القرآن الكريم / سورة النمل / التفسير المقروء

سورة النمل

مقدمة‬‬‬
‫لقاؤنا مع سورة النمل، سميت بهذا الاسم لورود قصة عجيبة لنملةٍ عجيبةٍ، نملة تكلمت، وحذرت، وذكرت، وشهدت، وعذرت، سورة النمل إحدى سور ثلاث نزلت متتالية، ورتبت في المصحف متتالية، وهي سور مكية‫:‬ سورة الشعراء، سورة النمل، سورة القصص، نزلت متتالية، ورتبت أيضا متتالية، سور مكية تنهج نهج السور المكيه، تهتم بأصول العقيدة، التوحيد الرسالة، البعث، وتسلك سلوك العظة، والعبرة عن طريق القصص التي تتحدث عن الغابرين، وتبين دلائل القدرة الإلهية من خلال آثار خلقه، وصنعه، وفعله‫.‬ تبين أدلة التوحيد، تبين ما حدث للأمم المكذبه؛ لعل وعسى أن يتذكر من يسمع، وأن يعقل من يعلم‫.‬ سورة النمل اشتملت على خمس قصص، وتناولت خمس أدله، اشتملت على قصة موسى، قصة سليمان مع النملة، قصة سليمان مع الهدهد وبلقيس، قصة صالح، وقصة لوط‫.‬ وتناولت خمس أدله‫:‬ أدلة على التوحيد وعلى وحدانية الله( عز وجل) أدله على إبطال الشرك، أدله على اليوم الآخر وما يحدث فيه من أهوال، أدلة على ما ينال المكذبين والمنكرين من عذاب، أدلة على وجوب عبادة الله وحده، افتتحت سورة النمل بالحروف المقطعة‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

طسٓ ۚ تِلْكَ ءَايَـٰتُ ٱلْقُرْءَانِ وَكِتَابٍۢ مُّبِينٍ ﴿1﴾
‫﴿طس﴾ والحروف في أوئل السور كما تكلمنا من قبل سر الله فلا تطلبوه، من المتشابه الذي يمر كما جاء ويفوض العلم بتأويله إلى الله (عز وجل) ومهما قيل في هذه الحروف فهو استنتاج واستنباط وصل إليه بعض العلماء كتقريب للأذهان؛ أما حقيقة الحروف فلا يعلمها إلا الله، ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾،تلك‫:‬ إشارة للبعيد بمعنى هذه الآيات ولكن لعلو منزلتها، وارتفاع شأنها، أشار إليها بكلمة تلك، ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ من باب عطف الصفات‫:‬ القرآن والكتاب، والقرآن هو الكتاب، وسمي كتاب لأنه يظهر بالكتابة، وسمي قرآنًا لأنه يظهر بالقراءة، وجاءت كلمة القرآن معرّفة، وجاءت كلمة كتاب نكرة للتعظيم، لبيان عظمة هذا الكتاب‫.‬ ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾،مبين‫:‬ ظاهر، واضح؛ لأن الله بين فيه الأحكام ووضع فيه الحلال والحرام، وأمر ونهى، وحكى وقص علينا قصص الأولين وأنباء الآخرين وإن كان بعض الناس اعتقد أن الكتاب هو اللوح المحفوظ وآخّر ذكره عن القرآن لتأخر علمنا به بعد علمنا بالقرآن فما علمنا بالكتاب أي اللوح المحفوظ إلا من القرآن أما في سورة الحجر فقدم الكتاب‫:‬ ﴿... تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ﴾ [سورة الحجر آية‫:‬ ١] لسبق الوجود فاللوح المحفوظ أسبق في الوجود من القرآن قيل هذا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
هُدًۭى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿2﴾ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلْـَٔاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿3﴾
فكأن الله تبارك وتعالى يقول له‫:‬ لو أردنا إيمانهم لحدث ولأنزلنا من السماء آية، معجزه، مصيبة في سورة النمل لفتات كثيرة من حيث الإعجاز في اللغه والإعجاز في المعنى، وسوف نشير إلى بعضها مجرد إشارة لكنها تخرج عن الحصر، وتفوق العد، ﴿ هُدًى وَبُشْرَى﴾ جاء بالمصدر بدلًا من اسم الفاعل، والتقدير‫:‬ (كتاب مبين هاديًا ومبشرا)، وقيل هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو ﴿ آيَاتُ الْقُرْآنِ هُدًى وَبُشْرَى﴾ وخصهم بالذكر إذا ً فهو لايهدي الكفار، ولا يبشر المنكرين، خص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به، ووصفهم بصفات ثلاث‫:‬ إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، اليقين والإيقان بالبعث، ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ لكن النظْم جاء معجزًا من حيث اللغة؛ يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاه، جاءت بفعل مضارع، يقيمون الصلاة بتعديل أركانها، بالخشوع فيها، بأدائها في أوقاتها، بعدم الغفلة عنها، بعدم نسيانها، ﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ يعطون ما فرض الله عليهم في أموالهم لمستحقيها، وجاء التعبير بالمضارع لبيان المواظبه، والاستمرار؛ فهم يقيمون الصلاة دائمًا وأبدًا، وسئل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أحب الأعمال إلى الله فقال الصلاة على وقتها، ﴿ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ ولم يقل يوقنون بالآخرة على تقدير النظم، ولكن غيّر النظم فقال ﴿ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ فالجملة اسمية في حين أن الجملة قبلها فعلية، والجملة الإسمية آكد من الجملة الفعلية؛ لبيان ثبات اليقين في نفوسهم، ورسوخ الإيمان في قلوبهم، وأكد الجملة بتكرار الضمير، ﴿ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ فكرر الضمير للتأكيد على استمرار، ورسوخ، وثبات اليقين، ثم جاء بصيغة المضارعة في خبر الجملة ﴿يُوقِنُونَ ﴾ لبيان الديمومة أي لدوام اليقين في صدورهم، ودوام الإيمان في قلوبهم إلى أن يلقوا الله، وبضدها تتميز الأشياء؛ هؤلاء هم المؤمنون الذين وصفهم بثلاث صفات ثم جاء بذكر الآخرين، الكافرين، المنكرين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْـَٔاخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَـٰلَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴿4﴾
‫﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ لا يعتقدون في البعث، وينكرون القيامة، ﴿ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ آية أعمال ؟ أهي الأعمال الحسنة؟ زيّنها بأن بيّن ما ترتب عليها من ثواب من صلى، من صام، من زكى، من آمن، يحدث ويحدث ويحدث ...، ترتيب الثواب على الأعمال الحسنة فزين الأعمال الحسنة للذين لا يؤمنون بالآخرة وزين لهم تلك الأعمال التي وجب عليهم أن يعملوها فتركوها ولم يعملوها فهم يعمهون، أو زيّن لهم أعمالهم القبيحة وتزيين الأعمال القبيحة بجعلها مشتهاة في الطبع، محبوبة للنفس، فزين لهم أعمالهم القبيحة واستحقوا ذلك لأنهم أنكروا البعث، وأنكروا القيامة، ﴿ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ العمة : عمى القلب و العمى : عمى البصر عَمِة يَعُمَةْ عَمَها ً فهو عَمِةْ وعَامِةْ وهم عُمَّةْ وعَمهون، ﴿ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾يترددون، متحيرون، لا يعرفون الحق من الباطل، لا يميزون بين القبيح وبين الحسن، رأوا في أعمالهم القبيحة رأوا فيها المنافع واللذات ولم يروا فيها المضار والآفات‫.‬‬‬‬‬‬
أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَهُمْ سُوٓءُ ٱلْعَذَابِ وَهُمْ فِى ٱلْـَٔاخِرَةِ هُمُ ٱلْأَخْسَرُونَ ﴿5﴾
آكد الخسران لهم بتكرير الضمير كما كرر الضمير في شأن المؤمنين ﴿ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ كرر الضمير أيضا هنا ﴿ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴾ لتأكيد أن خسارتهم لم تحدث لأحد، وأنهم أخسر الناس والخلائق على الإطلاق، ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ بالقتل في الدنيا بالأسر في الدنيا بالذل والهوان في الدنيا وهم في الآخرة أيضا أخسر الخلائق على الإطلاق‫.‬‬‬‬‬‬
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴿6﴾
أكد الخبر بتأكيدين‫:‬ إن، واللام، ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى﴾ وكأنه قسم لوجود وكثرة المتشككين فيه، فأكد أن القرآن نزل من عند الله (عز وجل) وإنك يا محمد والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) ﴿ لَتُلَقَّى﴾ أي تؤتي القرآن فتتلقاه ﴿ مِن لَّدُنْ ﴾: من عند إلا أنها كلمة مبنية، غير معربة، وفيها لغات، مبنية أي لا تتأثر الحركه في آخر حرف فيها بالإعراب أي بالرفع، أو النصب، أو الجر، ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ حكيم بتدبير خلقه، عليم بمصالحهم وما يسعدهم، والصفتان كأنهما بساط وتمهيد لما سوف يقص على الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من أقاصيص تدل التدبير المحكم لله (عز وجل) على واسع حكمته، ودقيق علمه، وتأتي أول قصه‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِۦٓ إِنِّىٓ ءَانَسْتُ نَارًۭا سَـَٔاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُم بِشِهَابٍۢ قَبَسٍۢ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴿7﴾
‫﴿ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ﴾، ﴿ إِذْ قال ﴾ أي مُقدر بأذكر، أي أذكر لقومك هذه القصة، ﴿ لِأَهْلِهِ ﴾ لم يكن مع موسى سوى امرأته لكنه كنى عنها بكلمة الأهل، وجاء بصيغة الجمع، ﴿ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ آنس الشيء : أحس به، أبصره، علمه مثال ﴿ ...فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ... ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٦] آنس نارا ً : رآى نارا ً عظيمة عن بعد ﴿سَآتِيكُم﴾ السين هنا تفيد معنى الوعد، يفهم منها أيضًا بعد المسافة بينه وبين النار، إذا فقد رآها عن بعد، من هنا جاء السين‬‬‬‬‬
‫﴿ سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ إذا ً فقد ضل الطريق ،متى يسأل الرجل عن الطريق ؟ إذا ضل، إذا ً فقد ضل الطريق ،﴿سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ إذا ً فقد كان الجو باردًا، شديد البرودة ولا حطب له وأراد أن يستدفيء، وأن يستدفيء أهله ﴿ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ ﴾ هنا ترديد وكأنه يقول إذا لم أظفر بالأمرين معًا‫:‬ الخبر عن الطريق، والشهاب والحطب للاستدفاء، لن أعدم أن أتي بأحدهما، من هنا جاء الترديد، ﴿ بِشِهَابٍ قَبَسٍ ﴾ والشهاب : كل أبيض ذي نور يطلق عليه شهاب، قبس قالوا في إعرابها " قبس" بدل شهاب، أو صفة بمعنى مقبوس وقرئت بشهابِ قبسٍ بالإضافه، من باب إضافة النوع إلى جنسه كقولك خاتم فضه أي شهاب من قبس وقبس الشيء أخذه ومنه إقتبس أخذ بعضا منه فالقبس أن تأخذ في رأس عود أو قصبة شيئًا من نار قائمة موجوده، ﴿لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ تستدفئون، اصطلى : جاء إلى جوار النار لتسخين البدن والاستدفاء، والطاء مبدلة من تاء الافتعال، أصل الطاء تاء؛ جاءت الطاء لقرب مخرجها من الصاد، اصطلى بالطاء مبدلة من تاء الافتعال افتعل : اصطلى لعلكم تصطلون تستدفئون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِىَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِى ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿8﴾
فلما ذهب إلى النار التي رآها أكانت نارا أم كانت نورًا؟ البعض يقول حين وصل موسى إلى النار وجد نارًا عظيمة تشتد توهجًا، وتخرج من شجرة خضراء تشتد خضرة وازدهارًا لا النار تنطفيء ولا الشجرة تحترق ، تزداد الشجرة خضرة وازدهارا وتزداد النار اشتعالا وتوهجا نودي موسى ناداه ربه وحياه كما حيى إبراهيم حين قالت له الملائكة ﴿... رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٧٣] حين دخلت الملائكة عليه، أما موسى فقد قيل له ﴿ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ ﴾ أي بأن بورك ﴿ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ ﴾ وهو موسى أي من في مكانها ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾: الملائكة الحاضرون، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، ويعبّر به عن النماء والدوام والازدهار،‬‬‬‬‬
‫﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ هي من تتمة النداء، وقال بعضهم إنها من قول موسى لكن الأرجح إنها من تتمة النداء، تنزّه الله (سبحانه وتعالى) نفسه عن السوء والنقص وعن مشابهة الحوادث، وخبر لموسى بالتنزيه لئلا يتوهم المشاكلة أو المشابهة أو التحديد عند سماع الكلام، وكأنه يقول له ليس كمثلى شيء فإن سمعت فما تسمع يخالف كلام البشر؛ فذات الله (عز وجل) لا يشبهها ذات فهو يختلف عن خلقه في ذاته، وصفاته، وأفعاله (سبحان الله) تنزيه نزه نفسه (عز وجل) أو أخبر موسى التنزيه كي لا يتوهم أو يختلط عليه الأمر، ﴿ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ والبركة هنا التكليم لموسى، الإرسال، النبوة التي رزقها والرسالة، وكأن الأمر القادم تعم بركته الآفاق‫.‬‬‬‬‬‬
يَـٰمُوسَىٰٓ إِنَّهُۥٓ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿9﴾
‫﴿ إِنَّهُ ﴾ الهاء هاء الشأن كما يسموها، ضمير الشأن، أي إن الشأن أنه أنا الله جمله مفسرة تفسر ماهو الشأن ماهو الموضوع (إنه أي الشأن أنا الله العزيز الحكيم) صفتان تمهدان لماهو آت، لما سوف يقع، لماسوف يراه موسى، القادر العزيز الحكيم القوى الذي يأتي بما يفوق الأوهام وبما يخرج عن كل خيال وعن كل قدره الذي أفعل جميع أفعالي بحكمة، ولا تخلوا أفعالي من الحكمة، ويصان فعلي عن العبث‫.‬‬‬‬‬‬
وَأَلْقِ عَصَاكَ ۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّۭ وَلَّىٰ مُدْبِرًۭا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَـٰمُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ ٱلْمُرْسَلُونَ ﴿10﴾ إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًۢا بَعْدَ سُوٓءٍۢ فَإِنِّى غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿11﴾
‫﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ أي وأن ألق عصاك وكأنها معطوفه على قوله ﴿ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ ﴾ أُمِرَ بإلقاء عصاه، ﴿ فَلَمَّا رَآهَا ﴾ والكلام فيه حذف ، اختصار بالحذف وألق عصاك فألقاها فانقلبت حيه تهتز فلما رآها تهتز اختصار بالحذف كثير في القرآن من إعجازه اللغوي ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ الجان : الحية الصغيرة سريعة الحركة، لكن العصا حين ألقاها انقلبت إلى ثعبان عظيم ورغم عظم الحجم إلا أنها في سرعتها وسرعة حركتها كأنها حية صغيرة، فهي من حيث الحجم ثعبان كبير عظيم، ومن حيث الحركة كأنها حية صغيرة تتحرك بمنتهى السرعة لما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ً جرى موسى مسرعًا لحقه مايلحق الخلق من خوف، ورعب حين يرى أمرا ً عجيبا ً غريبا ً لايتوقع حين سمع ﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ ﴾ اعتقد أن ذاك أمر بالتأدب أو أن فيها شيء، لم يتوقع مايرى، هذه المعجزة والآية الأصل فيها أنها إلى فرعون لكن كل نبي لابد له من آية في نفسه يعرف بها أنه نبي قبل أن يريها للخلق وقبل أن يقول للخلق أنه نبي، من هنا كان إلقاء العصا وإدخال اليد، ﴿ وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي لم يرجع على عقبه وهنا نودي بالنداء الثاني‫:‬ ﴿ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾أي لا تخف من غيري ثقة بي فلا تخف من ثعبان، أو لا تخف مطلقًا، إذا ً فالآية فيها أمان، فيها تأمين، فيها بشرى بالرسالة؛ لا يخاف لدي المرسلون إذا ً فهو من المرسلين ولم يكن أرسل بعد، أو لم يكن يعلم بعد أنه مرسل إلى فرعون؛ فكأن الآية بشرى، إذا ً فقد خوطب بالتحية وبورك عليه وبورك عليه وباركه وبارك له وبارك عليه وبارك فيه كلها تعبيرات لغوية وعلم بالإرسال لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون، ﴿ إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ إلا هنا استثناء، والاستثناء إما أن يكون متصلًا، أو يكون منفصلًا‫.‬ المتصل معناه أنه نفس الجنس بعد إلا هو نفس الجنس أو الكلام قبل،الاستثناء المنفصل أمر آخر بمعنى لكن باختصار، ﴿ إِلَّا مَن ظَلَمَ﴾ إذا ً فهو استثناء منفصل أي لكن من ظلم نفسه فمن حقه أن يخاف، فإن تاب وأناب غفرت له لأني أنا الغفور الرحيم، إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء، أتبع الحسنه السيئة تمحها كما قال سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم). قال بعضهم الاستثناء متصل وإذا كذلك لابد من تأويل المعنى بمعنى إلا من ظلم من المرسلين بارتكاب الصغائر قبل نبوته والكلام تعريض بوكز موسى للقبطي الذي قتله وكأنه يعرّض بالصغيره التي ارتكبها موسى وكأنه يقول له لقد فعلت وفعلت ولكني غفرت لك، قيل أنه من الاستثناء المتصل وان الأنبياء والرسل قد يرتكبون الصغائر قبل بعثتهم لكنهم بعد البعثه معصومون من الصغائر ومن الكبائر، ونحن نعتقد أن قول العلماء أن الاستثناء منفصل أرجح وأوْلى بالمعنى ﴿ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي لكن من ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوٓءٍۢ ۖ فِى تِسْعِ ءَايَـٰتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِۦٓ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَوْمًۭا فَـٰسِقِينَ ﴿12﴾
الجيب : فتحة القميص الجيب، وكذلك جيب الجلباب الذي توضع فيه النفقة والأشياء؛ سُمِى جيبا ً لأنه شق في الجلباب، فكل شق للقميص الفتحة التي يدخل منها رأسه تسمى جيبًا ﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء﴾ أي أدخل يدك في جيبك وأخرجها فإن أخرجتها تخرج بيضاء من غير سوء، السوء كل رداءة وقبح في الشيء، والكناية هنا عن البرص والآفة، ﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ﴾ أي من ضمن آيات تسع : الطوفان والجراد والقمل والضفادع إلى آخره، في تسع آيات أي أن العصا واليد من ضمن الآيات التسع، وإدخال اليد من ضمن الآيات التسع أدخل يده وحين أخرجها أضاءت كضوء الشمس، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ تعليل للإرسال؛ أرسله إلى فرعون وقومه لأنهم كانوا قوما فاسقين‫.‬‬‬‬‬‬
فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَـٰتُنَا مُبْصِرَةًۭ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحْرٌۭ مُّبِينٌۭ ﴿13﴾ وَجَحَدُوا۟ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًۭا وَعُلُوًّۭا ۚ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴿14﴾
‫﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا﴾ أي جاءهم موسى بالآيات، جاءتهم آياتنا عن طريق موسى، مبصرة هل الآية تبصر ؟ عبّر باسم الفاعل عن المفعول، هي تُبصَر ولا تُبصِر، قالوا مبصرة أي ذات بصر لأنها تهدي إلى الله والهادي لابد أن يكون مبصرًا فالآية مبصرة من حيث أنها تهدي إلى الله، وقيل مبصرة مبالغة في شدة وضوحها ودلالتها على معجزة موسى وعلى صدقه، ونبوته، ورسالته فكأنها تبصر نفسها فكيف لايبصرها هؤلاء؟ ﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ حين رأوا العصا، ورأوا اليد، قالوا هذا سحر مبين، سحر واضح، شديد السحرية، ترى هل اعتقدوا ذلك ؟ هل شكوا في المعجزة ؟ أبدًا هل عرفوا أنها معجزة ؟ نعم هل تيقنوا من صدق موسى ؟ نعم بدليل قول الله (عز وجل) ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا ﴾، الجحد غير النفي؛ الجحد معناها أن المنافي للشيء يعلم صدق وجوده وحقيقته، ذاك هو الجحد، جحدوا بها أي أنكروها رغم علمهم بصدقها وحقيقتها وأكد ذلك بقوله ﴿ وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ﴾ والواو هنا للحال و التقدير وقد استيقنتها تقدير والواو للحال، معناها حال هؤلاء الرائين لمعجزات موسى، كان اليقين الكامل أنه صدق، وأنه الحق، وأنه معجزة، لم جحدوا رغم الاستيقان ؟ ﴿ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ ظلمًا للآيات، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، ظلم للآيات حيث أنزلوها من منزلتها الرفيعه إلى منزله السحر، الخيال، الكذب، الدجل، فظلموا الآيات، ظلمًا لأنفسهم بأنهم رغم استيقانها بحقيقة الأمر وصدق المعجزة إلا أنهم كفروا بها وأنكروها علوًا واستكبارًا في الأرض وعنادًا، ﴿فَانظُرْ﴾ انظر وتأمل واسمع واعقل، ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ كيف حدث لهم والكلام تعريض بمشركي مكه، وانتبهوا! تنبيه لمشركي مكه أنتم أيقنتم بصدق النبي ومع ذلك كذبتموه، هؤلاء أيقنوا بصدق موسى وكذبوه فكيف كان عاقبتهم فانظر كيف كان عاقبه المفسدين‫.‬‬‬‬‬‬
‫تلك كانت القصة الأولى من خمس قصص جاءت في سورة النمل، قصة موسى الذي قد ضل الطريق في ليلة شاتية، مظلمة، شديدة البرودة، وطمع أن يجد خبرًا أو يعرف الطريق، هو يبحث عن الطريق في الأرض فإذا بالدلاله؛ دلاله على الطريق إلى الله، هو يبحث عن النار يستدفيء بها فإذا بها نور يشع في الأكوان يدفيء القلب، ويطمئن النفس يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): ﴿إن الله لا ينام ولا ينبغي له إن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، ويرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (عز وجل) ما انتهى إليه بصره من خلقه﴾، وتأتي القصة الثانية يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ وَسُلَيْمَـٰنَ عِلْمًۭا ۖ وَقَالَا ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿15﴾
‫﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ الكلام عن العلم، والعلم هنا علم بالآخره، علم بأمور الدين، علم بالله، وأشرف العلوم على الإطلاق العلم بالله؛ إذ إن شرف العلم من شرف المعلوم، كلما كان المعلوم شريفًا كان العلم به شريفًا، أشرف معلوم هو الله، من هنا كان العلم بالله هو أشرف العلوم، ﴿وَقَالَا﴾ الواو عاطفة على أي شيء ؟ وكأن الواو تعطف على شيء ولك أن تقدر أيها السامع، وكأن حين أتاهم الله علمًا عملا به، وأديا شكر العلم وفعلا وفعلا وفعلا، ﴿وَقَالَا﴾ وجاءت الواو لإشعار السامع أنهم لم يكتفوا بالقول فقط بل هناك مالم يخبرنا عنه ربنا ولك أن تفهم من النظم، من السياق ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ إذا ً فالآية تدل على شرف العلم، وعظيم فضل الله بمن وهبه العلم‫.‬‬‬‬‬‬
وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُۥدَ ۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ ۖ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ ﴿16﴾
