره الثانيه خرج منها خائفًا يترقب، فهل يخاف الأنبياء؟ نعم، والخوف غريزة بشريه، هل يقدح الخوف، وينقص من التوكل، أو من الإيمان ؟ هل إذا آمن الإنسان، ويتوكل على الله بمنتهى الكليه والصدق، هل يُنزع عنه الخوف؟ أبدًا لابد وأن يخاف، فالخوف غريزة بشرية، فإذا رأيت الرجل يخاف من الظالم، أو من السبع، أو من المرض، فلا تقل أن هذا الرجل غير متوكل، أو غير مؤمن، هاهو موسى، كليم الله تبارك وتعالى، الذي آتاه حكمًا وعلمًا وخاف، وهاهو أيضًا بعد أن حذره الرجل من آل فرعون خرج منها خائفًا يترقب، خرج منها، وتوكل، وقال رب نجني من القوم الظالمين، فهداه الله تبارك وتعالى إلى الطريق، وقيل أن ملكًا نزل إليه وهداه إلى الطريق إلى مدين، قريه الرجل الصالح شعيب، أكان حيًا؟ أهو الذي ذهب إليه موسى، وتزوج إبنته كما يقول الكثير من المفسرين، أم لا ؟ في ذلك حديث قادم ولكن توجه موسى تلقاء مدين، فخرج بغير زاد، بغير راحله، بغير ثياب، بغير طعام، بغير أنيس، بغير سلاح، حتى أنه حين وصل، سقط خُف قدمه، باطن القدم من المشي حافيًا سقط، وقيل أن الطعام الذي كان يأكله ورق الشجر كان باديًا للأعين، إخضرت بطنه، وبدا عليه الهزال، والله تبارك وتعالى يحوِّل ولايتحول، ويغير ولا يتغير، والدنيا عند الله لا تساوي جناح بعوضه، ولو كانت تساوي جناح بعوضه ماسقى منها كافر شربة ماء، موسى ينجيه الله من فرعون، كان في قصة إرضاعه وإلقائه في اليم غرابه تدعو للتأمل، هاهو يُلقي في يد فرعون الذي تهرب منه أمه، هاهو يُربي تربيه القصور، يطلق عليه موسى بن فرعون، يُرسم برسم فرعون، يخرج بالحرس يركب، كيف كان يركب ؟ يمشي، كيف كان يمشي؟ يأكل، كيف كان يأكل؟ كيف كان ينام ؟ في قصر الإله، نعمه، ونعيم، ملك، رفاهيه على أقصى مايكون الرفاهيه، يربي موسى بهذا الشكل، وبهذه الكيفيه، وفجأه يمشي عاديًا حافيًا، لا يظله شيء، ولا يشبه شيء، ولا يرويه شيء، ولايجلسه شيء، خائفًا يترقب، فجأه يتحول الحال، وتغير، وتبدل فجأه، لم ذاك ؟ هل غضب الله؟ موسى الذي قال الله له ولتصنع على عيني، واصطنعتك لنفسي، أتم نعمته عليه، رددناه إلى أمة كي تقر عينها ولاتحزن، الذي بشر به وبشر أمة وقال إنا رادَّوه إليك، وجاعلوه من المرسلين، هذا الرسول الكريم، لم تحوّل به الحال؟ وتغيّرت به الأيام؟ بعد الشبع جوع، بعد الري عطش، بعد الدفء برد، بعد الظل حرور، بعد الجاه وحده، وخوف، وترقب، فجأه سبحانك يارب‫.‬.. سبحانك! تغيّر ولاتتغير، تحوّل ولا تتحول، والإنسان لايدري ماتأتي به الأيام، ولا يعلم ما يكون إليه المآل، وها هنا يبين لك أن الإنسان على قدر من الضعف لايُتخيل، وأن الإنسان مهما ملك، ومهما أخذ، ومهما منحه الله، فربنا تبارك وتعالى يمنح ويمنع، يعطي ويأخذ، ويؤتى الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يعطيك الصحه، وهو أيضًا يعطي المرض، يعز ويذل، يحي ويميت، يغني ويفقر، كل ذلك بحكمة الحكيم العليم، أيها الأخ المسلم يتبين لنا من خلاصه هذا الكلام أن الإنسان لا يعرف أين الخير، ولا يعرف أين الشر، وإنما الإنسان يعرف الطاعه، ويعرف المعصيه، أنت تعرف الحلال، وتعرف الحرام، أما أن تعرف ما ينفع وما يضر، أبدًا‫.‬ وصدق ربي حيث يقول ﴿ ...وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢١٦]، فخروج موسى بهذا الشكل، الخوف، والترقب، والضعف، والجوع، والعطش، والحر، والبرد، والحفاء، أكان خيرًا له أم كان شرًا ؟ الله تبارك وتعالى هو الذي يسوق الخير، ولايدري الإنسان الخير في ماذا، هاهو فرعون يلتقط موسى، هاهي زوجته تقول قرة عين لي ولك، فرحوا به والتقطوه ليكون إبنًا لهم، فكان عدوًا وحزنًا، فقد تفرح بالشيء وفيه هلاكك، وقد تخاف من الشيء وفيه نجاتك، يعلم الله وأنتم لا تعلمون، خرج موسى خائفًا يترقب، خرج من مصر وتبدل الحال، وسبحان من يغيّر ولا يتغير، ويحوّل ولايتحول، بعد النعيم، وبعد الغنى، بعد الدفء، بعد العز، بعد الجاه، بعد السلطان، خرج الصفيّ، المحبوب، الكليم، خائفًا يترقب، خرج بغير نعل، خرج بغير كساء، خرج بغير غذاء، خرج بغير ركوب، خرج ماشيًا يمشي في الحر، ويبيت في الطل، يجوع يأكل ورق الشجر حتى إخضر جسده، يبيت بغير أنيس، يحدث نفسه وما من جليس، هل غضب الله عليه؟ وهل يغضب ربنا تبارك وتعالى على من رضى الله عليه من الأزل، واصطفاه، واصطنعه لنفسه، الدنيا لاتساوي عند الله جناح بعوضه، هل أراد الله تبارك وتعالى أن يربيه؟ هل أراد الله تبارك وتعالى أن يبين للناس أن الغنى، والفقر، والصحه، والمرض، والجاه، وعدم الجاه لا علاقه لها بمقام العبد عند ربه، خرج موسى على هذا الحال، ووصل ماء مدين، بئر يستقي منها الناس، أو هي آبار كانت تغطي بأحجار عظيمة لا يرفعها إلا سبعه من الرجال الأشداد أو عشرة، ويحكي ربنا تبارك وتعالى لنا حكايه موسى فيقول عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةًۭ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِى حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌۭ كَبِيرٌۭ ﴿23﴾
‫﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ﴾ ورد‫:‬ وصل، والورود إلى الشيء إما بمعنى الدخول في المورود وأما بمعنى الوصول، أو الإطلاع، ومنه قوله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [سورة مريم آية‫:‬ ٧١] ، وحين سُئل النبي عن ذلك وهل يدخل الناس النار بما فيهم المؤمنون والصالحون؟ قال إنما ذلك العرض، فالورود بمعنى الإطلاع، والوصول، وصل موسى إلى الماء، ورد ماء مدين، وكلمة "مدين" أأشكلت على الناس، وجعلت الكثير من المفسرين يظنون أن والد الفتاتين هو النبي شعيب، لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٨٤] وفات الكثير منهم أن مدين بلد، إسم لبلد، لذا فهو في اللغه غير مصروف، وأن الزمان مهما تغيّر ومرت الأعوام فأسماء البلاد لاتتغير، وهاهي مصر منذ الأزل تسمى مصر، وذكرت بإسمها في القرآن، وكان فيها صلاح، وتقوى، وكان فيها شرك، كان فيها فرعون، وكان فيها يوسف وهكذا، ونحن نقول بفضل الله تبارك وتعالى وبتوفيقه ونعتقد والله أعلم بمراده أنه لم يكن النبي شعيب لأسباب : أولا : الفتاتان تقولان أبانا شيخ كبير، وطالما كان شيخًا كبيرًا إذا فذاك بعد الرساله، وطالما كان بعد الرساله فالأمر أمران، واحتمالان، إما أن القوم قد أُهلكوا كما أنبأنا ربنا تبارك وتعالى أنه أهلك مدين، ونجى شعيبًا والذين آمنوا معه، وفي هذه الحاله لايبقى في مدين إلا مؤمن، وإن كان الموجودين في مدين هم المؤمنون بشعيب، أكان من الصحيح أو من المعقول أن يبقى في بيته لكبر سنه وهرمه وتخرج الفتاتان تسقيان وتذودان ولا يستطيعان السقي إلا بعد أن يصدر الرعاء؟ أي قوم هذا ؟ وأي تصديق هذا؟ ونبيهم بناته تخرج للسقي، ولا يفسحون لهن الطريق، وإن كان الأمر قبل البعثه ماكان القول ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ لأن الله تبارك وتعالى بعث الأنبياء على رأس أربعين عامًا من عمر كل منهم، ولم يرسل شيخًا كبيرًا، وإن كان الله تبارك وتعالى قد أهلك أهل مدين فما بقى أحد إلا شعيب فالكلام لايتفق مع رواية القرآن ومع ظاهر الكلام، لا يمكن أن يكون نبيًا وبناته تسقى وتذودان ولا يسقيان حتى يصدر الرعاء، أين الأمه؟ إن كانت مكذبه، لايتفق ذلك مع السن، وإن كانت مصدقه لا يتفق ذاك مع التصرف، ولذا قال القليل من المفسرين أن الأب إبن أخ شعيب، ونحن نعتقد أن هذا الأب هو من صالحي أهل مدين، ولاعلاقه له بالنبي شعيب، والزمان مختلف، والله تبارك وتعالى أعلم، ﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾ الأمة :الجماعه، وجاء لفظ الأمه في القرآن بمعاني كثيرة منها‫:‬ جماعه من الناس، كما جاء هنا ﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾ وتأتي بمعنى الطائفه من الزمان، كما قال ربنا تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾[سورة يوسف آية‫:‬ ٤٥] أي تذكّر بعد فتره من الزمان، والأمه تأتي بمعنى الشرع، ومعنى المله، ومعنى الدين، من قول الله تبارك وتعالى حكايه عن الكفار حيث قال‫:‬ ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٢٢] ﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ ﴾ جماعه من الناس، ﴿ يَسْقُونَ ﴾: يسقون أغنامهم، ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ﴾ إذن فكانت الفتاتين أقرب إلى موسى من الناس، فهن بعيدات عن البئر، بعيدات عن الماء بفصل الناس بينهم وبين الماء، ﴿تَذُودَانِ ﴾ الزود : الكف، والمنع، والحبس، والطرد، تذودان : تمنعان الغنم من الإختلاط بأغنام الناس، أو تمنعان الغنم عن الورود إلى الماء حتى لايؤذوهم الرعاء، تذودان : تكف الغنم عن البعد والتشتت للهجوم على الماء، ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ ما شأنكما؟ وما المصاب؟ والخطب دائمًا يطلق على الأمر العظيم الجلل، الذي يخطب فيه ويتخاطب فيه الناس، ويكثر فيه التخاطب، فحين رأى موسى ذلك الحال قال ما خطبكما؟ إذا ً فقد كانت الفتاتان في كرب، وفي شده مما يمنع كونهما بنات النبي شعيب، ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء ﴾ يَصْدُر : ينصرف، يُصْدِر : يصرف، يُصدِر الرعاء : أي يصدرون أغنامهم، يرجعون أغنامهم ومواشيهم، والصدور ضد الورود، الورود : الوصول، والصدور :الإنصراف، يُصدر الرَّعاء، والرُّعاء :جمع راعي، والرعي : العنايه والرعايه، وسمي الراعي راعي لأنه يعتني بالغنم ويهتم بها، ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ تعليل لخروج البنات للعمل لأن الأب شيخ كبير لا يقوى على السقي، وعلى الخروج‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍۢ فَقِيرٌۭ ﴿24﴾
‫﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ سقى موسى غنم الفتاتين، إما زاحم الناس بقوته ووصل بأغنام الفتاتين إلى الماء، وإما رفع حجرًا عظيمًا على بئر غير مورود وسقى منه، أقوال، وبعد السقي تولى إلى الظل، إنصرف إلى ظل شجرة، وجلس، ودعى ربه، ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ ماذا كان يطلب موسى؟ وأي أسلوب هذا في الدعاء؟ ﴿ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ وكأن الخير قد نزل فأنا فقير إليه، محتاج، والخير في القرآن يأتي بمعانٍ أربع‫:‬ الخير بمعنى الطعام كما هنا؛ لأن موسى كان جائعًا فهو يطلب الطعام، والخير يأتي بمعنى المال من قوله تعالى‫:‬ ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ... ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٨٠] أي ترك مالًا، والخير يأتي بمعنى القوة من قول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ... ﴾ [سورة الدخان آية‫:‬ ٣٧] أي أقوى، وأشد، والخير يأتي بمعنى العمل الصالح من قوله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ٧٣] ، ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ يحتاج الدعاء، فيه الوثوق، وفيه التحقيق، وكأن الخير نازل لامحال‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَجَآءَتْهُ إِحْدَىٰهُمَا تَمْشِى عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍۢ قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿25﴾
الإستجابه للدعاء الفوريه، ﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء﴾ إستحيى، والإستحياء، والحياء :الحشمة، إنقباض النفس عن كل قبيح، الإنزواء عما يفضح وعما يكشف العورات، الحياء في الرجال وفي النساء، وإذا ضاع الحياء ضاع الخير من الأمه، والحياء شطر الإيمان، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته : "إستحيوا من الله حق الحياء"، والحياء من قديم الزمان سمة النساء الفضليات، ﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ الكلام من المرأه لموسى، والقرآن حافل بهذا، والذين حرّموا صوت المرأه وقالوا أن صوت المرأه عورة أخطأوا خطأً شنيعًا، والقرآن حافل بالحديث بين الرجال والنساء دون إنكار، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حافله، حتى نساء النبي يخاطبهن الرجال من وراء حجاب فيسمعوا الصوت، لوكان الصوت عورة لكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالصمت، ﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ وفي الآية إختصار للقصه، إذًا فقد عادت الفتاتان لأبيهما، وقصتا عليه القصص، قصة موسى وماحدث منه، ذاك الرجل الغريب، القوي، الأمين، فطلب الرجل أن يدعواه لأنه غريب، جائع، وهكذا، ﴿ فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ قَبلَ موسى الدعوه، وهل يصح لنبي من الأنبياء أن يأخذ أجرًا على معروف؟ هذا هو يُدعى ليُجزي أجر السقاء، أيقبل موسى ذلك؟! ليس هذا من شيم الأنبياء، إذا ً فقد قبل موسى الدعوه للإيواء والإنضمام إلى الصالحين، قص عليه القصص، وحكى له القصه من أولها، كيف تربى في قصر فرعون، كيف وكز هذا العدو فقضى عليه، كيف خرج خائفًا يترقب، قص عليه القصص، فقال الصالح، والد الفتاتين‫:‬ ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ إذًا فهو من الصالحين؛ لأنه حكم على آل فرعون بالظلم بعد ما سمع عنهم، ﴿لَا تَخَفْ﴾ أمّنه لأن مَدْيَن لم تكن تحت سلطان فرعون، ومدين قِبَل اليمن‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَتْ إِحْدَىٰهُمَا يَـٰٓأَبَتِ ٱسْتَـْٔجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَـْٔجَرْتَ ٱلْقَوِىُّ ٱلْأَمِينُ ﴿26﴾
احدى الفتاتين، ويفهم من سياق القصه أنها هي التي ذهبت، ودعته إلى أبيها، وأنها هي التي تولت الكلام عنه، والحكايه، والتشجيع لدعوته، أستأجره‫:‬ اتخذه أجيرًا، ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾، ﴿إ خَيْر﴾ هنا إسم، ولاتأتي إسمًا إلا إذا كان للمبالغه والفعل فعل ماض، ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ﴾ ولم تقل "من تستأجر"، فعل ماض، إذًا وكأن الفتاه توحي إلى أبيها أن هذا الرجل بالغ القوة، عظيم الأمانه، مجرب في القوة، مختبر في الأمانه، من أين لها أن تعرف؟ عرفت القوة لأنه إما زاحم الناس فسقى لها، وخاف منه الناس، رغم أنه غريب، وكان من الممكن أن يذودوه، ويبعدوه، ويطردوه، فلم استسلموا له، وتركوه يسقى؟ قوي تبدو عليه القوة، ومظاهر الشهامه والشجاعه، وإما من رفع الحجر القوي الذي لايستطيع رفعه إلا العشرة من الرجال، ذاك علامة القوة، وأما علامة الأمانة أنها حين دعته لأبيها وأرادت أن تدله على الطريق طلب منها موسى أن تمشي وراءه، وتدله على الطريق بالكلام‫:‬ إتجه يمنة، ويسرة، أمامك، وهكذا، حتى لا تمشي أمامه فيطلّع عليها، أو يحرك الهواء ثيابها فتنكشف بعض عورتها، أو تلتصق الثياب بجسدها فتجسده، ولم يطلب أن تمشي إلى جواره حتى لا تحتك به، أو يحتك بها، وذاك علامة الأمانه، هنا فهم الأب الإشارة فقال‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ إِنِّىٓ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَـٰتَيْنِ عَلَىٰٓ أَن تَأْجُرَنِى ثَمَـٰنِىَ حِجَجٍۢ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًۭا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ ﴿27﴾ قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا ٱلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَٰنَ عَلَىَّ ۖ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌۭ ﴿28﴾
