سورة الشعراء

مقدمة‬‬‬
‫سورة الشعراء، سوره مكية، شأنها شأن السور المكية، وقيل هي مكية إلا أربع آيات نزلت بالمدينه، وهي آخر آيات السوره من قوله (عز وجل): ﴿ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ [سورة الشعراء آية‫:‬ ٢٢٤] إلى آخر السورة‫.‬ شأنها شأن السور المكيه تعالج أصول العقيدة، والرساله، والبعث، وأصول الإيمان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫افتتحت السورة بالحروف المقطعه، وتحدثت عن عظيم شأن القرآن، وجاءت الآيات تشفق على الحبيب المصطفى، وتأمره بعدم الحزن وتنهاه عن التأسف والتأسي على قومه ثم جاءت الآيات تبين إعراض المشركين عن الآيات التنزيليه، ثم تتوالى الآيات لتبين إعراضهم عن الآيات التكوينية بعد إعراضهم عن الآيات التنزيليه ثم تحكي السورة قصة موسى الكليم عليه السلام مع فرعون وقومه، وكيف قرعهم بالحجه، وكيف أظهر لهم المعجزات، وماذا كان مصيرهم، ثم تنتقل السورة إلى قصة إبراهيم (عليه السلام) مع أبيه قومه وتحكي موقفه منهم وكيف دلل على وجود الواحد القهار، وتبين السورة بعد ذلك أحوال الفريقين‫:‬ أحوال المتقين، وأحوال الغاوين، وتبين مصير كل فريق منهم ثم تعود السورة وتتابع عرض بعض قصص الأنبياء‫:‬ نوح، هود، صالح، لوط، شعيب، وتبين كيف فعلوا كيف استقبلوا الرسل، كيف استقبلوا التنزيل، كيف تعاملوا مع المعجزات، كيف كذبوا واستكبروا، ثم تبين سنة الله (عز وجل) مع المكذبين للرسل لعل أهل مكه يتعظون أو ينزجرون‫.‬ ثم تتعرض السورة للتنوية بعظيم شأن القرآن، وتبين مصدر هذا التنزيل، وترد على افتراءات المشركين، الذين زعموا أنه قد تنزلت به الشياطين ثم تنفي عن الحبيب المصطفى ما ادعاه كفار قومه من أنه شاعر وتبين أحوال الشعراء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫سورة الشعراء سميت بذلك لمجيء ذكر الشعراء فيها يقول الله (تبارك وتعالى) في مفتتح السورة‫:‬‬‬‬‬‬

طسٓمٓ ﴿1﴾ تِلْكَ ءَايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ ﴿2﴾
‫﴿طسم﴾: ثلاث حروف خير ما قيل فيها وأفضل ما قيل فيها وأحق ما قيل فيها إنها سر الله فلا تطلبوه ولكل كتاب سر وسره في القرآن فواتح السور، وهي من المتشابهات التي لا يجوز الخوض فيها، ولا يعلم تأويلها إلا الله، فنؤمن بها وتمر كما جاءت أما قول من قال إنها اسم للسوره، اسم للقرآن، أسماء الله، قَسَم أقسم الله به، إلى آخر ما قيل كلة استنباط واستنتاج لكنا نقول كما قال السلف والصحابه هو سر الله فلا تطلبوه ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين﴾ إشارة لآيات السورة أو إشارة لآيات القرآن كله، الكتاب المبين : الظاهر إعجازه الواضح برهانه ثم يتوجه الخطاب للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إشفاقا عليه‫:‬‬‬‬‬‬
لَعَلَّكَ بَـٰخِعٌۭ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا۟ مُؤْمِنِينَ ﴿3﴾
‫﴿لَعَلَّكَ﴾ هنا اللإشفاق، ﴿بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ البخع‫:‬ البلوغ بالذبح إلى البخاع والبخاع‫:‬ العرق المستبطن في فقار العنق، وهو أقصى حد للذبح فإذا بلغ الذابح بذبحه البخاع فقد بَخَع بَخْعا وبخوعا فكأن الله يقول له أشفق على نفسك وارحم نفسك أتريد أن تقتل نفسك حزنًا عليهم، وتأسفًا على موقفهم منك ومن القرآن ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ خيفه ألا يكونوا مؤمنين أمر من الله له؛ إشفاقًا عليه، حنانًا عليه‫:‬ أشفق على نفسك وارحمها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةًۭ فَظَلَّتْ أَعْنَـٰقُهُمْ لَهَا خَـٰضِعِينَ ﴿4﴾
فكأن الله (تبارك وتعالى) يقول له‫:‬ لو أردنا إيمانهم لحدث ولأنزلنا من السماء آية، معجزه، مصيبة بلية، شيء يلجئهم الإيمان قهرا لكن الله لم يرد ذلك لأن الله أراد أن يبتلي بني آدم وأراد أن يكون الإيمان إختياريا وليس اضطراريا ولو شاء ربنا لفتح أبواب السماء لأنزل ملائكة لأنزل آيات، معجزات، بينات؛ تلجئهم وتضطرهم اللإيمان ولكن كيف تكون لهم الأجور وقد آمنوا كرهًا واضطرارًا من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): لو شئنا إيمانهم لحدث فدعهم، وأشفق على نفسك، ودع أمرهم إلى الله إن شاء ننزل عليهم من السماء آية ﴿ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ ظلت : دامت، واستقرت على الخضوع والآية إختلفت فيها الأقوال الأعناق جمع : عُنُق أو عُنْقْ عُنُق وهم الرؤساء أو الجماعات جأني عنق من الناس جماعة هؤلاء أعناق الناس‫:‬ رؤساؤهم كما تقول "وجوه الناس" تعبر عن أشراف الناس والرؤساء أو صدور الناس‫:‬ تعبر عن وجهاؤهم، أعناق الناس أيضا‫:‬ رؤساؤهم، ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسِكَ﴾ قرئت بالإضافة، ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾: مهلك نفسك إن أردنا أنزلنا آية ومعجزة من السماء فإذا الرؤساء والوجهاء والأشراف قد ذلُوا لها وخضعوا وانقادوا للإيمان فظلت أعناقهم لها اللآية التي نزلت خاضعين وقيل الأعناق جمع عُنُق وهو العضو المعروف ﴿ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ جمع العقلاء كيف والأعناق لا تُجمع بجمع العقلاء والتقدير فظلت أعناقهم لها خاضعه؛ ذلك التقدير‫.‬ قيل ظلت أعناقهم لها خاضعين أي ظلوا هم لها خاضعين وجيء بكلمة الأعناق وأقحمت في الآية لبيان موضع الخضوع إذا خضعت الأعناق خضعت الرءوس وخضع أصحابها وبقى الجمع على ما هو أقحمت الأعناق وبقى الجمع على ما هو وقيل ﴿ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾ لما أسند فعل العقلاء إلى الأعناق عاملها معامله العقلاء فجمعها جمع من يعقل لأنه أسند لها بعض فعل العقلاء وهو الخضوع وكل غير عاقل يسند إليه فعل العاقل يجمع جمع العقلاء كما حدث في مواضع كثيرة في القرآن حين جمعت الأصنام جمع العقلاء على اعتبارهم وعلى اعتقادهم بأنها تفعل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍۢ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا۟ عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴿5﴾
بيّن إعراضهم عن الآيات التنزيليه كيف أعرضوا عن القرآن ﴿ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾ المحدث : المجدد تنزيله، والقرآن ليس بمحدث، القرآن قديم، القرآن كلام الله القائم بذاته الذي لا يقبل الانفصال والإفتراق بالانتقال و الحلول في الأوراق، فالإحداث هنا "محدث تنزيله" لكنه القديم أزلًا‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْر﴾ طائفة من القرآن، آيات ، سورة جديدة نزلت حديثا آية ثم آية كلما تنزل آية أو سورة يتجدد إعراضهم ويتجدد تكذبيهم كلما تجدد التنزيل كلما تجدد الإعراض، ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ بيان لإعراضهم عن الأيات التنزيليه وكلما نزلت الأيات كلما زاد إعراضهم وإصرارهم على الكفر‫.‬ هذا الإعراض الواضح، الشديد، المذهل، يبين أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويأتي التهديد بين بيان الإعراض عن الآيات التنزيليه والإعراض عن الآيات التكوينية‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
فَقَدْ كَذَّبُوا۟ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنۢبَـٰٓؤُا۟ مَا كَانُوا۟ بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ ﴿6﴾
‫﴿ فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ أي كأن الإعراض أدى إلى التكذيب طالما لم يسمع كيف يصدق أعرض ولم يسمع ولم ينتبه ولم يفكر ولم يعمل عقله أدى به ذلك إلى التكذيب ،ويأتي التهديد والوعيد ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ حين يروا العذاب حين يروا نصر النبي (صلى الله عليه وسلم) في بدر حين يروا صناديد قريش في قليب بدر أو حين يموتوا أو يوم القيامه ويعلموا حيئنذ ،هل كان جديرا بالتكذيب‬‬‬
‫أم كان جديرا بالتصديق وينتقل الكلام لبيان إعراضهم عن الآيات التكوينية‫.‬‬‬‬‬‬
أَوَلَمْ يَرَوْا۟ إِلَى ٱلْأَرْضِ كَمْ أَنۢبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍۢ كَرِيمٍ ﴿7﴾
‫﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ﴾ السؤال سؤال توبيخ وسؤال تبكيت هاهي الأرض أمامهم، ﴿كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ مِن كُلِّ زَوْجٍ: من كل صنف كَرِيم‫:‬ كثير الخير، كثير المنافع الأرض واحدة، والماء واحد ومع ذلك تنوع بالخارج من الأرض في لونه، في رائحته، في طعمه، في نفعه‫.‬ وقال العلماء أن الآية تدل على أن ما من شيء نبت في الأرض إلا وله نفع إما بمفرده أو بإضافته لغيره وهو سؤال تبكيت لأنهم رأوا كل ذلك ومع ذلك أعرضوا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿8﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿9﴾
‫﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ دليل على أن الإنبات بفعل فاعل والفاعل هو الله كيف خرجت الزهور، كيف خرجت النباتات، كيف نمت الأشجار كيف ؟ وكيف ؟ وكيف ؟ وكيف ؟ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ وماكان أكثرهم مؤمنين في علم الله (عز وجل) فلا تقتل نفسك حزنا عليهم؛ الآيات التنزيليه واضحه والآيات التكوينية ساطعه ومع ذلك لم يؤمنوا لأنهم في علم الله أزلا لا يؤمنون ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾. ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ العزيز‫:‬ القوي، الغالب، المنتقم من أعدائة، الرحيم بأحبابه وأوليائة، أو العزيز الغالب القوي الرحيم بهم؛ حيث أمهلهم، وأنزل القرآن، ووعظ، وذكر، وصرف فيه من الآيات، ولفت الأنظار، وخاطب العقول، وخاطب القلوب‫.‬ تكررت الآيتين ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (٨)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) ﴾في هذه السورة ثمان مرات هذه واحده والسبع الآخريات جاءت عقب القصص، عقب كل قصة من قصص الأنبياء جاءت الآيتان لتذكر كفار مكه أن في كل قصه من هذه القصص عبره توجب عليهم الإيمان وتزجرهم عن التكذيب والعصيان وتأتي الآيات لتحكي قصة موسى بشيء من التفصيل‬‬‬‬‬‬‬
وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱئْتِ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿10﴾ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ ﴿11﴾
‫﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أي مُقَدَّر باذكر أي اذكر يا محمد هذه القصه أو اذكر لقومك هذا الموضوع علهم يتعظون وينزجرون ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى﴾ ناداه من جانب الطور كما جاء في موضع آخر في سورة القصص، ﴿أَنِ ائْتِ﴾) أي بأن ائتِ القوم الظالمين، سجل عليهم الظلم أي الكفر، وسجل عليهم ظلم الناس باستعباد بني إسرائيل وتذبيح أبناءهم واستحياء نسائهم ﴿أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾ بدل من القوم الظالمين أو وهو الأرجح والأصح هي عطف بيان أن ائت القوم الظالمين من هم ؟ قوم فرعون وكأن القوم الظالمين وقوم فرعون شيء واحد‫.‬ ﴿أَلَا يَتَّقُونَ﴾ تعجيب لموسى من شأنهم واجترائهم على الله وتعسفهم وظلمهم ﴿أَلَا يَتَّقُونَ﴾ بفتح النون بقراءه حفص، ﴿أَلَا يَتَّقُونِ﴾ بكسر النون علامه على حذف الياء ألا تتقوني قراءه أخرى أي ائت القوم الظالمين قوم فرعون فقل لهم ألا تتقون إذا ً فهو يسمع وأول السماع منه ثم يسمعهم وإن كانوا غير حاضرين وتحول الكلام إلى الخطاب ﴿أَلَا يَتَّقُونَ﴾ وهنا موسى فوجيء بالرساله ونريد أن نتنبة للحوار الذي دار‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ رَبِّ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴿12﴾ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَـٰرُونَ ﴿13﴾ وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنۢبٌۭ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴿14﴾