‫﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ ورثه في النبوة، كان لداوود تسعة عشر ولدًا ، منهم سليمان الذي ورث النبوة والملك، وورث سليمان داوود، والأنبياء لا تُورث؛ لا تترك درهم، ولا دينار ولكن الأنبياء يورثون العلم كما قال نبينا (صلى الله عليه وسلم): إنا معاشر الأنبياء لا نورث وإن ما تركناه علم، ماتُرك من أموال فهي صدقة، أما الوراثة فهي وراثة العلم، والعلماء ورثة الأنبياء ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ﴾ وكأنها خطبة العرش حين ورث الملك والنبوة جمع الرعية، ورعية سليمان وما أدراك ما رعية سليمان، قيل كان سليمان أعظم مُلكًا من أبيه وكان داوود أعظم عباده من ابنه ﴿ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴾منطق الطير أي ما يريده الطير بصوته، والمنطق كل لفظ أو صوت يعبر به عن ما في الضمير، لذا لم يقل قول الطير، أو كلام الطير، أو لسان الطير، بل منطق لأن المنطق كل لفظ أو صوت خرج من الفم يعبر عن ما في الضمير، لذا يطلق المنطق على ما يفهم من غير كلام، من غير تعبير، وعليه فمجرد خروج صوت من أي طائر يعلم سليمان ما في ضمير الطائر، مايريده، أما الكلام فقد يقع موقعًا بمعنى أنك قد تتكلم فيفهمك بعض الناس ولا يفهم مافي ضميرك، أو يفهم الكلام ولا يفهم الدافع إليه أو المراد ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴾ هل كان يعلم منطق الطير فقط ؟! قيل بل منطق الطيور، ومنطق الوحوش، ومنطق الحيوانات، بل منطق الأشجار، وكان يفهم الشجر، ويخاطبه الشجر وتقول له الشجرة‫:‬ أنفع في كذا، وأخر في كذا، والدليل على ذلك أنه سمع كلام النملة، بعض الناس قالوا الطير فقط، والنملة كانت ذات أجنحة من النمل الذي يطير كلام غير منطقي ولو كانت تطير ما خافت وما قالت ادخلوا مساكنكم ولكن ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴾ خص الطير بالذكر بالذات لأن الطير متعدد، وكثير، وأصواته متعددة، وفيها نغمات، وفيها طبقات، ولأن الطير كان يظله في مسيرة ولأهمية الطير ﴿... عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ قال سليمان هذا وكأنها خطبة العرش كما تقول عندما يتولى الرجل الملك بعد أبيه يخطب في الناس، أو يتولى وزارة، أو يتولى رئاسة تسمى الخطبة الأولى كأنها خطبه العرش هل كان سليمان يفتخر ؟ أبدًا والله وإنما كان يتحدث بنعمة الله تشهيرًا لنعمة الله تعميمًا لها، وتعريفًا للناس بالفضل؛ إذ الفضل عليه فضل عليهم، والإنعام عليه إنعام عليهم، الفضل المبين‫:‬ الظاهر الواضح‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَـٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿17﴾
‫﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ﴾ جنود سليمان وما أدراك ما جنود سليمان، ﴿جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ الوَزْعْ : الكف والمنع، وزعه : كفّة، كأن الجيش لعظمته، وعظيم حجمه، وقيل طوله أميال وأميال، وفراسخ وفراسخ، جن وإنس، وطير، وحيوان، ووحش، بل كان يحدث اختلاط أو اختلاف أو اختلال أو يسبق بعضهم بعضا لابد من وزعه، رؤساء، يكفون الأوائل حتى يلحق بهم الأواخر فلا يتفرق الجيش، أو يتشتت ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ للإشعار بعظمته، وعظم حجم ذلك الجيش الذي يحتاج أفراده الوزْع‫.‬‬‬‬‬‬
حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوْا۟ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌۭ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُوا۟ مَسَـٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿18﴾
‫﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ﴾ قيل ﴿ عَلَى ﴾ لأنهم يريدون أن يقطعوا الوادي، على وادي النمل قيل وادي كانت تسكن فيه أمة من النمل عظيمة، قيل كان بالشام، وقيل من أسماء النملة التي تكلمت أسماء،كل ذلك لا يعني في شيء ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ وهنا يقف علماء اللغة، وأساطين الكلام مبهورون من كلام النملة، ويقف أيضًا علماء المعاني، وأرباب الحكمة مقهورين أمام الإعجاز في المعنى، في هذه الآية من حيث اللغة أحد عشر صنفًا من الكلام، نادت النملة، وكنّت، ونبهت، وسمت، وأمرت، وقصّت، وحذرت، وخصت، وعممت، وأشارت، واعتذرت‫.‬ أحد عشر صنفًا من الكلام، واسمع من باب الإشارة، من باب العلم بالشيء، يا‫:‬ نداء، أي‫:‬ كناية، ها‫:‬ تنبيه، ﴿يَا أَيُّهَا﴾ النمل‫:‬ تسمية، ادخلوا‫:‬ فعل أمر، مساكنكم‫:‬ قصص، مساكن، كيف كانت؟ وكيف حدثت؟ وكيف؟ وكيف؟ توحي الكلمة بأشياء، لَا يَحْطِمَنَّكُمْ: تحذير، سليمان‫:‬ تخصيص، وجنوده‫:‬ تعميم، وهم‫:‬ إشارة، لا يشعرون‫:‬ اعتذار عن سليمان، إذ لو حطمهم لابد أن يفعل ذلك بغير شعور، أما وإن شعروا فلا يمكن، ذاك من حيث اللغة، من حيث المعنى‫:‬ كيف نطقت ؟ ألها منطق ؟ ألها كلام ؟ حروف، كلام؟ لا نسمع هو سمع كيف عرفت سليمان ؟ كيف ميزت الجند وعرفت أنه جيش ؟ كيف تبينت أنه لا يظلم ولا يُظلم فى ملكه أحد ؟! كيف أسمعت قومها ؟ كيف أطاعوها ؟ كيف نبهت أن الدخول في المساكن يحميها ؟ هل عقلت ؟هل النمل يعقل؟ هل النمل يفهم؟ هل النمل يعلم؟ سبحان الله! فكما وجد علماء اللغه في كلام النملة ما أدهشهم فقد احتوى كلامها على أحدى عشر جنسًا من الكلام كذلك وجد أرباب المعاني في كلام النملة ما يدهش، ويذهل، ويدعوا إلى التأمل ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ﴾ ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ﴾ هنا نطقت النملة كما حكى ربنا (تبارك وتعالى) عنها ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أولًا : خاطبتهم مخاطبة العقلاء، صياغة الكلام مخاطبة عقلاء، ثانيا : تبين من هذا أن النمل يعقل، وأن النمل يفهم، أن النمل يتكلم؛ لأن سليمان سمع كلامها، وربنا يقول (فتبسم ضاحكا من قولها) إذا ً فقد قالت، تكلمت، وسمعها النمل، وخاطبت النمل مخاطبة العقلاء، وفهمت، وعقلت، وعلمت أن بقاء النمل في مكانه يؤدي إلى هلاكه، وتبينت أن القادم سليمان، وميّزته من دون الناس، وعلمت أن معه جيوش وجنود، وحذرت قومها وأمرتهم وأطاعوا أمرها، إذا ً فهي أمه منتظمة تأتمر بأمر من ولى عليها وحين قالت ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أثنت على سليمان، ووصفته بالعدل؛ إذ لو شعر بالنمل لأوقف جيشه، وإن حدث حطم فإنما يحدث وهم لا يشعرون، دون عمد، ودون قصد، فأثنت عليه ووصفته بالعدل والرحمة والرأفة، التفاتتها التفاتة مؤمن؛ إذ لا يميز بين العدل والظلم إلا مؤمن، كثير من المعاني يضيق المقام عن ذكرها، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ﴾ نداء وتنبيه، ﴿ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ أمر، ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ نهى عن الحطم، لكن الصياغة لابد لها من تأويل، والمراد نهي النمل عن التواجد في مكانه فيؤدي ذلك إلى الكسر والحطم، أي لا تتواجدوا في مكانكم فيحطمنكم سليمان فجاء النهى عن الحطْم ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ إذا ً فالمقصود نهي عن التواجد كقولهم "لا أرينك هاهنا" أي لا تكن بهذا المكان بحيث أراك، صياغه غريبة، أسلوب معجز أسلوب فيه التنبيه وبمنتهى الإيجاز ومنتهى التحذير والبلاغة ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ إن حدث الحطْم فإنه يحدث بغير قصد أو بغير عمد، وقد يكون المعنى ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ ليس حالا ًمن سليمان وجنوده وإنما وهم لا يشعرون أي قالت ذلك وجنود سليمان لا يشعرون بمقالتها وبكلامها ولا يسمعونه وإنما يسمعه سليمان فقط أو وهم لا يشعرون ،النمل، لا يشعرون أن كلام النمله مسموع من سليمان، فسمعها سليمان والكلام فيه اختصار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًۭا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىٓ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحًۭا تَرْضَىٰهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ٱلصَّـٰلِحِينَ ﴿19﴾
‫﴿ فَتَبَسَّمَ﴾ بَسَمَ يَبْسِمُ بَسْما ً وابْتسَمَ وتَبَسَّمَ والتبسم‫:‬ بداية الضحك، لكن التبسم قد يكون من غيظ، وقد يكون استهزاءً، تبسم استهزاءً من هنا بين نوع التبسم وأكده بقوله ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا ﴾ وقُرئت ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَحِكًا﴾، والنملة قرئت نَمُلة والجمع نَمُل، قراءة، إذا ً فقد سر بمقالتها وتبينا أن التبسم تبسم ضحك وليس تبسم استهزاء أو غيظ تبسم سرور، ﴿مِّن قَوْلِهَا﴾ إذا ً فقد كان منطقها كلامًا، وقولًا، يسمع ويفهم، ترى لم تبسم سليمان ؟ هل تبسم من حرص النملة على حياتها وحياة بني جنسها أو بنات جنسها ؟ هل تبسم من بلاغتها ؟ هل تبسم من شهادتها بالعدل والرحمة؟ ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ﴾ هنا قد نفهم لم التبسم، ﴿ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ﴾، ﴿ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيَّ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ﴾ قراءة الوزع‫:‬ الكف والمنع، أوزعني أن أشكر وكأن المعنى اجعلني أَزَع الشكر على النعمة، أكفّه، أمنعه عن التفلت مني، فلا أنفك شاكرًا لك ليلًا ونهارًا، أي ألهمني وقوّني على كف ومنع الشكر عن مفارقتي، أو ﴿ أَوْزِعْنِي﴾ وفقني وادفعني من أوزعه بالشيء : أغراه به فهو موزع، ألهمني الشكر ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ﴾ نعمة الملك، نعمة العلم، نعمة فهم منطق الطير، نعمة العدل والرحمة والرأفة التي شهدت بها النمله، ﴿ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾ إذ أن الإنعام على والديه إنعام عليه، والإنعام عليه إنعام على والديه، فالولد صنوا أبيه، والولد الصالح رحمة لأبيه، والأب الصالح رحمة لابنه، أم أراد إفشاء النعمة وتعظيم النعمة وتعميم النعمة فذكر والديه ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا ﴾ والغريب أنه قال ﴿ تَرْضَاهُ ﴾ هل لا يرضى ربنا عن العمل الصالح ؟ ترى أقال ذلك لإعلامنا ولأنه علم بأن العبرة بالقبول وبرضا الله وليست العبرة بصلاح العمل؟ أم أن العمل الصالح يختلف في وجهات النظر؛ فقد يعمل الإنسان عملًا وهو يعتقد أنه من الصالحات وهو عند الله غير ذلك، أما العمل الصالح على الحقيقة فهو العمل الذي يرضاه الله والذي يحكم عليه الله بأنه صالح، من هنا قال‫:‬ ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ ثم تواضع وهضم نفسه، وذاك ديدن الأنبياء والأولياء ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ يا سبحان الله! ملك ونبوة وولاية وعظمة ومع ذلك هاهو يتواضع لله، ويرجو رحمته ويقول ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ ﴾ لا بعملي فالعمل غير مضمون ولن يدخل أحدكم الجنة بعمله، بل أدخلني برحمتك في جملة عبادك الصالحين، منتهى التواضع، منتهى هضم النفس، لم يلتفت سليمان إلى جنوده متباهيًا متفاخرا ً أسمعتم؟ لقد سمعت قول النملة، لقد قالت نملة قفوا، وانظروا إلى النمل سوف يدخل إلى مساكنهم هل تفاخر ؟ هل اختال ؟ هل أخبر جنوده بما حدث ؟ أبدًا توجه إلى الله، نسب الفضل لله، وشكر الله على نعمته، وتمنى على الله أن يداوم على الشكر، وأن يؤدي حق النعمة بالعمل الصالح الذي يرضاه الله، ثم تواضع وهضم نفسه وطلب أن يكون في جملة عباد الله الصالحين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِىَ لَآ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ ﴿20﴾
‫﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ التفقد‫:‬ البحث عما غاب عنك تفقد الشيء، بحث عنه لأنه غاب، كلمة التفقد لابد أن تعني أن هناك شيء قد غاب وأنت تبحث عن هذا الشيء بعينه، لم تفقد سليمان الطير ؟ هاهو قد سمع قول النملة، أوقف جيشه حتى نجا النمل ودخل إلى مساكنه، ودعا الله ثم سار بجيشه، وتفقد الطير هل التفقد لأنه الملك العادل ومن عدالة الملك أن يتفقد الرعية، وأن يبحث عن أحوالها، وأن يرى ماذا هي، وكيف هي، وماتحتاجه هي، فمن ضمن تفقده الطير وفي تفقده ورعايته لجنده والبحث في شئونهم لم يجد الهدهد؟ أم تفقد الطير لأنه أحس بغياب الهدهد؟ كيف أحس ؟ كان سليمان في مسيره يحشر الطير- والطير اسم جنس يراد به جميع أنواع الطيور ومفرده طائر- كان الطير يظله وتلتصق الأجنحة فلا تنفذ إليه ولا إلى جنوده الشمس، وفي مسيرة نفذ شعاع شمس فجاء عليه، فنظر من أين أتى هذا هذا الشعاع، ومن أي ثغرة دخل، فوجد الشعاع قد دخل من مكان الهدهد فأحس بغيابه، أم أن سليمان أراد الماء لفراغ الماء؛ والهدهد يرى باطن الأرض كما يرى ظاهرها فإذا نظر في باطن الأرض عرف مكان الماء فأخبر سليمان، فأمر سليمان الجن فحفرت الآبار فخرج الماء فشرب الجيش، فأراد الماء فنظر إلى الهدهد فلم يجده، وأيا كان سبب التفقد هنا قال سليمان‫:‬ ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ ﴿مَا لِي﴾ قراءة أخرى، وياء النفس تفتح وتسكن باللغتين وكذلك في سورة يس ﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [سورة يس آية:٢٢]، ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ هذه الجملة بهذا النظْم وقف أمامها العلماء؛ بعضهم تكلم لغويًا قال الكلام من المقلوب كقوله (عز وجل) ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [سورة ق آية:١٩] وجاءت سكرة الحق بالموت فالكلام من المقلوب، والتقدير مال الهدهد لا أراه، كقولك لصديقك مالي أراك حزينًا، أي مالك أنت وليس مالى أنا، مالك حزين فهو من المقلوب والتقدير، مال الهدهد لا أراه ذاك قول علماء النحو، علماء المعنى، أرباب الحس القرآني قالوا : الكلام ليس من القلوب، وإنما سليمان عرف نعمة الله عليه وأحسها، وشكر عليها وأدَّى الحق، وحين فقد الهدهد فقد جزءًا من نعمة الله عليه؛ إذ أن الهدهد يظله، الهدهد يخبره، الهدهد يبحث عن الماء، الهدهد نعمة، أين ذهبت النعمة ؟ هل قصرت في الشكر عليها ؟ مالي لا أراى الهدهد ؟ ماذا حدث مني، وأين تقصيري، ذاك قول أرباب المعاني، وهكذا الأولياء هكذا العلماء وأرباب المعانى إذا افتقدوا شيئا من المال أو من النعمة بحثوا في أنفسهم ماذا حدث، هنا قال سليمان‫:‬ ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ أي "مالى أنا" ثم استدرك فقال ﴿ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ ﴿ أَمْ﴾ هنا منقطعه بمعنى بل، بل كان من الغائبين، تيقن أنه غاب هو الذي غاب، لم تفقد نعمة و و و إنما تيقن ولذلك أضرب عن الكلام، المسأله أنه غاب ﴿ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ كيف يغيب وكيف ينصرف وبغير إذن، كيف وله واجب وعليه واجب ؟ من هنا أقسم سليمان وتوعّد‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابًۭا شَدِيدًا أَوْ لَأَا۟ذْبَحَنَّهُۥٓ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَـٰنٍۢ مُّبِينٍۢ ﴿21﴾
لَأُعَذِّبَنَّهُ أو لَأَذْبَحَنَّهُ أو لَيَأْتِيَنِّي اللامات الثلاث عطف، اللام الأولى للقسم، والثانية للقسم، أما الثالثة فقد جاءت على النسق لأنك لا تقسم على غيرك، ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾ أقْسَم أي والله، ﴿ لَأَذْبَحَنَّهُ ﴾ قسَم، ﴿ لَيَأْتِيَنِّي ﴾ كيف يقسم على أن يأتي الهدهد بسلطان مبين، من هنا هذا ليس قَسَرا ً واللام ليست لام القَسَمْ وانتبه لها علماء اللغه وقالوا العطف على النَسَق فساقها سياق القسم لأنها معطوفه على قسم ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾ أي عذاب وكيف يُعذب ؟ قالوا بتنف ريشه الذي يزدان به، ويستدفي به، ويطير به، وقالوا بحبسه ووضعه في قفص، وقال بعضهم أبدًا لا بنتف الريش ولا بوضعه في قفص بل بوضعه في غير بيئته، مع غير جنسه، فلوْ وضع في وسط الدجاج ما عرفوا قيمته، ولو وُضع في وسط الطواويس لاحتقروه وصار ضئيلًا، فأشد أنواع العذاب أن يوضع الإنسان مع غير جنسه، من يساوونه في المعايير والمفاهيم وما إلى ذلك، فالتعذيب بوضع الهدهد مع غير جنسه سواءً كان أكبر أو أضخم أو أفحم أو كان أقل؛ لا يعرف الدجاج قيمة الهدهد بل يأخذ في نقره لأكل ريشه مثلًا، وقال بعضهم أبدا لا هذا ولا ذاك وإنما بإبعاده عن خدمته وحاشيته والنزول المعنوي من عُلُو إلى سُفْل، ﴿ أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ﴾ ويباح له ذلك في شريعته ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ بحجة واضحة ظاهرة وعذر قهري لغيابه‫.‬‬‬‬‬‬
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍۢ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِۦ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍۭ بِنَبَإٍۢ يَقِينٍ ﴿22﴾ إِنِّى وَجَدتُّ ٱمْرَأَةًۭ تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍۢ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌۭ ﴿23﴾ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴿24﴾ أَلَّا يَسْجُدُوا۟ لِلَّهِ ٱلَّذِى يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴿25﴾ ٱللَّهُ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ ۩ ﴿26﴾
‫﴿ فَمَكَثَ ﴾ ، ﴿ فَمَكُثَ﴾ قراءتان؛ بفتح الكاف وبضم الكاف، من الذي مكث؟ من الذي أقام؟ سليمان، انتظر قليلًا بعد هذه المقالة، وإذا بالهدهد يجيء، أو الكلام عن الهدهد وذاك أرجح فمكث الهدهد أي بقى، أو أقام مدة غائبًا ثم جاء بعد مدة قليلة، ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ سبأَ أوسبإٍ قراءتان، من سبأَ غير مصروف، اسم للمدينة، سبإٍ مصروف اسم لرجل سميت به القبيلة، ثمود غير مصروف لأنه اسم للقبيلة، سبأ غير مصروف لأنه اسم للقبيلة أو المدينة، أما إذا أردت به اسمًا للرجل الذي سميت به الناس والحي فهي مصروفة سبإٍ، ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ جرأة أن يخاطب الهدهد وهو من أدنى المخلوقات أن يخاطب الملك العظيم سليمان بهذه الجرأة، علمت مالم تعلم، وكيف غاب عن سليمان أمر بلقيس ؟ كيف؟ قالوا أخفاه الله عنه كما أخفى عن يعقوب مكان يوسف لحكمة، هل حين سمع سليمان ذلك تواضع وأحس بأن العليم هو الله وأن الإنسان مهما ارتفع مقداره فهو محتاج إلى الله، جرأه الهدهد لدفع العذاب، والكلام فيه اختصار جاء الهدهد فقيل له من الطيور أدرك‫.‬. أدرِكْ.. أدرِكْ.. تفقدك سليمان، أقسم ليعذبنك أو ليذبحنك أو تأتي بسلطان مبين وبحجه، أدرِكْ نفسك، حذروه وانتبه وأحس بالخطورة فجاء دفعًا للعذاب، ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ النبأ غير الخبر، إعجاز لغوي، قال علماء المعاني النبأ غير الخبر؛ النبأ : الخبر الأكيد، من هنا قال نبأ ولم يقل خبر، ﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً ﴾ الكلام لايمكن أن يكون متصل وإنما هناك اختصار بالحذف ثقة بفهم السامع والسورة مليئة بهذا، حين قال ﴿ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ لابد أن سليمان سأل وما ذاك النبأ ؟ ماذا الخبر ؟ ومن أذن لك بالذهاب ؟ وماذا حدث وماذا وجدت فقال ﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً ﴾ امرأة تملك وذاك غير مفهوم؛ فالملوك من الرجال والقادة من الرجال والسادة من الرجال، من هنا تعجب الهدهد وعجّب سليمان، ﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أوتيت من كل شيء تحتاجه المملكة أو أوتيت من كل شيء في زمانها شيئًا وحذف المفعول، أو أوتيت من كل شيء ولك أن تستوعب أنت ماذا يقصد الهدهد ما معنى أوتيت من كل شيء، مال، جمال، حكمة، عقل، ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ عرش عظيم بالنسبه لعروش الملوك، الهدهد يتكلم، الهدهد ينطق، الهدهد يعقل، الهدهد يفهم، الهدهد يميز بين الذكر والأنثى، فعلم أن الملكة امرأه، يقدّر الأمور حق قدرها، فعلم عظمة العرش، يفهم المسائل، ويعرف المحتاج إليه البشر، فيقول أوتيت من كل شيء، ماهذا الفهم ؟ ما هذا العقل ؟ حين أخبر الهدهد بهذا الملك العظيم، لم يستفز سليمان، لم يتأثر، وكان التقدير في فهمنا أوتيت من كل شيء ؟ أي شيء ؟ ماذا عندها ؟ ماذا رأيت، ماذا وجدت ؟ لابد أن يكون السؤال كذلك ولها عرش عظيم ؟ العرش سرير الملك ما وصفه ؟ ماحجمه ؟ ما طوله ؟ وكيف تملكتة امرأة ماسنها ؟ ما عمرها ؟ لم يهتز سليمان لأن الكلام في الدنيا لا تساوي شيئًا وتنبه! لم يعلّق وانتظر فبدأ الهدهد يستفز سليمان إذهابًا للتهديد، والتماسًا للعذر، ﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ وهنا فقط أصبح للكلام وزنًا ومعنًا، فهم مجوس، غير مسلمين، هم مشركون بالله، أولا يعرفون وجود الله أصلًا، أو يعتبرون أن الشمس هي الإله ﴿ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ كيف عرف الهدهد أن الله هو المستحق للسجود، وأن السجود للشمس كفر، وأن هناك شيطان، وأن الشيطان يزين، وأن فعلهم هذا من تزين الشيطان، ﴿فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ لايهتدون إلى سبيل الحق، وإلى طريق الصواب، أو فلا يهتدون أن يسجدوا لله أن يصدهم الشيطان لئلا يسجدوا، أو فلا يهتدون أن يسجدوا واللام زائدة إلى آخر ما قيل في هذا، ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ وقرأت ﴿أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ أَلَّا‫:‬ للتنبيه وقرأت ﴿أَلَا يَا اسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ ألا‫:‬ تنبيه، يا :نداء والمنادي محذوف، أي يا هؤلاء القوم اسجدوا لله وكأن الكلام تعليق من سليمان، أو الكلام عن الله (عز وجل) أو هو تنبيه ﴿أَلَا يَا اسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ قرأت بهذا على معنى النداء والتنبيه والأمر بالسجود، ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ والكلام متصل إذا ً فهو من كلام الهدهد وذاك أرجح، ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ والكلام هنا في هذه الآية وما قاله الهدهد كما حكى القرآن عنه من أعجب وأعظم الكلام، والإعجاز فيه والإيجاز فيه منتهى العجب؛ يصف الهدهد ربنا (سبحانه وتعالى) يصف الله الذي لا يسجدون له يتعجب الهدهد والكلام فيه تعجب من الهدهد وتعجيب لسليمان كيف لايسجدون لله !! من هو الله ؟ الذي يخرج الخبء، أصل كلمة الخبء مصدر خَبَأ يخبأُ خبأ ً والخبء اسم للشيء المخبوء كالخلق اسم للشيء المخلوق الخبء : الشيء المخبوء في غيره، كل ما خفى في غيره يسمي خبئاً حين يقول‫:‬ ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ماهو خبء السماوات ؟ المطر، السحاب، النجوم، مخبوءة ويخرج أي يظهر الخبء وهو ما خفِى في غيرة، يخرجه، يظهره، النجوم لا ترى بالنهار فإذا بها تظهر بالليل، من الذي أخرجها ؟ المطر مخبوء في السحاب، من الذي أخرجه ؟ النبات مخبوء في الأرض، من الذي أخرجه ؟ أسرار الكائنات وخصائص الموجودات كلام يحتاج لساعات، الحبة فيها الشجرة بالقوة، مخبوء فيها خرجت من الحبة إلى الفعل خرج المخبوء، فالحبة تخرج الشجرة، والشجرة في الحبة أصلًا، الماء قاطع للعطش بالقوة، وهو موجود، فإن شربته وأنت تشعر بالعطش قطع العطش بالفعل، خصائص الموجودات وأسرار الكائنات بها الأشياء كامنة، مخبوءة بالقوة، فإن خرجت إلى الوجود خرجت إلى الفعل الذي يخرج الممكنات من العدم إلى الوجود وهو الله، ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ ، ﴿وَيَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ قراءة بالياء، والكلام عنهم الذين يسجدون لله الذي يخرج الخبء في السموات وفي الأرض الخبء في كل شيء شيء مخبوء، السيف مخبوء فيه قوة القطع فإن ضرب السيف قطع قوة القطع أو خرج القطع من القوة إلى الفعل، خصائص الموجودات الكهرباء، والمغناطيسية، والجاذبية وما إلى ذلك أسرار الكائنات القوى المخبوءة في كل شيء والخبء ما خفى في غيره إخراجه : إظهاره، من الذي يظهر الممكنات من العدم إلى الوجوب والوجود ؟ هو الله واجب الوجود بذاته، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ تأكيد مرة أخرى وتوحيد، كلام الهدهد كلام أغرب من الخيال، كلام عاقل، كلام يفوق كثير من العلماء، كيف قال الهدهد ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ وهذه الآية فيها السجود إذا كانت ألا يسجدوا لله ذمًا لهم، وإن كانت ألا يسجدوا لله أمر بالسجود فهي تجب فيها سجدة تلاوة، إذا سجد الإمام سجد الناس، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ العظيمُ أو العظيمِ قرأت بالجر نعتًا للعرش، هنا وهنا فقط نطق سليمان ورد على الهدهد، ولكن نشعر بأنه قد اغتاظ ماالذي أغاظ سليمان حتى توعد وهدد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ ﴿27﴾