‫﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ﴾ أزوجك، ﴿إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ إذًا فالأمر ليس عقدًا، وإنما الأمر عرضًا، يعرض ولايعقد، لأن بعض الناس اختلفوا في هذه، واعتقدوا أنه عقد، والعقد لايصح إلا إذا كانت الزوجه معينة، ﴿عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ﴾ اشترط الصداق أن يصبح له أجيرًا ثماني حجج، حجج‫:‬ جمع حجه، والحجه‫:‬ العام، السنة، ثماني سنين، ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ﴾ إذا ً فقد طلب الرجل أجلين، وطلب صداقين، أدنى وأقصى، الحد الأدنى ثماني سنين، والحد الأقصى عشر سنين، الإتفاق على الثماني وذاك فرض واجب، وما زاد عن الثماني فهو تطوع من موسى، وكل عقد فيه أصول من أصل العقد مفروضه واجبه، أما التطوع يلحق بالعقد، وتكون له نفس الشروط ماعدا الفرضيه، ولذا يقول‫:‬ ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ﴾ تطوعًا منك، ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أشق عليك :أكلفك مالا تطيق، أشق عليك في المده بالزياده، أشق عليك في العمل بأن أكلفك مالا تطيق، فالمعامله فيها اللين، فيها المعروف، فيها الموده، ليس فيها قسوة، ولا جبر، ولاسوء خلق، ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ يعد بأن يكون من الصالحين، حسن العشره، حسن المعامله، لايظلم موسى حقه، يرعى الله تبارك وتعالى في المعامله، وفي الأجر، وفي الوفاء بالعقد والعهد، وقدم المشيئه لأن الصالح يعلم تمامًا أنه لا يضمن نفسه، فقال ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ قدم المشيئه، ﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ﴾ أي هذا العقد والإتفاق بيني وبينك، نحن متفقان عليه، ﴿ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ ﴿أيّما الأجلين قَضَيْتُ﴾، ﴿أيما الأجلين قَضَيْتُ﴾، ﴿أيْ الأجلين ما قَضَيْتُ﴾ ثلاث قراءات، ﴿ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ إذا إشترط موسى أن تكون السنين الثمانيه هي الأساس فإذا قضاها فقد وفى ما عليه، ولا يطالب بالزياده، فإن زاد على ذلك فذاك مرجعه إلى موسى، ﴿ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ لاتعدي لحقي، ولاتجاوز لحقك، ﴿وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ وأشهد الله تبارك وتعالى على هذا العقد، فلم يكن هناك شهود، وفي حاله عدم وجود الشهود أثناء التعاقد فالله تبارك وتعالى خير شهيد، وخير وكيل، ويصح أن يشهد العاقدان الله تبارك وتعالى على عقدهما في حالة إنعدام الشهود، أيها الأخ المسلم تلك كانت قصة موسى حين ورد ماء مدين بإختصار وإيجاز، وفي القصه معاني، وفيها أحكام، وفي القصة كنوز لكل من يتأمل في هذه الآيات، وتحت كل حرف من حروف القرآن كنوز لاعد لها ولاحصر، وتكلم المفسرون من قديم الزمان، وإلى أن تقوم الساعه سوف يتكلم الكثير في المعاني، في الإعراب، وفي النحو و الصرف، وفي أسباب التنزيل وأسراره، ومع ذلك يأتي القرآن يوم القيامه بكرًا لم يفض، فيؤوله الله تبارك وتعالى للخلائق، أيها الأخ المسلم الدعاء مخ العباده، والدعاء له آداب، وفي دعاء موسى يتبين لك أنه كان واثقًا من الإجابه، وكان في طلبه وسؤاله ملمحًا غير مصّرحًا، وكان في دعائه أدب راق، لايعرفه إلا العالم، ففي الآيات تأملات، وأحكام، ومعاني نسوق طرفًا منها على سبيل المثال لكل متدبر ومتأمل، أرأيت موسى حين وصل إلى ماء مدين، أكان مستريحًا ؟ أكان في حالة تسمح له ببذل الجهد؟ كم مشى من الأيام، كم وكم؟ حتى يقال أنه حين وصل إلى ماء مدين سقطت بواطن أقدامه، اللحم تهرأ من المشي على الرمل والحصى، في غايه التعب، في غاية الإرهاق، ومع ذلك لم يتوان عن بذل المعروف، فحين وجد الفتاتين يزودان، قال ما خطبكما؟ ورأى الضعف فيهما، سقى لهما رغم ماكان فيه من ضعف، وإرهاق، وتعب، لم يتوان على بذل المعروف، وللمعروف أهل، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخره، فقد خلق الله تبارك وتعالى المعروف، وخلق له أهله، وساق إليهم طلابه، وحبب إليهم فعاله، فهم كالماء للأرض الجرز، تحيا به، ويحيا به أهلها، أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخره، وهل في الأخره معروف؟ نعم، الشفاعة، فالرجل الصالح في الدنيا يشفع يوم القيامه لأهله، وجيرانه، وأصحابه، فهم أهل المعروف في الآخره، كما كانوا أهلًا للمعروف في الدنيا، هاهو موسى لا يتوانى عن بذل المعروف، الأمر الثاني‫:‬ ﴿تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ حين أراد موسى أن يتجه إلى الله كان من الممكن أن يتجه إلى الله حيث وقف، حيث هو موجود عند الماء، ولكنه تولى إلى الظل، والكلام يفيد أن الظل كان بعيدًا عن الماء، ولوكان الظل قريبًا لجلس ودعى، إذًا ً فبعد السقي مشى مسافه حتى يصل إلى الظل، وهناك جلس، ودعى في الظل بعيدًا عن حر الشمس، مستريحًا بالجلوس، يدعو ربه باطمئنان وهدوء، إذًا القسوة على النفس غير مطلوبه، والعبد إذا أراد أن يدعو، أو أن يصلي، أو أن يسجد، أو أن يقرأ القرآن فعليه أن يهيء لنفسه المكان المريح، والجلسه، أو الجلسه المريحه حتى لا يُشغل في دعائه، وفي إتجاهه، وفي صلاته، ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن لا يصلي وهو جائع، أو وهو عطشان، وإذا حضرتك العِشاء والعَشاء فأمرنا بأن نبدأ بالعَشاء، تأكل ثم تصلي، حتى في الصيام، وفي رمضان، أمرنا بالفطر أولًا ثم صلاة المغرب؛ حتى تصلي وأنت متفرغ، لا تصلي وأنت جوعان، تفكر في الطعام، أيضًا نهى عن الصلاة والإنسان محتقن يشعر بالرغبه في قضاء الحاجه، إذًا فهو يصلي سريعًا، ويتماسك حتى لا ينفلت منه شيء، نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهنا يقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ﴾ ، هؤلاء الناس الذين يقسون على أنفسهم في المطعم، أو الملبس، أو المسكين، لم القسوة؟ لم القسوة على النفس؟ وربنا تبارك وتعالى يقول ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [سورة الحج آية‫:‬ ٧٨] ويقول‫:‬ ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٣٢] استمتع بالحلال، وادع الله تبارك وتعالى وأنت في خير حال، شعبان، مروي، مستظل، في دفء إذا كان الجو برد، أو في نسيم إن كان الجو حر، ﴿ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ﴾ لم يقول ذلك ؟ هل لها علاقه بالقصه؟ هل لها علاقه بعظه أو بعبره أو بشيء في موضوع موسى وأهل مدين والرساله ؟ هل لها علاقه بالحلال والحرام أو بالأمر والنهي ؟ لا علاقه لها بكل ذلك، وإنما بيان من الله لك أن الدعاء وأنت متفرغ، مقبل على الله، حقيق بأن يجاب، فكرك غير مشغول، الدعاء ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ إذا ً فكأن الخير قد نزل، لم يقل موسى اللهم أنزل إلى خيرًا، اللهم سق إلي طعامًا، اللهم ارزقني من عندك، لم يطلب ذلك، بل طلب وهو يصيغ الكلام على أن الطلب قد تحقق أصلًا، ﴿إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ﴾ هل كان الله أنزل أم لم ينزل بعد ؟ هل جاءته إحداهما تدعوه، أم لم تأت بعد ؟ لم تأت بعد، ومع ذلك دعى موسى على أساس أن الخير قد نزل، وأن الله قد أجاب، وثوق بالله ثقه مطلقه، وكأن الطلب قد تحقق، أدب في الدعاء وتواضع، أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ أكان موسى مستطيعًا لطلب الطعام من الفتاتين ؟ نعم، ولكن السؤال والإستجداء لا يجوز على الأنبياء، ولا العلماء؛ لأن العالم إذا آتاه الله القرآن حرمت عليه المسأله؛ لأن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصادق‫:‬ (لا ينبغي لحامل القرآن أن يسأل)، وها هو يوصي ابن عباس‫:‬ (اذا سألت فاسال الله واذا استعنت فاستعن بالله) فكان ممكن أن يسأل الفتاتين، ولكنه لم يسأل، سأل الله الغني، القادر، القوي، الذي يصرّف الأمور، فجميع الحادثات بإرادته، وكل الأمور محسوبة، فأجابه الله فورًا، بنهايه الدعاء جاءت المرأه؛ لأن الله يقول بعد أن قال موسى‫:‬ ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ ﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا ﴾ الفاء للترتيب الفوري، لم يقل "ثم" للتراخي، فالفاء للترتيب والتعقيب الفوري، إذا ً فبمجرد إنتهاء الدعاء حدثت الإجابه من رب السماء، ﴿ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء ﴾ ألا تتأمل نساء الأمه كيف مشت هذه الفتاة على إستحياء؟ ألا تتأمل؟ وتنظر وتمشي في الشوارع وترى الفتيات فقدن الحياء، أجمل ما يمكن أن تتزين به المرأه والفتاه الحياء، أجمل ما في النساء الحياء، ها هي تمشي على إستحياء من قديم الزمان، أين الحياء ؟ إذا ضاع الحياء ضاع الدين، ومن علامات الساعه أن يرفع الحياء من الأرض، ﴿ قَالَتْ﴾ وهنا قلنا أن الكلام بين الرجال والنساء مباح بشرط ألا يكون فيه تميع، وتكسر، وحض على الرذيله، كلام جاد فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، ﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ إذًا وهي تعرض الدعوه تعرضها بأدب، وبغير جرح؛ لأن الدعوه إذا كانت من غير سبب فيها خدش لحياءها، ﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ﴾ الداعي هو الأب ولست أنا، والأب يدعوك لجزائك أجر ما سقيت لنا، فالدعوة مغلفه بالأدب واللباقه، وذهب موسى، وحين قدم إليه والد الفتاتين الطعام أبى موسى أن يأكل، وقال :لا نحن من قوم، وأنا سليل آباء لا يأخذون أجرًا على المعروف، فأبى أن يأكل رغم ماكان فيه من جوع، ومخصمه حتى إلتصقت بطنه بظهره، فقال له الرجل الصالح إنما هذا هو قرى الضيف، وأنا من أناس وقوم وسليل آباء يقْرون الضيف، وأنت ضيفي، فهذا قرى ضيف، وليس أجر معروف، فأكل موسى، ﴿ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ﴾ إذا ً فالإنسان مهما بلغ من الإيمان، وقوة اليقين، والإعتماد على الله، محتاج الصديق، محتاج للأخ، والصديق ذكر في القرآن مع القريب في الأكل، واعتبر بيت الصديق كبيت الأب والأم ﴿...وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ...﴾ [سورة النور آية‫:‬ ٦١] بيت الصديق كبيت الأب، وكبيت الإبن، وكبيت الأخ، الإنسان محتاج إلى صديق، إذا نسيت ذكرك، وإذا ذكرت أعانك، الصديق كي تستشيرة في أمورك، والمستشار مؤتمن، وخير صديق من صادقك على معرفه الله وفي الله، وإثنان تحابا في الله إجتمعا عليه، وتفرقا عليه، يظلهما الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، بل يبحث المحرمون يوم القيامه عن الصديق، فيقولون‫:‬ ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (١٠٠) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [سورة الشعراء آية‫:‬ ١٠٠, ١٠١] إذا ً فالصديق ينفع يوم القيامه، بدليل أنهم يبحثون عنه، ولو كان الصديق لا ينفع ماطلبوه، ها هو موسى يقص القصص، تستريح بالشكايه أو بالحكايه، وها هو يؤمنه ويطمئنه ﴿قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، وهنا ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ﴾ أكانت تريد فعلا من أبيها أن يستأجره،أم أحبته، أم أرادت أن تتزوجه؟ هل أعجبت به، وبأمانته، وبقوته؟ في الآيه دليل أن الفتاه لها أن تطلب الزواج من أبيها تلميحًا وليس تصريحًا، وإن فعلت الفتاه ذلك فلا يعيبها هذا، ولا ينقص من قدرها، وها هي تطلب الزواج تلميحًا، وليس تصريحًا، من أين عرفنا هذا؟ ومن أين جئنا به ؟ من قول الأب بعد أن قالت له إستأجره، لم يقل إني استأجرت، أو أريد أن تأجرني، بل قال‫:‬ ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ فالإجابه تدل على معنى السؤال، ياأبت إستأجره، إذا ً فقد أحبته، وهل الحب مباح ؟ نعم الحب مباح، الحب لله، ولرسوله، ولأهل الله، ولأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللصالحين، والحب أيضًا بين الرجل والمرأه إذا أظلته سحابه الشرع، وتوفيق الله تبارك وتعالى، أحبتة في الحلال، ولم تحبه في الحرام، الحب نقي طاهر لا يدنس بالحرام والمعاصي، وإذا دُنس الحب بالمعاصي فليس حبًا أصلًا، وهي عظه للبنات أن الحب الصادق يؤدي إلى الزواج، وفورًا، ودون إنتظار، والدخول من الأبواب هو الطريق الصحيح، ثم علّلت الطلب، طلب الإعجاب بمن ؟ القوي الأمين، إذًا يجب على الفتاه حين تختار، تختار من ؟ تختار القوي الذي يستطيع أن يكسب عيشه فيطعمها، ويطعم، يحميها، ويدافع عن عرضه، يكون حاميًا لها، مكتسبًا لرزقه ورزقها، وإن كانت القوة في بعض المهن مطلوبه كالفلاحه، فقد يعوضها المال في التجاره وهكذا، إذا ً فهي تطلب، وتختار القوي الأمين؛ الأمين لأنه إذا تزوجها لن ينظر لغيرها أبدًا لأنه لم ينظر إليه قبل الزواج وعفّ، فكيف ينظر بعد الزواج وقد أعفه الله بفرج حلال، فالذي يعصي قبل الزواج ليس أمينًا، وقد يشك في أمانته بعد الزواج، أما العاصم لنفسه قبل الزواج فذاك حقيق بأن يعصم نفسه بعد الزواج، لذا قالت‫:‬ ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ وكأنها تخبرنا وتخبر نساء الدنيا كيف يقع إختيار المرأه على الرجل، أي رجل تختار للزواج؟ الصالح، التقي، الأمين، ليس مانراه الآن من شبان أشباه رجال وليسوا برجال، تزينوا بالأساور والسلاسل كزينه النساء، وذهبوا إلى مصففي الشعور فصففوها كما تصفف النساء، ولبسوا الثياب ضيقه تجسد أجسادهم، رجال بل أشباه رجال، ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ وتلقى الأب الإشاره وفهم مراد البنت، هل عنفها؟ إستجاب لها، وتلك عظه لكل أب، إياك وأن تزوج إبنتك بغير رضاها، إياك أن تفرض عليها رجلًا لا ترتضيه، هاهو يعرض!! هل يصح للأب أن يعرض إبنته على الزواج؟ هل يصح أن يعرض الأب إبنته على رجل؟ ويقول انكحك إحدى إبنتي، وفي الصياغه أدب في الزواج، وفي العرض، يقول للرجل أنكحك ابنتي ولا يقول أنكحكي هذا الرجل، أسلوب يجب أن تتعلمه، ها هو يعرض إبنته على الزواج، وشرع من قبلنا شرع لنا، هل هذا صحيح ؟ لو كان غير صحيح لأنكر القرآن عليه، ولأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولكن للأب الصالح أن يعرض إبنته على الرجل الصالح، ولابأس، وليس فيها عار، وليس فيها عيب، وقد حدث ذلك من الإمام الأواب، الناطق بالصواب، الموافق حكمه لحكم الكتاب، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب﴾، ذهب إلى أبي بكر بعد أن تأيّمت حفصه إبنته، مات زوجها، أرمل، وقال يا ابا بكر أريد أن أزوجك بحفصه فسكت أبوبكر ولم يرد عليه، فغضب عمر ثم ذهب إلى عثمان فقال يا عثمان أريد أن أزوجك إبنتي حفصه فسكت عثمان، أو قال لا حاجه لي بالزواج، فغضب عمر، إذا ً فقد عرض إبنته على الصالحين، ولو كان هذا خطأ مافعله عمر، ولو فعله عن غير معرفه لنبهه النبي صلى الله عليه وسلم، ذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو الصديق أبا بكر، ويشكو عثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ يا عمر يتزوج حفصه من هو خير منهما، ويتزوج عثمان من هي خير منها، وتعجب عمر، وخطب النبي حفصه لنفسه، فذهب إلى أبي بكر و إلى عثمان يزف إليها البشرى، وقال يا أبا بكر رفضت الزواج من حفصه ها هو تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبوبكر‫:‬ ياعمر قد كنت أعلم، فقال عمر و حين كنت تعلم لم لم تخبرني وتركتني أجد عليك في نفسي، فقال أبو بكر‫:‬ ما كنت لأذيع سر رسول الله، وتزوج عثمان ببنت رسول الله فكانت خيرًا من حفصه، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم من حفصه فكان خيرًا من أبي بكر ومن عثمان، إذًا فقد يعرض الأب إبنته، ولابأس في ذلك، ﴿عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ إشتراط، إيجاب، وقبول، واشتراط للمهر، والمهر والصداق واجب من قديم الأزل، حتى أن بعض العلماء قالوا : يحرم الدخول من قبل أن يعطيها الصداق ولو جزءًا من الصداق، ولو ربع دينار، لايصح الدخول إلا بعد أن تقبض صداقها كله أو جزء منه، ﴿عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ﴾ وها هو موسى يأجُر نفسه على شبع بطنه، وعفه فرجه، الصفي المصطفى يعمل أجيرًا يرعى الغنم، ومامن نبي إلا ورعى الغنم، بعد العز والسلطان، بعد الخدم والحشم، ها هو يخدم، ها هو يأجُر نفسه ويعمل أجيرًا، ومع ذلك حين قبل موسى ذلك، نلاحظ في عرض الأب أمر في غاية الغرابه، الأب يقول‫:‬ ﴿ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ إذًا فهو يعرض الفتاتين، وهو ينوي أن يزوجه بالتي طلبت، وقالت : استأجره، فلم لم يصرح بالفتاه؟ ترك الخيار لموسى أولًا؛ لأنه لابد للزوج أن يكون لديه القبول، ويتزوج بمن يرتضيها لنفسه، إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك، فلم يجبر موسى بل خيّرة بين الصغرى والكبرى، أيضًا لو أنهعرض فتاه بعينها، التي طلبت على موسى ورفض، أي إحراج لهذه الفتاه؟ أي إساءه لها ؟ فلباقه الأب جعلته يعرض إحدى البنتين، ولموسى الحق في الإختيار، فمن التي إختارها موسى؟ إختار من طلبته، إختار التي جاءته، ومشت على إستحياء، ورأى منها القبول، وهذا ديدن العقلاء أن يتزوج الشاب بمن تريده لا بمن يريدها، أمور كثيره وكنوز، عرض إحدى الفتاتين، وقبل موسى وها هو يقول‫:‬ ﴿ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ﴾ إذًا فقد خيّرة، وطلب الزياده تطوعًا من موسى، أكان ذلك طمعًا من الأب؟ أبدًا، وإنما رغبه في بقاء موسى عنده أكبر قدر ممكن من الزمان، ففراق البنت لأبيها صعب على النفس، فربما أراد ذلك، ولذا قال بعض العلماء أن موسى وفّى أقصى الأجلين عشر سنوات، وأنه مكث مع والد الفتاتين في مدين عشر سنوات أخرى قبل أن يمضي، ها هو موسى يقبل،ثم ها هو موسى يوكل الله تبارك وتعالى ﴿ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ ومن توكل على الله فهو حسبه، وها هو الرجل الصالح لا يزكي نفسه، وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [سورة النجم آية‫:‬ ٣٢] وها هو الرجل الصالح يقول‫:‬ ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ وانتبه ليس لتقديم المشيئة فقط، والتواضع لله فقط، وعدم تزكيه النفس فقط، بل ترك الحكم لموسى، فقال ستجدني، إذا ًمن الذي يحكم عليك ؟ الناس وليس أنت، ولم يقل سوف أكون إن شاء الله من الصالحين؛ لأنه في ذلك حكم على نفسه، وإنما يحكم عليك في تعاملك الناس، يقولون إنك قوي، إنك صالح، إنك أمين، ولذا قال‫:‬ ستجدني، وهي نفس المقاله التي قالها موسى بعد ذلك للخضر حيث قال له‫:‬ ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. أيها الأخ المسلم تدبر القرآن، تدبر آياته؛ لأن التدبر والتأمل يجعلك قريبًا من الله ويرزقك الفهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫قضى موسى الأجل، ويقول أبو ذر الغفاري أن النبي أخبر وإذا سئلت اي الاجلين قضى موسى فقل خيرهما واطولهما، قضى موسى الأجل ثمان سنين، المتفق عليها، وزاد فقضى عشر سنوات، وتحرك للمسير بأهله ويقول الله تبارك وتعالى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِۦٓ ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَارًۭا قَالَ لِأَهْلِهِ ٱمْكُثُوٓا۟ إِنِّىٓ ءَانَسْتُ نَارًۭا لَّعَلِّىٓ ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴿29﴾
‫﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾ قضى : أنهى وأتم، سار بأهله : أي امرأته، والآية تدل على أن للرجل أن يسافر بأهله حيث شاء، وعلى المرأه الطاعه لزوجها في تحركه وسفره إلا أن تشترط عند الزواج غير ذلك، وأحق الشروط أن يوفي به ما استحللتم به الفروج، ﴿آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ الإيناس:إبصار ما يؤنس، آنس : أبصر بصرا ً لاشبهه فيه، وقد يأتي الإيناس بمعنى العلم، فقد قال الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٦] علم أكيد، الطور : الجبل المعروف بسيناء، آنس من جانب الطور نارًا كانت في عينيه نارًا وهي في حقيقة أمرها نورًا، ﴿ قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ﴾ أقيموا لفتره، لم يقل أقيموا لأن الإقامه تعني الدوام فقال امكثوا لفتره يسيره، ﴿ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ تمنى موسى أن يأتي من قبل النار إما بخبر عن الطريق، ويبدو أنه ضل طريقه، وإما أن يأتي بقطعه من النار يستدفء بها، ﴿أَوْ جَذْوَةٍ﴾ وهناك ثلاث قراءات‫:‬ جَذوه، جُذوه، جِذوه، وجمعها جِذًا،ً جُذًا،ً جَذًا قطعه الخشب في رأسها نارًا، أو لم تكن في رأسها نار يطلق عليها جذوة، قطعه صغيره من الخشب الرفيع تأخذ في طرفها نار تمشي بها لتضرم النار في مكان آخر، ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ اصطلى يصطلي‫:‬ إستدفأ، والصلاء‫:‬ النار العظيمة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِىَ مِن شَـٰطِئِ ٱلْوَادِ ٱلْأَيْمَنِ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَـٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يَـٰمُوسَىٰٓ إِنِّىٓ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿30﴾
وصل موسى إلى النار التي حسبها نار، رأى عجبًا، شجرة خضراء شديده الخضره لم ير مثيلها في الحسن، ووجد النار فيها بيضاء شديده البياض تضيء كضوء الشمس، لاقوة النار تؤثر على خضرة الشجره، ولاماء الشجرة وخضرتها يؤثر على قوة النار، وحين اقترب منها تباعدت عنه، فخاف موسى ورجع القهقري فأقبلت إليه فعلم أن فيها عجبًا، ﴿ نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ الشاطئ : الجانب ويجمع على شطان وشواطيء، الوادي الأيمن من موسى، نودي من جهه اليمين من الشاطيء في البقعه المباركه، وقد بوركت البقعه وقرأت بُقعه وجمعها بُقع، و بَقعه وجمعها بقاع، بوركت لحدوث الكلام فيها، ولنزول الملائكة، ولأمر الله تبارك وتعالى موسى بالرساله، ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ بدل من قوله‫:‬ ﴿ مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ ﴾ بدل إشتمال لأن الشجره كانت على شاطيء الواد الأيمن، فهو نودي من الشجره ﴿ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ عرّفه ربنا تبارك وتعالى بنفسه، ونفى الألوهيه عن غيره، ﴿ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ إذا ً فلا رب سواه، وهذا النداء الذي سمعه موسى يصعب على المرء فهم هذا النداء، أو كيفيه هذا النداء؛ لأن الله تبارك وتعالى لا مثيل لذاته، ولا مثيل لصفاته، وقد نادى ربنا تبارك وتعالى موسى من فوق عرشه فسمع موسى الكلام من قبل الشجرة، ولا يجوز على الله تبارك وتعالى الإنتقال أو الزوال؛ وقد خلق الله تبارك وتعالى في موسى علمًا ضروريًا، علم به موسى أن المتكلم هو الله، وإلا لحدث له الشك، فمن أين علم أن المتكلم هو الله ؟؟ هناك علم ضروري خُلق في موسى، فميز به وأدرك، سمع موسى وأدرك الكلام القديم المتقدس عن مشابهه الحروف، والكلمات، ومشاكله النغمات، وضروب اللغات؛ فالله ليس كمثله شيء، وسمع موسى بالكيفيه التي شاءها الله دون تحديد، دون تشبيه، دون تمثيل، لم يسمع بأذنيه بل سمع بكله، وبكل جوارحه، أدرك أن المتكلم هو الله، وقد سبقت القصه تفصيلًا في سورة طه، أيضًا في سورة النمل بأن الله تبارك وتعالى سأل موسى‫:‬ ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ وربنا يعلم مافي يمينه، ولكنه أراد أن يؤنسه، وهذا الموقف لا يحتمله إلا موسى، واحتمل موسى هذا الموقف لأن الله تبارك وتعالى خلق فيه قوة الإحتمال، وسخره، ويسر له ذلك بخلقه لأنه إصطنعه لنفسه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّۭ وَلَّىٰ مُدْبِرًۭا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَـٰمُوسَىٰٓ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ ٱلْـَٔامِنِينَ ﴿31﴾