هذا الكلام ليس تعللًا من موسى أو توقفًا في تلقي الأمر وإنما طلب موسى المعونة، الإعانه، طلب أن يكون هارون وزيرًا له رسولًا معه علل طلبه بأعذار ثلاثه مترتبة على بعضها‫:‬ أخاف أن يكذبون فإذا كذّبوه ضاق صدره ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي﴾ فإذا ضاق صدره انحبس لسانه‫.‬ إذا ً فقد رتب الأعذار أو رتب طلب الإعانه على أعذار ثلاثه مترتب بعضها على بعض ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (١٢)وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ﴾ والكلام فيه اختصار بالحذف فأرسل إلى هارون أي أرسل جبريل إلى هارون يأمره وهذه الأعذار الثلاثه ليست تعللا من موسى أو اعتراض وإنما هو قد قبل الأمر وتلقى الرساله وأطاع الأمر وإنما طلب العون معتذرا بأمور دعته لطلب الإعانه ثم زاد عذرا رابعًا فقال ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ قال العلماء‫:‬ الخوف غريزة، ومهما كان الرجل على مقام لابد وأن يخاف حتى الرسل والأنبياء تخاف‫.‬ قال العلماء‫:‬ سجّل على نفسه الخوف كما سجلها في قوله حين حكى القرآن عنه‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٢١] فالخوف غريزة ولا يقدح الخوف في التوكل فقد يكون العبد متوكلا تمام التوكل ومع ذلك يأتيه الخوف ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ﴾: أي تبعة ذنب وسماه ذنبًا على اعتبارهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ وهو لم يخف من القتل أي من الموت كما قال بعض العلماء وإنما قد يكون الخوف أن يقتل قبل أداء الرسالة معنى آخر أخاف أن يقتلوني بمجرد أن يروني بمن قتلت فلا أستطيع أن أبلغ الرساله فإن قتلت وبقى هارون استطاع أن يقوم هارون مقامي قيبلغ الرساله، فخوفه من القتل، خوفٌ عن عدم أداء الرسالة والله أعلم‬‬‬
قَالَ كَلَّا ۖ فَٱذْهَبَا بِـَٔايَـٰتِنَآ ۖ إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ﴿15﴾
‫﴿ قَالَ كَلَّا﴾ رد الله (تبارك وتعالى) علية زاجرا ﴿كَلَّا﴾ كلمة زجر، كلمة ردع، أو هي وعد حين طلب موسى استدفاع البليه فقوله أخاف أن يقتلون ليس تعللا أيضا وليس توقفا في تلقي الأمر أبدا وإنما طلبا لاستدفاع البليه المتوقعه، هنا وعده الله بالحماية ﴿كَلَّا﴾ أي لن يقتلوك ياموسى وسوف تقوم بإبلاغ الرساله ﴿فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا﴾ إذا ً أجابه الله (تبارك وتعالى) إلى المطلبين‫:‬ طلب استدفاع البلية والحماية فأجابه بقوله ﴿كَلَّا﴾ أي لن يقتلوك، وأجابه أيضا في طلبه لهارون فوهبه الرساله فقال ﴿فَاذْهَبَا﴾ إذًا أجيب موسى إلى الطلبين‫:‬ الحماية والأعانة واستدفاع البلية وكذلك أن يكون معاه أخاه هارون ﴿بِآيَاتِنَا﴾ أي بالمعجزات ﴿إِنَّا مَعَكُم ﴾ جمع وهما اثنان فلم يقل معكما؛ قالوا تشريفا لهما جعلهما كالجمع ولرفعه قدرهم وقيل معكم أي أنتما وفرعون وملأه والحاضرون والمستمعون أجابه الله (تبارك وتعالى) إلى طلبه وهاهو يتوجه إلى فرعون‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿16﴾ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ﴿17﴾
والكلام ضروري أن يختصر والتقدير‫:‬ فتلقى موسى الأمر وأرسل معه هارون وانتقلا إلى فرعون وذهبا إليه فقالا كل ذلك تم فيه الحذف ﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(١٦)أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ﴿رَسُولُ﴾ :مفرد قالوا إفراد كلمة رسول لأنها مصدر كقوله ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (الشعراء:٧٧) فإنهم‫:‬ جماعه، عدو‫:‬ مفرد‫.‬ فكلمة رسول مصدر من هنا أريد بها الجمع، وقيل بل أفرد لاتحادهما في الأخوة فهما أخوان، وقيل بل الإفراد لأن المعنى أن كل منا رسول رب العالمين وقيل رسول بمعنى الرساله أي ذوو رسالة رب العالمين ﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾: أطلقهم من أسراهم واسمح لهم بالخروج من مصر حيث يشاءون ويريدون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم قصة موسى مع فرعون جاءت في القرآن في مواضع عديدة بأساليب مختلفه كلها غاية في الفصاحه، غاية في البيان ومع كل ذلك في كل منها زيادة أو إيضاح أو شيء لم يرد في موضع آخر فسبحان من هذا كلامه‫.‬ فقد توجه موسى إلى مصر وكان قادما من اليمن والتقى بأخيه هارون وتوجها معا إلى فرعون في قصرة وأختصر القرآن أو الآيات من سورة الشعراء القصة وانتلقت إلى المشهد الذي حدث في هذا اللقاء، قال فرعون واختصر الكلام بالحذف ثقةً بفهم السامع‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًۭا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿18﴾ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ ﴿19﴾
ذاك أول كلام فرعون بمجرد أن دخلا عليه وأخبراه بالرساله في إيجاز إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل ؛أي أن الله أرسلنا إليك لتطلق سراح بني إسرائيل وتدعهم وشأنهم كان الرد بالاحتقار والاستهزاء والتعالي ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾ سماه وليدًا لقرب عهده بالولاده حين إلتقطه آل فرعون أي أنعمنا عليك وربيناك وغذيناك وكسوناك وفي بيوتنا وفي قصورنا ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ قيل عمره حين فر منهم ثلاثون سنة وعشر سنين في مدين ، أربعون سنة ثم جاءته الرساله‫.‬ لبثت فينا من عمرك سنين وتربيت في قصرنا متى كان لك ذاك الأمر تأتي بعد هذه المده وبعد هذا الوقت الطويل وتدعي إنك رسول كيف يكون ذلك فهو يستهزيء به ويحتقره‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾وسماها فعله لتعظيم شأنها لتضخيم الخطيئة، والفعله المره الواحده من الفعل، والفَعله‫:‬ الهيئة في الفعل وقرئت باللفظين، ﴿وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾أي الكافرين بالنعمة أو الكافرين بألوهيتي وقتلت أحد رعاياي بعد أن ربيناك في بيوتنا وأنفقنا عليك وأطعناك وكسوناك وقتلت أحد رعايانا ثم فررت ثم تأتي الآن وتدعي أنك رسول أسلوب الكلام فيه التوبيخ فيه الاحتقار ورد موسى قائلًا‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذًۭا وَأَنَا۠ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ ﴿20﴾ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْمًۭا وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿21﴾
‫﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا﴾ أقر موسى ولم ينكر، والأنبياء لا تكذب، لكن كيف فعلت ﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴾ ليس المقصود به الضلال ضد الهدى فموسى على الهدى منذ ولد والأنبياء معصومون من الضلال لكن الضلال يأتي بمعنى النسيان كما جاء في قوله (عز وجل):‬‬‬
‫﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٨٢] إذا ًأن تضل بمعنى أن تنسى فتذكرها الأخرى فالضلال هنا بمعنى النسيان، وقد يأتي الضلال بمعنى الجهل فإما كنت من الضالين من الناسين كنت من الظالمين من أولي الجهل بأن الوكزة مجرد الوكزة تؤدي إلى القتل لم يقصد قتله أراد دفعه عن الآخر مجرد الدفع حين دفعه بيده وقع قتيلًا كان قتلًا خطأ،﴿فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ﴾ فررت وذهبت إلى مدين حين خفت منكم ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا﴾ الحكم:النبوة، ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾‬‬‬‬‬
وَتِلْكَ نِعْمَةٌۭ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ﴿22﴾
‫﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ أهو إقرار من موسى ؟ اختلف المفسرون ،وسبحانه من هذا كلامه معجز يتبين اجتهاد العلماء وفراستهم واجتهادهم في استنباط المعاني، ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ﴾ أي تربيتك لي نعمة أنا أقرّبها لكن هل تقابل هذه النعمة على فرد واحد أن تستعبد الأمه كلها هل تعدل نعمتك هذه تعبيدك لبني إسرائيل، المعنى الآخر نعم هي نعمة ظاهرًا نقمه باطنًا كيف ربيتني؟ حين ذبحت أبناء بني إسرائيل خافت أمي عليّ ألقتني في اليم جئت إليك ربيتني فسبب التربية ناشيء عن النقمة، ولو لم تكن تذبح أبناء بني إسرائيل لرباني أبواي فهل هذه نعمة؟ وقيل خرج الكلام مخرج التبكيت باستفهام وبغير استفهام ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ هل هذه نعمة؟ أن تعبد بني إسرائيل وتذبح أبناءهم وتستحي نساءهم فتضطر أمي أن تلقيني فى اليم ولولا رحمة الله لابتلعني اليم ثم تدعي أنك ربيتني؟كيف كانت وما سببها؟ وقيل الكلام على تقدير همزة الإنكار بمعنى أو تلك نعمة؟ وتلك نعمة هنا همزة محذوفه والسامع يقدّرها كقوله تعالى‫:‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ٣٤] أي أفإن مت أفهم الخالدون فحذفت الهمزة هنا كذلك، أو تلك نعمه تمنها علي هل هذه نعمة إذا ً فقد رد عليه موسى بأنها لم تكن نعمة بل كانت نقمة أن عبّدت بني إسرائيل‫:‬ أي استعبدتهم، وهنا أسقط في يدي فرعون برد موسى وبدأ الحوار، والتعالى، والاستهزاء، بدأ السؤال‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿23﴾
موسى حين جاء قال أنا رسول رب العالمين فسمعها وهو يدعي الربوبيه، يدعي الألوهيه ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي‫.‬..﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٣٨] ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [سورة النازعات آية‫:‬ ٢٤] فبدأ يسأل بداية السؤال سوء أدب وجهل متعمد ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ "ما": يسأل بها عن ماهية الشيء، عن جنس الشيء، وربنا (تبارك وتعالى) منزه عن الجنسية، وما هيته لاتصل إليها العقول والأفكار، كنّة ذاته لا تصل إليه العقول والأفكار فبدأ السؤال بكلمة "ما" ما رب العالمين ما جنسه ما شكله ماهيأته سؤال عن مجهول ليس سؤال عن معلوم آثاره واضحة، هنا أعرض موسى عن هذا وبدأ يعرَّرف بربنا من خلال أفعاله، وصفاته، وآثاره، وكأنه لم يسمع السؤال‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴿24﴾
إذا ً موسى لم يرد على السؤال ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ لأن الإجابة مستحيله من يعرف الله ؟ لا يعرفه إلا الله لكن نؤمن به وبوجوده وبوحدانيتة من خلال آثاره، وصفاته من عرّف موسى بالآثار والصفات ﴿قالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴾ أي إن كنتم موقنين بشيء فذاك أولى شيء باليقين ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ هاهي السموات من يملكها من يدّعي أنه يملكها ! من يزعم أنه أوجدها؟ هل هناك من يزعم أنه له فيها شأن أو تصريف هاهي الأرض هاهي السموات ربي هو الذي خلقها وأوجدها وتصرف فيها كيف شاء، وانظر إلى فرعون ورده‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُۥٓ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿25﴾
يخاطب من حوله الناس الموجدين ﴿أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾ متعجبا من موسى مستهزئا به أسأله عن شيء فيجيب عن شيء آخر أسأله عن ماهية ربه، ماجنسه، ماوصفه، فيخبرني عن صفات، وأفعال وهنا انتقل موسى إلى برهان آخر البرهان الأول برهان في الآفاق فإذا لم توقن إليك برهان آخر في نفسك‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿26﴾
والآية في النفس أبلغ وأوضح آبائكم الأولين؛ كان لك أب أين هو مات؟! من أماته ؟! أنت لم تكن فإذا بك تجيء من جاء بك ؟ إذا ً من أفنى الأب، ومن كوّن الابن‫.‬ طالما الآباء ذهبت و فنت وماتت ودفنت وطالما الأبناء جاءت إذا فهناك خالق يوجِد ويقدم بيده الفناء وبيده الإيجاد من هو المكون لك والذاهب بأبائك ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ وهنا استشاط فرعون غضبًا وبدأ ينتقل إلى كلام آخر‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِىٓ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌۭ ﴿27﴾
أين الجنون هنا وما هي علاماته لكن التمويه لم يرد موسى عليه وإنما جاء بإجابة ثالثه مفحمة يرد على هذا الادعاء‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿28﴾