ما الذي أغاظه ؟ في الكلام حكاية عن أناس وجدهم الهدهد تملكهم امرأه أوتيت من كل شيء، لها عرش عظيم وجدها تسجد للشمس من دون الله، وكذلك قومها ووجدهم لا يهتدون وأن الشيطان زين لهم ، ماالذي أغاظ سليمان ؟ كان ساكتًا لم يعلق، ويبدوا أنه لا يوجد غيظ ولا يوجد اهتمام ولا توجد حتى المبالاه بكلام الهدهد لكن ظهر الآن غيظه ما الذي أغاظه حتى توعد الهدهد بقوله ﴿ ... سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ والغريب أنه لم يقل أصدقت أم كذبت، التقدير للكلام قال أصدقت أم كنت من الكاذبين، جاء بالاسم بدلًا من الفعل، والمعلوم أن الجملة الإسمية أثبت من الجملة الفعلية وآكد، وكأنه لو قال "أم كذبت" قد يكذب في هذه ولا يكذب في غيرها، أما إذا قال ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ صفة الكذب صفة بشعة فإن كذب مرة فهو من الكاذبين لا يوثق به مطلقًا بعد ذلك، ولذلك قال سننظر ونتحرى الأمر‫.‬‬‬‬‬‬
ٱذْهَب بِّكِتَـٰبِى هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴿28﴾
والغريب أنه لم يرسل أحدا ً غيره، قوة، ثقة في النفس، ملك، المفروض كما نفهم أن الحاكم إذا بلغه شيء عن أمر ما أو عن أناس أن يرسل الغير يتحرى صدق المبلغ، أما سليمان فسوف يعلم الصدق من الكذب من نفس المبلَّغ (اذهب أنت) ملك، ثقة، قوة، كيف تُسمى، ﴿فَأَلْقِهْ﴾ فيها لغات وليست قراءات، والبعض قد يخطيء ويعتقد أنها قراءات فَأَلقِهْ هي القراءة المعتمدة "فألقُهِ" فألقِه لغات وليس قراءات، ﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ﴾ الكلامْ عن بلقيس، ﴿وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾، والكتاب سيلقى إلى بلقيس فقال ﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ﴾ ولم يقل فألقه إليها، إذا ً فالأمر أمر القوم، إذًا فما أغاظ سليمان أنهم يسجدون للشمس من دون الله، إذًا فماحرك سليمان هذا الكفر الموجود على مقربة منه أو في مكانٍ في الأرض كيف وكيف هذا الذي أغاظه، من هنا أرسل الكتاب، ومن هنا توعد ﴿ ... سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ أما أوتيت من كل شيء، أما لها عرش عظيم، أما إنها امرأة، أما كل ذلك، فلم يهز في سليمان شعرة؛ فملك الدنيا تحت قدمه، والدنيا إلى زوال، أما يُكفر بالله وسليمان موجود فذاك أمر لا يطاق، أما أن يكفر بالله وسليمان لديه هذه الحشود فلا وألف لا، هذا الذي أغاظه، وهذا الذي جعله يفعل ذلك، وكل ذلك يفهم من كلمة ﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ﴾، ﴿ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ أدب يؤدبه تولى عنهم وابتعد، ولكن كن قريبا حتى تسمع، ﴿فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ ماذا يحدث من كلام وماذا يحدث من تدبير وارجع وأخبرني‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَتْ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَؤُا۟ إِنِّىٓ أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـٰبٌۭ كَرِيمٌ ﴿29﴾ إِنَّهُۥ مِن سُلَيْمَـٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴿30﴾ أَلَّا تَعْلُوا۟ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ ﴿31﴾
‫﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ﴾ الكلام مختصر اختصار شديد، والحذف فيه تم ثقةً بفهم السامع، والسامع إذا فهم يقدِّر المحذوف فيقول اذهب إليهم فألقِه إليهم وتولى عنهم فانظر ماذا يرجعون، أخذ الهدهد الكتاب بمنقاره وطار سريعًا عائدًا إلى بلقيس، وانتظر حتى غابت الشمس، ودخل الليل، ودخلت الملكه مخدعها، وغلّقت الأبواب، ونامت، وهدأت الحركة، وهدأت الأصوات، وقد علم الهدهد أن بلقيس لها كُوه يدخل منها شعاع الشمس في الصباح فيوقظها، وكما استيقظت الشمس تستيقظ بلقيس فتسجد للشمس، فتربص الهدهد حتى هدأت الأصوات، ونامت الملكة، وغلّقت الأبواب، ودخل من الكوة، وألقى الكتاب على مخدعها ثم خرج من الكوة وتربص وانتظر، وأصبح الصباح، ودخل شعاع الشمس من الكوة فسقط على وجه الملكة فاستيقظت، فقامت لتسجد للشمس فوجدت الكتاب على مخدعها فارتاعت، وارتعبت، وخافت، وقامت إلى الأبواب تنظر فوجدتها مغلّقة من الداخل من أين وقع الكتاب؟! نظرت لم تجد إلا الكوة إذا فقد جاء الكتاب من هنا، إذا ً فقد سقط من السماء، فدخل في روعها ذلك، وارتعدت، وخافت، وفتحت الكتاب، وإذا بفخامه الورق وفخامة ما كتب به، ثم فتحت فوجدته مستفتح بما لم تسمع به من قبل ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ وقرئت ﴿أَلَّا تَغْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ والكتاب مختوم، رعب، خافت، وارتعبت، وأخذت تتخيل من أين أتى هذا الخطاب، ورق لم تر له مثيل، والمداد لم تر له مثيل، والكلام والحروف تكاد تنير، والمعاني فوق الخيال، والمضمون أخطر من المظهر، خرجت مرتاعة، مرتعبة، نادت في الأحراس، جمعت الأشراف، جمعت رؤساء العشائر، قادة الجيوش، الأحراس، جمعت الكل ووقفت وأخبرتهم ﴿... يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ كل ذلك محذوف ولك أن تفهم لابد وأن يكون ذاك ماحدث، وصفت الكتاب بالكريم، وهو أجمل وأبلغ وصف لكتاب سليمان، كرم الكتاب في نظرها، ما هو ؟ كتاب كريم فخامة الورق، غرابة المداد، أنه سقط عليها من السماء ولا تدري كيف جاء وكيف دخل وكيف وصل إلى مخدعها إلى مكان نومها فذاك يدل على أن الكتاب كريم، أم أن الأسلوب المكتوب في الكتاب أسلوب تلطف، أسلوب حكمة، أسلوب موعظه، لأسباب فيه لا لقن فيه، لاتهديد، ولا وعيد، كعادة الجبابرة ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ منقادين، طائعين، هل ذاك كرم الكتاب؟ أم أن الكتاب مصدَّر باسمة ﴿ مِن سُلَيْمَانَ﴾ بدأ بنفسه، ولا يبدأ بنفسه في الكتاب إلا العظيم، أهو كذلك؟ مالذي جعلها تحكم على الكتاب بالكرم ؟ لابد أن القوم ردوا عليها أي كتاب؟ ومن أين جاء؟ وكيف عرفت أنه كريم؟ ما هذا الكتاب؟ وماذا فيه؟ قالت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين، إذا ً فقد أُثبت سليمان في الكتاب، وعنوان الكتاب، ومن صدر الكتاب، ولمن صدر الكتاب، ومضمون الكتاب، والهدف من الكتاب، وإذا لم تحدث الطاعة ماذا يكون، كل ذلك في هذه الكلمات ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بسم الله، ليست الشمس، بسم الله وبأمره، بسم الله بسلطانه، بسم لله بقدرته، بسم الله ببركة هذا الاسم، بسم الله بعظمته وسلطانه وملكوته، الرحمن الرحيم ومن يرحم لابد وأنه يقدر على العذاب؛ إذ لا يرحم إلا من قدر على العقاب الرحمن إذا ً فهو قادر على العقاب، الرحيم إذا ً فهو جبار منتقم، صفات الله، الصفات الأساسية، ﴿ مِن سُلَيْمَانَ﴾ عظمة يتحدث عن نفسه، ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ﴾، ﴿أَلَّا تَغْلُوا عَلَيَّ ﴾ من الغلوّ ألا تعلو عليّ العصيان أو التمرد أو عدم الطاعة، ﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ مسلمين لله طائعين منقادين، ﴿وَأْتُونِي﴾ لم يقل آتيكم ولم يقل أفعل ولا أفعل، أْتُونِي مسلمين وهنا قرأت الملكة الكتاب ماذا تتوقع من سياق الآيات ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ سألوها ممن وكيف وماذا يريد؟ فقالت إنه من سليمان ومفتتح بسم الله الرحمن الرحيم ويطلب ألا تعلوا علي واتوني مسلمين، والمفهوم هنا أن الناس حين سمعوا الكتاب والملأ حين رأى رعب الملكة، واهتمام الملكة، وخطورة الخطاب كأن على رءوسهم الطير، سكتوا تمامًا، لم ينطق مخلوق، ولم ينبت أحدهم ببنت شفة حتى اضطرها لإعادة الكلام والنداء مرة أخرى والتنبيه‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَتْ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَؤُا۟ أَفْتُونِى فِىٓ أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ ﴿32﴾
إذا ً فقد سكتوا، ودخلتهم الرهبة من الكتاب، من كتاب سليمان، فكيف بسليمان إذا كان هذا فعل كتاب؟ فكيف رهبته هو؟ ﴿ يَا أَيُّهَا المَلَأُ﴾ : الأشراف، ﴿ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾ ما رأيكم في أمري، الحادث الآن سكتوا مرة أخرى، هنا استدرجتهم، واستعطفتهم للتأييد والإعانة فقالت ﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ أي لن أفعل شيئًا إلا بمشورتكم، كيف قالت لهم ذلك أمور وأمور وسبحان الخلاق العليم الوهاب الكريم الذي يهب ويعطي ما يشاء لمن يشاء كيف شاء ومتى شاء‫.‬ فقد جمعت ملكة سبأ أشراف قومها، وقادة جندها، وأخبرتهم بأمر كتاب سليمان، ثم سألتهم كما يحكي القرآن ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ ومن نَسق الكلام، وسياق الكلام، يبدو والله أعلم أن الرهبة أخذتهم، والخوف ألجم ألسنتهم، وسكتوا وكأن على رؤوسهم الطير حتى أنها كررت النداء قالت يا قوم إني ألقى إليّ كتاب كريم، وحين أنهت خبر الكتاب، قالت ياأيها الملأ أفتوني في أمري، تكرار النداء، وتكرار التنبيه يفيد بأنهم سكتوا، ثم هاهي تستدرج معونتهم وتختبر قوتهم، وترى مدى تماسكهم واتحاد كلمتهم، واستعدادهم بالتضحية بأنفسهم حمايةً لملكتهم ومملكتهم، قالت ما كنت قاطعة أمرا ً حتى تشهدون وكأنها تبين أنها لن تتخذ قرارًا إلا بعد مشورتهم وبناءً على موافقتهم، حكمة، وما خاب من استشار، وهكذا ديدن الحكماء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالُوا۟ نَحْنُ أُو۟لُوا۟ قُوَّةٍۢ وَأُو۟لُوا۟ بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ وَٱلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴿33﴾
كلام الجنود، وكلام القادة نحن أولو قوة في الأجسام، وفي العدد، وأولو بأس شديد، ثبات في اللقاء، وصبر، ومجالدة على القتال، أردت حربًا فنحن لها أهل، أردت غير ذلك فانظري ماذا ترين، والأمر إليك موكول، ونحن رهن الأمر والإشارة، لا نملك إلا السمع والطاعة، يدل الكلام على قوة شخصية الملكة، وعلى حب الناس لها وتأييدهم لقرارها وسمعهم لأمرها، وهنا تظهر الحكمة في أجلى معانيها، ظهرت حكمة الملكة، وفطنتها، وخبرتها بالأمم، وبالحروب، ودهاؤها كذلك‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا۟ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوٓا۟ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةًۭ ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ﴿34﴾
أي إن أردتم حربًا نحن على غير استعداد لها، طالما أرسل كتابه، وعرف مكاننا، وأرسل يسألنا الاستسلام والطاعة، فلابد أنه أعد للأمر عدته في حالة رفضنا أو عصايننا سيهاجمنا، فإن اخترنا الحرب فاجأنا على غير استعداد، ودخل بلدتنا وديدن الملوك الذين يبتغون الملك والسلطان إذا دخلوا قريه -وهناك تقدير لكلمة عنوة إذا دخلوا قريه عنوة لأنهم قد يدخلوها صلحًا أو لزيارة- إذا دخلوا عنوة أفسدوها بالتخريب، بالتدمير، بالهدم، والحرق، وجعلوا أعزة أهلها أذله بسلب أموالهم، وتخريب ديارهم، وما إلى ذلك من الإهانة، والأسْر، والتشريد، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وأنزلوهم من مكانتهم، أخذوا أموالهم، واستولوا على ديارهم، ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ تأكيد لقولها وعلمها ولكلامها، وتقرير للأمر، أي هذا ديدنهم، هذا أمر مستقر وثابت في التاريخ، وكل الملوك كذلك، أو ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ سليمان وجنوده إذا دخلوا قريتكم ، كما يفعل الملوك يفعل سليمان وجنوده، قال بعض العلماء أن الوقف في الآية ﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ﴾ هنا وقف تام أو لازم، ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ تصديق الله (عز وجل) على قولها، فهو ليس من كلامها والبعض كما قلنا يقول هو من تمام كلامها وكذلك يفعلون وذاك أرجح والله أعلم ثم بدأت في حيلتها والإعلان عن قرارها‫.‬‬‬‬‬‬
وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍۢ فَنَاظِرَةٌۢ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ ﴿35﴾
‫﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ﴾ أي مرسله إليهم رسلًا بهديه؛ لأن الهدية لا تذهب بمفردها لابد من حامل لها ﴿ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ الهدية أكثر الناس في وصفها وامتلأت كتب التفاسير بشأن الهدية صفحات وصفحات ولا يعنينا شيء في الهدية، خاصةً إذا كان الكلام جاوز الخيال جواري، وغلمان، والغلمان يلبسون ملابس الإناث، والإناث تلبس ملابس الشباب والرجال ودرّة مصمتة و أشياء و أشياء لا تقدم ولا تؤخر في العبرة‫.‬‬‬‬‬‬
فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَـٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍۢ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيْرٌۭ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴿36﴾ ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍۢ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةًۭ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ ﴿37﴾
‫﴿ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ﴾ وهنا اختصار وإيجاز بالحذف ثقة بفهم السامع إذ لا يمكن أن يكون الكلام هكذا متصلًا، لابد وأن يكون هناك كلام حذف اختصارًا وهو ما يسمي الإيجاز بالحذف ثقه بفهم السامع، وذاك كثير في القرآن لإعطاء مساحة للناس لإعمال العقل والفكر؛ إذ إن إعمال العقل في كلام الله (عز وجل) المحكم والثابت ممنوع، ومن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ولابد في الكلام عن القرآن من أمور كثيرة‫:‬ أولًا أن يكون مسندًا بالسماع والتلقي من العلماء والشيوخ ثم من ثم من‫.‬.. إلى الأتباع إلى الصحابة إلى سيد الخلق، من هنا التفكر والتأمل والتدبر يعطي ربنا مساحة للعقل ولإعمال الفكر، ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ(٣٥) فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ.. ﴾ هناك كلام تُرى ما هذا الكلام؟ وما تقديره لسامع مثلي أو لأي سامع له أن يقدر، أعدت الهدية واختارت من الهدايا ما يلفت النظر، واختارت من الهدايا أنفْسَها، وأغلاها، وأعجبها، وجهزت الرسل، وزودتهم بزادهم، وبما يركبون، ثم نبهت، وأمرت، وبيّنت، اذهبوا بالهدية إليه وارجعوا إليّ وأخبروني كيف استقبلكم؟ هل قبل الهدية أم ردها؟ ما شكل مدينته، أهي محصنة ؟ ألديه حصون ؟ ما أحوال شعبه؟ أهم ملتفون حوله ؟ أهم سامعون أمره ؟ أهم محبون له ؟ هل يفتدونه بأنفسهم لو دخل بهم حربًا ؟ ما سلاحهم ؟ ما عدتهم ؟ أهي بلدة غنية أم بلد فقير ؟ ماهو العرش الذي يجلس عليه؟ كيف هو ؟ كيف قصره ؟ كيف الأحراس ؟ أهو في حرس شديد أم هو مطمئن على نفسه بين رعيته ؟ هل سلّح حراسه وبأي نوع من السلاح ؟ ماذا يركبون؟ ماذا يأكلون ؟ هل الناس متآلفون ؟ هل بينهم مودة ورحمة ؟ لابد وأن تعرف كل صغيرة و كبيرة قبل أن تقدم على ما سوف تقدم عليه إن اضطرت إليه ألا وهو الحرب، خرج الرسل وحملوا الهدايا وسافروا ووصلوا فلما جاء سليمان لابد وأن يكون التقدير كذلك، ﴿ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ﴾ جاء الرسول أو جاء الرسل وقرئت ﴿جاءوا﴾ وهو رسم مخالف للمصحف ولكنها قرأت، فلما جاء سليمان الرسل بالهدايا ﴿ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ وفيها قراءات ﴿ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ بغير ياء بنون مكسورة ﴿ قَالَ أَتُمِدُّونّي بِمَالٍ﴾ قراءه كقوله ﴿أتأمرونَّي﴾ ، أو ﴿ قَالَ أَتُمِدُّونَّ ﴾ بغير ياء، ﴿ فَمَا آتَانِيَ ﴾ قراءة ﴿ فَمَا آتَانِ ﴾ قراءه، ﴿ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ وهنا لابد من التوقف أمام هذه الآية، رفض الهدية سليمان، الكلام يدل على أنه رفض الهدية، وردها قائلًا أتمدونني بمال، والإمداد إعطاء زيادة عما عندك، أي أتضيفون إلى ما عندي من أموال مالًا؟ فما آتانيَ الله من الملك، والنبوة، والفضل، والمال، خير مما آتاكم، إذا ً فهو ليس محتاجا ً للمال، وما عنده من مال أشد، وأكثر، وأعظم، وهو يشير إلى النبوة، ولا شيء يعدل النبوة، ثم أضرب عن هذا الكلام وبيّن قاعدة الهدية : من أُهدى له فرح بزيادة المال، ومن أَهدى افتخر بما أعطى، من هنا قال بل أنتم وليس أنا بهديتكم تفرحون، إن أخذتم فرحتم بالاستزادة من المال، وإن أعطيتم تفاخرتم بقيمة الهدايا التي تُهدونها للغير، ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ طرد للرسل، أمر الرجوع بعد ما رد الهديه ورفضها، ارجع إليهم وقال أيضًا المفسرون في شأن هذا أمورًا كثيرة، منها أنه علم ما سوف يأتي من هدايا فجهز ساحة وجعل الحجارة فيها لبنة من ذهب، ولبنه من فضة، وهيأ الساحة بما يشبة ما أتى به الرسل ثم جعل مكانًا معينًا منها فارغًا، حتى إذا جاء الرسل خشى الرسول أن يعتقد سليمان أنه خلّع البلاط من الأرض ودخل به فبدأ يقذف ما معه ويضعه في الأماكن الخالية، كلام لا سند له بدليل أنه قال أتمدونني بمال إذا فقد وصل إليه الهدايا، ﴿ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ اللام هنا لام التأكيد، أو لام القَسَمْ، ﴿لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا﴾ : لا قدره، أصل كلمة قبل بمعنى المقابلة، عبر بها عن القدرة مجازا، ً أو كناية أي لا قدره لهم على مواجهتها، ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا﴾ من بلدتهم، ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ نخرجنهم منها أذلة بعد العز الذي كانوا فيه، بعد الأمن الذي كانوا فيه، بعد الرفاهية التي كانوا فيها ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ طائعون منقادون قهرا ً.‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَؤُا۟ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ ﴿38﴾ قَالَ عِفْرِيتٌۭ مِّنَ ٱلْجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌۭ ﴿39﴾
الكلام هنا أيضا فيه اختصار من اللازم أن يكون الكلام هنا فيه إيجاز بالحذف ﴿ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ فرجع الرسول بالهدايا إلى ملكه سبأ، وأخبرها الخبر، وشرح لها، وأوضح ما رآه من عز، ومن قوة، من ملك، من سلطان، من رعية طائعة، استقامة، طاعة، عبادة، تآلف، تراحم، إسلام في عصر الإسلام، إسلام في عصر نبوة سليمان، تآلف، تراحم، لاغش، لاكذب، لاغدر، لا خيانة، تحابب، تآلف، وتوادد، وطاعة لسليمان، حب يصل إلى درجة التقديس، أخبرت بكل ذلك، ولابد أنها جمعت أشراف قومها، وملوك عشائرها، لتخبرهم وتسمعهم بما يقوله الرسل، وهنا قررت ملكه سبأ أن تأتي إلى سليمان طائعة منقادة، وأرسلت إليه تخبره بمجيئها، من هنا قال ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ هم يأتوا لم يخرجهم، ولم يحاربهم، علم بمجيئهم فأراد أن يأتي بالعرش قبل أن يأتوا، إذا ًفقد عاد الرسل وأخبروها وقررت، هنا لابد وأن تعرف لم رد سليمان الهدايا؟ والهدية تقبل في شرعنا، ونبينا كان من علامته أنه يأخذ الهدية ولا يأخذ الصدقة، وذاك ديدن الأنبياء، وسليمان نبي، فلم رفض الهدية؟ وهي لم أرسلت له الهدية أصلًا ؟ هي أرسلت الهدية كسبًا للوقت، الرسل يذهبون بالهدية وترى، وأثناء وصول الرسل وسفر الرسل مده تستعد تجهز جيشها، تقوّى حصونها، تجمع جندها، تستعد للحرب إذا اضطرت إليها، الأمر الثاني إذا قبل الهديه فهو ملك، يريد المال، أمره يسير، نلهيه بالمال هدية وراء هدية، ثم نفاجئه وندخل بلده عنوة ونقتله، وإذا لم يقبل الهدية فهو نبي، وإن كان نبينًا فلا قبل لنا بمحاربة نبي، وهنا لابد لنا من التسليم والطاعة ؛ فمن يقوى على محاربة الأنبياء، حين رد سليمان الهدية علمت أنه نبي وليس بملك، من هنا قررت الطاعة، وقررت أن تذهب إليه، وأخذت أشراف قومها، ورؤساء عشائرها إليه، أما هو فلم رد الهدية؟ وكيف ردها وليس ذاك سلوك الأنبياء؟ ردها لأنه علم بنيتها أولًا، ثانيًا الهدية للتوادد،للصلة، للتحابب، (تهادوا تحابوا)، فالهدية من أجل المودة، من أجل الصلة، هل كان ذاك غرضها؟ أم غرضها الاختبار؟ الأمر الثاني أن سليمان يدعوها للإسلام، وترك الشرك، إذًا فهو يطالب بأمر من أمور الدين، وأمور الدين لا يقبل فيها هديه، وَأْتُونِي مسلمين ذاك الطلب لا فديه فيه، ولا تقبل هدية فيه، من هنا رد الهدية، ومن هنا علمت أن سليمان نبي، وقررت الوصول إليه، وعلم بمجيئها، أرسلت إليه الرسل بعدما جاءوها وردوا لها الهدية، أرسلت له مرة أخرى تخبره بمجيئها طائعة لترى ماذا يريد فقال ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ، إذا ً فقد علم أنهم آتين لا محالة، هذا القول قاله سليمان في مجلسه مع الجن، وكان له مجلس مع الجن، ومجلس مع الإنس، مجلسه مع الجن كان أول النهار وإلى منتصف النهار، وهو في مجلسه مع الجن سأل ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾، لم طلب العرش ؟ قالوا لو جاءوا مسلمين حرم عليه أخذ أموالهم فأراد أن يستولي على العرش قبل إسلامهم؛ إذ لا يحل له أن يأخذ أموالهم، كلام مرفوض، لا يمكن أن يكون ذاك غرض سليمان يستحيل، مال ؟!! وقد رأى رسل بلقيس المحاريب، والتماثيل، والجفان كالجواب، والقدور الراسيات، رأوا اللآليئ والجوار، رأوا، ورأوا، ماذا يكون عرش بلقيس إلى جوار عرشه؟ إلى جوار ما معه من الشياطين بنّاء وغوّاص؟ فهل يطمع سليمان في عرش بلقيس ويحتال ويأتي به حتى يحل له أخذ العرش قبل إسلامهم؟ ومن أدراه أنها أسلمت قبل أن تأتي؟ كلام مرفوض لكن حفلت به كتب التفاسير، ونحن نبريء سليمان بفضل الله (عز وجل) عما قيل في شأنه، كما برأنا داوود عما قيل في شأنه، وموسى عما قيل في شأنه من اللدغ في لسانه، ويوسف عما قيل في شأنه، الأنبياء مبرأون، مطهرون، معصومون، مختارون أمثلة عليا للكمالات البشرية في منتهى مراقيها، إذًا لم طلب العرش ؟ قال آخرون ليرى صدق الهدهد، صدق الهدهد قد تبين من الكتاب ومن الرسل الذين جاءوا، قالوا وصف الهدهد للعرش بالعظمة استفز سليمان، أراد أن يرى ماهي عظمة هذا العرش، وكيف شكله، كل ذلك كلام غير مقبول عقلًا، والمقبول ما قاله المحققون من العلماء : أراد سليمان أن يأتي بعرشها ليريها معجزة تجعلها تستلم وتؤمن فورًا دون مراجعة، أراد أن يريها قدرة الله (عز وجل) الموجود، الواحد، الأحد، الذي أنبأها به ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أراد أن يريها معجزة تدل على صدق نبوته، فما من نبي إلا ما كان معه ما على مثله آمن قومه، ولكن نبينا (صلى الله عليه وسلم) أوتي القرآن، فهو يريها معجزة ليدلل على صدقه في ادعاء النبوة، هناك أمر آخر قد يتضح من سياق الكلام، ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ ﴿قَالَ عِفْر﴾ ، ﴿قَالَ عِفريَة﴾قراءة أخرى ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ العِفْر والعفْرِىَ العفريت الشديد القوي من الجن إذا كان معه خبث ومكر، ومنه قولهم تعفرت الرجل إذا اشتد في الإيذاء وكان خبيثًا ماكرًا، ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾ ليس أن تقوم من جلوسك إلى حالة القيام، ﴿قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾ أي من مجلس الحكم الذي أنت فيه، وقت يمتد من أول النهار إلى نصف النهار، ﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ أستطيع حمله ولا يُفقد منه شيء، أمين على ما فيه ولا أختلس منه شيئًا، ولا أفقد منه شيئًا ولا يقع قويٌ على حمله أمين على الإتيان به كما هو دون تغيير ودون تبديل‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ ٱلَّذِى عِندَهُۥ عِلْمٌۭ مِّنَ ٱلْكِتَـٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِىٓ ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّۭ كَرِيمٌۭ ﴿40﴾