أمر موسى بإلقاء العصا، وقيل فيها كلام كثير، أن موسى حين سئل عنها قال هي عصاي فنسب العصا لنفسه، ولله ملك السموات والأرض فأمر أن يلقيها بعيدًا، كل نبي لابد له من آية في نفسه، يعلم بها أنه نبي، وكانت الآية هي العصا واليد، فأمر بالقاء العصا فألقاها موسى دون أن يتوقع ماسوف يحدث، ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا ﴾ ذُكرت العصا أنها حيَّة تسعى، وذُكرت كأنها جان، وذكرت أنها ثعبان عظيم، تشكلت العصا، الثعبان حجمة كبير، والحيه صغيره، الثعبان بطيء الحركه، والحيه سريعه الحركه، وكأن الله تبارك وتعالى حوّل العصا إلى حيه صغيرة، ثم إذا بها تكبر وتعظم، وإذا بها ثعبان عظيم، أو هي تحولت إلى ثعبان عظيم، ولكن في سرعتها و خفة حركتها كأنها حيه تتحرك، لأنه قال تسعى، ألقى موسى العصا فإذا هي حية تسعى، ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا ﴾ الجان :الحية، تجمع على جِنَّان، ﴿وَلَّى مُدْبِرًا ﴾ أدبر‫:‬ أعطى ظهره للعصا، وجرى وأسرع في الجري من شدة الخوف والرعب، ﴿ وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ لم يرجع على عقبه، ولم يلتفت من شدة الخوف، ثم جاء نداء من العليّ الأعلى، هو سبحانه وتعالى ينادي موسى بالأسم ﴿ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ عاد موسى وأقبل، هل نُزع الخوف من موسى؟ لأنه تبارك وتعالى قال له : ﴿ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ﴾ أم أن الله تبارك وتعالى خلق في موسى الأمان، والإطمئنان بكلمة ﴿ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ﴾ فكلام الله تبارك وتعالى عطاء، كلامه خلّق كن فيكون، فإذا قال لا تخف نزع الخوف من صدره بغير إراده منه، ﴿ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ أمان وإطمئنان فما يخاف ؟ من الحيه، أو من الفزع، أو من المؤاخذه؟ أو ﴿ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ بمعنى إنك من المرسلين، لأنه لا يأمن إلا الرسل يوم الفزع‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ٱسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوٓءٍۢ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ ۖ فَذَٰنِكَ بُرْهَـٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦٓ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَوْمًۭا فَـٰسِقِينَ ﴿32﴾
‫﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ أسلك : أدخل، وإسلاك الشيء هو إدخاله في شيء آخر، والجيب : فتحه القميص، فتحه الجلباب، فتحه السروال، ومكانها الصدر، أدخل يدك في جيبك، ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ تلك كانت آية أخرى؛ أدخل موسى يده في مدرعته وكانت من صوف، وحين أخرج يده إذا هي تضيء كضوء الشمس والقمر، دون آفه، دون مرض، تخرج بيضاء من غير سوء، ﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ الجناح : العضد، والعضد من المرفق إلى الكتف، وعُبر عنه بالجناح تشبيهًا بالطائر، الطائر إذا خاف فرد جناحه، وإذا إطمئن وسكن ضم جناحيه، فكأن الله تبارك وتعالى يوحي إلى موسى أنه في حالة الخوف من أي شيء إذا ضممت جناحك إليك ذهب عنك الخوف وذال، وقال بعض العلماء أنه من تلك اللحظه، ومنذ ذلك الأمر، مامن عبد يخاف فيضم جناحه إليه إلا أنزل الله السكينه في قلبه، وأزال عنه الخوف، ﴿ مِنَ الرَّهْبِ﴾، ﴿مِنَ الرَّهَب﴾ ، ﴿مِنَ الرُّهب﴾ ثلاث قراءات، بمعنى الخوف الشديد، ﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ ذانك : مثنى ذا (مثل هذان مثنى هذا، واللذان مثنى الذي) ذانك مثنى ذا؛ لأن هناك آيتان العصا، واليد، وقرأت بأربعة قراءات‫:‬ فذّانِك فذانِّك بالتشديد، فذانِك، فذانَّك، والبرهان : الدليل الساطع، من قولهم بره الرجل : إذا أبيض، وأبْره الرجل إذا جاء بدليل منير، مضيء، ساطع، ﴿ بُرْهَانَانِ ﴾ دليلان من ربك إلى فرعون وقومه، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ لذلك إستحقوا الإنذار حتى إذا أخذهم الله تبارك وتعالى، أخذهم وقد أبطل عذرهم وحجتهم، هنا تكلم موسى وأطمئن وبدأ في الطلب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًۭا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴿33﴾ وَأَخِى هَـٰرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًۭا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًۭا يُصَدِّقُنِىٓ ۖ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴿34﴾
أتلك مراجعه من موسى ؟ أهو يرفض الرساله ؟ أيرفض النبوة ؟ هل يراجع ربه؟ وفي أول لقاء وأول كلام ؟ أم أن موسى طمع في الله وفي كرمه ؟ طمع موسى في الله تبارك وتعالى وفي كرمه وأذن له الله تبارك وتعالى بذلك، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا﴾ تذكر موسى ذلك الذي وكزه فقضى عليه، وكان السبب في هربه، ﴿ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ أخاف أن يأخذوني بهذا القتيل ويقتلوني به، إذا ً فقد خاف موسى وهو رسول،و الخوف غريزة في البشر لا ينجو منها أحد، الله تبارك وتعالى وحده هو الذي لايخاف، أما الكل يخاف، حتى الملائكه تسبِّح من خيفته، كل الملائكه، وجميع المقربين يخشون ربهم ويخافونه، ها هو موسى يخاف، وقد علم أن الأجل محدد ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٣٤] ومع ذلك خاف، والخوف لا يقدح في الإيمان، ولايقدح في قوة اليقين، ثم ها هو يطمع في الإعانه فيقول‫:‬ ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ﴾ أو ﴿فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدًا يُصَدِّقُنِي ﴾ قراءتان وهذه الآية دليل هام يرد به على أقوال المفسرين الذين زعموا أن موسى كان فيه عيب في لسانه، وأنه في صغره أخذ لحيه فرعون فجذبها إليه فاغتاظ وهمّ بعقابه فقالت إمرأه فرعون أنه صبي صغير لا يعقل، آتيه بجوهره وجمره من النار وانظر أيتها يأخذ، فجاء بها فأخذ موسى الجمرة فوضعها في فمه، فتبين فرعون أنه لا يعقل، وترك عقابه، هذه الجمرة أثرت في لسانه فأصبح لاينطق الحروف نطقًا سليمًا، ذاك قول المفسرين، ونحن نرد هذا القول بأمرين الأمر الأول : هو أن الله تبارك وتعالى لم يرسل رسولا ً قط وبه عاهه وبه آفه، وما من رسول أرسل إلا وهو أكمل القوم في الخلق والخُلُق، الأمر الثاني : لو أن موسى كان به عيب في لسانه كيف يقرأ التوراه على قومه وقد حوّل السين شين وحول الراء لام ؟ ! كيف يعقل منه القوم كلام الله، وهو مأمور بأن يتلو عليهم التوراه، فإذا لم يكن فصيحًا ناطقًا بغير عيب أصبحت التوراه فيها الخلل في النطق أيضًا، هنا يقول موسى‫:‬ ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ فقد تكلم عن الفصاحه، وحين يقول أفصح (أفعل التفضيل)، إذا ً فموسى فصيح ولكن هارون أفصح، والفصاحه في اللغه‫:‬ قوة البيان، موسى يتحدث عن لغة فرعون لأنه إذا أرسل إلى فرعون سوف يخاطب فرعون بلغة فرعون لا بلغة بني إسرائيل، وموسى ترك مصر عشر سنوات على الأقل مكثها في مدين، نسى اللغه، وكلكم يعلم مامن إنسان يسافر لبلد أخرى يتعلم لغه القوم، فإذا مارسها بالتدريب والكلام أتقنها كأحد أبنائها، فإذا إنفصل عن هذه البلد وعاد إلى مكان آخر وامتنع عن الكلام بهذه اللغه نسى كثيرًا من الألفاظ والتعبيرات، ولذا تكلم موسى عن الفصاحه، ولم يقل هارون أفصح مني لسانًا، أو أسلم مني لسانًا، بل قال أفصح، وهذه الكلمة دليل دامغ ضد أقوال المفسرين الذين نظروا إلى قوله‫:‬ ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(٢٧)يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٢٧, ٢٨] والعقده في السان لا يشترط أن تكون عيبًا في اللسان، ولكن العقده في اللسان معناها أن اللسان يأتي للكلمة ليعبِّر فلا يستطيع أن يعبِّر عن الكلمة لأنه قد نسى هذه الكلمة، وكثير منكم الذي يتكلم اللغات قد توقفه كلمه هو يعرف المعنى، ولا يعرف اللفظ فينعقد لسانه، ينعقد بمعنى لاينطق، أما العيب فهو ينطق ولا ينعقد، بل ينطق بعيب؛ فينطق الراء لامًا، وهكذا، ﴿ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي﴾ الردء : العون كالدفء، على نفس الوزن، ويجمع أرداء، وأردءهُ :أي أعانهُ، وردءَهُ :أعانه أيضًا، ﴿رِدْءًا يُصَدِّقُنِي﴾ : عونًا يصدقني، لأننا إذا كنا إثنين وتكلمنا أيّد بعضنا الآخر بالحجه والبرهان وأيضًا بالإيناس، فأراد موسى أن يأتنس بأخيه، وأراد الفضل لأخيه، ولم يرد أن يستأثر بالفضل وحده، ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ وهاهو موسى يثبت الخوف لنفسه مره أخرى، خاف أولًا من القتل، وخاف ثانيًا من التكذيب، وإذا كُذِّب موسى نتج عن ذلك عقوبه، أو تشريد، أو سجن، أو تعذيب، فهو أيضًا يخاف من تكذيب القوم، وهنا إستجاب الله تبارك وتعالى لموسى، والله يستجيب لمن دعاه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـٰنًۭا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِـَٔايَـٰتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَـٰلِبُونَ ﴿35﴾