علق على كلمة مجنون بكلمة العاقل، ويذكرنا ذلك بالمثل القائل "إذا كان المتكلم مجنون فإن المستمع عاقل"، هو يدّعي الجنون إن كنتم أنتم ذوي عقول من يأتي بالشمس من المشرق ويذهب بها إلى المغرب، هذه الأجرام السماوية المتحركه أمامكم، النجوم، الشموس، القمر، القمر له شروق وله غروب والشمس لها شروق ولها غروب مستمر يوميا، يراه كل ذي عينين هذه الأجرام المتحركه من الذي يحركها ؟ من الذي أوجدها ؟ من الذي يدبّرها ويصرّفها ؟ إن كان لكم عقل، كان يدعي على موسى الجنون، إن كان لكم أنتم أيها المستمعون عقول ،وهنا أسقط في يد فرعون تماما، من يضلل الله فلا هادي له‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهًا غَيْرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ ﴿29﴾
النقاش والحوار دائر والكلام منطق، والوضوح أبلج، وسطوع البيان يجعل الحجر يؤمن وينطق ومع ذلك انقلب إلى التهديد والوعيد شأن الجبابرة في كل زمان ومكان ما من حاكم جبار إلا وكان ذلك ديدنه وذاك شأنه أمام المنطق وأمام الحق، ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ والآية غاية فى الغرابة،المسجونين اللام هنا للعهد وليست للجنس‫.‬ لم يقل لأسجننك كما قالت امرأه العزيز ليسجنن، ما الفارق ؟ الفارق أن فرعون يهدد موسى بقوله سوف تكون من المسجونين عندي وأنت تعرف من هم وماحالهم ، وقيل إن أسوأ سجن في التاريخ على الإطلاق سجون فرعون، كان في أعماق الأرض فإذا نزل السجين فيها أغلقت عليه إلى أن يموت لا يرى ضوءا ولا يرى أحدا فكأنه يهدده بالسجن الذي هو أشد من القتل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْءٍۢ مُّبِينٍۢ ﴿30﴾
موسى يسأل أو تفعل ذلك وتسجنني وتجعلني مع المسجونين لو جئتك بشيء واضح معجزة داله على صدقي؟‬‬‬
قَالَ فَأْتِ بِهِۦٓ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ ﴿31﴾
وكأن فرعون توقع أن ينتصر على موسى فيما يدعيه موسى وأنه لن يستطيع أن يأتي بشيء ماذا يأتي ؟ وأي شيء في يده ؟ ولا شيء معه سوء العصا اعتقد فرعون أن المسأله عبادة عن حوار يستطيع أن يرد عليه بالتهويل، بالتلويح، بالتهديد، بالتهريج، بأي أسلوب من أساليب الحوار لكن الله غالب على أمره.قال موسى ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ﴾ كما حكى القرآن، إذن فقد حاول أن يثني فرعون عن تأديبه ووعيده واستدركه وهنا وافق فرعون وحب الاستطلاع غريزة في كل إنسان وقال ﴿فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ كما حكى القرآن وهنا أوحي إلى موسى أن يلقي عصاه إذ لا فعل له إلا بوحي يقول الله (تبارك وتعالى) واصفا للمشهد‫:‬‬‬‬‬‬
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌۭ مُّبِينٌۭ ﴿32﴾
فجأة تحولت العصا إلى ثعبان عظيم واضح وظاهر ، وأصل كلمة ثعبان من ثعبت الماء فانثعب، فانفجر والثعبان لظهورة فجأه ولكبر حجمة سمي ثعبانا لذلك‫.‬ هذه العصا القصيرة التي في يد موسى فجأة تنقلب إلى ثعبان واضح، ظاهر، كبير الحجم، فظيع، وصف بأوصاف عديدة في كتب المفسرين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
وَنَزَعَ يَدَهُۥ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـٰظِرِينَ ﴿33﴾
والكلام فيه اختصار لابد وأن فرعون حين رأى العصا تحولت إلى ثعبان فزع وخاف على الملأ وعلى الناس من حوله، فأراد أن يموه أو أراد أن يستدرج موسى فقال أهناك أخرى ؟ صورت بأنه طلب آية أخرى حتى أن موسى أخرج يده فقال ما فيها فادخل يده تحت إبطة في جيب القميص، فتحه القميص يد ككل يد ثم أخرجها فإذا لها شعاع باهر، يغشى الأبصار، كضوء الشمس وأشد وأخرج يده ﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ﴾ هنا مع وضوح الآيات وشدة سطوعها تنازل فرعون فجأة عن ربوبيتة وعن استبداده وعن استعلائه ولجأ إلى من حوله يموه ويقول كما حكى القرآن‫:‬‬‬‬‬‬
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُۥٓ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌۭ ﴿34﴾ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِۦ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴿35﴾
أين الاستعلاء ؟ أين الاستبداد بالرأي ؟ أين قوله وما رب العالمين ؟ أين قوله إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ؟ أين قوله ألا تستمعون؟ ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي إن ما أتى به ليس من قبيل السحر بل من قبيل السحر الواضح، المبين، القوي، ويهدف من وراء هذا السحر أن يخرجكم من أرضكم، أرهبهم، وهددهم بزوال سلطانهم، والملأ‫:‬ أشراف الناس، الملأ‫:‬ رءوس القوم، الملأ‫:‬ امتلأء بما احتاج إليه الناس أو ملأت هيبتهم صدور الآخرين‫.‬ هاهو يهددهم، ويحذرهم، ويخوفهم بأن موسى يريد أن يستولى على ما هم فيه من عز وسلطان ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ مشاوره وائتمار بعد الإستبداد بالرأي، بعد العلو والاستكبار، بعد ادعاء الألوهيه، والانفراد بالقرار‫.‬ هاهو يأتمر مع الملأ ليكونوا معه خشية أن تؤثر فيهم المعجزة وهنا أحسوا بوجودهم وأحسوا بمنزلتهم وأحسوا بأنهم ذوو رأي فأشاروا‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالُوٓا۟ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِى ٱلْمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ ﴿36﴾ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍۢ ﴿37﴾
أرجه : أخِّره، أجّله، لا توقع به عقوبه أصلها أرجئه وحذفت الهمزه وسكنت الهاء تشبيهًا للضمير المنفصل بالضمير المتصل، والإرجاء : التأخير ومنه قوله الله (عز وجل): ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ... ﴾ [سورة الأحزاب آية‫:‬ ٥١].‬‬‬‬‬
‫﴿وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ ابعث في كل المدن جامعين يجمعون لك أفضل السحره وأمهر السحره ، ﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴾ وقرأت ساحر، سحار‫:‬ أي عظيم سحره، عليم، متمكن من فنه تلك كانت مشورتهم وأرسل فرعون فعلا والكلام فيه حذف حذف كثير اختصار بالحذف أرسل وتحدد الموعد كما حكى ربنا في مواضع أخرى‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٥٩] وكأن الله استدرج الملأ حين طلبوا الإتيان بالسحرة بل واستدرج فرعون وملأ فرعون حين استعجلوا الناس وطلبوا أن يجمع الجميع‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَـٰتِ يَوْمٍۢ مَّعْلُومٍۢ ﴿38﴾
يوم الزينة، يوم العيد، وكما قلنا الكلام فيه اختصار بالحذف مضت مدة طبعًا وأرسل فرعون إلى المدائن ، وجاء السحرة كل يأتي بعدته وبالأدوات وبما إلى ذلك، وقيل في عدد هذه العدد الكثير وفي عدد السحرة الكثير، المهم كانوا قلة وكانوا كثرة جاءوا وهم متحفزون مُأمّلون في الغلبة‫.‬‬‬‬‬‬
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ﴿39﴾ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُوا۟ هُمُ ٱلْغَـٰلِبِينَ ﴿40﴾
‫﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ﴾ الصياغة تفيد أنهم استعجلوا قدوم الناس ،كأن السؤال فيه استعجال للاجتماع حتى تظهر المعجزة على الملأ ،وربك يفعل ما يشاء استدرجهم كما طلب موسى وأن يحشر الناس ضحى ،هاهو فرعون بنفسه يحشر الناس ويستعجل حضورهم ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ﴾. ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ ومن الطبيعي أن الاتباع لن يكون للسحره، من الطبيعي الاتباع لفرعون، ولكن انظر إلى الكلام، كناية أي لن نتبع موسى ولن يكون غالبًا، كناية للتدليل على أنهم لايريدون أن يتبعوا موسى وهم واثقون من غلبة السحرة‫.‬‬‬‬‬‬
فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُوا۟ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَـٰلِبِينَ ﴿41﴾ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًۭا لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴿42﴾
اشترطوا الأجر ولابد أن تنتبة أن الداعي إلى الله لا يطلب الأجر إلا من الله، وأن الداعي إلى الدنيا يطلب الأجر أو الداعي لنفسه هاهم يشترطون الأجر أولا، ﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ ليس أجرًا فقط بل ستكونون من الصفوة، من المقربين، من جلسائي وإنكم إذا ً -في تلك الحالة حين الغلبه- لمن المقربين وكأنه يقسم لهم على ذلك ويؤكد كلامه ،وإنكم حرف تأكيد لمن المقربين واللام كذلك تأكيد تأكيدات على الوعد الذي سوف ينفذه لهم‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ لَهُم مُّوسَىٰٓ أَلْقُوا۟ مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ ﴿43﴾
والكلام فيه اختصار إذ هم قالوا أولا كما جاء في مواضع أخرى ﴿قالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١١٥] والكلام فيه اختصار قال لهم موسى بعد أن سألوه وخيرة ،﴿ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ﴾ فعل أمر هل يأمر رسول بمنكر ؟ يأمر رسول بمعصية ؟ السحر كفر فكيف يأمرهم بالسحر ؟ الأمر هناليس أمرًا بمعنى الأمر وإنما هو إذن لهم بأن يفعلوا مالا محالة هم فاعلوه سوف يلقون لاشك إذا ً هم فاعلون فهؤلاء لا يأمرهم بالسحر وحاشا وكلا إنما يأذن لهم في الإتيان بما عزموا على فعله قال ألقوا ما أنتم ملقون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَلْقَوْا۟ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا۟ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَـٰلِبُونَ ﴿44﴾
أقسموا بجاه فرعون وأقسموا بسلطان فرعون، منتهى النفاق؛ النفاق في كل عصر وأوان التمجيد في الزعيم، والتمجيد في الرئيس، والتمجيد في الملك، التمجيد في شخصه، لولاه ماكان، ولولاه ما حدث، وهو الملهم، وهو، وهو ... في كل زمان ومكان تجد هذا النفاق من الحاشية المنتفعه هاهم يقسمون بعزة فرعون وهل لفرعون عزة ؟ إنما العزة الله ولرسوله وللمؤمنين ﴿إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ قسم منتهى الثقه في أنفسهم وفي فعلهم وفي سحرهم شرطوا الأجر ووعدهم به وهاهم ينافقونه ويقسمون بسلطانه وبجاهه وهاهم يؤكدون الغلبه لأنفسهم وكأنهم يقسمون عليها‫.‬ وهنا تلقى موسى الوحي من الله (أن ألق عصاك) ولكن الكلام فيه اختصار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴿45﴾
ألقى موسى عصاه بالأمر فإذا هي تلقف، اللقف :التناول بسرعه خاطفه، لقف تِلْقِفُ لقْفا ولَقَفاناً : تناول بمنتهى السرعه والتعيير ﴿تَلْقَفُ﴾ يفيد منتهى السرعه الخاطفه في التقاط والتقام الحيات والثعابين التي تسعى في نظر الناس لكن الله ينبة ويقول ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ والإفك أشد من الكذب والإفك قلب الحقائق إذا ً لم يكن هناك شيء يسعى لم تكن هناك ثعابين على الحقيقة ولا حيات تسعى وإنما خيل إليهم من سحرهم، أنها تسعى سحروا أعين الناس واسترهبوهم والسحر تخيل، السحر تمويه، والسحر كذب، وإفك ولا سحر هناك بمعنى تغيير الأشياء عن حقيقتها التي خلقها الله عليها، أو التأثير في الأحداث ما سحر يؤثر في حدث، ولا سحر يؤثر في جسد أو يغير وإنما السحر تمويه وإيهام‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ هنا ظهر الحق الثعبان الذي كان عصا منذ برهه يسيرة إذا هو يأخذ ما على الأرض من حبال ومن عصى يلتقطها، يلتقمها بفمه الذي قيل في اتساعه الكثير، وقيل إنه كان يمشي على قوائم وفجأة خلت الساحة تماما من أي شيء ، ولم يبقى إلا الثعبان فأين ذهبت هذه الأشياء وأين ذهبت العُدة هذه الأعداد من الحبال والعصى أين ذهبت؟ إذا فما ألقاه موسى حق يأكل ذو حياة وخالق الحياة هو الله من هنا‫.‬‬‬‬‬‬
فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِينَ ﴿46﴾ قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿47﴾ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ﴿48﴾