‫﴿ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ﴾ من القائل هنا ؟ قالوا جبريل، قالوا الخَضِر، قالو مَلَك بيده كتاب المقادير، قالوا وزير سليمان، قالوا سليمان، الأقوال الثلاثة الأولى مرجوحة قطعا ً والخلاف إما أن يكون القائل آصف وزير سليمان، وقد وهبه الله (تبارك وتعالى) معرفة الاسم الأعظم الذي إذا دعى به ربنا أجاب، وإذا سئل به أعطى، وقيل بل هو سليمان نفسه، فإن كان الوزير فهي كرامة، وإن كان سليمان فهي معجزة، الذين قالوا أن القائل الوزير قالوا سياق الكلام يمنع أن يكون القائل سليمان ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ﴾ إذا ً فشخص آخر نطق لبيان فضل العلم وشرف العلم، ﴿عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ﴾ اللوح المحفوظ، ﴿عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ﴾ إسم جنس للكتب المنزله حامل لها، حافظ لها، فاهم لها، يعرف كيف يستخدمها في طاعه الله (عز وجل) والتقرب إليه، أو عنده علمٌ من اللوح المحفوظ، رد عليهم أن القائل سليمان والرد للعفريت، العفريت قال ﴿ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾ قال سليمان ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾والرد للعفريت، الطالب للعرش سليمان لكن الكلام لابد وأن يأخذ هذا النسَقْ ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ القائل سليمان، إن كان قادرًا على الإتيان بالعرش قبل إرتداد الطرف، وارتداد الطرف أن تفتح العين ثم تغلقها، إنطباق الجفنين، إذا انطبق الجفنان ارتد الطرف، إرسال الطرف أن تنظر للشيء ثم تغمض عيناك، ما بين فتحه العين وغمضتها يأتي العرش، قادر سليمان على ذلك فلم سأل العفاريت ؟ قيل أراد أن يبين لهم أنه قد تأتَّى له من فضل الله ومن المعجزات مالا يتهيأ للعفاريت فكيف بسواهم فضلًا عن غيرهم؟! أراد أن يظهر المعجزة وأن يظهر فضل الله (عز وجل)، سواءً أكان القائل سليمان أم كان القائل الوزير المهم لم ينتظر إجابة، القائل لم ينتظر إجابة، فإن كان القائل سليمان فلم ينتظر إجابة العفريت، وإن كان القائل من عنده علم من الكتاب الوزير لم ينتظر إجابة سليمان، وموافقة سليمان، بدليل قول الله (عز وجل) ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ﴾ وكأنه قال له أنا آتيك به قبل أن تغمض عينيك هاهو!! لم ينتظر لأنه لو انتظر لمضت المدة، من هنا قال ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ﴾ أمامه، بين يديه، العرش، سرير الملك بما عليه وبما فيه، قالوا كيف وصل العرش إلى سليمان والمسافه بين العرش وبين سليمان مسيرة شهرين ؟ قالوا انخرقت الأرض ونزل فيها العرش ثم نبع من بين يدي سليمان يعلم الله، وقالوا بل حُمل في الهواء، وقالوا إن الله (تبارك وتعالى) أعدم الجوهر في مكانه أي المادة أفناه وأنشأه بين يدي سليمان، هو يبدأ الخلق ثم يعيده (سبحانه وتعالى) وذاك أعتقد والله أعلم هو أرجح الأقوال، أن يُعدِم المادة في مكانها ثم يعيدها بين يدي سليمان قبل طرفه العين فأمره (عز وجل) بين الكاف والنون، كن فيكون، فلما وجده عنده تلقى النعمة بالشكر كديدن الصالحين، تلقى النعمة بما يجب الشكر ﴿ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ﴾ أي ليس باستحقاقي، لست مستحقًا لذلك، ولا بمجهودي، ولا بعرقي، ولا بفكري، ولا بقدرتي، فضل الله، كذلك يتلقى الصالحون النعم، يتلقونها بردها إلى الله، إسنادها إلى المنعم والشكر عليها، ﴿ لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ ﴾ يختبرني يمتحني ءأشكر نعمه، أم أكفر فضله وإحسانه، يختبرني ءأشكر الإنعام أم أجحد الفضل وأنسبه إلى نفسي، أن يجعل نفسه في البَيْن كما يقول الصوفية، ءأشكر إنعامه أم أجحد إحسانه، ثم علق قائلًا مقررًا قاعدة أصولية معلومة ﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ عائد الشكر إليه، والشكر قيد النعمة الموجودة، وبه تنال النعمة المفقودة، ولذلك قال نبينا قيدوا النعم، أي كتفوها، قالوا وما قيد النعم يا رسول الله قال الشكر، يقول الله (عز وجل) ﴿لئن شكرتم لازيدنكم﴾، ﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ فإن ربي غنيٌ عن شكره، كريم بإعاده الإنعام رغم الكفر والجحود، فقد رأى سليمان العرش أمامه سواء كان هو الآتي به أو كان وزيره، ونسب الفضل لله (عز وجل) واستقبل النعمة وتلقاها بالشكر وبين للسامعين وللناس إلى يوم الدين فكلامه يحكى في القرآن ﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾.‬‬‬
قَالَ نَكِّرُوا۟ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِىٓ أَمْ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴿41﴾
‫﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾ التنكير ضد التعريف، والتنكير معناه أن تجعل الشيء بحيث لا يُعرف، ﴿ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ﴾ غيروا هيئته، وحاله، وشكله، إلى حال إذا رأته تنكره، اختبارًا لعقلها، اختبارًا لذكائها، قيل، وفيه كلام لا يقال إن الجن قالوا له إنها مخبولة فأراد أن يختبر ذكائها، كلام لا يصح أن يكتب أو يوجد في الكتب، ﴿ نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ نرى أتهتدي للإجابة الصحيحة؟ أتهتدي لمعرفته؟ أتهتدي إلى الله (عز وجل) وتثق في نبوتي حين ترى المعجزة؟‬‬‬
فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَـٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُۥ هُوَ ۚ وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴿42﴾ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍۢ كَـٰفِرِينَ ﴿43﴾
إذا ً فالكلام أيضا فيه اختصار، فنكّروا لها العرش، وغيروا شكله كما يتنكر الإنسان حتى لا يُعرف، وغيروا حاله، تُرى هل فعل سليمان ذلك حتى لا تُفجأ، أو تصدم، أو تخر مغشيًا عليها؛ فأراد أن يمهد لها الأمر تدريجيًا ، تخيل لو أنك خرجت من بيتك وذهبت لزيارة صديق وفتح لك الباب ودخلت فإذا بسريرك أمامك، إذا بملابسك، أو حجرة نومك أمامك في بيت الصديق، ماذا يحدث لك ؟ تقع مغشيًا عليك؟ يعلم الله، ذاك تأمل فقط ﴿قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ وانتبه لكلمة ﴿قِيلَ﴾ الكلام فيما سبق قال أيكم، قال أنا آتيك به هنا ﴿قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ لم يقل أهذا عرشك القائل، ونحن نعتقد أن القائل غير سليمان، القائل من الحرس، من الوزراء من أمرهم باستقبالها، أما هو فلم تره بعد بدليل كلمة قيل، قبلها قال وبعدها سوف يأتي قال، هنا ﴿قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ تشبيه أغرب ما في الأمر أنها شبهت على السائل كما شبّه عليها قالت ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ منتهى الذكاء، منتهى الفطنة، منتهى اللباقة، لو قال أهذا عرشك لقالت نعم هو، ولكن حين قال أهكذا أي مثل هذا العرش عرشك قالت كأنه هو، لم تقل نعم مثل العرش، عرفت أن الذي أمامها عرشها، قال المفسرون غلّقت عليه الأبواب، وغلّقت عليه القصور، من أين يتأتى لها أن سليمان سوف يأتي بالعرش، المهم هي عرفت أن ذاك عرشها ولكنها أرادت التشبيه، وترد بنفس أسلوب السؤال كأنه هو، ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ من القائل ؟ قالوا سليمان وذاك أمر مرجوح لا نعتقد لأنها لم تر سليمان، ولم يكن حاضرًا بدليل قيل، وبدليل ما سوف يأتي، قيل قوم سليمان، وقيل هي القائلة وذاك أرجح الأقوال، ويتفق مع نسق الكلام، وسياق الكلام، معنى كلام بلقيس كأنه هو وقد علمنا من قبل هذه المعجزة أن سليمان نبي، منذ أُلقي إلينا الكتاب الكريم، وأوتينا العلم بنبوته، وصدقه، وبقدرة الله (عز وجل) من قبلها، من قبل هذه المعجزة، وهي الإتيان بالعرش، وكنا مسلمين لله (عز وجل) من قبل أن نأتي، من قبل هذه المعجزة، ذاك منطق الكلام، أما إن كان القائل سليمان كما قال بعض الناس فكأنه يتحدث بنعمة الله ويقول نحن أسلمنا قبلها، إذًا فقد عرف إسلامها من جوابها ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ إذًا فقد أيقنت بالمعجزة، وطالما أيقنت بالمعجزة إذًا فقد صدقت بنبوته، وطالما صدقت بنبوته فقد أسلمت، فأراد أن يبين إن فضل الله عليه أنه أسلم من قبلها، من قبل بلقيس، وأوتينا العلم من قبلها والأرجح أن القول قول بلقيس ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ من قبل المعجزة وعلمنا بصدق نبوة سليمان وكنا مسلمين لله (عز وجل) ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ ، ﴿ أنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ قراءة، قيل كلام سليمان من الذي صدها ؟ وعن أي شيء صدها ؟ وصدها ما كانت تعبد، أي صدتها عبادة الشمس عن عبادة الله (عز وجل) وصدها سليمان عن عبادتها الشمس بأن حال بينها وبين عبادتها، وصدها الله (عز وجل) عن دينها وهداها إليه، ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ أنها، إنها قراءة تأكيد للكلام أو تعليل لصدودها عن عبادة الله وكيف صدها عبادة الشمس عن عبادة الله وكأن الكلمة (إنها كانت أو أنها كانت من قوم كافرين) بيان لأثر البيئة على الإنسان فمن نشأ في بيئة فاسقه غير من نشأ في بيئة صالحة ومن شب ورأى أباه يصلي ليس كمن شب ورأى أباه يعاقر الخمر، ومن شب وتربى على الأمانة في بيته ليس كمن شب وتربى على السرقة والخيانة، وكأن الآية تبين أثر البيئة والبيوت والعائلة والمجتمع فانتبهوا أيها الناس ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ أي أن البيئة لها أثر عليها أما لو تركت بغير بيئة، أو نشأت في بيئة غيرها لاهتدت إلى الله بفطرتها السليمة‫.‬‬‬‬‬‬
قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِى ٱلصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةًۭ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرْحٌۭ مُّمَرَّدٌۭ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿44﴾
‫﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ من القائل ؟ الصرح : ساحة الدار، الصرح : صحن البيت، صحن القصر ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ﴾ ما يتصور من الآية أنها استقبلت واستقبلها مسئولون مندوبون عن سليمان أروها العرش، وسألوها، وأجابت بفطنة بذكاء، بعقل حكيم، وتبين لها المعجزة ثم هُيأت تدريجيًا بتمويه العرش، ثم قيل لها ادخلي الصرح، والصرح : الصحن، وفي آخر الصرح يجلس سليمان على كرسيه، سليمان لم تره، سمعت ولم تر، وليس من سمع كمن رأى، فلما دخلت وفوجئت بالماء والأسماك تسبح، وكأنها سوف تسير على الماء، ولم تر الغطاء من الزجاج، فكشفت عن ساقيها حتى لا تبتل، لم دخلت ؟ لو كان الذي تراه ماء لم خاضت فيه ؟ لأنه لابد لها من ذلك، فهي في موقف الانبهار والخوف ترى ماذا سوف يفعل سليمان، فاضطرت، قيل هذا، ظنت أنه سوف يغرقها، أو أراد أن يغرقها، كلام كثير قيل في هذا ونحن لا نريد أن نتكلم فيه؛ فكله لايصح أن يقال أو يكتب أو يُتكلم به، كلام كثير في الكتب، السبب أنه بنى هذا الصرح خصيصًا لكي يرى .. إلى آخر الكلام، كشفت عن ساقيها ودخلت لأنه الأمان والاطمئنان جاءها فسمعت الصوت أولًا، ﴿ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ﴾ مُمَلَّس، التمريد التمليس والتسويه، والأمرد : الفتى الذي لا لحية له ولا شارب، والشجرة المرداء‫:‬ التي لاورق عليها، صرح ممرد :مُملس، أملس مسوي من زجاج، من قوارير جمع قارورة، إذًا فلا تخشى شيئًا، وإنما هو زجاج فوق الماء وعرش سليمان على الماء ﴿ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ﴾ سمعت الصوت، تخيل قيل لها ادخلي الصرح، لو أن الصرح طبيعي عادي، بلاط عادي، لنظرت أمامها ورأت سليمان، أما والأمر كما حُكى لنا فلابد أن تنظر تحت قدميها، وخافت من الماء، وكشفت عن ساقيها، والتفتت إلى أسفل، فسمعت الصوت، فنظرت فرأت سليمان، أهو تمهيد؟! حتى تقع عيناها على سليمان وعلى نور النبوة بعد تمهيد، فلو جاءت عابدة الشمس، ونظرت إلى سليمان الملك الذي أوتي من الملك مالم يحدث في التاريخ لا من قبل ولا من بعد ترى كيف كان شكله !! كيف كان جسمة !! كيف كان نوره !! كيف كان بهاؤه ؟ كيف كان سريرة ! كيف كان عرشه؟ كل ذلك تمهيد حتى لا تصرع أو تفاجأ، تمهيد لها، فنظرت حين رأت سليمان خر قلبها ساجدًا لله (عز وجل) ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قيل ظلمت نفسي بالشك في سليمان بأنه يريد أن يغرقني، كلام مستبعد، ظلمت نفسي بالشرك بعبادة الشمس وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين، الكلام الذي قيل في بعض كتب التفاسير والذي أشرنا إلى بعضه وأغفلنا الإشارة إلى الكثير منه لا يصح مطلقًا في حق الأنبياء، ومالا سند له نربأ بأنفسنها عن الكلام فيه، أو التحدث به، رأت العرش أو نُكر لها العرش تمهيد لها وليس اختبار لعقلها لأنها لو رأت العرش كماهو لسقطت؛ أنّى يتسنى لها أن سليمان قادر على الإتيان بالعرش في غمضة عين كيف ؟ فلو رأته لسقطت، لكنه تمهيد، وكذلك الصرح الممرد لم يبنه خصيصًا وإنما كان له، وحكى القرآن عن ملكه، وعن بعض أمور ملكه، وكيف كانت الشياطين كل بناء وغواص، وكيف بنوا له محاريب وتماثيل وجفان كالجواب، وقدور راسيات، سخر له الطير، سخر له الريح ملك الدنيا وما فيها، ملك هواءها، وملك بحارها، ملك جبالها، ملك ودويانها، مَلَك كل شيء، ذاك هو سليمان وسبحان المنعم الوهاب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫تحكي الآيات القصة الرابعة في سورة النمل، قصة صالح مع قومه ثمود، ثمود أمة كانت تعيش بالحجر بين الحجاز والشام، وقد من َ الله (تبارك وتعالى) عليهم بنعم كثيرة، وبسط لهم الأرزاق، يعيشون في زروع، ونخيل طلعها هضيم، ينحتون من الجبال بيوتًا فارهين، كانوا كثرة، كانوا قوة، كانوا في نعمة، كانوا في رَغَدٍ من العيش ،كفروا نعمة الله (عز وجل) وأشركوا به أصنامًا وأوثانًا يعبدونها، أرسل الله (تبارك وتعالى) إليهم صالحًا منهم، يعرفون نسبة، يعرفون صدقه، يتكلم بلسانهم، كيف استقبلوه؟ وكيف استقبلوا ما جاء به صالح (عليه السلام)؟ يقول الله (عز وجل):‬‬‬
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحًا أَنِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴿45﴾
‫﴿ وَلَقَدْ﴾ واللام للقسم، أو جواب القَسَم، أي والله لقد أرسلنا إلى ثمودَ أو ثمودْ، وكما قلنا فيها قراءتان‫:‬ مصروفة، وغير مصروفة، أرسل الله إلى ثمود أخاهم في النسب وليس أخاهم في الدين، ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ أي بأن اعبدوا الله، ﴿ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾ المفاجأة التي فاجأوه بها ﴿ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾ فاجأوه بأنهم اختصموا، إذا هم فريقان‫:‬ فريق آمن، وفريق كفر، ﴿يَخْتَصِمُونَ ﴾ جمع حملًا على المعنى، وخصامهم واختصامهم حكاه الله (تبارك وتعالى) في سورة الأعراف حيث قال‫:‬ ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ(٧٥)قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(٧٦)﴾ [سورة الأعراف آية:٧٥ -٧٦] وحكى ربنا كيف تجبروا وعقروا الناقة، ولم يكتفوا بذلك بل طلبوا العذاب، وقالوا لصالح ﴿ ... ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٧٧].‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ يَـٰقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ ۖ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿46﴾
‫﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ لم تستعجلون بالعذاب، هل هناك من يستعجل العذاب ؟ هل هناك عاقل يستعجل العذاب أم يستعجل الرحمة والثواب ؟ لم تعملون من الأعمال ماتستحقون به العقاب؟ ولاتقدمون أعمالًا تستحقون بها الثواب؟، ويذكرنا ذاك بقول مشركي مكة حيث قالوا كما حكى القرآن ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [سورة الأنفال آية‫:‬ ٣٢] والعقل يقول اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لكن ديدن المشركين واحد في جميع العصور، من هنا يقول صالح ﴿ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ ﴿ لَوْلَا﴾ :هلا، تحضيض على الاستغفار والتوبة والعودة إلى الله، ﴿ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ تأتي الرحمة قبل وقع العذاب، تتوبون قبل أن يأتيكم العذاب حيث لا تنفع التوبة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالُوا۟ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ۚ قَالَ طَـٰٓئِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ ۖ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌۭ تُفْتَنُونَ ﴿47﴾
‫﴿ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ شيء غريب! انظر كيف تلطّف معهم في الخطاب فأغلظوا له الجواب، خطاب صالح منتهى التلطف ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ وقال ياقوم وكأنه يشير إلى القرابة، إلى النسب، إلى الأخوة في النسب إلى أنه منهم وهم منه، تلطف في الخطاب أغلظوا الجواب وقالوا ﴿ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ أي تطيرنا بك وبمن معك ممن آمن، الطيرة : التشاؤم، والعرب عمومًا كانوا من الذين يهتمون بالتفاؤل والتشاؤم، وكان الرجل منهم إذا همّ بأمر، أو عزم على سفر نظر إلى طائر من الطيور في عشه، أو في مكان فأفزعة أو زجرة، فإذا طار الطائر يمنةً تيامن، وإذا طار الطائر يسرةً تشاءم، فإن طار يمنةً تفاءل وأقبل على أمره، وإن طار يسرةً تشاءم وامتنع ورجع، من هنا كان قول النبي (صلى الله عليه وسلم): ﴿أقروا الطير على وكْناتها﴾ أو وكُناتها أو وكَناتها بالضم والفتح والسكون للكاف، والوكنه : عش الطائر ووكره يسمى "وكنه" وفي رواية "اقروا الطير على مكانتها" نهاهم عن الطيرة، ويقول بعض العلماء ليس أضر بالرأي وأفسد للتدبير من التطير، فمن ظن أن عواء كلب، أو مواء قطة، أو نعيق بوم، أو خوار بقرة يرد قضاء الله، أو يمنع قدر الله، فذاك أشد أنواع الجهل والسفاهة، هاهم يغلظون في الجواب ويقولون لصالح ﴿ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ ويبدو أن الله (تبارك وتعالى) ابتلاهم بشدة بالجدب، ببعض البلاء علهم يرجعون حتى أنهم قالوا ذلك، وحدثت الفرقة بينهم؛ آمن البعض، وكفر البعض، وقد يؤمن بعض أفراد الأسرة ويكفر بعض أفرادها فتحدث الفرقة، ويحدث الشقاق، من هنا نسبوا كل ذلك لوجود صالح ولإيمان من معه، ﴿ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ طائركم‫:‬ أي السبب فيما يحدث لكم عند الله، هو القاضي، هو المقدِّر لكل ذلك، أو أصابكم ما أصابكم بشؤم أفعالكم التي هي مكتوبة عند الله يجازيكم عليها، أو طائركم بمعنى القَدَر وما قُدِر لكم عند الله مكتوب، لا تبديل لحكمه، ولا معقب على قضائه ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ أضرب عن هذا الكلام وبين الداعي إلى ما يحدث بل أنتم قوم تفتنون، أي يفتنكم إبليس بوساوسه، فيهيء لكم ماليس بحق فتتشاءمون، أو بل أنتم قوم تفتنون أي أنتم تمتحنون بتعاقب السراء والضراء، وهكذا في كل وقت وفي كل حين ومع كل إنسان ﴿ ...وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ٣٥) تمتحنون بتعاقب السراء أتشكرون؟ والضراء أتصبرون؟‬‬‬‬‬‬‬
وَكَانَ فِى ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍۢ يُفْسِدُونَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴿48﴾ قَالُوا۟ تَقَاسَمُوا۟ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُۥ وَأَهْلَهُۥ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِۦ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِۦ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ ﴿49﴾ وَمَكَرُوا۟ مَكْرًۭا وَمَكَرْنَا مَكْرًۭا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿50﴾ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿51﴾