‫﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ العضد من المرفق حتى الكتف، ويُعبَّر عن القوة باليد، ﴿ ... أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [سورة ص آية‫:‬ ٤٥] أولو القوة، ويُعبر عن القوة باليد لأن اليد يكتسب بها العامل عمله، فإذا كانت اليد قويه كان العمل متقنًا، واليد تقوى بقوة العضد، فقال الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ نقويك به، بهارون، ﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ﴾ وإذا جعل الله تبارك وتعالى لأحد سلطانًا فلن يغلب، ولا يهزم، ﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ﴾ إذا ً فقد حماه الله تبارك وتعالى، ووعده بالحمايه كما حماه من قبل وهو في التابوت، يجري به الماء، وهو لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، فحمله الله بعين العنايه، وكفله بعين الكفاله والرعايه، ﴿ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ إذا ً فالآيات دامغه، مفحمه، تدفع حجج فرعون وقومه، وفي الآيه بشاره لموسى أن هناك أتباع سوف يتبعونه حيث قال‫:‬ ﴿ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم، موسى حين رأى النار، وحين كلمه ربه تبارك وتعالى وناداه‫:‬ ﴿ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ أصبح من المصطفين، لا من المرسلين، أصبح من المصطفيين أولًا، وحين أمره ربه تبارك وتعالى بالذهاب إلى فرعون، هنا أصبح من المرسلين، فالرسول لايصبح رسولًا إلا إذا أبلغ بالرساله، وأُمر بابإبلاغها، أما الكلام والمعجزات فهي للأنبياء، وقد لا يرسل النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولًا، أمر موسى بالذهاب إلى فرعون، أيده الله تبارك وتعالى بالعصا واليد، أيّده بالبرهان الساطع، أجاب دعوته وأرسل معه أخاه هارون، ولو نزل القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشيه الله، ومع ذلك نجد أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فاحتمله، وكذلك التوراه والإرسال نزل على موسى واحتمّله، هذا الإحتمال لايكون إلا بتوفيق الله تبارك وتعالى، والله تبارك وتعالى يصطفي من خلقه مايشاء، والله تبارك وتعالى يجيب من دعاه، ومامن دعاء يرد أبدًا حتى دعاء الكفار، ولكنهم لم يطلبوا الهدايه بل طلبوا الدنيا فأعطاهم، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ١٣٤] ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٢٠] وإما أن يصرف عنك من الشر مايوازي ماطلبت من خير، وإما أن يدخر لك دعوتك إلى يوم القيامه، فيقول لك دعوتني وطلبت مني كذا ولم أعطك، وها أنذا اليوم أعطيك ما تريد، فماذا تطلب؟ ولوعلم العبد لتمنى أن تدخر جميع دعواته إلى يوم القيامه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ويقول الله تبارك وتعالى بعد ذلك‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِـَٔايَـٰتِنَا بَيِّنَـٰتٍۢ قَالُوا۟ مَا هَـٰذَآ إِلَّا سِحْرٌۭ مُّفْتَرًۭى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِىٓ ءَابَآئِنَا ٱلْأَوَّلِينَ ﴿36﴾
وصل موسى، وحُكيت القصه من قبل ذلك في سورة النمل، وفي سورة طه، وصل ودخل على فرعون، وآتاه الله تبارك وتعالى البينات، وألقى العصا، وأخرج اليد، وتكلم معه بالحسنى كما أخبرنا الله تبارك وتعالى في سورة طه‫:‬ ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾[سورة طه آية‫:‬ ٤٤] وحاول أن يدعوه إلى النجاه وإلى الله، ولكن لكل ملك بطانه، ولكل رئيس بطانه، بطانه خير تدعوه إلى الخير وتحضه عليه، وبطانه شر تدعوه إلى الشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله، بطانه فرعون كانت بطانه شر، وحين جاء موسى بالآيات قالوا في شأن هذه الآيات أنها سحر مفترى، والإفتراء إختلاق الكذب، إختلاق الشيء، سحر مفترى‫:‬ مختلق، أو أنت تأتي بهذا السحر وتفتري على الله كذبًا وتدعى أنه أيدك به، ﴿ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾ آفه الضلال التقليد دون إعمال للعقل، أي ما سمعنا في آبائنا الأولين أن هناك نبي يرسل، أو بأن هناك إله سوى فرعون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّىٓ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِۦ وَمَن تَكُونُ لَهُۥ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ ۖ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ﴿37﴾
‫﴿ وَقَالَ مُوسَى﴾، ﴿ قَالَ مُوسَى﴾ قراءتان بإثبات الواو وبحذفها، ﴿ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ الواثق بربه، الآمن، المطمئن لتأييد الله، فأوكل العلم إلى الله، وتوكل عليه، ﴿ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ ولم يذكر نفسه تواضعًا لله تبارك وتعالى، ولأن الحق أبلج، والباطل لجلج، ﴿ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ عاقبه كل شيء‫:‬ مايؤول له أمره، الدار هنا‫:‬ الدنيا، عاقبة الدار‫:‬ عاقبة الدنيا، ماهي عاقبة الدنيا ؟ عاقبة الدنيا الطبيعية الجنة، وليست النار، الجنة سعد من عرف طريقها، وتعس من ضل عنها، فأصل عاقبه الدنيا الجنة، وما خلقت الدنيا إلا لتكون طريقًا وسبيلًا إلى الجنة التي خرج منها آدم، فالأصل الجنة، وخُلق آدم للجنه، ونزل إلى الأرض بمعصيته، وأصبحت الدنيا وسيله، وطريق، ومزرعه للآخره، والعمل فيها يؤدي إلى الجنه، والإيمان بالغيب فيها يؤدي إلى الجنة، أما المعاصي، والكفر، والشرور فذاك عارض يؤدي إلى النار، التى هي ليست عاقبة الدنيا أصلًا، وإنما العاقبة هي الجنة والنار بالعرض، ولكن الإنسان يطغى، وينسى، ويضل، ويوسوس له الشيطان؛ فقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى وأنبأنا أن آدم عصى بوسوسة الشيطان، ومع ذلك المعصوم من عصمه الله، ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ والظلم هنا بمعنى الشرك والكفر، والفلاح :النجاح، والفلاح سمي فلاحًا لأنه يشق الأرض، ففلاحة الأرض شقها لبذر الحب، وكأن التقى شق طريقه إلى الفوز بالجنة، فعُبر عن هذا بالفلاح، والظالم لا يفلح، وهنا نسى فرعون كل ذلك، ولم يلتفت للآيات أو البراهين، واستكبر بغير حق فقال‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَـٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّى صَرْحًۭا لَّعَلِّىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ ﴿38﴾
نفى العلم بوجود إله، ولم ينف وجود الله، فهذا النفي نفي للعلم وليس نفي للوجود، قاده هذا الإستكبار فنفى الوجود، بعد ذلك قال "أنا ربكم الأعلى" ، وهكذا الكفر والضلال خطوه تليها خطوات، ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ﴾ هامان رئيس وزراءة، وكبير حراسه، رأس الضلال في أمة فرعون، ﴿فَاجْعَل لِّي صَرْحًا﴾ أراد أن يكون البناء شامخًا، عاليًا، قويًا، لا تؤثر فيه الأعاصير، وأول من بنى بالآجر هو فرعون، وكل البناء كان بالطين النيء، اللبن، أما فرعون فبنى بالحجارة، وبنى بالطوب المطبوخ، الصرح‫:‬ البناء المرتفع، الواضح، الذي يظهر لكل الناس، صَرَح الشيء، وصَرَّح الشيء : أظهره ووضحه، ﴿ لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ حتى الكلمة فيها شك " لَّعَلِّي" لأنه يشك في وجوده، واعتقد الضال بأن الله تبارك وتعالى له مكان، تعالى الله عن المكان والزمان، وهو كان قبل خلق المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان، فاعتقد أنه لوكان هناك إله فلابد وأن يكون له مكان في السماء مثلًا، واعتقد أن له جسمًا يرى بالعين، منتهى الضلال، ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ الظن : الشك، كفر فرعون بالظن والشك ولم يكفرباليقين، وهاهو شكه وظنه يؤدي به إلى أسفل سافلين، ظن أن موسى كاذبًا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴿39﴾