والغريب في التعبير أنك تلاحظ ثلاث كلمات كلها تعبر عن إلقاء : إلقاء السحره‫:‬ ﴿أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ﴾، ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ﴾ وإلقاء موسى‫:‬ ﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ﴾ وإلقاء الله (عز وجل) القوي القاهر‫:‬ ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ وكأن الله (تبارك وتعالى) بتوفيقه إياهم أخذهم التوفيق الإلهي ،ورفعهم عن الأرض وكبّهم على وجوههم لم يخروا سجدا ولم يسجدوا بأنفسهم بل ألقى السحرة ساجدين كأن هناك من ألقاهم ماالذي ألقاهم ؟ توفيق من الله للإيمان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ولكي لا يتوهم السامعون أو يلتبس عليهم الأمر لأن الكل يدعي أن فرعون هو ربهم ورب الناس‫.‬ من هو رب العالمين؟ فكان لابد من التوضيح ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ ، بدل للتوضيح‫.‬ إذًا حين ذكروا موسى وهارون هناك أمرأن، الأمر الأول‫:‬ دفع التوهم والالتباس من هو رب العالمين، هو ليس الذي تعتقدونه، وإنما رب موسى وهارون، الأمر الثاني‫:‬ الإشعار بأن سبب الإيمان ما أجراه الله على يد موسى وهارون على يد هذين الرسولين والنبيين، فجيء بذكرها الإشعار بأن سبب الإيمان كانت معجزة التي أجراها الله على يديهما ، وهنا مفاجأة لاشك وصدمة مذهلة لفرعون جنوده، وأدواته الذين يغلب بهم كما توهم ،السحرة،كل ساحر عليم، و سحار عليم هاهم يخرون سجدا مؤمنين برب موسى وهارون في لحظه أين كان اشتراط الأجر ؟ أين كان النفاق ؟ أين ذهب كل ذلك؟ أين العزة التي حلفوا بها؟ أين هذه الثقه التي كانوا عليها؟ وهنا أثرت الصدمه في فرعون تأثيرا شديدًا فاستكبر واشتد استعلاؤه فقال‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُۥ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـٰفٍۢ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿49﴾
‫﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ وقرأت "أأمنتم له" بهمزئتين كقوله ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [سورة النمل آية‫:‬ ٥٩] ﴿ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ٩١] وقرأت ءأمنتم له أي أأمنتم له قبل أن آذن لكم -عجبا هل يحتاج الإيمان لإذن (سبحان الله) - الإيمان علاقه بين العبد وبين ربه، بين خالقه وبين إله الكون، بين الموجد، هل يستأذن الإنسان في الإيمان ؟!! استعلاء، استكبارا، عتوا، وانظر إلى التدليس وانظر إلى التلبيس وانظر إلى الخداع والكذب ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ يحكي ربنا عن مقاله فرعون كيف دلس أين التقى موسى بالسحره حتى يعلمهم السحر ؟‬‬‬‬‬‬‬
‫موسى قادم من مدين بعد أن مكث فيها عشر سنوات وسنة في الطريق، إحدى عشرة سنة لم يلتقي بالسحره جاء بهم فرعون من كل مكان من المدن من أين التقى موسى بالسحره حتى يعلمهم السحر أو يتواطأ معهم لكن انظر إلى التدليس، الكذب والبهتان ﴿إِنَّهُ ﴾ أي موسى ﴿ لَكَبِيرُكُمُ﴾كبير السحره ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ أنتم تلاميذه أنتم متعلمون منه ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ تهديد ثم بين نوع التهديد فقال كما حكى القرآن‫:‬ ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ من خلاف‫:‬ يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ولأصلبنكم : سوف يصلب كل رجل منهم على نخلة أو شجرة منفردا بعد قطع اليد والرجل حتى يموت وهو كذلك فيصبح عبرة للناس جميعًا وهنا يظهر الإيمان وقوة الإيمان وحلاوة ورسوخ اليقين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالُوا۟ لَا ضَيْرَ ۖ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴿50﴾ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـٰيَـٰنَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿51﴾
‫﴿ قَالُوا لَا ضَيْرَ﴾ ضَارَهُ يضيرُهُ ويَضُورُه ضَيْرا ً وضَوْرا ً وضيَّرهُ ضرا ً كلها بمعنى الإضرار ﴿لَا ضَيْرَ﴾ أي لا ضرر علينا قالوا لا ضير افعل ما تشاء؛ قطع الأيدي قطع الأرجل صلب كيف شئت؛ ﴿ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴾ ما أحلى هذه الكلمة ترى هل كانوا يقصدون ما قيل تعددت الأسباب والموت واحد ، من لم يمت بالسيف مات بغيره أي صلبت أو لم تصلب إنا ميتون وكيف كانت طريقه الموت نتيجه الموت ونهاية الموت الذهاب إلى الله فأيا كانت طريقه الموت التي تهددنا بها إن متنا فنحن إلى ربنا راجعون، ترى هل كان ذلك قصدهم أم كان قصدهم أنهم فرحوا بهذا التهديد لأن التقطيع والصلب والقتل يؤدي إلى الحبيب أي لا ضرر بل نفع محض، لا إساءه، ولا خوف بل فرح واستبشار إذ بفعلك تلحقنا بالحبيب بالله (عز وجل)، ترى هل كان ذاك قصدهم أم كان قصدهم الاثنيين معا؟‬‬‬
‫﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الطمع في الله مطلوب مهما كان الإنسان متفائلا فلابد من الطمع، وربنا يحب الطمع من عباده ويحب من عباده اللحوح كثير السؤال ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ لأن كنا أول المؤمنين في هذا الجمع في هذا الموقف، أو أول المؤمنين من قوم فرعون، أو أول المؤمنين في هذا العصر يعلم الله لأن من قوم فرعون آمن رجل ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ... ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٢٨] وآمنت آسيا امرأه فرعون، قيل أيضا آمنت امرأة عجوز التي دلتهم على قبر يوسف، آمن بنوا إسرائيل فيبدوا أن كلمة ﴿أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي أول المؤمنين في هذا الجمع، أو المؤمنين فى هذا المشهد، أو أول المؤمنين من جنود فرعون وملإه ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا إِنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إن الشرطيه هنا قراءه أخرى هضما لأنفسهم أي إن تقبل الله منا ذاك الإيمان وعدّنا أوائل فيه‫.‬ ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الإيمان، وحلاوة الإيمان، اليقين، ونور اليقين إذا دخل الإيمان في قلب العبد هانت الدنيا في عينية وهان كل شيء في عينية بل إذا هُدد بالموت أو القتل أو جاءه الموت أحب لقاء الله ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫مكث موسى بعد هذه الحادثة سنين في مصر يدعو إلى الله (عز جل) ويأمر قومه بالصبر على الأذى اشتد فرعون في إيذاء قوم موسى ولكن من الغريب أنه لم يقتله بل ولم يسجنه كما هدد كيف حدث ذلك ؟ حدث ذلك لتحقق وعد الله (عز وجل) لموسى حين خاف وقال وأخاف أن يقتلون فقال كلا ، وحين وعده قائلا إنا معكم مستمعون سنين قيل ثلاثين سنة حدث فيها آيات كثيرة ومعجزات كثيره، إيذاء من فرعون ومن قومه لقوم موسى ولمن آمن ،حدث الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ثم نزل عليهم الرجز ثم طلبوا من موسى أن يرفع عنهم الرجز سنين وتحتم القضاء وجاء الموعد بعد الإمهال الطويل ، وربنا يمهل ولا يهمل وجرت سنته (عز وجل) أنه إذا أراد إهلاك قوم أنجى المؤمنين منهم من هنا جاء الوحي لموسى أن يخرج من مصر يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِىٓ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ﴿52﴾
‫﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ﴾ ﴿أنِ أَسْرِ ﴾ قراءه أخرى بكسر النون وهمزة الوصل والسُرى‫:‬ السير ليلًا أمره الله بالخروج بالليل ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾ إذا ً فقد وصفهم الله بالعباد ونسبهم إليه إذا ً فهم المؤمنون الذين آمنوا بموسى فوصفهم بهذا الوصف العظيم ﴿إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ (سبحان الله) لا يفاجيء أحبابه؛ لو لم يقل لموسى إنكم متبعون وفوجيء موسى عند الشروق بفرعون وجنوده ماذا كان يكون الحال؟ لكن الله لا يفاجيء أحبابه، هاهو يحذره ويطمئنه بالنصر طالما علم الله أنهم سيسيرون وراءهم ،وطالما نبّه موسى حتى لا يفاجأ، إذا ً فربنا هو خير مولى وخير نصير، ففيها الأخبار والوعد بالنصر والوعد بالأمان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى ٱلْمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ ﴿53﴾ إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ لَشِرْذِمَةٌۭ قَلِيلُونَ ﴿54﴾ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ ﴿55﴾ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـٰذِرُونَ ﴿56﴾
مرة أخرى أرسل الحاشرين والجامعين في المدائن‫:‬ أرسل الجنود في جميع مدن مصر وأرسل الرسل يجمعون له جنوده من كل مكان، أمر بالتعبئة العامه كما يقولون في عصرنا هذا ،أرسل في المدائن حاشرين، ﴿ إِنَّ هَؤُلَاء ﴾ على إرادة القول الكلام معجز وفيه اختصارات بمعنى أنه أرسل الحاشرين يجمعون الجنود ويجمعون الناس ويقولون لهم استفسارات هل يخاف فرعون من موسى ؟ هل يخاف من هارون ؟ ما الذي حدث ؟ أين الألوهيه الذي يدعيها ؟ أنه الاستكبار ؟ فلابد من تعبئة الناس وإعطاء التبريرات والمبررات لحشد الجيوش ،وكل بلد حين يهدف زعيمها إلى الحرب لابد أن يمهد الرأي العام، الإعلام منذ زمن بعيد يتطور مع تطور العصور تمهيد الرأي برمجه العقول انظر ماذا قال ﴿ إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾ والإشارة لموسى ومن آمن معه الشرذمة : الطائفة من الشيء أو الجماعة من الناس وقيل بل تطلق على السفلة منهم تفيد الاحتقار، وقللّهم فرعون في نظر الآخرين أي نحن الغالبون لاشك ؛فهم قله رغم أن المفسرين قالوا أن من خرج مع موسى كان يزيد على ستمائة ألف لكن فرعون أراد أن يقللهم بالنسبه لجيوشه أو يقللهم في نظر الناس فيقدموا بشجاعة وهم مطمئنون، ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾ غَاظَه وأغاظه : فعل به ما يغمُّه أو ما يهمه أو ما يضايقه غائظون لماذا ؟ لأنهم خرجوا بغير إذن وخرجوا من سلطانه، لابد من إعادتهم لسلطانه لخروجهم بغير إذن، ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴾ أي إننا من طبعنا الحذر وإنا لجميع حاذرون مستعدون مسلحون، ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ ﴾ قراءه وقيل حذرون وحاذرون بمعنى واحد الاسم : الحِذر الاحتراز حذر يحذر فهو حاذر‘‘ وحَذِر وقيل بل الحاذر : المستعد والحذر‫:‬ المتيقظ ) ﴿إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦)﴾ تأكيدات بأن واللام ذاك كان اعتذار فرعون لقومه، ولأهل مصر عن خروجه، وتعبئة لجيشة يقول الله (تبارك وتعالى) كي لا تتوهم أن الإنسان يفعل ما يشاء، بل أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد، فبين ربنا أنه هو الفاعل فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَخْرَجْنَـٰهُم مِّن جَنَّـٰتٍۢ وَعُيُونٍۢ ﴿57﴾ وَكُنُوزٍۢ وَمَقَامٍۢ كَرِيمٍۢ ﴿58﴾
‫﴿ فَأَخْرَجْنَاهُم﴾: إذا ً المخرج لهم على الحقيقة هو الله وإن كان المتكلم والمعَبِيء فرعون وهو المخطط لكن الفاعل على الحقيقة هو الله لذا يقول ﴿ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(٥٧)وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ يا سبحان الله! تلك مصر، جنات، وعيون؛ تنظر في الكتب القديمة تجد يصفون مصر فيقولون‫:‬ كان نهرها يجري بالخير الوفير ولا ينقطع، وعن يمينه وشماله في شرقه ومغربه ،على الضفتين جنات لاحد لها ولا حصر، من كل أنواع الفواكه والنبات وهاهو ربنا يصف جنات هو الذي يقول جنات وعيون ، العيون من الماء ظاهر معاين تراه بعينك لا يحتاج إلى حفر ولا استخراج ولا آياد، جنات وعيون ليس ذاك فقط ﴿وَكُنُوزٍ﴾ أهي دفائن فرعون وقومه كما قال المفسرون أم هي أموالهم أم هي المعادن الموجوده في باطن الأرض من ذهب وفضه ونحاس وليس ذلك فقط بل ﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ وانظر إلى التعبير الإلهي عن مصر وعن الإقامة في مصر جو مصر لا حر، ولا برد، لا صواعق، لا زلازل كما نرى ونسمع عن بلاد أخرى عواصف إعصار زلازل خسف قلة ماء رياح، حر شديد يقتل الناس، برد شديد يتجمد فيه الناس؛ أما مصر ما أحلى المقام بمصر أقامنا الله فيها واختصها أيضا بهذا النعيم، ولكن الله يحذر ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا‫.‬.﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٥٦] فإذا كان ذلك وصف مصر في القرآن يصف ربنا هذا الوصف ﴿ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(٥٧)وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾ لابد وأن يحافظ على هذه النعمة ولا تفسد في الأرض بإفساد البيئة بمخلفات المصانع التي تلقى في مياة النيل؛ نهر النيل نهر من أنهار الجنه كما أخبرنا رسول الله( صلى الله عليه وسلم) فهل يصح أن تلوثه بميتة الحيوان أو بمخلفات المصانع أو إلى آخره‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَـٰهَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ﴿59﴾