‫﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ التمييز للعدد حملا ً على المعنى، الرهط‫:‬ الجماعة، قيل من ثلاثة أو من سبعة إلى عشرة من الرجال ليست بينهم امرأه، أما النفر فهو من ثلاثة إلى تسعة، ويبدو أن التسعة كانوا رؤساء، ولكل واحد منهم رهط، أتباع، وهم أبناء الأشراف، رهط تجمع على أرهط وأراهِط، ﴿يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ إذا ً فديدنهم الفساد، وكأنهم مخصوصون به، كل أعمالهم إفساد خالص، ولا إصلاح فيه أبدًا، ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ ﴾ فعل مستقبل أمر أي إحلفوا، قال بعضهم لبعض احلفوا بالله لنبيتنه، والتبييت‫:‬ المفاجأة، والمباغتة ليلًا، ﴿ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ ﴾ ومن الغريب أنهم قالوا بالله وهم لا يؤمنون بواحدانيته، ﴿ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾ نفاجئه ونباغته ليلًا، غدرًا نقتله ونقتل من معه من أهله وخاصته، ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ﴾ في الصباح حين تكتشف الجريمة، ﴿ لِوَلِيِّهِ ﴾ المسئول عن الدم الذي يطالب بالثأر، ﴿ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾ ما شهدنا فضلًا عن أن نباشر القتل، لم نحضر أصلًا فضلًا عن أن نقتل بأنفسنا، أو نباشر الإهلاك، ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ ونحلف لهم أنا صادقون، ومهلك هنا تحتمل المصدر والمكان والزمان، وقُرئت﴿ مُهْلَكَ ﴾ أي إهلاك، مَهْلَكَ: أي هلاك، مَهْلِك، كمجلس مكان الجلوس، مَهْلِكَ مكان الهلاك وتحتمل أيضا المصدرية كمرجِع بمعنى الرجوع، ﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا ﴾ تقاسموا هنا ليست أمرا ً، ولا فعلًا مستقبلًا، بل هي فعل ماض وقع موقع الحال، والحكاية عنهم، أي قالوا متقاسمين بالله بتقدير "قد" أي حكاية عنهم، فعل ماض ﴿ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ ليُبيتُنَّه﴾) قراءة، طالما كانت تقاسموا خبرًا لابد أن تكون القراءة كذلك، تقاسموا بالله أي حلفوا بالله ليُبيتنه وأهله ثم ليقولن ما شهدنا مهلك أهله، وإن كانت على الرأي الأول أنها أمر فيها قراءتان ﴿ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لنُبيتنَّه﴾ ﴿ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لتُبيتُنَّه وأهله ثم لنقولُنَّ﴾ ﴿ثم لتقولُن﴾ على أنها مستقبل أمر، ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ نحلف بأنا صادقين، هل هذا هو المعنى؟ قيل وقيل كذلك ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ حال وهم في قولهم قد صدقوا ما شهدوا مهلك أهله على قول القائل‫:‬ (ما رأيت رجلا بل رأيت رجلين) أي ما شهدنا مهلك أهله بل شهدنا مهلك أهله ومهلكه كذلك، قيل ذلك والمسألة اختلاف النحاة في الإعراب يغير المعنى مع عدم الخروج عن المراد، والقرآن حمال وجوه، ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ المكر : التدبير في الخفاء، والمكر مذموم، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، المكر الذي هو التدبير في الخفاء وبحيلة للإضرار أو للإيذاء مذموم، والمكر الحميد محمود إذا كان تدبيرا ً لنفع، أو لخير، مكرهم مكر سيء، ومكر الله : تدبيره، مجازاته لهم على مكرهم، وقال مكرا ً مشاكلة لفظية، والمشاكلة اللفظية اتفاق اللفظ في الشكل دون المعنى كقوله ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [سورة الشورى آية:٤٠] المشاكلة اللفظية أن يأتي اللفظان في شكل واحد مع اختلاف المعنى وهنا ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾ وشتان بين مكرهم ومكر الله، مكرهم سيء، مكرهم إجرام، مكرهم تخطيط سيء، أما مكر الله مكر محمود، تدبير لإقامة العدل، ولإحقاق الحق، ولنصر المظلوم، ﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ﴾ تأمل وتدبر كيف كانت العاقبة، ﴿ ...أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ولا وقف في الآية، قيل دُمِر الكل في وقت واحد بالصيحة، وقيل بل دُمِر التسعة بعذاب منفصل وأخذت القبيلة -أي من كفر منها- بالصيحة، لكن التسعة الذين مكروا مكر الله بهم، أخذهم على غِرة، وخصهم بعذاب مخالف، لأنهم حين مكروا عقروا الناقه أولا، الناقه ! الآية! ﴿ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [سورة الأعراف آية:٧٣] ﴿ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ [سورة هود آية:٦٤] أكثر من صيغة وجاء التحذير ﴿ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾ [سورة الشمس آية:١٣] ناقة طلبوها، خرجت من الصخرة الصماء، وهي عُشراء، ولدت أمامهم، أي حامل في شهرها العاشر، ومدة حمل النوق عشرة أشهر، كانت تشرب يومًا، ويشربون يومًا يحلبون ألبانها فتكفي القبيلة بكاملها، آية، معجزة صادقة، عقروها، حين عقروها توعدهم صالح بالعذاب ﴿ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [سورة هود آية:٦٥] اجتمع التسعة، رؤساء الشر والفساد والإفساد، وقالوا هلم بنا نباغته ليلًا، ونقتله، ونقتل من معه، فإن كان كاذبًا فقد استحق القتل، وإن كان صادقًا عجلنا به قبل أن يأتي العذاب، سبحان الله! وانظر إلى التفكير السقيم، لو قتلوه لعجلوا به إلى الجنة، وجاءهم العذاب فعجّل بهم إلى الجحيم، هناك احتمال أن يكون صادقًا واحتمال أن يكون كاذبًا، وصدق مؤمن آل فرعون حين قال ﴿ ...وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [سورة غافر آية:٢٨] لكن الكافر أعمى القلب، وأعمى البصيرة، يقولون إن كان كاذبًا فقد استحق القتل، وإن كان صادقًا عجّلنا به، ولم يفكروا أن الله (عز وجل) الذي أرسله، يرى، ويسمع، وينصر رسله، كان العرب في سفرهم إلى الشام يمرون على قرى ثمود وكانوا يرونها، فيخاطبهم ربنا (تبارك وتعالى) ويقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةًۢ بِمَا ظَلَمُوٓا۟ ۗ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ لِّقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ ﴿52﴾
‫﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ ترون بيوتهم في سفركم إلى الشام، خاوية : خالية، ساقطة، تحتمل المعنيين (خاويةٌ) بالرفع قراءة أخرى، بالنصب والرفع، ولكل إعرابه؛ (خاوية ً) بالنصب على الحال أو نصب على القطع، على القطع أي الأصل "فتلك ال" وحين تحذف ال تُنصب قطعا ً كقوله ﴿ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٥٢] أي الدين الواجب، أو منصوبة على الحال أما إذا كانت بالرفع فهي خبر لمبتدأ محذوف أي هي خاوية، أو هي خبر تلك، وبيوتهم بدل تعريفات كثيرة، والنحويون لهم أقوال كثيرة في تخريج الإعراب، ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ ولا يخرب البيوت إلا الظلم، ولا تهدم الدول إلا بالظلم، والظلم أنواع، التظالم بين الناس نوع، والظلم وضع الشيء في غير محله، وأعلى وأكبر وأخطر أنواع الظلم أن تشرك مع الله إلها ً آخر ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [سورة لقمان آية‫:‬ ١٣] ، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ معجزة، عبرة، دلالة، برهان واضح على وجود الله (عز وجل) وعلى صدق رسله، عبرة، وعظة، وتذكرة لقوم يعلمون، هم المنتفعون، خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالعِبَر، والمنتفعون بالتذكرة، والعاقل من اتعظ بغيره‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَكَانُوا۟ يَتَّقُونَ ﴿53﴾
خبر من الله بإنجاء من آمن ونفعته تقواه بالنسبة لقوم ثمود، وكذلك بالنسبة لكل أمة، النجاة بالتقوى، النجاة بالإيمان، وتأتي القصة الخامسة آخر القصص في سورة النمل، يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦٓ أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴿54﴾ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةًۭ مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌۭ تَجْهَلُونَ ﴿55﴾
‫﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ إما التقدير واذكر لوطًا إذ قال ﴿ إِذْ قَالَ﴾ بدل، أو ولقد أرسلنا لوطًا إلى قومه إذ قال ﴿ إِذْ قَالَ﴾ ظرف وذاك أرجح؛ لقوله قبل ذلك ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ والتقدير ولقد أرسلنا لوطًا إلى قومه، ﴿ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ البصر نوعان : بصر القلب، أي رؤية القلب، وذاك هو العلم، أو رؤية العين، النظر، والكلمة تحتمل المعنيين ﴿ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ أي وأنتم تعلمون قبح ما تفعلون، أو ﴿ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ أي وأنتم تنظرون، ينظر بعضكم إلى بعض حال ارتكاب الفاحشة، أي يفعلونها جهارا ً دون حياء، أي فاحشة؟ ما هي تلك الفاحشه؟ يأتي بيانها بقوله ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء ﴾ وكأنه بيان للفاحشة، تكرير لتقبيح فعلهم، ثم التعليل بالشهوة لبيان الغرض، وفاحشة قوم لوط لم تكن على الأرض مطلقًا، ولم يرتكبها قبلهم إنس، ولا جن، ولا حيوان، ولا طائر، ولا حشرة، هم أول من ابتدع هذه الفاحشة على الأرض، ولذا جاء في موضع آخر ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٨٠] وهنا يبدوا أنه يبين، وهذا من فوائد تكرار القصص في القرآن، إضافة معان وأبعاد أخرى، يبدوا أنهم كانوا يأتونها في الملأ، يجتمعون عليها، ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً ﴾ تعليل ﴿مِّن دُونِ النِّسَاء﴾ من دون النساء اللائي خُلقن لذلك، وكلمة شهوة تفيد أن الله (تبارك وتعالى) خلق الذكر والأنثى، وأوجد شهوة الفرج من أجل حفظ النوع، ليس من أجل قضاء الوطر فقط، بل الشهوة كدافع للفعل ولكن الهدف ابتغاء الولد، وابتغاء النسل ﴿ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٨٧]، ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ الجهل أنواع، الجهل صفة ذميمة، ولا يصح مطلقًا أن تطلق على مسلم ﴿ ... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٣٥] الجهل ليس ضد العلم، الجهل إثبات أمر ليس بواقع، ذاك هو الجهل، ليس عدم معرفة، وإنما يعرف الحق ثم يقول الباطل وهو يعلم الحق، ذاك هو الجهل، لذا قال نوح أعوذ بك أن أسألك ماليس لي به علم، كذلك قيل لنبينا (صلى الله عليه وسلم) ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ هنا يقول لهم أخوهم في النسب ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ الجهل هنا السفاهة، عدم التمييز بين الصحيح والخطأ، بين السليم والمعيب، بين الفساد والصلاح، بين الجمال والقبح عمدًا، أو لا تجهلون بمعنى لا تعرفون عاقبة أعمالكم، ومايحيق بكم، وعدم المعرفة هنا جحد ؛ لأنه ما من أمة إلا وتيقنت من صدق رسولها ونبيها ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [سورة النمل آية‫:‬ ١٤] ﴿ ... فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٣٣].‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الجُزءُ العشرون‬‬‬
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓا۟ أَخْرِجُوٓا۟ ءَالَ لُوطٍۢ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌۭ يَتَطَهَّرُونَ ﴿56﴾
لا مناقة، لا تدبير، لا مراجعه للنفس، لا وزن للعمل، أن يزنوا أعمالهم، أن يقوموها، أن يفكروا، أهي من القبح كما يدّعي؟ أم هي من الحُسن كما يدعون؟ الرد الفوري الذي يدل على الاستكبار، والكفر، والجحود، والعتو، والنفور ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ﴾ هذا كان جواب قومه أخرجوا آل لوط، أي هو وأهله، حكموا عليه بالنفي، أن يطرد من داره، من بلده، من أرضه، هو وأهله يهيمون في الصحراء، لا يجدون مأوى، لا يجدون رزقًا، لا يجدون راحة، لايجدون ظلًا يستظلون به، النفي منتهى الجبروت، لكن الغريب وصفهم للوط بقولهم ﴿ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ سبحان الله! عابوهم والله بغير عيب، يتطهرون‫:‬ يتنزهون عن الأقذار، هاهم قد عترفوا، ويلتفت النظر في القرآن، وإن كان الأقوال تعددت بأن الكلام يقصد به التهكم والاستهزاء كما قال المفسرون أهو صدق ؟ أهم أناس يتطهرون أم لا ؟ نلاحظ في جميع أوصاف الكفار لرسلهم واسمع ما حكى القرآن عن قوم شعيب حين قالوا له ﴿ ...إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٨٧] يقول المفسرون قالوها استهزاءً وتهكمًا، ولكنه كان حليمًا وكان رشيدًا حقًا، شهادتهم شهادة كفار إنك لأنت الحليم الرشيد، وتأمل في الآيات تجد هذه الشهادة مسجلة على الكفار؛ إذ قالوا لمريم ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [سورة مريم آية‫:‬ ٢٨]شهادة، وإن كانت تحمل في طياتها الإتهام لكنها شهادة، هاهم قوم لوط يشهدون للوط رغم أنوفهم، يقصدون الاستهزاء والتهكم، وقالوا حقًا ﴿ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ حجة عليهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُۥٓ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُۥ قَدَّرْنَـٰهَا مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ ﴿57﴾ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًۭا ۖ فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ ﴿58﴾
‫﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ﴾ أنجاه الله (تبارك وتعالى) وأمره بالخروج ليلًا في السر، وعدم الالتفات إلى الوراء؛ حتى لا يرى ما ينزل من عذاب مهول، حجارة من سجيل منضود، وهذه الحجارة لم تنته ولم تفرغ فهي ليست من الظالمين ببعيد، إي وربي وجاء في القرآن ذلك ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ(٨٢)مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(٨٣)﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٨٣,٨٢] مسوّمة‫:‬ معلّمه، على كل حجر اسم صاحبه، وماهي من الظالمين ببعيد‫:‬ أي لا زالت موجودة، ولذا يثبت العلم الآن بعد سفن الفضاء والأقمار وما إلى ذلك أن في الفضاء بحار من الأحجار السابحة في الفضاء التي لا يعرف لها اتجاه، ولا يدري لها غرض، خرج لوط ليلًا سرًا مع أهله، أنجاه الله وأمره بعدم الإلتفات حتى لا يرى الهول فيفزع ﴿ ...فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ... ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٨١] ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ ، وهناك قراءة ﴿ قَدَرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ ، من الغابرين‫:‬ من الباقين في العذاب، ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ﴾ مطر‫:‬ نكرة، والنكرة هنا للتهويل، للتفظيع، ليذهب خيالك كل مذهب، تُرى كيف كان شكلها؟ ترى كيف كان إيلامها وإيجاعها؟ ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾ المنذرين الذين أُنذروا ولم يجدي معهم الإنذار، بئس المطر مطرهم، فساء مطر المنذرين، وانتهت القصص الخمس بخبر الله (عز وجل) بإنجاء كل من آمن، ونفعهم إيمانهم، وأنقذتهم تقواهم، ويتوجه الخطاب لسيد الخلق (صلى الله عليه وسلم):‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰٓ ۗ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿59﴾
أمر ربنا (تبارك وتعالى) نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالتحميد، وبالتسليم على المرسلين، في مُفتتح التدليل، وسَوْق البراهين على وحدانية الله (عز وجل) وانفراده بالخلق، والتدبير، والتصريف، وقدرته (عز وجل) على الإيجاد، قل الحمد لله الذي نجانا من مساويء الأقوام التي قُص علينا قصصهم، الحمدلله الذي أعلمنا بما لم نكن نعلم، الحمد لله الذي عرفنا مصير المؤمنين والكافرين بحكاية أحوال الأمم السابقة، ﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ اختارهم، وهم الأنبياء والمرسلين، أمرهم بالتسليم عليهم؛ عرفانًا لقدرهم، وتقدمهم، واجتهادهم، من هنا صار ذاك أمر يفتتح به كل كلام طيب، كل موعظة، كل خطبة، الحمدلله والتسليم على عبادة الذين اصطفى ﴿ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، ﴿تُشْرِكُونَ ﴾ قراءة، بالياء وبالتاء، و ﴿ خَيْرٌ ﴾ هنا قيل ليست على بابها واختلفت الأقوال لكن الحمدلله تملأ مابين السماء والأرض، الحمدلله من أعظم ما منَّ الله على أمة محمد من مِنَنْ أن عرّفهم، أن ألهمهم، أن أمرهم بحمده، الحمدلله الذي قالها النبي (صلى الله عليه وسلم) في مختتم هذه القصص، التي أُمِر بقولها حمدا ً لله على التعليم، على الإنباء والإخبار، على الإنجاء مما ابتلى به المكذبين والأمم السابقه، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى معرفة بقدرهم، ورفعة شأنهم، وأنهم قدوه، ولهم حق التقدم، ثم يأتي السؤال ﴿ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي عباة الله خير أم عبادة الأصنام ؟ أو ثواب الله خير أم عقابه على الشرك، ﴿ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ سبحانك يارب أنت خيرٌ وأبقى، وأنت أجّل وأكرم‫.‬‬‬‬‬‬
‫أمر الله (تبارك وتعالى) نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يتلو الآيات الداله على وحدانيته، والبراهين القاطعة على قدرته وحكمته، مستفتحًا بحمد الله (عز وجل)، والسلام على أنبيائه والمصطَفَيْن من عبادة، شكرًا على نعمائه وما علّمه مما لم يكن يعلم من أحوالهم تشريفًا لهم، وعرفانًا بفضلهم واجتهادهم في الدين، فقال عز من قائل‫:‬ ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ...﴾ ثم أمره بأن يسأل المشركين تهكمًا، واستهزاءً، وتسفيهًا لرأيهم وإلزامهم الحجة ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أعبادة الله خير أم عبادة ما تشركون من الأصنام، ومن المعلوم ألا خير في أصنامهم أساسًاحتى يوازن بينهم وبين من هو مبدأ كل خير، وتأتي الدلائل والبراهين على انفراده (عز وجل) بالخلق، والإيجاد، والتدبير، فيقول عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۭ فَأَنۢبَتْنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍۢ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنۢبِتُوا۟ شَجَرَهَآ ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌۭ يَعْدِلُونَ ﴿60﴾
التقدير آلهتكم خير أمن خلق السموات والأرض ؟ عبادة الأصنام أفضل أم عباة الخالق الواحد القهار؟ ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ بما فيها من مخلوقات، وموجودات، ومنابع للخير والانتفاع، السماء بنجومها، وكواكبها، شموسها، وأقمارها، الأرض بما فيها من أنهار، وبحار، وجبال، ووديان، وسهول، ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أوجدها من العدم على هذا النظام المتسق، ﴿ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء ﴾ من السحاب والسماء كل ما علاك، ﴿ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء ﴾ وهنا يتغير النظم، ويعدل إلى التكلم، وانتبه ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء ﴾ "فأنبت" ذاك هو التقدير، عدل إلى التكلم ﴿فَأَنبَتْنَا﴾ نحن، عدل إلى التكلم لبيان إختصاص الفعل بذاته (عز وجل) فلا يقدر على ذلك سواه، ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ ﴾ بهذا الماء، ﴿ حَدَائِقَ ﴾ الحدائق، جمع حديقة، والحديقة : البستان المحاط بسور، أحدق به‫:‬ أحاط به، ثم توسع في اللفظ واستخدم لكل بستان، ﴿ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ حسن ومنظر جميل يبهج من يراه ﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ﴾ مايصح، وما يكون، ولا يتهيأ لكم، ولا يدخل تحت قدرتكم، ﴿ مَّا ﴾ هنا نافيه للحظر والمنع، ما يتهيأ لكم، ولا يمكن، ومستحيل أن تنبتوا شجرها فضلًا عن ثمارها، ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ أيقرن به غيره، أيفعل ذلك غيره، أيحتاج لمن يعين ويساعد، ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ سؤال إنكاري ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾، يعدلون : ينحرفون عن الحق الواضح عنه، أو يعدلون أي يجعلون له عِدْلًا مساويا له، والكلمة تحتمل المعنيين‫:‬ ينحرفون عن الحق إلى الباطل، ويجعلون لله مثيلًا وعديلًا فيشركون معه الأصنام التي لاتنفع ولا تضر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَمَّن جَعَلَ ٱلْأَرْضَ قَرَارًۭا وَجَعَلَ خِلَـٰلَهَآ أَنْهَـٰرًۭا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿61﴾
‫﴿أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ قرارًا مكانًا يصلح للاستقرار عليه، والأرض رغم كريتها إلا أن الله بسطها لعباده، وهيأ فيها الطرق، والمعالم، وجعلها صالحه لاستقرار الإنسان والحيوان للانتفاع بها، والسير عليها، والإقامة، والسُكنى، ﴿ وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا ﴾ أنهار في كل مكان، في المشرق وفي المغرب، في الشمال وفي الجنوب، أنهار تجري، وكأنها مخازن للمياه العذبة، لو شاء الله لانتظر الناس المطر حتى يشربون، لكن الله (تبارك وتعالى) جعل خلالها أي فيها أنهارًا للري، لري الأرض، للشرب، للانتفاع، للأكل منها بما فيها من لحم طري، ﴿ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾رواسي : الجبال، والجبال نمر عليها ولا نتنبه للآيات التي فيها، المناجم، العيون، مسيلات المطر، المسيل الذي تنزل منه الأمطار فتتجمع في الوديان، الألوان، حمر، بيض، سود، أيضًا وضع الجبال في الأرض لابد وأن يكون بنظام، وبعلم، حتى ترسو الأرض، جبل هنا، وجبل هناك، اختيار مواقع الجبال وتخصيص هذه المواقع لا يمكن أن يتم إلا بحكمة، وعلم، وتخيل هذه الأرض الكُرِّيه التي تدور في الهواء حول نفسها، وتدور حول الشمس، لو لم يكن فيها الجبال، ماذا كان يحدث ؟ الرياح الشديدة، والأعاصير ماذا تفعل فيها؟ لابد وأن تحرفها عن مسارها، لابد وأن تنحرف، أو تميد، أو تهتز، من هنا جعل الجبال فيها فرسَتْ، ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ﴾ البحرين : المالح والعذب، جعل بينهما برزخًا مانعًا بقدرته، بحكمتة جعل مانعًا بين البحرين حتى لا يختلط العذب بالمِلْح، فيفسد الملح العذب، أو يفسد العذب الملح، ﴿أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ أتعدلون به إلهًا آخر، أتشركون به غيره، أهناك من يفعل ذلك أو يُعين في ذلك؟ ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ لا يعلمون الحق وينحرفون عنه عمدا ً و قصدًا‫.‬‬‬‬‬‬
أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلًۭا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿62﴾
‫﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ﴾ المضطر من الاضطرار، والاضطرار‫:‬ افتعال من الضرورة، المضطر من لاحول له ولاقوة، المضطر من تقطعت به الأسباب، المضطر من التجأ إلى الله (عز وجل) دون سواه، المضطر من سقط منه كل حول وقوة، ذاك هو المضطر، والتجأ إلى الله، من يجيبه ؟ ضمن الله (تبارك وتعالى) إجابه المضطر، وأخبر بذلك عن نفسه، لأن الاضطرار منشأه الإخلاص، وفراغ القلب عما سوى الله، والتوجه إلى الله بالكلية، وانقطاع الرجاء من غيره سواءً أصدر من مؤمن، أو من كافر، سواءً أصدر من طائع، أم من فاجر، يجيبه وهو القائل‫:‬ ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٦٧] وهو يعلم بإعراضهم الذي سوف يكون، ومع ذلك حين التجأوا إليه مضطرين أنجاهم، وقال بعض الناس ﴿الْمُضْطَرَّ﴾ اللام هنا ليست للاستغراق بل هي للجنس، ومعنى ذلك أنه لا يلزم أن يجيب كل مضطر بل إن شاء أجاب، وإن شاء لم يجب وذاك قول، والقول الأول أرجح، الإخلاص له عند الله مكان، له عند الله ذمة، الإخلاص مهما كان صادرا ً من مؤمن أو كافر، طالما في لحظه الالتجاء إليه كان القلب متفرغًا إليه خالصًا له، ضلّ من سواه، لم يجد المضطر إلا الله، طالما كان ذلك أجابه ربنا (سبحانه وتعالى) لمنزلة الإخلاص عنده، ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ السوء : مايسيء الإنسان من فقر، أو من مرض، أو من ظلم، أو من ضر، ﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ ﴾ أمة تَخْلُف أمة، تتحكمون في الأرض، وتتصرفون فيها، سخر لكم كل ما في الأرض من ماء، من حجر، من صخر، من مدر، من أنهار، من بحار، جعلكم تتصرفون فيها تصرف المستخلف، من يجعلكم خلفاء الأرض؟ ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ ﴿قَلِيلًا مَّا تَذَكُرُونَ ﴾ ﴿قَلِيلًا مَّا يَذَكُرُونَ ﴾ لتتمش مع النسق ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾، ﴿قَلِيلًا مَّا يَذَكَّرُونَ ﴾، ﴿قَلِيلًا مَّا يَذَكُرُونَ ﴾ قراءه، ﴿ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ قراءة المصحف، ﴿قَلِيلًا مَّا تَذَكُرُونَ ﴾ قراءه ثالثه، جاء هنا بكلمة ﴿ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ أي ما أقل ذكركم لله، والقلة قد تعني العدم، إذ لا ذكر لهم أصلًا، وجاء بالكلمة لأن الإنسان سريع النسيان، إذا جاءه الضُر لجأ إلى الله، فلما نجا نسى ماكان يدعو إليه من قبل، إذا أصابه الضر دعا الله والتجأ إليه قاعدًا، وقائمًا، وعلى جنبه، وفي كل حين، فإذا كشف الضر عنه نَسِى ماكان يدعو إليه، لذا يقول ربنا (عز وجل) من قائل ﴿ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَـٰحَ بُشْرًۢا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِۦٓ ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ تَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿63﴾