الإستكبار يعتقد الإنسان في نفسه أكبر من حقيقتها، والمتكبر بحق هو الله، ولايوجد متكبر في الأرض بحق أبدًا، ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾ ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يَرْجَعُونَ﴾ قراءتان، اعتقد فرعون أنه لا بعث، ولا عقاب، ولاحساب، وشك في الإعاده، وفي قدرة الله تبارك وتعالى، هل فرعون يعتقد يقينًا أنه رب الناس؟ أبدًا، هل كان يعتقد يقينًا أنه لا إله في هذه الحياة الدنيا أو في الآخره؟ أبدًا، لذا عبر في الكلام بشك، أظنه من الكاذبين، أما في قرارة نفسه من الداخل فقدكان متيقنًا من وجود الله، ولكنه أراد الدنيا، والسلطان، والجاه، أعمته الدنيا، وأعماه الشيطان، لذا حين رأى العذاب، وأوشك على الغرق قال آمنت، ولوكان متيقن بعدم وجود إله ماخاف من الموت، ﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ٩٠] إذًا فقد كان عدوًا لله متيقنًا بوجود إله، ولكن الكبر، والإستكبار، والبعد عن الحق، والتمادي في الباطل، والبطش، والإرهاب، والقوة، كل ذلك يولد ماولده في فرعون، وما يولده في كل زعيم، أو رئيس، أو حاكم، أو ملك ينفرد برأيه، ويستمع للمداحين الذين يؤلفون له الأهازيج، والأغاني، ويدعون أنه بتوجيهاته صلح الحال، ومامن أحد له عقل، أو فن، أو مهنه، أو علم، والكل محتاج للتوجيهات في الأمور الداخليه، والخارجيه، والصناعيه، والزراعيه، الكل يقول بناء على توجيهات، في كل مكان وكل زمان يصنع الناس من الحكام آلهه، ويصنع الناس من الحكام أربابًا من دون الله، يؤيدوهم، ويصدقوهم بكذبهم، ويمدحوهم بما ليس فيهم فيصنعون منهم آلهه تبطش وترهب بل وتذلهم، ومن إعتز بغير الله ذل، وجعل ذله على يد من إعتز به، ملأ فرعون جعلوا منه إلهًا لذا يقول الله في موضع آخر ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٥٤] حين وقف وقال ما علمت لكم من إله غيري لم يجد من يرد عليه، ويقول له حين كنت في بطن أمك من كان الإله؟ قبل أن تولد من كان الإله ؟ بعدما تموت من هو الإله؟ كيف تكون إله وأنت تأكل وتشرب وتنام وتغفو وتنسى؟ ولم يجد من يرد عليه فطغى، وتكبرن ولذلك انظر إلى قول الله تبارك وتعالى بعد أن أخبرنا أنه استكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمِّ ۖ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿40﴾ وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةًۭ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ ﴿41﴾ وَأَتْبَعْنَـٰهُمْ فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةًۭ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ هُم مِّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ ﴿42﴾
‫﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ لم يأخذه وحده بل أخذه وأخذ قومه الذين سكتوا على الباطل، والساكت عن الحق شيطان أخرس، الذين لم يقاوموه، لم يقاوموا إرهابه، لم يقاوموا سلطانه الباطل الزائف، إستمعوا له، ﴿ ...أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٥١] لم يعارضه معارض، فأخذهم الله كما أخذه، وقد حذرنا ربنا ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ١١٣] مجرد الركون للظلمه يعرض الإنسان للنار، فمابالك بالتأييد، والتشجيع، والتمجيد، والمديح، وصدق النبي الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال‫:‬ ﴿احثو في وجوه المدّاحين التراب﴾ ،ونجد حكام اليوم يصفقون للمديح، ويهتزون للأغاني التي تتكلم عن انتصاراتهم، وعن، وعن، وعن‫.‬..، وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾والتعبير غاية في الدقه، تعبير الأخذ، يعني التعظيم للآخذ، والتحقير للمأخوذ، وكأن الله تبارك وتعالى حين يقول‫:‬ ﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ ﴾ وكأنه أخذه بكف يده هو وجنوده رغم العدد والألوف والعدد بقبضه كفه فألقاهم في اليم، هذا العدد المهول، والجيوش، والجنود، و‫.‬. و‫.‬.. أخذناهم ونبذناهم، والنبذ : الرمي، والطرح، ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ فانظر يامحمد كيف كان عاقبة الظالمين، وأنذر قومك، وحذرهم من هذه العاقبه؛ لأن عاقبة فرعون لم تكن حكرًا على فرعون بل هذه العاقبه عاقبه كل مكذب، كل جبار، كل ضال في الأرض، أيها الأخ المسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿إن الله تبارك وتعالى يقبض الأرض يوم القيامه بيده، والسموات السبع بما فيها في يمينه، ثم يرج الأرض رجًا ويقول‫:‬ "أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟" فى ذلك اليوم لايرد أحد على الله تبارك وتعالى، هو يرد على نفسه الله الواحد القهار﴾، أيها الأخ المسلم إياك والإستكبار في الأرض؛ فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر﴾، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿يحشر المتكبرون يوم القيامه كهشيم الذر، يطؤهم الناس لهوانهم على الله﴾، والذر‫:‬ هو النمل الصغير، هذا النمل إذا وطأته بقدمك يتهشم، هذا هو التشبيه الذي شبّه به النبي حشر المتكبرين، أيها الأخ المسلم من تواضع لله رفعه، مهما أتاك الله تبارك وتعالى من علم فتواضع، ففوق كل ذي علم عليم، ومهما أتاك الله من قوة تواضع؛ لأنك إذا غرتك قوتك كي تبطش بالناس فتذكر قدرة الله عليك، فإذا كنت من ذوي الجاه، أو المال فالدنيا إلى زوال، تواضع لله الذي خلقك فسواك فعدلك، وخولك ما في يمينك، فهو الذي أعطاك المال، أعطاك الجاه، السلطان، العلم، وأعطاك الزوجه، والأبناء، والبنات، الله تبارك وتعالى ولا شيء سواه، تواضع لله فعما قريب تطمع في حسنه، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، وإياك والتعالي على الناس، إياك وإيذاء الخلائق؛ لأن المعاصي نوعان‫:‬ نوع يتعلق بالعبد بينه وبين ربه وتغفر بالإستغفار وبالحسنات، ونوع يتعلق بالناس وهو التبعات وذاك لا تكفره التوبه، ولاينفع معه إستغفار، وإنما لابد من إصلاح ما أفسدت، ولابد من رد المظالم ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿من كان عند أخيه مظلمة، فليتحلله منها قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار ﴾، أيها الأخ المسلم المرء في فسحه من دينه مالم يصب دمًا، وأخطر الأمور في ظلم الإنسان لأخيه الإنسان أن يسفك دمه، ﴿كل المسلم على المسلم حرام‫:‬ دمه، وماله، وعرضه، بحسب امرئ من الشر ان يحقر اخاه المسلم﴾، أيها الأخ المسلم راقب الله تبارك وتعالى في إخوانك من المسلمين؛ فهم عباده، وربنا تبارك وتعالى لا يرضى الظلم لعباده، ويقول في حديثه القدسي‫:‬ ﴿ياعبادي حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا﴾ ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ ﴿اتقي دعوة المظلوم؛ فوالذي نفسي بيده ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام، ويقول وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين﴾، والمظلوم هنا أي مظلوم، يهوديًا كان أو نصرانيًا، مؤمنًا كان أو مشركًا، إياك والظلم لأنك إن ظلمت كافرًا فإن له عندك حق، و لأن الله هو الملك العدل، وهو ينادي يوم القيامة لا ظلم اليوم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم، عد إلى الله، واستسمح إخوانك، وأعد اليهم حقوقهم، وكفاك من المعاصي غفوتك عن الله، وكفاك من المعاصي نسيانك لله في بعض الأحيان، وكفاك ما أستمتعت به من حلال وأياك والتجاوز إلى الحرام، فأن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