﴿كَذَلِكَ﴾: كذلك الإخراج أو كذلك بالفعل أو كفعل الله دائما وأبدا في كل عاصٍ وكرحمتة بكل طائع، ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾قيل بعد هلاك فرعون وقومه ورث بنوا إسرائيل هذه الكنوز والدفائن والمقام الكريم وما إلى ذلك‫.‬‬‬‬‬‬
فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ﴿60﴾ فَلَمَّا تَرَٰٓءَا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴿61﴾ قَالَ كَلَّآ ۖ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ ﴿62﴾
‫﴿ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ﴾ ﴿فاتَّبعوهم مُّشْرِقِينَ﴾ قراءه أخرى، فاتبعوهم‫:‬ لحقوهم مُّشْرِقِينَ: داخلين في الشروق، شرقت الشمس‫:‬ طلعت أشرقت الشمس‫:‬ أضاءت‫.‬ ﴿ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرَّقِينَ﴾ قِبَل الشروق، شَرَّق‫:‬ اتجة قبل المشرق، غَرَّب‫:‬ اتجة قبل المغرب قام فرعون وعبّأ الجيوش ومهد الرأي العام، وخرج بأفراس، وسلاح، ولحق بموسى كيف لحق به؟ إرادة الله؛ ليتم أمره‫.‬ ﴿فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ﴾ اقترب منهم جدا حتى إن فرعون وقومه رأوهم وموسى وقومه رأوا فرعون، ﴿تَرَاءى الْجَمْعَانِ﴾ رأى كل منهما الآخر ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ تيقنوا من اللحوق بهم، رجل يركب فرسه يلحق بمن يمشي على رجلين أمر طبيعي، والمسافة اقتربت جدًا رغم خروجهم ليلًا ولم يخرج فرعون إلا في الصباح، بعد فترة اتبعوهم مشرقين، فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى في يأس شديد وما أدراك ما أصحاب موسى، قالوا إنا لمدركون وإنا لمُدَّرِكون‫:‬ هالكون، فئة بعد فئة، أو واحد بعد واحد، طائفة بعد طائفة سيصيبنا الفناء لا محاله إدّارك ويتدارك الناس في الفناء ، ﴿قَالَ كَلَّا﴾ زجرهم كلمة زجر، كلمة نهي، كلمة تعنيف، كيف تقولون ذلك بعد ما رأيتم من معجزات العصا واليد والطوفان والجراد، القمل، الضفادع، وما إلى ذلك كيف يقولون إنا لمدركون ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ما أحلاها كلمة، وما أعظمه من شعور، معي ربي وكفى بالله نصيرا، وكفى بالله هاديا، إذا ً زجرهم ومنعهم من اليأس ثم طمأنهم بوجود الله معه ينصره، وعنايته، ورعايته، وكفايته، ثم أكد ذلك بأن الله سوف يدله ماذا يفعل كيف يتصرف سيهديه إلى طريق النجاة ولم يكن موسى يعلم ما هو الطريق إلى النجاة وكيف سيتم الأمر، لكنه قال ذلك ثقةً في الله (عز وجل) وبوعده هنا وحين اشتد اليأس بقوم موسى أوحى ربنا إلى موسى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ ۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍۢ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ ﴿63﴾
هل احتاج البحر إلى ضرب العصا ؟ ما الذي فلق البحر ؟ ومن الذي فرقه ؟ الله بكلمة كن إذا أراد شيئا قال له كن فيكون فلم كان الأمر بضرب البحر بالعصا ؟ لكي تتعلق المعجزة بموسى؛ إكرامًا له، واظهارًا لفضله، وإعلانا لشأنه تثبيتا للإيمان برسالته فأجرى المعجزة على يدية لكن البحر لا ينفلق بضرب العصا إنما ارتباط المعجزة بعصا موسى يعظم موسى في نظر الناس فتجري المعجزة على يديه، ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ...﴾ الكلام فيه اختصار أي فضربه بعصاه فانفلق ﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ كل قسم الفرْق : القسم من كل شيء كان كل فرق ﴿كَالطَّوْدِ﴾ كالجبل ﴿الْعَظِيمِ ﴾ الشامخ، حين ضرب موسى البحر بعصاه إذا فالماء يفترق وتصبح الأرض يبسًا من الطبيعي أن الماء إذا انحسر عن الأرض كان فيها البلل كان فيها الطين كان فيها الرخاوة أما في هذا البحر انفلق الماء كانت الأرض يبسًا ما بها أثر من ماء وصدق ربي حين يقول‫:‬ ﴿... فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٧٧] فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم‫.‬ ضربه العصا شقت في البحر اثنى عشر طريقا لكل سبط طريق، وارتفع الماء كالجبل متجمد أوقف الله سنّة الجريان عن الماء فأصبح كالجبال، وجعل في كل جبل من هذه الجبال طاقات يرى كل فريق الفريق الآخر حتى يطمئن‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلْـَٔاخَرِينَ ﴿64﴾ وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ أَجْمَعِينَ ﴿65﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلْـَٔاخَرِينَ ﴿66﴾
‫﴿ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ﴾ ، ﴿أَزْلَفْنَا﴾:قرّبنا، من الزلف‫:‬ القربى ﴿ ثَمَّ ﴾: هناك وقيل أزلقنا‫:‬ قراءة أخرى أي‫:‬ أهلكنا، أزلفنا‫:‬ جمعنا ومنه المزدلفة ليلة المزدلفة ليلة جمع، أزلفنا ثم قربنا هناك الآخرين‫:‬ قوم فرعون، ﴿وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ﴾ حين تكامل خروج قوم موسى من الطرق وخرج آخر رجل، اكتمل دخول فرعون وقومه ودخل آخر رجل، أمر الله البحر فعاد إليه سنّة الجريان فانطبق عليه، وهنا خاف أصحاب موسى أغرق فرعون حقًا؟! فأخرجه الله لهم على الشاطيء ولفظ البحر جثته وكأنه يرفض أن يكون وعاءًا لها ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً...﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ٩٢] فرأوه ورأوا جثته فاطمأنوا، ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ بانطباق البحر وعادت سنة الجريان إلى الماء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿67﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿68﴾
للأسف الشديد رغم كل ذلك وما كان أكثرهم مؤمنين، قوم فرعون لم يؤمن منهم سوى آسيا والمؤمن الذي كتم إيمانه، وقوم موسى آمن منهم ذرية على خوف من فرعون ثم بعد ما خرجوا إلى الشاطيء الآخر ولم تكد أقدامهم تجف من الماء قالوا اجعل لنا إلها ،إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين في علم الله، ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ العزيز : الغالب، القوي، المنتقم من أعدائة، الرحيم بأوليائه‫.‬ أغرب ما في الموضوع حين جاء فرعون ورأى موسى وقومه واستعد للهجوم وفوجيء بالبحر لابد وأنه رأى ذلك كالجبل العظيم ،لابد وأنه رآه ورآى هؤلاء الناس يمشون و الماء عن يمينهم وعن يسارهم كالجبل كالحائط اثنى عشر طريقا، لابد أن يقول ف نفسه أي راء ٍ لهذا المنتظر إما أن ما رأوه سحرًا وإما ما رأوه حقً؛ا فإن كان سحرا إذا فهو ماء فإذا دخلت فيه غرقت وإما أن يكون حقا إذا ً فهو رسول، وربنا معه، وفي كلتا الحاليتين لايجرؤ أن يدخل وراءه كيف دخل فرعون ؟ وإن كان فرعون قد فقد عقله، خاف على سلطانه هل كل جنوده فقدوا عقولهم ؟ (سبحان الله) لكن الإجابه في كلمة ﴿ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ﴾ آتى بهم ربنا وغرّ بهم وأدخلهم ثم أغرقهم سبحانك ماأعظم شأنك، تلطّف ربنا (تبارك وتعالى) بحبيبه المصطفى ونهاه عن الحزن على قومه في أول السورة لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، نهاه عن الحزن، وعن أن يهلك نفسه من شدة الحزن على قومه، وبيّن له أن الأمر بيد الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأن علم الله سابق وأن قضاء الله نافذ ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ثم سرّى عنه، وقصّ عليه القصص، وحكى عن موسى وما أصابه، ثم هاهو يحكي له عن إبراهيم الجد الأكبر أب الأنبياء جمعيًا، خليل الرحمن، وبين له كيف كان، وكيف كان حاله مع قومه ومع أبيه وكأنه يقول أحزنك على قومك أشد؟ أم حزن إبراهيم على أبيه أشد؟ فأنت تحزن على قومك وعلى عشيرتك فكيف بإبراهيم الذي رأى أباه وقومه وعشيرته وأهله على ضلال مبين؟ تسرية للحبيب وتسلية لسيد الخلق أجمعين يقول عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَٰهِيمَ ﴿69﴾ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِۦ مَا تَعْبُدُونَ ﴿70﴾
واقرأ عليهم مما أوحينا إليك واحكي لهم خبر إبراهيم الذين يزعمون أنهم من ذريته وأنهم على ملته ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ سؤال يسأل إبراهيم أباه وقومه عن الذي يعبدونه أو عما يعبدون وقد كان يعلم؛ فقد رآهم يسجدون للأصنام وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام فما محل السؤال ؟ محل السؤال أن يلزمهم الحجه وأن يبين لهم سفاهه عقولهم إذ يعبدون مالا ينفع ولا يضر ما تعبدون ومع ذلك تأمل في الرد‫.‬‬‬‬‬‬
قَالُوا۟ نَعْبُدُ أَصْنَامًۭا فَنَظَلُّ لَهَا عَـٰكِفِينَ ﴿71﴾
كان يكفي أن يقولوا نعبد الأصنام لكن زادوا في الإجابه تبجحًا وافتخارًا وابتهاجًا بما هم عليه من ضلال وكأنهم يكيدون له، أو يغيظونه، أو يفتخرون، ويبتهجون بضلالهم ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ "ظل": تأتي لبيان المداومة على الفعل نهارًا، ظل يفعل كذا، وبات تأتي لبيان استمرار أو المداومة على الفعل ليلًا ظل يفعل كذا أي يفعله نهارا بات يفعل كذا أي يفعله ليلا ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ أكانوا يعبدون الأصنام نهارا ويعبدون الكواكب ليلًا؟ قد يكون، أم الكلمة لا يراد بها وقت معين نظل أي نستمر، نداوم، ولا يراد بها الوقت المعين وهو وقت النهار نظل لها عاكفين ملازمين لها، ملتصقين بها، مكبين على عبادتها لا نفارقها‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ﴿72﴾ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴿73﴾
‫﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ﴾ ، ﴿هَلْ يُسمِعُونَكُمْ﴾ قراءتان والسؤال هنا لتقرير الحجة، ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ﴾: أي هل يسمعون دعاءكم إذا دعوتموهم ﴿هَلْ يُسمِعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ﴾ أي يُسمعونكم الإجابة، أنت تدعوه أنت تكلمة هل تسمع منه ردًا؟ هل ينطق؟ ﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ وهنا لفتة لغوية إذ‫:‬ تأتي مع الماضي و "إذا" تأتي مع الحاضر أو المستقبل، يسمعون‫:‬ فعل مضارع جاءت مع إذ التي تستخدم للماضي لاستحضار الحالة لاستحضار الهيئة، لاستحضار ما يفعلونه وقد كانوا يفعلون، ﴿ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ هل كذلك ينفعونكم إذا عبدتموهم ويضرونكم إذا تركتموهم ؟ هل لهم وبيدهم الثواب والعقاب، ينفعون من عبدهم ويضرون من تركهم؟‬‬‬‬‬‬‬
قَالُوا۟ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ﴿74﴾
اعترفوا هل ينفعون ؟ لا، هل يسمعون ؟ لا، هل يضرون ؟ لا، إذا ً فلم تعبدوهم ؟ لا سند لهم إلا التقليد للآباء ولذا أعرضوا عن الإجابه بل أعرضوا عن السؤال الذي سُئلوا عن الإجابه عليه هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون؟ بل معنى ذاك أنهم أعرضوا عن هذه الإجابه إذ لا إجابه لهم فهو إقرار منهم واعتراف بأن الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع، لذا كان السؤال لإقرار الحجة ولاسند لهم بإقرارهم إلا التقليد للآباء الأقدمين وما كان القدم دليل على الصحه، وما كان فعل الآباء دليل على الصواب‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿75﴾ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ ٱلْأَقْدَمُونَ ﴿76﴾ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّۭ لِّىٓ إِلَّا رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿77﴾