‫﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ تخيّل لو أن السماء مظلمة على الدوام، كيف يهتدي السائر في البر، أو السائر في البحر؟ وانظر إلى السماء وما فيها من مجموعات شمسية، مجموعات من النجوم في مواقع محددة، وصدق القائل ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(٧٥)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(٧٦)﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٧٥- ٧٦] والدارس للفلك أيًا كان جنسه، أو دينه لابد وأن يؤمن بأن ذاك دالٌ على وجود المخصص، الخالق، المدبر، مطالع للنجوم، ومغارب للنجوم، لها أماكن محدده لا تنحرف، وكلها سابحة في الفضاء، كلها بغير شيء يمسكها، أو يعلقها، سابحة، كرات من النار المضيئة تسبح في الفضاء بنظام، أماكن محددة، مجموعات مرتبطة ببعضها، عرف الأولون أماكنها بل وأطلقوا عليها الأسماء؛ مجموعة الدب الأكبر، والدب الأصغر، ومجموعة كذا، ومجموعة كذا، والزهرة، والمريخ،... أطلقوا عليها الأسماء، وعرفوها، وعرفوا أماكنها، واستدلوا بها في ظلمات البر والبحر، على الاتجاهات، والجهات الأربع، وضبطوا أماكنهم برصدها، والأرض لو كانت الأرض مسطحة لا علامات فيها كيف يستدل الإنسان على مكانه؟ أو على بيته؟ أو على بلده؟ لكن الأرض فيها الجبال، وفيها الطرق، وفيها الوديان، وفيها الأنهار، فيها العلامات التي تهدي الإنسان الماشي، والمسافر إلى مكانه، وإلى ما يقصده، هذه العلامات في الأرض، وهذه الثريات في السماء جُعلت لهدايه الناس في مسيرهم لتدلهم على طريقهم، ﴿وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ (بُشْرا ً) و(نُشُرا ً) وفيها سبع قراءات، بُشْرا ً أصلها بُشُرا ً جمع بشير، كنُذُر جمع نذير، وتخفف وتقرأ بُشْرا ً أي مبشرات؛ إذا هبت الرياح علمنا أن المطر قادم فاستبشرنا بذلك، الرياح أمر معجز، ملفت للنظر، ما هي الرياح ؟ وكيف تنشأ؟ هذا الهواء الذي يسير من اتجاه إلى اتجاه، وتسمع رياح شمالية شرقية، ولها مواسم، ولها طرق، واتجاهات، رياح جنوبية غربية، رياح شرقية، هذه الرياح، واتجاهات الرياح كيف نشأت؟ ومن أي شيء نشأت؟ وإن كان علماء الأرض يقولون الضغط المنخفض، والضغط المرتفع، واختلاف الضغط يجعل الرياح تسير، وما هو الضغط؟ وكيف يختلف الضغط ؟ ولم يختلف الضغط بين الارتفاع والانخفاض في هذه الأجواء العليا، كل ذلك يجاب عليه بقوله ﴿ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ هو الذي يرسلها، هو الذي يحدد مسارها، هو الذي يحدد قوتها، انظر إلى السحاب، قطع خفيفة كالدخان في السماء، وإذا تأملت وجدت السحاب يسير الهوَيْنا، ويتجمع، من الغريب أن كتلة السحاب الموجودة على يمينك مثلًا الكثيفة تجد كتله أخرى خفيفة تسير هكذا، ثم تلحق بالكتلة الأخرى، كيف لحقت وكيف اختلفت السرعة ؟ أينتظر هذا ذاك حتى يلحق به فيجعله ركامًا فترى الودق يخرج من خلاله؟ سبحانك! أدله وبراهين على وجوده عز وجل فوق الحصر والعد لمن يشاء، لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾ أيقرن به غيره، أيسوي بينه وبين المخلوق العاجز، ﴿ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ تمجد، وتعظم، وتعالى عن المخلوق العاجز الذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا عن أن يملك ذلك لغيره ﴿ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.‬‬‬‬‬
أَمَّن يَبْدَؤُا۟ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا۟ بُرْهَـٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ﴿64﴾
‫﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ يبدأ الخلق ثم يعيده، بدأ الخلق‫:‬ خلق الإنسان، خلق السموات، خلق الأرض ثم يعيده‫:‬ أي البعث، والنشور، وتساءل بعض الناس هؤلاء ينكرون البعث فكيف يخاطبون بقوله ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ وهم منكرون للبعث؟ الإجابة ببساطة ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [سورة الزخرف:٨٧] ، إذًا فقد أقروا بأنه الخالق، طالما أقروا بأنه الخالق لزمتهم الحجة، لأن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء فلزمتهم الحجة، فخاطبهم بذلك ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، هذا فى شأن الإنسان ولكن لونظرت إلى الأرض لوجدت بدء الخلق، وإعادة الخلق مستمر يوميًا، الأرض جرداء ميتة، نزل الماء أنبتت، وخرج الزرع، حصدت، عادت الأرض إلى ما كانت عليه جرداء لا شيء فيها، نزل الماء فأنبتت نفس النبات، من الذي بدأه ثم أعادة، في كل شيء ترى الله (عز وجل) ﴿ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾ أسباب الرزق المتنوعة‫:‬ المطر، والهواء، وما إلى ذلك، والهواء سبب في الرزق؟ نعم أليس بالهواء تدور الطواحين، أليس بالهواء تدور الأجهزة التي تستخرج الماء من الآبار، أليس سببًا للرزق ؟ بلى، الأرض وما يخرج منها من نبات، وحيوان، وثمار، وأنهار، ﴿ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾وقد أقروا بأنه الرازق كما أقروا بأنه الخالق، ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ ذلك أو هناك من يماثله، أو يشاركه، أو يساعده، أو يعينه ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ هاهي البراهين على تفرده بالخلق، والإيجاد، وعلى انفراده بالتدبير والتصريف، هاهي البراهين لكل ذي بصر، لكل ذي سمع، لكل ذي عقل، أين برهانكم ؟ أين دليلكم على وجود إله مع الله ؟ أين دليلكم على أن هذه الأصنام تنفع، أو تشفع، أو تفعل، ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ سبحانك يارب ما أعظمك، ما أحلمك، لم لم يدمرهم ! لم لم يظهر لهم قدرته وبأسه ؟! لم انتظر عليهم ؟ لم يسوق الدليل تلو الدليل، والبرهان بعد البرهان، أيحتاجهم وقد كان ولم يكن هناك شيء؟! سبحانك ياربي ما أعظمك، سبحانك ياربي ما أحلمك، روى أن رجلًا ألف كتابًا، وساق فيه الأدلة المتعددة على وجود الله، دليل ثم دليل حتى ساق ألف دليل، وسمى كتابه ألف دليل على وجود الله، وانتشر الكتاب بين الناس، ولقى رواجًا عظيمًا، ونزل الرجل إلى بلد، وعلم الناس بمقدمه فخرجوا لاستقباله، وازدحمت الطرق بالناس، مشى بينهم يتسمع مايقولونه عنه، وهم لا يعرفونه، حامدًا لله (عز وجل) على فضله وإنعامه، فتعثر في امرأة عجوز عمياء تجلس إلى جوار حائط تستجدي الناس، فلما تعثر فيها أمسكت بقدمه، وقالت يابني ما هذا الازدحام؟ وما هذه الضوضاء؟ ولأي شيء خرج الناس ؟ قال يا أم هناك رجلًا صنّف مصنفًا، وساق فيه ألف دليل على وجود الله (عز وجل) فخرج الناس لاستقباله وتحيته، فقالت العجوز عجبًا وأي عجب، ومتى غاب حتى يستدل عليه، فعاد الرجل مسرعًا إلى بيته، وساق القصة في آخر كتابه، وعدل عنوان الكتاب، وقال ألف دليل ودليل على وجود الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫فلما بيّن الله (عز وجل) اختصاصه بالقدرة التامة، الفائقة، العامة، أتبع ذلك بما هو كاللازم له من تفرده بعلم الغيب فقال عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬
قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلَّا ٱللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴿65﴾
‫﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ الاستثناء هنا منقطع، والغيب‫:‬ ما غاب عنك، والغيب ليس علم المستقبل فقط؛ فما وراء هذا الجدار غيب لأنك لا تراه، وكل ما بَعُد عن الحواس، أو لم تدركه الحواس فهو غيب، أنت لا تدري اسم من يجلس إلى جوارك فاسمه بالنسبه لك غيب، ما أكله بالأمس غيب، فكل ما غاب عن الحاسة فهو غيب، سواءًا أكان ماضيًا، أمكان حاضرًا أو كان مستقبلًا، لا يعلم الغيب إلا الله، تقول السيدة عائشة (رضي الله عنها وأرضاها): (من زعم أن محمدًا يخبر ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول‫:‬ ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾)، رواه مسلم في صحيحه، وعليه ﴿من أتى عرافًا، فسأله، فصدقه، فقد كفر بما أُنزل على محمد﴾ حديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذب المنجمون ولوصدقوا، المنجم : العرّاف الذي يدّعي الكشف فينظر إلى المرأة ويقول لها مافي بطنك ولد، أو ما في بطنك أنثى، أو ينظر إلى الولد فيقول ناجح في شهادتك، أو في امتحانك، ما ينظر إلى الرجل ويدعي الكشف، أو علم الغيب دجل، كُفر لمن صدق ذلك كما أخبرنا نبينا، الكهان، والعرافون، والمنجمون، ومدعوا الكشف من الدجالين، الذين يدعون المشيخة، الذين يبركون على الناس وهم مفتقدون للطهر، ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ هل يمكن أن يخبر نبينا بأمر في المستقبل ؟ نعم، وقد أخبر عن أشراط الساعة، أخبر عن الفتن، أخبر عن كذا، وكذا، فكيف أخبر ؟ أخبر لأن الله أعلمه، أما أن يعلم من تلقاء ذاته مستحيل والله، وقد يُطلع ربنا (تبارك وتعالى) بعضًا من عباده على بعض الغيب لحكمة، كما قال (عز وجل) عن رسله وعن خلقه‫:‬ ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٥٥] وقال عز من قائل‫:‬ ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [سورة الجن آية‫:‬ ٢٦- ٢٧] حتى لا تسمع الشياطين فتخبر، من هنا كان الإيمان بقدرة الله (عز وجل) الفائقة التامة يستلزم الإيمان بما هو لازم بهذه القدرة، ألا وهو علم الغيب، والإيمان بعلم الله للغيب يجب أن يكون خالصًا من الشوائب، لا يعلم الغيب إلا الله، لا يعلم الغيب إلا الله، لا يعلم الغيب إلا الله، أن تؤمن، وتوقن، وتعتقد بذلك، فإن سمعت أو صدقت والعياذ بالله كان ذاك كفر؛ لأن الله يخبر أنه لا يعلم الغيب إلا الله فإن أيقنت أن غير الله قد يعلم الغيب فقد كفرت بما أنزل الله، لذا قال نبينا (صلى الله عليه وسلم) ﴿من أتى عرافًا أو كاهنًا، فسأله، فصدقه، فقد كفر بما أُنزل على محمد﴾، ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ أي ما يعلمون متى البعث، ومتى الساعة، ومتى تكون الساعة، لا يعلمون قيامها متى هو‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِى ٱلْـَٔاخِرَةِ ۚ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّۢ مِّنْهَا ۖ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴿66﴾
‫﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ ﴾ قُرئت بقراءات‫:‬ ادَّارَكَ ، تدارك، أدرك، آدّارك بصيغة الاستفهام، وقراءات أخرى، التدارك : التتابع، والتلاحق، والتدارك قد يعني الاستحكام، والتدارك قد يعني الاضمحلال، تدارك علمه تتابع حتى استحكم العلم، تدارك بنو فلان تتابع هلاكهم حتى اضمحلوا وفنوا، فهي تحمل المعنيين، من هنا قال العلماء في تفسير الآية ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ ﴾ بل تدارك علمهم ﴿ فِي الْآخِرَةِ ﴾ في بمعنى الباء، أي تتابع علمهم بالآخرة، أي بكونها، أي بوقوعها يوم القيامة، والمعنى تتابع علمهم حتى استحكم بما ظهر من الأدله، والبراهين، والآيات، ومع ذلك شكوا فيها وعموا عنها ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا﴾ "في" بمعناها أي حين تقوم الساعة، وتأتي الآخرة، يتم العلم، ويكتمل العلم بقيام الساعة، حيث لاينفع علمهم بل هم في شك منها في الدنيا، ﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ ﴾ : عمى البصائر، ﴿بَلِ آدّارك عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾سؤال واستفهام، هل تتابع علمهم بالآخرة، واستحكم، وعلموها، فسألوا عنها، وسألوا عن وقت قيامها ومن المعلوم أن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن، فلا يمكن أن تعلم وقت الكائن إلا إذا علمت بكون الكائن، لا يمكن أن تعلم الساعة إلا إذا علمت أصلًا بأن هناك ساعة، ذاك هو المقصود، ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾ تتابع علمهم، واستحكم عن الآخرة، وعن قيامها، وصدقوا بها، فسألوك يا محمد عن وقت قيامها؟ وكأن الآية نزلت عندما سألوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائلين : متى الساعة، فنزلت الآية يسألون عن موعدها هل علموا بقيامها أصلًا؟ هل تم لهم العلم بها حتى يسألوا عن وقتها؟ ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا﴾ ادّارك علمهم في الآخرة تتابع علمهم في الاضمحلال، والفناء بوجود الآخرة مع توافر أسباب العلم بها، وكثرة هذه الدواعي، ولكنهم طرحوا ذاك وراء ظهورهم، فأُجرى ذاك مجرى تتابع العلم، واضمحلاله عندهم، أي أن قيام الساعه، وعلامات الساعة، ودلائل قيام الساعة، لابد وهو قائم، متوفر، أسباب العلم بها متوافر لدى الكل لدى أي عاقل كما بدأ الخلق يعيده، ومع ذلك اعتبروا أن الساعة غير كائنة، كأن العلم بها الذي توافرت أسبابه لهم اضمحل حتى فَنِى وأصبحوا لايدرون عنها شيئًا، أُجرى ذلك مجرى التضارب بمعنى الانقضاء والفناء، ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا﴾ إما المقصود أنهم سوف يعلمون علم اليقين ﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧)﴾[سورة التكاثر آية‫:‬ ٧,٦] إما أن المقصود أن في الآخرة يتوافر العلم بالساعة الأكيد وهم في الدنيا في شك منها، المعاني كثيرة في هذه الآية، والقرآن حمّال وجوه، والآية تحتمل جميع المعاني بجميع قراءاتها، الكل يؤدي إلى نفس المعنى؛ إما تكامل العلم، وإما إضمحلال العلم والمقصد والغرض هو الإستهزاء والتهكم، وكيف يسألونك عن الساعه، ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ ﴾ والإضراب إضرابات ثلاث، بل، بل، بل، إضرابات ثلاث تنقل الإنسان من معنى لمعنى، ومن حال لحال في هؤلاء المشركين الذين عميت أبصارهم، وعمهت بصائرهم، بل هم في شك منها، مترددون، متحيرون، أهناك ساعة، أهناك آخرة، أهناك حساب، شك، ﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ ﴾ عُمى، عمون : جمع عَمٍ، وأصلها عميون حذفت الياء عَمٌ عُمى الأبصار، وعمى البصائر، وتتوالى الآيات بعد ذلك تحدثنا عن إنكارهم لقيام الساعة، واستهزائهم، وسؤالهم أين الآباء؟ وأين الأجداد؟ والأوقات والأزمنة في حساب الناس وتقديرهم شيء، والأزمنة في حساب الله شيء آخر ﴿ ...وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [سورة الحج آية‫:‬ ٤٧] الإنسان بطبيعته عجول ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ٣٧] وكأن الإنسان عجولًا بطبعه، متعجل، أما الله (تبارك وتعالى) فلا يشغله شأن عن شأن، ولا عجلة هناك، وحلم الله (تبارك وتعالى) فوق كل تصور، وفوق كل خيال، والزمن بالنسبه للناس ناشيء عن حركة الليل والنهار، كيف نشأ الليل والنهار دوران الأرض حول نفسها، هكذا دوران الأرض حول نفسها أوجد الليل والنهار، سرعة الدوران جعلت اليوم أربع وعشرين ساعة، لو أسرعت في دورانها لقل زمن اليوم، ولو تراخت في دورانها لطال اليوم، إذا ً هذا الزمان ناشيء من وجود كره في الهواء تدور وتسبح، إذا ً فالزمن مخلوق، والزمن على الأرض غير الزمن على القمر، غير الزمن على المريخ، غير الزمن على الزهرة، الزمن مختلف لكن الله (تبارك وتعالى) كان قبل الزمان وقبل المكان، وهو الآن على ما عليه كان، خلق الزمان، وخلق المكان، والزمان نسبي، يختلف بحسب اختلاف الموقع في هذا الوجود، وتأمل عاش نوح ما تعرفه ألف سنة إلا خمسن عامًا، مدة البعثة، حين بُعث ماذا كان عمره ؟ بعد الطوفان كم بقى من الزمن ؟ مدة البعثة منذ قال "إني لكم رسول أمين" منذ قال هذه إلى الطوفان ألف سنة إلا خمسين عامًا، قبل البعثه كم من السنين ؟ بعد الطوفان كم عاش من السنين، حين كان يتكلم نوح مع أبنائه فيقول منذ سبعمائة سنة حدث كذا، أليس ذلك كما تقول أنت لأبنائك منذ عشر سنوات فعلت كذا، كان ذاك منذ ثلاثين، أربعين سنة، مدة البعثة، يحكي نوح عن أحداثه، وأحداث زمانه مع قومه، ألف سنة إلا خمسين عامًا، حين يذكر منذ تسعمائة سنة، منذ ثمانمائة سنة، كيف كان الزمان بالنسبة له؟ وكيف كان الوقت يمر عليه؟ سبحانك يارب ما أعظم شأنك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ساقت الآيات من الدلائل الواضحة، والبراهين الساطعة، ما يدل على وحدانية الله (عز وجل) وقدرته، وانفراده بالخلق والتدبير، ثم تعرضت الآيات لشبهات المشركين، ومنكري البعث، وردت عليهم، وبينت الآيات أنهم في شك من يوم القيامة، وأنهم يسألون عن وقتها، أو عن وقت قيامها، رغم انكارهم لقيامها أصلًا فهم منها عمون، ومن علامات عمهم ما حكى القرآن عنهم في قوله (عز وجل):‬‬‬
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًۭا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ﴿67﴾ لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَآ إِلَّآ أَسَـٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿68﴾
الكفار، عُمى البصائر، عمى القلوب، هذا السؤال الذي يحمل معنى الإنكار، سؤال إنكاري ليس سؤالًا للتعليم ﴿أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا﴾ تحولت الأجساد بعد الدفن إلى التراب، وكذلك حدث لآباؤنا ﴿ أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ﴾ هل بعد ذلك نخرج ونبعث ؟، ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ﴾ ذلك وعد على ألسنة الأولين، تكلموا به مع الآباء، وهاهم الآباء في التراب، لم يخرج منهم أحد ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ﴾وقدمت كلمة "هذا" هنا لأن المقصود هو البعث، المقصود بالذكر البعث، وأخرت في سورة المؤمنون ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ٨٣] قدمت "نحن" لأن المقصود هناك المبعوثون للاهتمام، والتقديم والتأخير في القرآن موجود، وله علّته، ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ ﴾ حدث ولم يأت محمد بجديد، فقد قال مَن قبله كذلك هذه الوعود، وعود كاذبة لا أصل لها، ما هي إلا أباطيل سطرها الأولون في كتبهم، ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ أساطير : جمع أسطورة، والأسطورة ما سطره الأولون في كتبهم، يتعجب المشركون كيف يصبح الجسد ترابًا، ثم بعد ذلك يتكون ويعود إلى خلقته الأولى، ويخرج من التراب، ولو نظر أحدهم إلى الأرض، الأرض تراب، وأنت تراها ميتة، فإذا جئت ببعض الماء وصببته عليها، أو نزل ماء من السماء، إذا بالتراب ينتفش، ينتفخ، ويخرج منه عود أخضر ينطق بالحياة، وينمو، ويغلظ، ويصبح شجرة مورقة، لها ظل، ولها فروع، ولها ثمار، أليس هذا خروج من عدم؟ أليس هذا إحياء بعد موت؟ كيف خرج العود الأخضر ؟! اللون، الرائحة، الطعم، اختلاف الألوان، والطعوم، والثمار، والنفع، وما إلى ذلك، والأرض واحدة، والماء واحد، وبعد موت الأرض إذا بها تحيا وتنبت، ألم يروا إلى هذا؟ لكن العناد والاستكبار يعمى الأبصار، ولذا جاءت الإجابه تهديدًا، ووعيدًا، لم تأت الإجابة كتبيين، أو توضيح كالإجابات في كثير من أسئلتهم، ولكن السؤال هذا الذي يحمل في طياته الإنكار، والاستهزاء، والتكذيب، جاء الرد عليه خصوصًا بعد ما سيق من الأدلة، والبراهين الساطعة على انفراد الله (عز وجل) بالخلق، والإيجاد، والتدبير، والتصريف، جاء التهديد والوعيد في قوله (عز وجل):‬‬‬‬‬
قُلْ سِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴿69﴾
وكان المتوقع حسب عقل الإنسان أن يكون هناك رد، قل سيروا في الأرض فانظروا كيف أحيا الله الأرض بعد موتها، كيف خرجت الأشجار، كيف أورقت، وكيف أثمرت لك، لكن السؤال أُجيب عليه بالتهديد الشديد، سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين من الأولين، وكما أهلكنا المجرمين من قبل نهلك المجرمين من بعد، هم يقولون وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل، إذًا فهم يشيرون إلى الماضي، يشيرون إلى القرون الماضية والمنصرمة، سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين منهم، وهكذا يُفعل بكم، ثم توجه الخطاب إلى سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) يسليه ربنا (تبارك وتعالى) ويسرِّي عنه‫:‬‬‬‬‬‬
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِى ضَيْقٍۢ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴿70﴾
‫﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ كثيرا ما ذُكر هذا التوجيه، والإرشاد الإلهي لسيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) في القرآن، مما يشعر بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان شديد الحزن على قومه، شديد الأسف عليهم، يتمنى لو آمنوا، يخشى عليهم من عذاب الله (عز وجل) مما يدل على هذا كثرة التوجيه والإرشاد الإلهي له بعدم الحزن، وعدم التأسف ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [سورة الشعراء آية‫:‬ ٣] إلى آخر ماجاء من توجيه، وإرشاد رباني للحبيب المصطفى ينهاه عن الحزن ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي ولا تحزن على كفرهم، وعدم إيمانهم، ﴿ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ ﴿ وَلَا تَكُن فِي ضِيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ "تكن"، "تك" في مواضع أخرى، تحذف النون لكثرة دورانها في الكلام اختصار، ولا فرق بين تكن وتك، الأصل تكن وتحذف النون، والحذف في القرآن كثير العلل؛ منها الاختصار، ومنها لكثرة دوران الحرف في الكلام، ولقد جاءت "تك" في سورة النحل مثلًا، ﴿ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ﴾ ﴿ وَلَا تَكُن فِي ضِيْقٍ﴾ قراءتان بمعنى واحد، إذا ًفقد كان هناك أمران، وشعوران، أو إحساسان لسيد الخلق (صلى الله عليه وسلم): إحساس بالحزن على قومه، وأهله كيف لم يؤمنوا، كيف عميت أبصارهم عن الحق، كيف كذبوه وهم يعرفونه حق المعرفة، حزن وخوف عليهم، وهناك شعور آخر بالضيق؛ بضيق الصدر من كثرة تخطيطهم، وتدبيرهم، ومكرهم به في مكه، يقتلوه، أو يثبتوه أو يخرجوه، تارة يفكرون في القتل، وتارة يفكرون في الحبس، وتارة يفكرون في الإخراج، وتارة يخططون لعزله وعزل من آمن معه، بل عزل أهله من آل طالب في شعب مكة، والسورة مكية، والكلام عن أهل مكة، لا تحزن على عدم إيمان قومك، ولا يضيق صدرك من مكرهم، وتدبير الإعداد لك، ومن ضمن مكرهم، ومن ضمن سفاهاتهم، من ضمن عمههم يعودون فيقولون‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ﴿71﴾
والخطاب من الكفار للنبي (صلى الله عليه وسلم) ولمن آمن معه، تعدوننا بالساعة وبالبعث، متى يكون هذا؟ وغفل هؤلاء عن أمور، أولا :لا يعلم الغيب إلا الله والساعة من الغيب، ثانيا :لو أن موعد الساعة حدد ماذا كان يقول نوح لقومه؟ يعدهم بالساعة بعد مائة ألف سنة؟ من يؤمن ؟ مثلًا، ماذا يقول موسى؟ كيف يحذر عيسى قومه من الساعة وقيامها، لو حُدد موعد القيامة ماذا تتوقع من الناس؟ لو أخبر الشاب في سن العشرين بأنه سوف يعمر حتى التسعين هل يصلي ؟ هل يتوب ؟ هل يبتعد عن المحارم؟ هل يبتعد عن المعاصي؟ أم يعب من الدنيا؟ أمامه العمر حين يقترب من التسعين يتوب، يصلي، لكن إحساس الإنسان أن الموت منه قريب، وأنه قد يأتي في أي لحظة، تجعل الناس يستمعون للرسل والأنبياء فيؤمنون، فلو أخبر الناس بموعد الساعة منذ آدم، أو منذ نوح، أو يونس، أو هود، كيف يكون الحال؟ فإخفاء وقت قيام الساعة رحمة كبرى من الله، بل إخفاء المستقبل عمومًا من أجلّ النعم على الإطلاق، تصور وأنت تعيش في سعادة إذا بك تعلم أن بعد شهر يموت الأب، وبعد شهرين يموت الابن، وبعد سنة ستصدم بسيارة، وبعد عشر سنوات ستصاب بمرض عضال، كيف تعيش؟ كيف تحيا؟ لأن الحياة إن سرّتك أيامًا أحزنتك شهورًا، والحياة أحوال، ودوام الحال من المحّال، لكن هؤلاء لعمههم، واستهزائهم يسألون ليس سؤال علم، أو طلب علم، وإنما يسألون من أجل التعنت، ومن أجل الاستهزاء‫.‬‬‬‬‬‬