هاهو يعظ وينصح بمنتهى الرفق والتلطف وتأمل حين يقول ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي﴾ كأنه يبدأ بنفسه أو كأنه يعرّض بالكلام فهم أعداء لهم يوم القيامة، الأصنام أعداء لمن عبدها يوم القيامه حيث تشهد عليه ،أما عداوة الأصنام لإبراهيم فهي غير موجودة فلم قال ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي﴾ تعريض بالكلام، والنصح بالتعريض أبلغ من التصريح وبدأ بنفسه وقول الكلام من المقلوب فإنهم عدو لي أي فإني عدو لهم لأن من عاداك فقد عاديته أو من عاديته عاداك أنتم وآباؤكم الأقدمون مهما كان القدم، ومهما كان استمرار العبادة على أجيال متتالية، وأجداد، وآباء سبقوا من عديد من السنين لايدل ذلك على الصواب، ولا يؤكد صحة الفعل ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي﴾ عداوة الأصنام معروفه لأنها يوم القيامة تحمي بها جهنم ويشوى بها الذين عبدوها بل ويشهد عليهم ﴿... مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ٢٨]، ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ ﴿إِلَّا﴾ هنا استثناء إما أن يكون متصلًا وإما أن يكون منفصلًا والقرآن بالذات الاستثناءات فيه ،بخلاف اللغه العربيه كثيرًا ما تأتي إما منفصلة وإما متصلة أي تحتمل الوجهين إن كانوا يعبدون الله مع الأصنام أو كان من آبائهم من يعبد الله مع الأصنام فالإستثناء هنا متصل، أي كل الأصنام عدو إلا رب العالمين ليس بعدو، وإن كانوا يعبدون الأصنام فقط ولا يعبدون الله فالاستثناء من غير الجنس أي أن الاستثناء منفصل بمعنى فإنهم -أي الأصنام- عدو لي لكن رب العالمين ربي أتوجه إليه بالعبادة وهو المعبود الحق المستحق للعبادة والطاعه ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾‬‬‬‬‬
ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿78﴾ وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ ﴿79﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿80﴾ وَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿81﴾
‫﴿هُو﴾ دخلت في الكلام للتأكيد ولحصر الأفعال لله بمعنى ليس غيره يفعل، لا أحد غيره يفعل، هو الوحيد الذي يفعل ذلك، دخول هو لحصر الفعل بالنسبه لله (عز وجل)، لا يطعم أحد غير الله، لا يسقي أحد غير الله، يلفت النظر اختلاف النَظْم في الآية ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ فعل ماض، ﴿يَهْدِينِ﴾ فعل مضارع اختلف النَظْم هنا ؛لأن الخلق تقدم ولأن الهداية مستمرة لاتنقطع لذا قال خلقني، حدث وانتهى ربنا من الخلق، أما الهداية فهي مستمرة منذ الإيجاد من حين أنْ كان نطفه هدايه متدرجة إلى نهاية العمر؛ لكي يجلب المنافع لنفسه ويدفع عن نفسه المضار، الهداية المتدرجة المستمرة منها‫:‬ امتصاص الجنين للغذاء من المشيمة في رحم الأم كيف ؟! حين خرج إلى الدنيا التقم ثدي الأم من غير علم سابق أو تجارب كيف حَيَى كيف ؟! وقف كيف مشى؟! كيف كيف وكيف وكيف؟! هذه الهداية أعطى كل شيء خلقه ثم هدى علمه كيف يستخدم ما وهبه من سمع وبصر ويد وقدم وما إلى ذلك هذه الهداية المستمرة في الدنيا لجلب المنافع ولدفع المضار مستمرة إلى انتهاء العمر، وهناك هدايه أرقى : هدايه الرسل والأنبياء والكتب السماوية ثم الهداية إلى طريق الله (عز وجل)، والهداية يوم القيامة إلى المسكن في الجنة هداية مستمره لذا تغير النظْم فقال : خلقني فهو يهدين وليس أحد غيره يهدي‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴾، ﴿ وَالَّذِي هُوَ﴾ تأكيد مرة أخرى مطعمني ويسقين الطعام خرج من الأرض من الذي أخرجه ؟ من الذي أنبته ؟ من الذي خلقه ؟ البهائم، والدواجن، الطيور، واللحوم، والأسماك من الذي خلقها وسخرها لنا وجعلها نافعه لأبداننا مغذية لأجسامنا أنزل من السماء ماء فمنه أنهار وآبار وبحور؟! هو الذي سقى‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾وتغير النظم أيضا أولا نسب المرض إلى نفسه وأسند الشفاء إلى الله رعاية للأدب إذا مرضتُ هاهي تاء الفاعل مرضتُ أنا فهو يشفين أسند المرض لنفسه والشفاء إلى الله، رعاية الأدب مع أن المرض والشفاء بيد الله الأمر الثاني : الملفت للنظر العطف ﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(٧٩)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(٨٠)﴾ عطف المرض على الطعام والشراب وكأنها إشارة إلى أن المرض ينشأ من التفريط أو الأفراط في الطعام والشراب ﴿... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٣١] من أين يأتي المرض؟ من فعلك أنت، تشرب ما يضر كشرب المخدارت والخمور وما إلى ذلك، الطعام أكل مالا يحل أو الزيادة عن الحاجه ﴿ما ملأ ابن ادم وعاءا شرا من بطنه﴾، ﴿بحسب بن ادم لقمات يقمن صلبه﴾، ﴿المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء﴾ الحميه:الجوع أحاديث لرسول الله ، ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ﴾ بسبب فعلي، بسبب سوء تصرفي، بسبب أكلي وشربي مالا يصح، أو مالا يجوز، أو مالا يحل، أو مالا يباح، أو الإسراف في الأكل والشرب، أو التفريط بقله الطعام والشراب بدعوى الزهد، ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾‬‬‬‬‬
‫﴿ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴾ الموت والحياة بيد الله وكانوا يعتقدون أن الموت بأسباب دنيويه؛ لكبر السن بمرض، بكذا، فبيّن إبراهيم أن الموت بيد الله وليس له سبب إلا انتهاء الأجل بقضاء الله؛ كم من مريض يحيا ويطول عمره؟ وكم من سليم يقع فيموت فجأة؟ كم وكم وكم وكم؟! وقد يموت الصغير ويعيش الكبير ليس هناك أسباب ظاهره للموت؛ حقيقة الأمر أن الله هو الذي يحي وهو الذي يموت حتى القتل؛ القائل إذا ضرب رجلًا آخر بالرصاص هو يتلف البينه، يتلف الجسد فقط أما الروح فلا يأخذها إلا الله ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‫.‬.. ﴾ [سورة الزمر آية‫:‬ ٤٢] فكم من حوادث ينجو منها الناس، وكم من أمراض خطيرة يشفى منها الناس، وكم من حوادث بسيطه تنزلق قدمه فيموت كم وكم؟!‬‬‬‬‬‬‬
وَٱلَّذِىٓ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيٓـَٔتِى يَوْمَ ٱلدِّينِ ﴿82﴾
أطمع : أرجو لولا الطمع مارجونا، ولولا الخوف ما انتهينا، ولولا الله ما اهتدينا، أطمع :أرجو، أقالها حقيقةً بمعنى الرجاء، أم هو يقينا له ورجاء للمؤمنين تعليمًا للأمة فقد كان متيقنًا من مقامه‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿ ...وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ١٢٥] ضروري أنه كان يعلم،﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ١٢٠] فالطمع في حقه يقين وفي حق غيره من المؤمنين رجاء، ﴿... أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي ...﴾ "خطيئة": مفرد لكن يراد بها الجمع وكأنها مصدر كقوله ﴿ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ... ﴾ [سورة الملك آية‫:‬ ١١] أي بذنوبهم وكقوله ﴿... فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ... ﴾ [سورة الحج آية‫:‬ ٧٨] أي الصلوات، فالخطيئة بمعنى الخطايا قالها وهو يعلم أن له خطايا أم قالها هضمًا لنفسه وتواضعا لعزة الله وجلاله وتعليما اللأمه أن يعترفوا بذنبوبهم عرفوها أو لم يعرفوها "اللهم اغفر لنا ما نعلم ومالا نعلم ومالا نعلم وما أنت به أعلم " فقد يذنب المرء دون أن يدري وقد يعلم وقد لا يعلم من هنا يقول إبراهيم كما يحكي عنه ربنا ﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ تعليما للأمه لكي يستغفروا وهضمًا لنفسه ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾ :يوم الجزاء، يوم القيامه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًۭا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ ﴿83﴾ وَٱجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍۢ فِى ٱلْـَٔاخِرِينَ ﴿84﴾ وَٱجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ ﴿85﴾ وَٱغْفِرْ لِأَبِىٓ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ ﴿86﴾ وَلَا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿87﴾ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌۭ وَلَا بَنُونَ ﴿88﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍۢ سَلِيمٍۢ ﴿89﴾
‫﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ دعاء شامل مع ﴿ هَبْ لِي حُكْمًا ﴾ الحكم هنا الكمال في العلم والإتقان في العمل أوهب لي حكما معرفه بك وبأحكامك وحدودك، ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ اجعلني في زمرتهم الصالحين‫:‬ الذي صلحت نواياهم وأعمالهم وخواتيمهم، هيئ لي أسباب العمل التي تجعلني في مصاف هؤلاء فألحق بهم، ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ كلمة ﴿ لِسَانَ ﴾ تدل على الجارحة ذاك العضو صغير حجمة، عظيم جرمه ﴿وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم﴾ لكن العرب تستخدم هذه الجارحة أو الاسم لهذه الجارحة تستعير هذا الاسم للقول، ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ ﴾ أي قول صدق استعارة الجارحه لأن بها يكون القول الكلام، ﴿فِي الْآخِرِينَ ﴾ في الأمم التاليه أي الثناء الجميل أو حسن الصيت والجاه الذي يستمر ويبقى أثره إلى يوم الدين أي اجعل لي مقالة صدق مقالة حق فيها الثناء عليه ؛بحيث أكون لهؤلاء جميعًا قدوة وأسوة أعلى في الطاعه والعبادة وترى أن الله قد استجاب لجميع دعواته ماعدا دعوة سوف تأتي لاحقًا وما من أمة على الإطلاق إلا وهم يدعون الانتساب إليه؛ قالت اليهود إن إبراهيم كان يهوديا وقالت النصارى إن إبراهيم كان نصرانيا ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ٦٧] ما من أمة إلا وتثني عليه، ما من أم إلا وتقر برسالته ونبوته، بل في أمة الإسلام ما يصلي أحد على النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا وصلى عليه ﴿اللهم صلي على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم﴾ إذا ً استجاب الله له وجعل له لسان صدق في الآخرين الثناء الحسن والثناء الجميل والصيت الطيب والجاه العريض يبقى أثرة إلى أن تقوم الساعة، ﴿ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴾ كلمة الوارثه تكلمنا عنها من قبل ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ١٠] الإرث لا نزاع فيه، الإرث يفاجأ به الوارث، الإرث لم يبذل الوارث فيه مجهودًا، الإرث مستديم، وكأن الجنة أصبحت إرثًا لهم لا ينازعون في ملكيتها، أو استحقاقها ويفاجأون بما فيها كما يفاجأ الوارث بما ورث‫.‬ ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾ هذه الدعوة لم يستجب له ربنا وقيل إن إبراهيم دعى بهذا الدعاء لأبيه ولم يكن يعلم أنه سيموت على الكفر فطلب من الله أن يهديه للإيمان وقيل دعاها قبل أن ينهى عن الاستغفار له ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ١١٤] إذًا فهذا الدعاء إما كان في حياة آزر طلب الإيمان له كما قال ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [سورة مريم آية‫:‬ ٤٧] وإما كان بعد موت الأب وقيل أن ينهى عن الاستغفار، ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾ الضالين عن الحق، الضالين عن الصواب، الضالين عن طريقك‫.‬ ﴿ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴾ الخزي أو الخزيا من الخزي وهو الهوان أو من الخزايا بمعنى الحياء، ما هو الخزي الذي خاف منه إبراهيم أو الذي سأل الله ألا يصيبه به ؟ قيل الكلام من الطبيعي أنه كان هضمًا لنفسه يدل على أن العواقب مجهوله؛ أنت الآن على طاعة ماذا تكون غدًا؟ على أي شيء تموت؟ فالجهل بالعواقب يجعل الإنسان على وجل، وقيل بل لاتخزني يوم يبعثون أن تجعل رتبتي أقل من رتبة الوارثين؛ الوارثون مقامات، ودرجات فإن نزلت رتبته عنهم استحى من ذلك أو كان ذاك بمعنى الخزي أو الهوان، ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴾ يوم لا ينفع مال ولا بنون هو يوم الدين يوم الجزاء في ذلك اليوم لا ينفع مال ولا بنون وكلنا نسمع قول الله (عز وجل) حكاية عن قول الكفار ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(٢٨)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(٢٩)﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ٢٨- ٢٩] وربنا يقول ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٤٦] لاينفع مال ولا بنون، ﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ والإستثناء أيضا يحتمل الوجهين الاتصال والانفصال إذا كان الاستثناء متصلًا ،إذا ً فالمال ينفع يوم القيامة والبنون تنفع يوم القيامة ينفع من المال ؟ وتنفع من البنين ؟ من أتى الله بقلب سليم؛ لأنه في الدنيا أنفق أمواله في سبيل البر وأرشد أبناءه إلى سبيل الحق فنفعه ماله لأنه أنفقه في سبيل البر ووجوه الخير، ونفعه أبناؤه لأنهم دعوا له، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث منها ولد صالح يدعو له إذا ً فقد نفعه، بل وشفع له بنوه في يوم القيامه ﴿من رزق بالبنات فأحسن تربيتهن كن له حجابا من النار يوم القيامه﴾ كما أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم). إذًا المال والبنون ينفع من أتى الله بقلب سليم، سليم من أي شيء ؟ من المرض أي صحيح لأن الكافر والمنافق في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا، فالسليم الصحيح من الشرك والشقاق والنفاق السليم من الحسد، من البغضاء، من الغل، من الحقد‫.‬ السليم من كل صفهٍ ذميمة، المتصل بكل صفهٍ حميده؛ أو الاستثناء منفصل يوم لا ينفع مال ولا بنون وانتهى الكلام لا ينفع المال صاحب المال ولا ينفع البنون الآباء، لكن من أتى الله بقلب سليم هو الناجي القلب السليم ما هو ؟ وأنّى هو ؟ وكيف لنا به؟ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): ﴿ألا إن في الجسد مُضغه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت الجسد كله ألا وهي القلب﴾، وقال (صلى الله عليه وسلم): ﴿المرء بأصغريه بقلبه ولسانه﴾ وقال (صلى الله عليه وسلم): ﴿التقوى هاهنا، التقوى هاهنا وأشار إلى قلبه الشريف﴾، بل ويقول (صلى الله عليه وسلم): ﴿يدخل الجنة أقوامٌ أفئدتهم -أي قلوبهم- مثل أفئدة الطير﴾ بمعنى أن قلوب هؤلاء كقلوب العصافير هل في قلب العصفور شرك أو طمع؟ هل يتمنى العصفور أن يكون حاكمًا أو سلطانًا؟ هل يحسد عصفورًا آخر؟ هل يؤذي العصفور غيره؟ إذا كان قلب المؤمن كقلب العصفور أصبح من الوارثين لا محاله‫.‬ انتهى دعا سيدنا إبراهيم عليه على ونبينا أفضل صلاة وأكمل تسليم وبدأ الكلام لوصف مشهد من مشاهد يوم القيامه يقول الله (عز وجل):‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿90﴾
يا سبحان الله! الجنة أزلفت قربت من الزلف وهو القربى الجنه قربت كيف؟ أتتحرك؟ هل تتحرك الجنان ؟ عرضها السموات والأرض هل تتحرك أم يكشف الحجاب؟ كيف؟ أزلفت الجنة للمتقين يرونها وهم في الموقف، قبل الحساب أيطمئنهم ربنا ؟ أيبشرهم ربنا من قبل أن يحاسبوا أو يتلقوا الكتب بأيمانهم ؟ أهم في النور يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم ،فتقرب لهم الجنة فيرونها فيشتاقون إليها ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ من هم المتقون ؟ جعلنا الله جميعًا منهم، تقوى الشرك ، تقوى النفاق، تقوى الكبائر، تقوى الصغائر، ،تقوى الأغيار لا يشغل قلبك إلا الله المتقون الذين تحصنوا بالوقاية، بالتوكل والتفويض وعلى قدر التفويض يكون التوفيق، وعلى قدر التوكل تكون الإعانة‫.‬‬‬‬‬‬
وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿91﴾ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿92﴾ مِن دُونِ ٱللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ﴿93﴾
‫﴿ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾ بُرزت من البروز‫:‬ الظهور،أظهرت لهم، وأصل البروز من البَرَاز والبَرَاز‫:‬ الأرض الفراغ الأرض الواسعة الفضاء يسمى براز، ﴿ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾ أيرونها قبل الحساب أيضا فيقبلون على الحساب وهم يعرفون ما ينتظرهم؟ يشتد الروع، والهلع، والرعب، جهنم يؤتى بها يوم القيامه ولها سبعون ألف زمام تجرها الملائكة فتنفلت منهم فلته والله لو تفلتت لأحرقت أهل الموقف جميعًا، تتميز وتتغيظ لها صوت تعرف أهلها وأصحابها فتتميز غيظا يرونها ﴿ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾ غوى يغوي فهو غاوِ وغَوٍ: ضل وابتعد عن الطريق عن الهدى، ﴿ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ﴾ سؤال التبكيت، وسؤال التقريع والسؤال الذي يؤدي إلى الهاوية والهالكة والحالقة والقارعة ﴿ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ﴾: سؤال هل يحتاج ربنا الإجابة ؟!! سؤال توبيخ أين أصنامكم ؟ أين ما عبدتموهم من دون الله ؟ هل ينصرونكم اليوم يدفعون عنكم العذاب ينجونكم من العقاب أو ينتصرون لأنفسهم إذ هم وآلهتهم في جهنم ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ٩٨]‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَكُبْكِبُوا۟ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُۥنَ ﴿94﴾ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴿95﴾ قَالُوا۟ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴿96﴾ تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَـٰلٍۢ مُّبِينٍ ﴿97﴾ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿98﴾ وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلَّا ٱلْمُجْرِمُونَ ﴿99﴾ فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِينَ ﴿100﴾ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍۢ ﴿101﴾ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةًۭ فَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿102﴾
‫﴿ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾ كبكبوا‫:‬ مضاعف كبّ وقيل التكرير في اللفظ للدلاله على التكرير في المعنى كبّه ثم كبّه ثم كبّةُ فكُبكب‫:‬ أي انقلب على وجهه ثم انقلب على وجهه كأن هؤلاء الغاوين حين يُقذف بهم في جهنم يُلقى بهم على وجوههم ثم يُلقى بهم على وجوههم دركات حتى يستقرون في قصر جهنم ﴿هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾ الذين أغووهم وأضلوهم، ﴿ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ تأكيدا على أنه لن يفلت أحدا من عقابه، وجنود إبليس شياطين الإنس، و شياطين الجن الذي دعوا لعبادة إبليس وطاعة إبليس عبادة له، ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٦٠] هل هناك من يعبد الشيطان؟ يسجد له أو يصلى له؟ أبدًأولكن طاعة الشيطان تعتبر عبادة له، ﴿ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴾ وكأن الله أنطق الأصنام وأنطق الأحجار وأنطق الأوثان فحدث الخصام والتخاصم بين الأتباع وبين المتبوعين وبين جنود إبليس وبين الشياطين و بين الأصنام، لعْن وخصام وشتم وتنازع قالوا وهم فيها يختصمون، ﴿ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(٩٧)إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ تالله‫:‬ حلف، حلف الضال وأقسم بالله إنه كان غاويًا، كان ضالًا حيث سوى بين الصنم الذي لايسمع ولايضر ولاينفع وبين الله الذي يخلق، ويحيي، ويميت، ويطعم، ويسقي، ويغفر، ويثيب،ويعاقب ﴿تَاللَّهِ ﴾ التاء هنا للقسم ولا تلحق إلا بلفظ الجلاله فقط، ﴿ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ﴾ الآباء الأقدمون أو الرؤساء أو الذين حضوهم على الكفر والمعصية، ﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ(١٠٠)وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ ﴿شَافِعِينَ﴾ جمع، ﴿صَدِيقٍ ﴾ مفرد قيل لكثرة الشفعاء، وندرة الصديق وقيل بل كلمة صديق مفرد أريد به الجمع، مصدر ككلمة عدو فى ﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي ... ﴾ بمعنى أعداء فكذلك كلمة صديق بمعنى أصدقاء فما لنا من شافعين يشفعون لنا ولا صديق حميم هل قالوا هذا ؟ وكيف عرفوا بالشفاعة وكيف عرفوا بانتفاع الصديق بصديقه ؟ قيل الأصدقاء الأخلاء يومئذ كلهم بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، الصديق كتب له الجنة هاهو يسعى إليها وإذا بصديقه يساق به إلى النار فيلجأ إلى الله، ويشفع لصديقه، يرجو، ويشفع، فيُشَفَّع فينجو الصديق من النار ويأخذ صديقه بيده إلى الجنة هنا حين يرى الكفار ذلك يقولون‫:‬ ﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ(١٠٠)وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ . ﴿ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ "لو" للتمني إجابتها ﴿فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾،أو لو للشرط وحذف جواب ذاك أن تقدّر الجواب فلو أن لنا كره فنكون من المؤمنين تمنوا الرجوع حيث لاينفع التمني ولايجدي، أو هي شرط محذوف الجواب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿103﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿104﴾
‫﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ﴾ في قصة إبراهيم مع قومه وكيف أرشدهم وكيف سألهم وكيف ألزمهم الحجة كيف برأ نفسه كيف هضم نفسه كيف وكيف وبيّن لهم، آية وعبرة عظة لمن له عقل أن يتعظ، وإن ربك لهو العزيز المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه‫.‬‬‬‬‬‬
‫وتتوالى قصص المرسلين وكيف كان صبرهم على أقوامهم وكيف فعل الله (تبارك وتعالى) بالمكذبين من أقوامهم تسرية للنبي، وتحريضًا له، وتحضيدا على الاقتداء بمن سبقه من الرسل في الصبر على الأذى وتأتي قصة نوح، ونوح أول رسول بعث في الأرض من بعد آدم، نوح عاش في قومه عمرًا طويلًا، زمن بعثته ستمر تسعمائة وخمسين عاما ،نوح أشد الرسل صبرًا على إيذاء قومه، كان إذا دعاهم غطوا وجوههم، ووضعوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا ما يقول ثم يقومون إليه فيخنقونه ويضربونه حتى يغشى عليه فإن أفاق توجه إلى الله قائلا‫:‬ رب اغفر لقومي فإن قومي لا يعلمون‫.‬ نوح ظل يدعو ويدعو وقومه لايستجيبون له ويعذبونه بل وإذا حضر أحدهم الموت جمع أبناءه من حوله وحذرهم من اتباع نوح وهو على فراش الموت يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬‬‬
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿105﴾
أي كذبت جماعة قوم نوح على بعض أقوال النحاة وإن كان بعضهم قد ادعى ، إن كلمة "قوم" مؤنث وتصغيرها قويمة، ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ولم يكن لهم سوى رسول واحد لكن الله قال ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ لأن من كذّب رسول واحد فكأنما كذب الرسل جمعيا فمن آمن بعيسى ولم يؤمن بمحمد كافر ومن آمن بمحمد ولم يؤمن بعيسى كافر ومن آمن بموسى ولم يؤمن بمن سواه كفر فمن كذّب رسول واحد فكأنما كذّب جميع المرسلين لأن الرسل يصدق بعضهم بعضًا‫.‬‬‬‬‬‬
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿106﴾
والأخ هنا أخ النسب، أي منهم ،كقولك يا أخ العرب؛ أي هو واحد منهم نسبًا وليس دينًا قال لهم‫:‬ ألا تتقون، ألا تخافون الله (عز وجل)، ألا تأخذون حذركم من عقابه، كيف تعبدون غيره؟‬‬‬‬‬
إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌۭ ﴿107﴾ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿108﴾
الأمانة : الصدق الأمانة ضد الخيانة أمين على الوحي‫:‬ أمين على إبلاغكم الرساله، أمين بينكم علمتم أمانتي من قبل البعثة، وكأن الأمانة كافية كدليل لاتباع الرسول ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ اتقوا الله في أنفسكم وأطيعوني فيما جئتكم به‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿109﴾ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿110﴾