قُلْ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ ٱلَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ ﴿72﴾
الرِدْف : ماتبع الشيء، ولحقه، رَدِفَه ورَدِف له : تَبِعه، ولَحِقَه، ويُعَدَّى الفعل بنفسه، ويُعَدَّى باللام، واللام قد تأتي للتأكيد وقيل ﴿ رَدِفَ لَكُم﴾ وجيء بااللام ليتضمن الفعل معنى قَرُب لكم، ودنى لكم ومنكم، ﴿قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم﴾ قرب، ودنى، وتبعكم، بل هو معكم حيث تسيرون ﴿ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ جزء مما تستعجلون منه من العذاب، هم يستعجلون العذاب بدلًا من استعجال الهدى، بدلًا من استعجال الرحمة، بدلًا من استدرار الرأفة واللطف من الله، هاهم يستعجلون العذاب، ولذا قيل أن هذا التهديد ﴿قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ حدث في غزوة بدر حيث قُتل صناديد قريش، قتل المستهزئون، السائلون عن الساعة، وأسر من كان معهم ،وقيل بل المقصود والمراد هو عذاب القبر، وما أدراك ما عذاب القبر، نجانا الله منه جميعًا، عذاب القبر يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): ﴿لولا ألا تدافنوا لسألت الله (عز وجل) أن يسمعكم عذاب القبر﴾، لو سمعت عذاب القبر مادُفن أحدٌ أحدا ً أبدًا ،خاف نبينا (صلى الله عليه وسلم) ألا يحدث الدفن، ﴿قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ﴾ كلمة "عسى"، "لعل"، "وسوف"، ثلاث كلمات تفيد في كلام البشر الترجي، التوقع، قد وقد، لكن الكلمات الثلاث قيل إن من عادة الملوك أن يقولوها وقارا ،ً وإشعارا ً بأن الرمز منهم كالجزْم من غيرهم، قيل هذا، ويلاحظ في القرآن وكما قال العلماء" "عسى")، "لعل"، "وسوف" إذا جاءت من الله (عز وجل) دلت على التحقيق، والوقوع، والجزم، وكأن الإشارة من الله، أو الرمز كالجزم من غيره، أيضًا حين يقول البشر سوف، ولعل يملك أن يحقق ما توقع، وقدلا يملك، وقد تقوم العوائق دونه وما يريد، لكن الله (تبارك وتعالى) حين يقول‫:‬ "لعل" حادث لا محالة، جزْم، وإن كانت تفيد الترجي في كلام البشر، من هنا حين يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ﴾ إذا ً فقد ردفهم حقًا، وصدقًا وحادثٌ بعض ما يستعجلون لامحالة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴿73﴾
الآية عقب التهديد، عقب الوعيد، وعقب الكلام عن شبهات المشركين واستهزائهم، ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ أي فضل الذي تتحدث عنه الآية؟ أفضال الله وإنعامه لاعدّ لها ولا حصر، لكن كأن الإنسان يشعر من هذه الآية أن الله (تبارك وتعالى) يقول تأخير العقوبة عنهم وإمهال الكفار فضل، ليس الإمهال فقط وتأجيل العقوبة بل محاولة هدايتهم، أو سوْق الأدلة، أو الرد على الشبهات، كان من الممكن أن يأتي الرسول من الرسل، هناك إله، هو الواحد الأحد، عبادته واجبة، هذا حلال، وذاك حرام، من آمن آمن، انتهى، ومن كفر أهلك في التو واللحظة، لكن الله ذو فضل على الناس بتأجيل العقوبة، بالإمهال، بالآيات التي تتلى، الدليل تلو الدليل، والبرهان بعد البرهان، فضل، ليس ذاك فقط بل إدرار الرزق لهم، يكفرون ويرزقهم، يكذبونه ويكسوهم، ويستمر رزقه مدرارا ً ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾ لا يشكرون ذاك الفضل، ولا يعرفونه، ولا يعلمونه، ولا يقومون بحقه‫.‬‬‬‬‬‬
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿74﴾
نلاحظ في الآيات وجود "إن" واللام للتأكيد، تأكيدان ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ ، ﴿ لَيَعْلَمُ ﴾، ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ ﴿تُكِنُ﴾ من أكننتُ : سترت، وقرئت ﴿تَكُنُ﴾ من كنّ كننتُ الشيء : سترته، ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ ليعلم ما تخفيه صدورهم من كراهيتك، وما يعلنونه من تكذبيك، وما تخفيه صدورهم من التدبير، والتخطيط، والمكر، والحقد، والغل، والحسد، وما يعلنونه من خطط، وتكذيب، وإساءة، ووقوف على رءوس الطرق في مكة لترصد القبائل لإخبارهم إياكم وإياكم أن تسمعوا لهذا، يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، سبحانه يعلم هواجس الضمير، ويرى خفايا نوايهم والتفكير‫.‬‬‬‬‬‬
وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍۢ فِى ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ إِلَّا فِى كِتَـٰبٍۢ مُّبِينٍ ﴿75﴾
‫﴿ غَائِبَةٍ﴾ اختلف النحاة في التاء، قال بعضهم التاء للدلالة على الجمع، وقال بعضهم أي (ما من خصلة غائبة )، وقال بعضهم التاء للمبالغة كقولك‫:‬ رجلٌ راوية، كعلاّمة، ونسّابة وما إلى ذلك، ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾ أي شيء غاب عن الناس، وعن حواسهم في السماء، أو في الأرض، عند الله ليس بغائب، عند الله مسطور، معلوم، بل هو الفعال لما يريد، ولا يقع في ملكه إلا مايريد، فما من شيء يغيب عن الناس، أو غائب عن الناس، إلا وهو مسطور في اللوح المحفوظ، الظاهر، الواضح لمن اطلع عليه، ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾كتاب مبين‫:‬ اللوح المحفوظ، أو الكتاب هو قضاء الله وقدره، أو الكتاب هو علمه (عز وجل) المبين : الظاهر، المظهر لكل من اطلع عليه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿76﴾
إن هذا القرآن الذي أوحى إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يقص على بني إسرائيل، وكلمة ﴿ يَقُصُّ﴾ غاية في البلاغة؛ لأنها استعارة، والقاص متحدث، متكلم، فإذا كان القرآن يقص، وكأن القرآن ناطق بالحق، من هنا قال يقص، ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ اختلفوا في ماذا ؟ اختلفوا في السبت، اختلفوا في عزير؛ فمنهم من زعم أنه ابن لله، اختلفوا في عيسى؛ من اليهود من ينتظر عيسى حتى الآن، يزعمون أن عيسى لم ينزل بعد وهم ينتظرونه، واختلفوا أيضا في الحلال والحرام، وحرموا مالم يحرّم ربنا، وأحلّوا ما حرم الله ﴿... قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ٩٣] حرموا، وأحلَّوا، واختلفوا في أمور، ولعن بعضهم بعضًا، وهم فئات متنافره، ربنا (تبارك وتعالى) يقول هذا القرآن يقص عليهم أكثر الذي هم فيه يختلفون، ويحكي عن اختلافتهم ويبينها لهم، ويهديهم لما هو حق، جاء القرآن يحل لهم الطيبات التي حرموها، ويحرم عليهم الخبائث التي أحلوها ومع ذلك رفضوه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
وَإِنَّهُۥ لَهُدًۭى وَرَحْمَةٌۭ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿77﴾
‫﴿وَإِنَّهُ﴾ القرآن، والتأكيد بـ(إن) واللام أيضا ﴿لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ وخص المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون به، إذا القرآن هدى للمؤمنين، ولكنه للكافر ليس بهدى، حتى في أول آيات سورة البقرة ﴿ الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(٢)﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١, ٢) من أول آية تعلم أن من شاء الله هداه، ومن أضله أعماه، والقرآن رحمة، رحمة لمن ؟ للمؤمن، وحجة على الكافر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ﴿78﴾
‫﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ﴾ يقضي بين بني إسرائيل، ﴿بِحُكْمِهِ﴾ بقضائه يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، أو يقضي بينهم في هذه الدنيا بإظهار الحق بما يتلى من آيات في القرآن، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ العزيز‫:‬ الممتنع، العزيز‫:‬ الغالب، العزيز‫:‬ القاهر، العزيز‫:‬ الذي لا يرد قضاؤه، ولا يعقب على حكمه، العليم بما يقضي، العليم بخفايا الصدور والنوايا، العليم بكل شيء؛ فإن قضى وحكم حكم بالحق والعدل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ ﴿79﴾ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا۟ مُدْبِرِينَ ﴿80﴾ وَمَآ أَنتَ بِهَـٰدِى ٱلْعُمْىِ عَن ضَلَـٰلَتِهِمْ ۖ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِـَٔايَـٰتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴿81﴾
ترتيب الآيات مذهل، مشبع لمن أراد الحكمه، وأراد الإعجاز في كل كلمة، وفي كل حرف ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ إذًا هاهي شبهات المشركين، هاهو عمههم، هاهو استفهامهم، واستهزاؤهم، هاهي الاختلافات التي ظهرت بين بني إسرائيل وهم أخفونها، أظهرها الله وبينها في الكتاب الكريم ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ ربنا (تبارك وتعالى) يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، توكل على الله، وفوّض أمرك إليه، وسلّم له الأمر، إنك على الحق المبين، وكأنه يقول له‫:‬ إن صاحب الحق حقيق بالوثوق بنصر الله وتأييده، طالما كنت صاحب حق وثقت تمام الثقة بأن الله معك، وبأن الله ناصرك، بأن الله مؤيدك، أما صاحب الباطل هل يثق في نصر الله ؟ هل يلجأ صاحب الباطل إلى الله كي يؤيد باطلة؟ لكن صاحب الحق لابد وأن يكون واثقًا تمام الوثوق بنصر الله، وبتأييد الله، من هنا كان الكلام تعليل للأمر بالتوكل ﴿ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ تعليل للأمر بالتوكل، أمره بالتوكل وعلة الأمر إنك على الحق، المبين : الظاهر، الواضح المظهر للحقائق، ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ كلام قد يبدو لغير المتأمل منفصل، لكن الكلام متصل كحلقات العقد، متصل تمامًا؛ عله أخرى للأمر، أمره بالتوكل العلة الأولى‫:‬ إنك على الحق المبين، والعلة الثانية‫:‬ إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوْا مدبرين، قيل الأمر لله وتوكل عليه هل تستطيع أن تخلق الإيمان في قلب كافر، الأصم لا يسمع، وهو ناظر إليك، قريب منك لا يسمع، تخيّل الأصم أعطاك ظهره وولى مدبرًا وبعد عنك، هل يسمع؟ أم يكون أبعد عن السماع، وانظر إلى التعبير القرآني، والإعجاز اللغوي ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ قراءة، ﴿وَلَا يَسْمعُ الصُّمَّ﴾ قراءة، ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا ناديت عليه، الدعاء بمعنى النداء، ﴿ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ أنت لا تسمع الأصم وهو أمامك، وناظر إليك، واقفٌ إلى جوارك، فكيف إذا أعطاك ظهره وابتعد؟! إذا ً فهم أبعد ما يكون عن السماع، والقصد هنا بالموتى ليس الموتى موته نهاية الدنيا، وإنما الكفار هم موتى الأحياء، الكافر ميت الأحياء، والمؤمن حي في الدنيا، حي في قبره، حي عند الله، ﴿ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ﴾ كيف تهدي الأعمى عن الضلالة وهو لا يبصر ؟ أتخلق له البصر؟ هم لا يسمعون الحق، ولا يبصرون الحق، لايسمعون الدلائل والآيات، ولايبصرون البراهين والآيات الداله على وجود الله (عز وجل) وعلى انفراده بالخلق، والتدبير، والتصريف في كل شيء، فهم كالموتى، إذا ً فلا فائدة من حزنك عليهم، ولا فائدة من ضيق صدرك، سوى أنك تحزن، وحزن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يحبه الله ولا يرضاه له، فيرشده إلى ترك الحزن؛ فالأمر بيده، هو العليم بمن يؤمن ومن يكفر، هو الفعال لما يريد، كِلْ الأمر إليه، وفوّض أمرك إليه، والعلة في الأمر بالتوكل أنه (صلى الله عليه وسلم) على الحق المبين، والعلة الثانية أنك لا تسمع الموتى، ﴿ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ "إن" هنا نافية بمعنى "ما"، أي ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون، أي مستسلمون لله، أسلموا وجوههم لله؛ لأن الإسلام بمعنى الإسلام، الذي هو تصديق النبي (صلى الله عليه وسلم) جاء في كلمة "يؤمن" ﴿ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ طالما قد كان آمن، والإيمان أرقى من الإسلام فقد أسلم، من هنا جاءت كلمة ﴿فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ لايقصد بها الإسلام الذي هو الدين، وإنما يقصد بها الاستسلام لله، إسلام الوجه لله، من أسلم وجهه لله، نسأل الله (تبارك وتعالى) أن نكون من هؤلاء الذين أسلموا وجوههم لله، وإن كان الله (تبارك وتعالى) لم يخبرنا بموعد قيام الساعة، إلا أنه بفضله، وكرمه، ومنّه (عز وجل) أخبرنا ببعض أماراتها، من فضله، من إحسانه، من جوده، ومن كرمه، من إنعامه، أخبرنا ببعض أمارات الساعة‫:‬ خروج الدابة، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) ﴿ثلاثٌ إذا خرجن لم ينفع نفس ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، وخروج الدابة﴾ وأحاديث النبي عن أمارات الساعة كثيرة، ومنها عشر آيات، لا تقوم الساعة حتى تحدث الآيات العشر التي أخبرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) عنها، والكلام عن الدابة، الدابة لغةً : اسم لكل مادبَّ على الأرض من الحيوان، مميزة وغير مميزة، يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةًۭ مِّنَ ٱلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴿82﴾
تُكَلِّمُهُمْ، تَكْلُمُهُمْ قراءتان، اختلف العلماء في شأن الدابة، وشكل الدابة، ونوعها، ومكان خروجها، وما تفعله، واختلفت القراءات‫:‬ ﴿تكَلِّمُهُمْ﴾ من الكلام، ﴿تَكْلُمُهُم﴾ : الجرح، وسئل بن عباس عن القراءتين﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ أم﴿تَكْلُمُهُم﴾؟ قال والله إنها لتُكَلِّمُهُم، وتَكْلُمُهُم تُكُلِّم المؤمن، وتَكْلُمُ الكافر، قيل أقوال كثيرة عن الدابة، أقوال لا سند لها من الأسانيد التي يعتد بها، وإنما هي أقوال لم تسند إلى سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) والأقوال في التفسير عمومًا إن كانت من حيث الإعراب والنحو فالحس القرآني يختار من بينها، أو يوجهها، ويصحهها، أما ما جاء في الأخبار فما لم يرد من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو من الصحابة، فهو أمر يوضع تحت الأنوار أو لا يعتد به، لأن الكلام عن القرآن، والكلام في القرآن لابد أن يكون متصل بالأسانيد التي تصل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والقول في القرآن بالرأي ممنوع، الأخبار كثيرة، وبعض المفسرين عادوا ورجعوا إلى كتب الأولين كالتوراة والإنجيل وما إلى ذلك، مما قالوا مثلًا‫:‬ إن الدابة ارتفاعها ستون ذراعًا، ولها أربعه قوائم، ولها جناحان، ولها ريش وزغب، لا يفوتها هارب، ولا يدركها طالب، وقيل أنها تأتي ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، عصا موسى تنكت بها في جبهة المؤمن فينير وجهه، وخاتم سليمان تَسِمُ به على الخرطوم للكافر نكتة سوداء، قيل كثير، كله لا سند له، أو لا يعوَّل عليه، أما عن مكان الخروج، فقيل تخرج من صخرة الصفا، وقيل في أشد المساجد حرمة ألا وهو المسجد الحرام، وقيل تخرج في البادية، ثم تكمن ويسمع بها أهل البادية، ولا يسمع بها أهل المدن، ثم تظهر فيراها أهل البادية، ويسمع بها أهل القرى، ثم تكمن ولها ثلاث خرجات، كلام كثير، أصح الأقوال في شأن الدابة، تذكرون قصة ثمود مع صالح، وأنهم طلبوا منه أن يخرج لهم من صخرة صماء ناقة عشراء، وخرجت الناقة، وولدت أمامهم، وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، تعلمون أنهم تقاسموا ليبيتنه بعد عقر الناقة، وانبعث أشقاها، وعقروا الناقة، أين الفصيل ؟ ما ولدته الناقة؟ الفصيل : الجمل الصغير، ولد أمامهم، جاء ذكر الناقة، وعقر الناقة، وتأكدنا من عقرها، لكن لم يرد ذكر الفصيل أبدًا، من هنا قيل أنهم حين همُّوا بالناقه وعقروها هرب الفصيل، وحين علم صالح قال أدركوا الفصيل؛ لأنه لو أدرك لأخر عنهم العذاب، فلم يدركوه، وجرى الفصيل إلى الصخرة حيث خرجت أمه، فانفلقت، فدخل، فأغلقت عليه، هذا هو الدابة الذي يخرج في آخر الزمان، ذاك أصح الأقوال، والله أعلم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾ ما معنى وقع القول عليهم ؟ خروج الدابه من أين ؟ يعلم الله لكن إن كان أصح الأقوال أن الدابة هي فصيل ناقة صالح فتخرج من حيث خرجت، من أماكن ثمود بالحجر، بين الحجاز والشام، وقع القول : حق العذاب، أو وقع غضب الله عليهم، أو دنا وقت قيام الساعة إذا وقع القول عليهم، طالما كان خروج الدابة من العلامات الكبرى، وإذا خرجت الدابة قفل باب التوبة، أيها أول فالآخر على إثرها لحديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم عن طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة ضحى، فأيها كان أولًا كانت الأخيرة على إثرها قريبة، إذا خرجت الدابة قفل باب التوبة، وانتهى، وطويت الصحائف، حتى المؤمن لو صلى لا تكتب صلاته، انتهت الأعمال، إذا وقعت الحادثة، أو خرجت الدابة، أو وقع القول عليهم تخرج الدابة، من الكلام الذي قاله العلماء، وهو كلام أشبه بالحق، أو بالحقيقة، أو بالصواب، قالوا في زمن نوح، وقد تكلمنا عن نوح، وما عاشه من سنين، وكيف كانت ذاكراته، وكيف يكون الزمان نسبيًا، حين يقول من سبعمائة عام فعلت كذا، أيضا نأتي لذكر نوح، وفي قصصهم عبرة لأولي الألباب، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، نوح أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلامن قد آمن، إذًا فقد انتهى إيمان الناس، من آمن آمن، ومن كفر كفر، وعلم الله أن الكفار الموجودين أيًا كان العدد لن يؤمن منهم أحد، ولن يتوب منهم أحد، وعلم أيضًا أن ظهورهم لن تنتج مؤمن، فلن يولد لهم مؤمن، كقول نوح‫:‬ ﴿ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ [سورة نوح آية‫:‬ ٢٧] إذا ً فقد امتنع ميلاد مؤمن في عصر نوح، وامتنعت التوبة على كفار قومه، ماذا حدث ؟ حدث الطوفان، وأهلك الله كل من على الأرض، وما على الأرض إلا الذين كانوا في السفينة، وما آمن معه إلا قليل، متى تقوم الساعة ؟ إذا تكررت الحادثة، وإذا أعاد التاريخ نفسه، حين يموت العلماء، ويرفع العلم، ويتخذ الناس رؤوسًا ضلاَّلا ،ً يفتون بغير علم، فيضلون ويُضلون، وحين يرفع القرآن، وسيرفع، وسألوا كيف يرفع القرآن؟ إن رفع من المصاحف فإنه في القلوب، قال لهم عبد الله بن عمر‫:‬ ينام الرجل ويصبح وقد نسى كل شيء، ويقول كنا نتكلم بكلام بالأمس ما هو؟ يرفع حتى من القلوب، يمسي المرء مؤمنًا ويصبح كافرًا، ويصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، تكثر الفتن، يرفع الحياء، وترفع الأمانة من قلوب الرجال، يموت العلماء، ويقبض العلم بموت العلماء، ويرفع القرآن، ولا يبقى على الأرض إلا كافر، ولايلد الكافر إلا كافرًا ، هنا وقع القول عليهم، قيل هذا، وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تُكِّلمُهُم كلام، تَكْلُمُهم تجرحهم تسمههم، تسِمُ المؤمن، وتَسِمُ الكافر، هل هناك مؤمن تسمة الناقة ؟ قد، قِلة التي تأتي الريح الطيبة فتقبض أرواحهم جميعًا دفعة واحدة، لوجود الحديث الذي يخبرنا بذلك، ولا يبقى على الأرض إلا الكافر، تكلمهم أو تكلْمهم، ﴿أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾ أو ﴿إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾ بالكسر على الاستئناف، هل الناقة أو الدابة الخارجة تقول هذا اللفظ بالذات ؟ قيل تعليل لخروج الدابة، أي خرجت الدابة لأن الناس لا يوقنون بآيات الله، كلهم كفار، وقيل بل هي المتكلمة، تكلمهم إن الناس حكاية عن معنى قولها، تقول ذلك، وتقول ألا لعنة الله على الظالمين، وقيل بل هو حكاية عن قول الله (عز وجل) فهي تقول هذا اللفظ حكاية عن قول الله (عز وجل) أي أنا خرجت لأن الله يقول، أيها الأخ المسلم من رحمة الله علينا أن جعلنا مسلمين، ومن فضله ومزيد إحسانه هدانا إلى الطريق المستقيم، ذكرت الآيات آية من الآيات الكبرى، والتي هي علامة على قيام الساعة، من العلامات الكبرى لقيام الساعة، خروج الدابة التي تكلم الناس، وقيل في شأن الدابة الكثير، وأقرب الأقوال وأشبه الأقوال هو أن الدابة فصيل ناقه صالح، حين عقروها، وخاف عليهم صالح، وهرب الفصيل، وقال صالح أدركوا الفصيل أدركوا الفصيل؛ لأن الفصيل لو اختفى، ودخل الصخرة وقع عليهم العذاب، ولو استطاعوا أن يدركوا الفصيل، ويبقى الفصيل فيهم قد يؤخر عنهم العذاب، وقد يؤجل، وقد يرفع، لكن قضاء الله نافذ، فلم يدركوا الفصيل، ودخل الصخرة حيث خرجت أمه، وأغلقت عليه الصخرة، هذه هي دابة الأرض التي تخرج في آخر الزمان فتكلم الناس، ثم تذكر الآيات طرفًا من أهوال يوم القيامه، يقول الله عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍۢ فَوْجًۭا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِـَٔايَـٰتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿83﴾
والفوج في الأصل‫:‬ الجماعة المارة بسرعة، وجمعه أفواج، ثم استخدمت الكلمة وأطلقت بعد ذلك على كل جماعة، و إن لم يكن هناك إسراع، ولا مرور، ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا﴾ "من" هنا للتبعيض، إذ كل أمة فيها مؤمن وفيها كافر، فالمحشورون هم رؤساء الكفار وزعماؤهم، ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا ﴾ جماعة من الناس، وهم القادة والرؤساء، ممن يكذب بآياتنا، رؤساء الكفر، ورؤساء الشرك، رؤساء التكذيب، دعاة الفجور، ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾، الوزع : الكف، والمنع بحبس أوائلهم حتى يلحق بهم أواخرهم فلا يتخلف منهم أحد، يساقون، يدفعون إلى موضع الحساب، والسؤال‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِـَٔايَـٰتِى وَلَمْ تُحِيطُوا۟ بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿84﴾
السؤال للتبكيت للتقريع، للتوبيخ، أكذبتم بآياتي، الآيات النازلة في الكتب الموحَى بها إلى الرسل، كذا هذه الآيات التي كذبوا بها، وبخهم لأنهم كذبوا بها دون نظر، دون فكر، دون إعمال للعقل، ﴿ ... أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ﴾ لم يحدث منكم تدبر، أو تفكر، أو نظر في هذه الآيات حتى تحيطوا بعلمها، أو تعلموا صدقها، تكذيب فوري، ﴿ أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ والكلام فيه إضراب، معنى الإضراب هنا كأنه يقول دعكم من وصفكم، ونسبة التكذيب إليكم، وأخبروني، وقولوا لي ماذا كنتم تعلمون في الدنيا غير التكذيب؟ ﴿... أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ﴾ توبيخ، وتقريع، وتبكيت على التكذيب بالآيات دون نظر، دون فكر، دون إعمال للعقل، ثم إضراب عن ذلك، دعكم من هذا، ماذا كنتم تفعلون في الدنيا؟ سؤال تقرير، وتوبيخ، أيضًا ماذا كنتم تعملون غير التكذيب؟‬‬‬
وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا۟ فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ ﴿85﴾
‫﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم﴾ وقع عليهم العذاب، حق عليهم العقاب، ﴿ بِمَا ظَلَمُوا ﴾ بما أشركوا، وبما كذّبوا، ﴿فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ﴾ لا ينطقون بحجة، لا ينطقون بعذر، أسقط في أيديهم، أم ختم على أفواههم، وألجمت ألسنتهم فلا ينطقون، أم شغلهم العذاب عن الجواب، تُرى ماذا ؟ إما ختم على أفواههم، وإما لايجدوا ما يقولون ولا يجدون جوابًا ماذا يقولون وماذا يجيبون، أو شغلهم العذاب عن الجواب، والسؤال يدعو للتأمل، الكلام عن المشركين والمكذبين لكن السؤال يدعو للتأمل، ﴿ أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ لو سئل الإنسان هذا السؤال، هل أعد الإجابه؟ تأمل، فقد تسأل ماذا كنت تعمل في الدنيا؟ ماذا يقول المسئول في هذا الموقف ؟ ما اشتهيت طعامًا إلا أكلته، وما ظهر جديد إلا واشتريته، تنافست في جمع المال، وسعيت إلى الجاه والسلطان، حدث التكاثر، والتفاخر، استمتعت بالدنيا وبزينتها، كنت معجبًا بالرقص والغناء، كنت محبًا للعب واللهو، كم جلست، وكم مشيت، وكم وكم‫.‬..؟ أهذا مايقول؟ أتكون هذه الإجابة؟ ماذا كنتم تعملون؟ سؤال كلنا معرّض له، خلقنا في هذه الدنيا، ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(٣٧)﴾ [سورة القيامة آية‫:‬ ٣٦- ٣٧] سؤال هل أعددت له الإجابة؟ ماذا كنت تعمل في الدنيا ؟ أيمكن أن تقول تفرغت لعبادتك، زهدت في الدنيا وما فيها، رضيت بقضائك وقدرك، نسبت النعمة إليه فشكرت، ما من نعمة أنعمت بها عليّ إلا واستخدمتها فيما خلقت له، لم أشغل نفسي بالمال، والجاه، والسلطان، ما رأيت لهوًا إلا وابتعدت عنه، ما رأيت لغوًا إلا وأعرضت عنه، ما اغتبت أحدًا ما أوقعت بين اثنين، ما سلبت مال أحد، وما سفكت دم أحد، وما ظلمت أحدًا، كلى، ولَيلِي، ونهاري، وأنفاسي ذكر لك، أهذا ما تقول ؟ أي شيء تقول ؟ ماذا كنتم تعملون؟ سؤال استعد للإجابة عليه، تأمل في السؤال، ولابد وإنك مسئول، وصدق سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) ﴿كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته﴾.‬‬‬‬‬‬‬
أَلَمْ يَرَوْا۟ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِيَسْكُنُوا۟ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ ﴿86﴾
هذه الآية في وضعها، وفي سياق الآيات، قد يتعجب لها المرء؛ الكلام عن أهوال يوم القيامة، ثم يعود الكلام إلى آية من آيات الدنيا الدالة على وجود الله (عز وجل) وانفراده بالخلق والتقدير، وكأن هذه الآية كانت كافية وكفيلة بإيمان كل الناس لو تأملوا فيها، والآية فيها تأملان‫:‬ تأمل لغوي، وتأمل في المعنى، أما من حيث اللغة فاسمع ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ والأصل‫:‬ والنهار ليبصروا فيه، فالنهار لا يبصر، لكن النهار ليبصروا فيه، فنسب الإبصار للنهار، ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ وكأنه حال من أحوال النهار، لا ينفك عنه، أنه مبصر، مبالغة في شدة ضيائه، وانتفاع الناس بالإبصار، الآية فيها حذف، ولك أن تقدر، والتقدير لكي تنتظم من حيث اللغه في تفكيرنا وتقديرنا (ألم يروا أنا جعلنا الليل مظلمًا ليسكنوا فيه والنهار مبصرًا ليتصرفوا فيه) ذاك هو التقدير، فحذف "مظلمًا" لدلالة مبصرًا عليها، وحذف "ليتصرفوا فيه" لدلالة ليسكنوا فيه، وهذا من محسنات اللغه، أن تحذف من أول الكلام ما أثبت في آخره، وأن تحذف من آخره ما أثبت في أوله، هذا الحذف بهذا الأسلوب يسمي في اللغة الاحتباك، وهو من أشد محسنات اللغة إعجازًا، ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ هم المنتفعون فخصّهم بالذكر، هم المنتفعون، المتأملون، المتدبرون في آيات الله، أما التأمل من حيث المعنى‫:‬ الليل، والنهار أضداد، الليل ظلام، والنهار ضياء، أن يتعاقب الظلام، والضياء في مكان واحد، وهو الأرض، بنسق، ونظام، وترتيب على مدار العام لا يخل، مهما طالت الأعوام، معناه أن هناك مخصصا لهذا التخصيص، ثانيًا : أن يكون الليل مظلمًا ليحدث فيه السكون والامتناع عن الحركة والراحة، وأن يكون النهار مبصرًا فيه التصرف والجري على المعايش، معناه أن الإنسان فقير، محتاج، لابد له من الراحة، وأنه لم يخلق جامدًا بغير حركه كالجبال والشجر، ولم يخلق متحركًا بصفة دائمة كالكواكب والقمر، وإنما له حركة وسكون، ففي الكون جامدات؛ الشجر لا يتحرك ولا يمشي، والجبال كذلك، وهناك الأفلاك دائرة من شروق إلى غروب، ومن غروب إلى شروق، بصفة مستمرة، لا تتوقف، ألا ترى القمر؟ هل توقف؟ ألا ترى الشمس؟ هل توقفت؟ فخلق الله الإنسان له الحركة وله السكون، ومن أجل السكون جعل له الليل، ومن أجل الحركة جعل له النهار، أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى؟ الأمر الثالث : تعاقب الليل والنهار ينشأ منه توالي الأيام، والشهور، وتعاقب السنون، ينشأ منه الزمن، والزمن سيف بتار، سلطان قهار، أتستطيع أن توقف الزمن؟ أتستطيع أن تعيد الزمن إلى الوراء ؟ أتقدر على إعادة الشباب ؟ أتقدر على إيقاف الأيام؟ زمان معناه أنك إلى القبر واصل، وأن العمر منقص لا محالة، وأن الموت آت لا شك، هم في ملكه أسرى مشدودوا الوثاق، أنت أسير المكان، أنت أسير الزمان بغير قيود، لكنك أسير الأرض التي تعيش عليها، أين تذهب؟ أين تفر؟ أين المفر؟ أنت أسير الزمان رغم أنفك؟ مضى الأمس، وسيمضي اليوم، ويأتي الغد دون رغبة منك، دون تقدير منك، دون تدخل منك، معنى ذاك أن هناك ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وطالما كان هناك ماض وحاضر ومستقبل فالله موجود، والله واحد، والله مدبر، والله مقدر، والله باعث للخلق لا محالة، ألم تكن هذه الآية بمفردها كافية؟ لو لم يكن في الكون آيات سوى هذه الآية لكفى أن يستدل الإنسان على وجود الواحد، الأحد، القادر، القهار، المتصرف، المخصص، المدبر، هو الله، ولو تكلمنا عن الآيات المستفادة والدلائل التي يدل عليها تعاقب الليل والنهار مانزلنا من على هذا المنبر حتى نموت، يقول الله‫:‬ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ آيات وليست آية واحدة، وتنتقل الآيات إلى وصف يوم القيامة‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَٰخِرِينَ ﴿87﴾
‫﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾ الصور : البوق، الصور : القرن، الصور نؤمن به ونفوّض العلم بحقيقته إلى علاّم الغيوب، مهما قرأت من أوصاف له في الكتب فلم يرد فيها نص، نحن نؤمن بوجود الصور ونفوّض العلم بحقيقته إلى الله (عز وجل) ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُوَرِ﴾ قراءة، أي صُوَر الناس، صُوَر المخلوقات، الأجداث، الأجساد، العظام، يُنفخ فيها الروح فتحيا، والنفخ في الصور نفختان‫:‬ نفخة الصعق، ونفخة البعث، ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾ أي واذكر لهم يوم ينفخ في الصور، ﴿ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ﴾ "فزع" قد تستخدم الكلمة لإجابة النداء بسرعة، إجابة الداعي، وتستخدم الكلمة للتعبير عن الفزع المعلوم، المعهود، الرعب، والهلع، وذاك أشبه، وأقرب ﴿ فَفَزِعَ﴾ رهبه، ورعب، والمقصود النفخه الثانيه، نفخة البعث، نفخه النشور، ﴿ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ﴾ رعب، هلع إنسان، مات ألوف السنين، ملايين السنين تحت الأرض، تراب، تكوّن جسده، وعادت إليه روحه، فإذا به يشق التراب ليخرج، فيرى ويا هول ما يراه! فمن هؤلاءمن يقول‫:‬ ﴿ يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾ [سورة يس آية‫:‬ ٥٢] ، وهناك من يقول‫:‬ ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [سورة يس آية‫:‬ ٥٢] ، ﴿ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ﴾ من هؤلاء؟ استثنى الله (تبارك وتعالى) وله أن يستثنى من يشاء، فزع من في السموات والأرض إلا من شاء الله لا فزع، قالوا الملائكة، قالوا حملة العرش، قالوا الحور العين، قالوا الأنبياء والشهداء، قالوا جبريل، وميكائيل، وإسرافيل الذي نفخ، وعزرائيل، قالوا المؤمنون، قالوا وقالوا ولم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والله أعلم بمن استثناه ،كلها استنتاجات واستنباطات، كل ذلك محتمل، ولكنا نفوّض العلم بذلك لله، ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ ﴿دَخِرِينَ﴾ قراءات، ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ﴾ ﴿وَكُلٌ أَتَاهُ﴾﴿وَكُلٌ أَتُوْهُ﴾ قراءات، الدخور : الذل، والصغار، دَخِرَ ودَخَرَ، ودَخَرا ً ودُخُورا ،ً ذلَ وصغر، أدخره غيره‫:‬ أرغمة، ﴿دَاخِرِينَ﴾: أذلاء صاغرين، كلٌ: منونه، والتنوين يغني عن الإضافة، كل -ما من شيء- الكل أتوه أذلاء صاغرين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةًۭ وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ ۚ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ ۚ إِنَّهُۥ خَبِيرٌۢ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴿88﴾
‫﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾ ، الرؤية رؤية العين،لأن الرؤية قد تعني رؤية العين، أو تعني رؤية القلب، أي العلم، الجمود : السكون، وعدم التحرك، تحسبها : تظنها واقفه، ثابتة، ساكنة، ولكنها تمر مر السحاب، والكلام فيه حذف أيضًا، من محسنات اللغة تمر مرّ السحاب أي تمر مرًاً مثل مر السحاب فحذف مرًا ومثل مر، وأصبحت تمر مر السحاب، ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ الإتقان : الإتيان بالشيء على أحسن ما يكون من التمام، والكمال، والإحكام، والتمام لا نقص فيه، ولا عوار، ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ قراءة، ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ قراءة، والخبير : العالم ببواطن الأمور، العليم بما خفى من كل شيء، الكلام عن يوم القيامة، بعض الناس قال الآية دليل على كروية الأرض؛ إذ أن الأرض حين تدور في الفضاء الجبال تسير مع الأرض، فتحسبها جامدة لكنها تسبح في الفضاء مع الأرض، ولكن هذا القول يستبعد، وإن كان محتملًا؛ لأن الآية جاءت في سياق الكلام عن يوم القيامة "ويوم نحشر"، والكلام عن يوم القيامة، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾ الجبال لها شأن، الجبال يفعل ربنا (تبارك وتعالى) فيها أفعالا ً عديدة، ﴿ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ١٤] ، ﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤)وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)﴾ [سورة القارعة آية‫:‬ ٤, ٥] القطن المندوف، ﴿ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴾ [سورة النبأ آية‫:‬ ٢٠] أوصاف للجبال، وكلها في يوم القيامة، قيل في البداية تدك الجبال دكا ً كما تدك الأرض، فتسوّى، فإذا دكت بعد ذلك تصير كالعهن المنفوش، القطن المندوف، ثم تأتي الرياح فتنسفها نسفًا، فتصبح هباءًا منثورًا، غبار في الجو، ثم بعد ذلك يتلاشى الغبار وتصبح كالسراب، فإذا جمعت الجبال جميعها، ودكت كلها، فأصبحت كالعهن المنفوش، ثم نسفت فطيرت فأصبحت كالغبار، كالهباء، ثم سارت في الفضاء لكبر حجمها، وعظم جرمها، لو نظر إليها الرائي لظن أنها واقفة، وهي تمر مرًا كمر السحاب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيْرٌۭ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍۢ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ ﴿89﴾ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿90﴾
‫﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ﴾ العمل الصالح حسنة، من زادت حسناته عن سيئاته ولو بحسنة يضاعفها الله، ﴿ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾ "خير" على بابها من التفضيل، بمعنى أن ثواب الله خيرٌ من عبادة العبد؛ لأن العبادة يسيرة، والثواب جزيل، بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ما زهدت فيه من الدنيا حقير، عمرها قصير، وخطرها خطير، وما أعطيته في الآخرة الأبد، النعيم الأبدي، الزائل مقابل الباقي، والقصير مقابل الأبد، والعمل اليسير مقابل الجزاء الجزيل، والثواب الكبير العظيم، وقيل كلمة خير هنا ليست على بابها من التفضيل، واسمع ﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ﴾ ماهي ؟ "لا إله إلا الله"، هي الحسنة، هي النعمة الكبرى، هي المنّة العظمى، التوحيد، فله خير منها ليست على بابها من التفضيل لأنه لا خير فوق لا إله إلا الله أبدًا ، وإنما المعنى له خيرٌواصلٌ إليه منها، من قلبها، من جهتها، فالخير آتاه من الحسنة، من التوحيد، وياله من خير، أي نعمة نعمة التوحيد؟ نعمة التوحيد خيرها في الدنيا لا يقدر، ولا يقادر قدره ، وخيرها في الآخرة لا يعرف قدره، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى مقدار الخير الواصل من كلمة التوحيد، ﴿وَهُم﴾: الموحدون، ﴿ وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ ﴿ وَهُم مِّن فزعِ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ قراءات ، لكن المعنى قد يتغير إذ إختلاف القراءه قد تبقي المعنى على ماهو، واختلاف القراءة قد يتغير فيه المعنى، (وهم من فزعٍ بالتنوين يومئذ ٍ آمنون) معنى ذاك أن الكلام عن فزعٍ بعينة، والقيامة فيها فزع دون فزع دون فزع، والكلام عن فزعٍ واحد منهم، أي فزع الذين هم منه آمنون ؟؟ قيل الفزع الأكبر لقوله (عز وجل): ﴿ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ١٠٣] أما القراءه بالإضافه (وهم من فزعِ يومَئذٍ – من فزعِ يومِئذٍ) إذا ً فهم آمنون من جميع أنواع الفزع ،كل الأفزاع هم آمنون منها، هم منها بعيدون، ﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾السيئة هنا الشرك، طالما أن الحسنة هي التوحيد فالسيئة هي الشرك، كبَّه وأكبَّه : نكسَهُ وقَلَبَهُ ومنه فكُبْكبِوا، ﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ﴾: بالشرك، ولا أسوأ من الشرك، ولا أفظع من الشرك، وربنا يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك، من جاء بالسيئة‫:‬ أي مات على الشرك، مات على كفره، كبت وجوههم‫:‬ أي قُلبوا، ونُكسوا، وأدخلوا جهنم على وجوههم مقلوبين، ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي يقال لهم هذا جزاء أعمالكم، وما ظلمناكم ولكن كنتم أنتم الظالمون، أنتم ظلمتم أنفسكم وما ظلمكم الله، أيها الأخ المسلم يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): ﴿كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى﴾، سبحان الله على المعنى وتأمل كلمة "أبى" غير كلمة امتنع، "أبى" معناها امتنع مع القدرة، لذا قيل في شأن إبليس "أبى" حين أمر بالسجود، إذًا فقد كان قادرا ً على أن يسجد، أما كلمة "امتنع": إمتنع لعدم قدرته، امتنع لعدم تيسّر الأمر له، تعجب الأصحاب وتعجبوا حين سمعوا ذلك، وقالوا من يأبى يا رسول الله! قال من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى، لما بيّن الله (تبارك وتعالى) المعاد، وبين المبدأ، بين أحوال المبدأ، وأحوال المعاد، وقص القصص؛ ليعتبر المعتبر، فقص من قصص الأنبياء، قصة موسى، قصة سليمان، قصة صالح، قصة لوط، وساق من الأدله والبراهين مالا يجعل لمنكر حجة، أو عذر، أدلة، براهين، آيات متتاليات، تدل على وجوده (عز وجل) وانفراده بالخلق والإيجاد، وأنه هو المستحق للعبادة، وحذر، وأنذر، ثم أخبر عن علامة من العلامات الكبرى لقيام الساعة، حيث يغلق باب التوبة، حيث لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، خروج الدابة، ثم بيّن طرفًا من أهوال يوم القيامة، وحدد مصير من جاء بالحسنة، ومصير من جاء بالسيئة، أمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يشتغل بنفسه، وكأنه يقول أديت ما عليك، واكتملت الدعوة، فعليك بالانشغال بشأنك، والاستغراق في عباده ربك، واسمع كيف جاء الختام لهذه السورة المكية، التي نزلت ضمن ثلاث سور مكية، وبنفس ترتيب وجودها في المصحف‫:‬ الشعراء، والنمل، والقصص، تأمل في الختام، وارجع إلى البدء، واربط الكلام‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَـٰذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَىْءٍۢ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴿91﴾ وَأَنْ أَتْلُوَا۟ ٱلْقُرْءَانَ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ ﴿92﴾ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَـٰتِهِۦ فَتَعْرِفُونَهَا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿93﴾
‫﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ﴾ كأنه يقول له‫:‬ قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، البلدة‫:‬ مكة، والإضافة التي حظيت بها مكة، رب هذه البلدة، هذه الإضافة تشريفًا لها، وتعظيمًا لشأنها، ﴿ الَّذِي حَرَّمَهَا ﴾، ﴿ التي حَرَّمَهَا ﴾ التي حرمها قراءة عائدة على البلدة، ﴿ الَّذِي حَرَّمَهَا ﴾ الذي حرّمها عائدة على الذات العليا، حرمها، لا يعضد شجرها، ولا ينفّر صيدها، ولايقطع شوكها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد معرّف، ﴿ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ﴾ له كل شيء خلقًا، كان الله ولم يكن شيء، كل ما سوى الله له خلقًا، وإيجادًا، وتقديرًا، وملكًا، وتصريفًا، وتدبيرًا، هل هناك شك في ذاك؟! ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ المستسلمين لله بالكلية، المسلمين من التسليم وليس من الإسلام، أي المسلمين وجوههم إلى الله، المفوضون أمورهم إلى الله، المستلمون له بالكلية كما أمر، أن يقول إن محياي ومماتي ونسكي الحياة -النسك‫:‬ العبادة- كل ذلك لله رب العالمين لا شريك له، ﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ﴾ أقرأ القرآن الذي أوحى إليّ، ﴿ فَمَنِ اهْتَدَى ﴾ بالاستماع، والتعقل، والتدبر، والتأمل، وانشراح الصدر، ﴿ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾ الهدى راجع إليه، هو المستفيد، نبينا (صلى الله عليه وسلم) لن يستفيد بإيمان الناس شيئًا، ولن يضار إذا كفر الناس جميعًا، هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ﴿ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ أي ومن ضل فإنما يعود بالضلال عليه، وضرر الضلال راجع إليه، ولا شأن لي بضلاله، ولا أضار من ضلاله، إن عليَّ إلا البلاغ والإنذار، ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين، أي أمر هدايتكم ليس بيدي، وإنما أمر هدايتكم إلى الله، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، عليّ البلاغ، وعليّ الإنذار، ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ ما أجملها من كلمة، ما أحلاها من كلمة، لو قالها العبد مستشعرًا لها من قلبه لشعر بالسعادة الغامرة، التي لا تعدلها سعادة، "الحمدلله" من النعم التي أنعمها الله على خلقه أن علّمهم أن يقولوا الحمدلله، وافتتح كتابه بها ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ الحمد لله على نعمة النبوة، الحمدلله على الإسلام، الحمدلله الذي هداه لذلك، الحمدلله الذي مكنّه من إبلاغ الدعوة، ومن البديهي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أُمر أن يقول الحمد لله فكلنا بذلك مأمور، ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ وهذه الكلمة، الحمدلله، موجودة في كثير من الآيات، في مناسبات عديدة، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) كان يدعو بها، ويقولها في كثير من أحواله، الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، وقال ربنا‫:‬ ﴿...َفادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٦٥] وكأنها دعاء، وكأنها عبادة، وقال بعض العلماء كلمة الحمد لله إن لم تعدل كلمة (لا إله إلا الله) فقد تفوقها، كيف ؟ قال لأن كلمة (لا إله إلا الله) توحيد، وكلمة الحمد لله ضمت التوحيد، والثناء، لأن كلمة الحمد لله توحيد، الحمد لله إذا ً فأنت موحد، مُقر، معترف بأن الله موجود، واحد، قادر، هو صاحب الفضل، وصاحب النعمة، فأثنيت عليه، لكن لا يعلو على كلمة لا إله إلا الله شيء، وكأن المقصود من قولهم أن العبد إن أكثر من كلمة الحمد لله أفضل من الإكثار من كلمة لا إله إلا الله، إذ أن كلمة لا إله إلا الله إقرار يُطلب ولو في العمر مرة، أما كلمة الحمد لله فهي تطلب في كل الأحوال، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور حينما تستيقظ، الحمدلله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين بعد الأكل، الحمد لله الذي رزقنا من غير حول منا ولا قوة، الحمدلله الذي كسانا، الحمد لله الذي هدانا، الحمد لله بدأ بها الخلق وخُتم بها الخلق، ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ١] ، ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة الزمر آية‫:‬ ٧٥] الحمد لله أول النشور، والحمد لله آخر الكلام بعد السرور والحبور ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [سورة الأسراء آية‫:‬ ٥٢]‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫، ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ١٠] نسأل الله جميعًا أن نقولها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ تهديد ووعيد في منتهى الشدة، سيريكم آياته والكلام للكفار والمشركين والمنكرين، ﴿آيَاتِهِ﴾ الدلائل القاهرة التي تلجئكم للإيمان وتعرفونها، وأنها دلائل على وجود الله ووحدانيته حيث لا ينفعكم العلم والمعرفة، ومنها دابة الأرض التي جاء ذكرها، إذا خرجت دابة الأرض لا تنفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا، إذا خرجت الشمس وطلعت من مغربها لا ينفع نفسًا إيمانها، وأيتها كانت أولًا فالأخرى على إثرها، إي وربي أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بذلك، تخرج الدابة ضحى وتطلع الشمس من مغربها بعدها بيسير، أيها جاءت أولًا فالأخرى في إثرها، ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ حينئذ هل تنفع هذه المعرفه ؟ أبدا ً تهديد، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعمَلُونَ ﴾ قراءة،‬‬‬
‫وهذا الجزء من الآية فيه وعد، وفيه وعيد، أما الجزء الأول من الآية فهو وعيد ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ وعيد، تهديد، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ وعد ووعيد، وعد لنا جميعًا ولكل موحد، ولكل عابد، ولكل مسلم، ولكل قاريء للقرآن، ولكل متدبر في الآيات، ولكل متدبر كلام الله، وما ربكم بغافل عما تعملون، يحصي لكم أعمالكم، يكفر عنكم سيئاتكم، اجتنابكم الكبائر يكفِر عنكم الصغائر، ما من عمل تعملونه صالحًا إلا ومردود، مكتوب، يجازيكم به الله، من يعمل مثقال ذرة ٍخيرًا يره، ذاك هو الوعد، أما الوعيد فإذا وُجه َالخطاب للمشركين وهو موجه لهم، لا تحسبوا تأخير العذاب عنكم لغفلتنا عن أعمالكم، يستعجلون العذاب، أين هو ؟ أمطر علينا، فأتونا بما تعدونا إن كنتم من الصادقين، وهكذا الاستعجال كأن الوعد انتهى وفهمناه، وهم الكلام لهم وعيد ولا تحسبن تأخير العذاب عنك أن الله غافل عن عملك، بل هو يحصيه، ويمهل ولا يهمل ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.‬‬‬