ما أسألكم على الإبلاغ على هذه الرسالة، على الدعاء إلى الله، ما أسألكم أي نوع من الأجر مالًا أو جاهًا أو سلطانًا أو شرفًا أو أي نوع من أنواع الأجر ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ هو الذي أرسلني وهو الذي يثيبني ويجازيني، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾كرر وهذا التكرير مرتب على قوله ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ وكأن نوحا يقول أنا لكم رسول أمين وذاك دليل واضح كاف لتصديقي واتباعي، ثم إني لا أسالكم عليه أجر وذاك دليل آجر يكفي لاتباعي فقد برئت من الهوى، وبرئت من الغرض، وبرئت من طلب الأجر كل دليل يكفي لاتباعي فكيف إذا اجتمع الأمانة وعدم طلب الأجر؟ لذا كرر قوله ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾‬‬‬
قَالُوٓا۟ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلْأَرْذَلُونَ ﴿111﴾
الأمر الغريب في حكاية القرآن عن الأقوام المكذبين أنهم دائما وأبدا ً نظروا إلى ظواهر الأمور ولم يتأملوا في بواطنها، ولم يعطوا فرصة لأسماعهم أن تنصت وتسمع ،ولم يعطوا فرصة لعقولهم أن تتأمل وتتدبر؛ رجل يدّعي، رجل يقول العقل السليم والمنطق السليم يقول اسمع وفكّر وتأمّل في الكلام أحق هو أم باطل أما أن تنظر لملابسه ماذا يلبس أو تنظر لعمره أو تنظر لهيئته أو مهنته أو صنتعته أو تنظر لمن أحاط به سفاهة قلة عقل ،هاهم لا يتفكرون في كلامه، لا يتاملون في دعوته، وإنما عابوه بأتباعه، وجعلوا فقر أتباعه مانعا لهم عن اتباعه أي لو اتبعه الأغنياء لاتبعوه أما وقد تبعه الفقراء فهو ليس حقيقًا بالاتباع، ﴿وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ الواو للحال والتقدير (وقد اتبعه الأرذلون) الأرذلون جمع سالم أو جمع صحة لكلمة الأرذل وتجمع تكسيرًا على الأراذل والأرذل‫:‬ هو الفقير، قليل الجاه، ذو الصنعة البسيطه وقرأت ﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَأتباعُك الْأَرْذَلُونَ ﴾ قراءة أخرى ﴿أتباعُك﴾ جمع تابع كصاحب وأصحاب أو شاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿112﴾ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّى ۖ لَوْ تَشْعُرُونَ ﴿113﴾ وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿114﴾ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌۭ مُّبِينٌۭ ﴿115﴾
‫﴿ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وكأن الكلام يشير إلى أمرين الأمر الأول أن الأتباع فقراء، ذوي صناعات حقيرة، لاجاه لهم ولا مال، وذاك مانعًا لهم من اتباعه، الأمر الثاني‫:‬ أن هؤلاء الذين من غير فِكر ولا رَوِية ولا عقل، تبعوه من أجل المال فهم فقراء فلعله يعطيهم، ولعله يغنيهم وكأن سبب اتباع هؤلاء الفقراء‫:‬ هو طلب الغنى والطمع في الدنيا من هنا يقول نوح كما يحكي عنه القرآن ﴿ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ هل آمنوا بي إخلاصًا وتصديقًا أم آمنوا بي رغبةً في الدنيا وهل أملك شيئا حتى أعطيهم؟ ما علمي بصناعتهم؟ ما علمى بجاههم أو فقرهم؟‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴾ هو الذي يطلع على الخفايا، هو المطلع على النيات، هو يعلم ما خفى في الصدور، هو يعلم إخلاصهم من عدمه، أما أنا فما عليّ إلا الإنذار ﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴾ لو هنا محذوفة الجواب تقديره لو تشعرون أي لو تعلمون لما قلتم هذا، لو تعلمون لعلمتم أن الله (عز وجل) هو المحاسب وهو المطلَّع على النيّات وما تخفي الصدور، ﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾إذا ً فقد طلبوا منه أن يطرد أتباعه، الكلام يُشعر بذلك كما طلبت قريش من النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يطرد من حوله من الفقراء كبلال وصهيب و و‫.‬.. وهاهو ينفي عن نفسه هذا ويقول ﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وكيف أطردهم ولا ألقاهم وملك الملوك برحمته يتلقاهم، ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ حصر الرسالة في قوله ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾واضح، بيّن الحجة، ساطع البرهان أنذركم وأحذركم من عذاب الله وعقابه أغنياء كنتم أم فقراء كنتم ،لاشأن لي بذلك وإنما أنانذير للكافة‫.‬ منطق، كلام مقنع، أي عقل يستوعب وانظر إلى ما وصلوا إليه التهديد، الوعيد، الجبروت، التسلّط‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالُوا۟ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَـٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ ﴿116﴾
التهديد والبطش حجة المبطل، والقهر وسيلة المبطل لتكونن من المرجومين بالحجارة هددوه بالقتل بالحجارة، والرجم أيضا الشتم، لئن لم تنتة عن هذه الدعوة وعن ادعائك بأنك رسول، وعن تحريض الناس على ترك آلهتنا لنقتلنك بالحجاره لنفعلن ولنفعلن وهنا لجأ نوح إلى الله (عز وجل).‬‬‬
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ ﴿117﴾ فَٱفْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًۭا وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِىَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿118﴾
وهنا لابد من توضيح أمرين؛ الأمر الأول‫:‬ أن نوح لم يدعو على قومه إلا بعد أن أوحى إليه بذلك ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ ...﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٣٦] فعلم أنه لا أمل في إيمانهم ولا إيمان ذريتهم، لن يؤمن من قومك إلا من آمن إذا فقد انتهى الأمر هنا دعى نوح على قومه الأمر الثاني أن نوح حين دعى لم يدع بسبب تعذيبهم له أو انتقاما منهم لذا قدّم لدعائه بقوله ﴿ ... إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ إذا ً فهو يدعو عليهم بسبب تكذبيهم وليس بسبب إيذائهم له، ولابد أن ننتبه فالأنبياء والرسل مبرأون من الهوى، منزهون عن النزغات والخطرات، هم خالصون لله في حياتهم، وفي مماتهم، وحركاتهم، وسكناتهم ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(١٦٢)لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(١٦٣)﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ١٦٢- ١٦٣] وكل الرسل والأنبياء كذلك‫.‬ من هنا قدم لدعوته فقال ان قومي كذبون فذاك هو السبب لا أمل فيهم، ﴿ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ﴾ فاحكم بيني وبينهم حكمًا، والفتح أصلا الحكم و أصل كلمة الفتح من الفُتاحة أو الفِتاحة بضم الفاء وكسرها وهو إزالة الإغلاق، الفتح معناه أنك تجد شيئا مغلقا فتزيل أغلاقه وأقفاله، كأن الحاكم حين يحكم يزيل الإشكال بين الناس، وكأن الحق قد أغلق عليه فيأتي الحاكم بالعدل فيزيل الأغلاق فيظهر الحق، من هنا يقول‫:‬ ﴿ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ لم يستأثر نفسه بالدعوة وما من رسول إلا واعتبر قومه أبناءه وبناته وما استأثر رسول بل كل رسول يتمنى الخير لأمته‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَنجَيْنَـٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ ﴿119﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ ﴿120﴾
المشحون : المملوء، أوحى الله إليه بأن يبني السفينه لم تكن الناس عرفت ماهي السفن وما الفلك أول سفينه، وأول فلك صنع على الإطلاق على وجه الأرض، ما صنعه نوح كان بالوحي، نزل جبريل يعلمه كيف يصنع الفلك، وصنعها على الأرض، وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه تعجبوا واستهزأوا ماذا تفعل يانوح؟ فيقول أبني بيتا يمشي على الماء ،أي ماء وأنت على الأرض ؟ لو قيل أن الأرض لم تكن فيها بحار، ولا أنهار، ولا محيطات، وكان الزرع بالمطر أو بالآبار وكانت كلها يابسة وتكونت البحار والمحيطات من أثر الطوفان من هنا كان استهزاؤهم ماذا يصنع بيتا يمشي على الماء أي ماء؟! حتى جاءت العلامه والآية وانفجر الماء من داخل الموقد التنور أو من وجه الأرض وهنا ركب السفينة واستمر بها ومن معه ستة أشهر أو سنة يعلم الله حتى استوت على الجودي ،وقد أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة أنبياء‫:‬ أكرم الجودي بنوح، وأكرم الطور بموسى، وأكرم حراء بسيد الخلق سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، ﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ﴾ أي أغرقنا بعد إنجائه من بقى على الأرض، وأغرب ما في الموضوع أن الأرض حين غرقت غرق فيها كل شيء، أخذ معه بعض الدواب، الوحوش، الطيور كما قيل من كل زوجين اثنيين ذكر وأنثى، أما باقي الطيور أين ذهبت؟ باقي الدواب أين ذهبت؟ باقي الوحوش أين ذهبت؟ كلٌ هلك في الطوفان مما يبين ويدل على أن الفتنة إذا أصابت قد تصيب الذي يستحق، والذي لا يستحق ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [سورة الأنفال آية‫:‬ ٢٥].‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿121﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿122﴾
‫﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ حقًا، علامة، دليل، برهان لأي عاقل يسمع، ويعقل ويا أسفاه ﴿... وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ رغم الآيات ورغم العبر ورغم الدلائل، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ العزيز‫:‬ الغالب، القوي، الممتنع، ليس كمثله شي، المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫روى عن أبي أمامه (رحمه الله )كما روى عنه الحافظ بن عساكر قوله‫:‬ ﴿من قال حين يمسي صلى الله على نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة﴾ تأتي بعد ذلك قصة أخرى من قصص المرسلين ألا وهي قصة هود يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬
كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿123﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿124﴾ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌۭ ﴿125﴾ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿126﴾ وَمَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿127﴾
‫﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾: "عاد" اسم للقبيلة ،وقيل كان اسما لجدهم كذبت عاد أي كذبت قبيلة عاد، ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾ ولم يكن لهم رسول سوى هود ولكن كما قلنا من كذب رسولًا فقد كذب جميع الرسل، ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ ﴿أَخُوهُمْ﴾ هود، كان منهم نسبًا ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(١٢٥)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ قصص الأنبياء في السورة كلها قدمت بهذا التقديم ﴿....أَلَا تَتَّقُونَ(١٢٤)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(١٢٥)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(١٢٦)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هذا التقديم في جميع القصص يدل على أمرين الأمر الأول‫:‬ أن وظيفة الرسل تنحصر في الدعوة والدعوة فقط، الأمر الثاني‫:‬ أن ما من رسول أرسل إلا وقال هذه المقولة‫:‬ ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ دليل الإخلاص، والتبري من كل غرض، فالغرض مرض‫.‬ وما من رسول إلا أرسل بلسان قومه وما من رسول إلا وكان أمينا على الوحي مشهورا بالأمانة في قومة كما سمى عرب مكه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصادق الأمين من قبل البعثة ، من هنا ما من رسول إلا ووصف نفسه بالأمانة ووصف نفسه بالنزاهة وأن الدعوة خالصة لوجه الله ومن اقتدى بالرسل في الدعوة، فالعلماء ورثه الأنبياء ،لابد وأن يكون ذاك عنوان دعوته ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ألا تتقون الله تتركون الأصنام، وتعبدون الله كيف تفعلون ذلك؟ إني لكم رسول أمين أمين بينكم مشهور بالأمانة وما أثر عني خيانة، أمين على الوحي والرسالة، فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر أي نوع من أنواع الأجر ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وكلمة رب العالمين تدل على التوحيد، تدل على معنى التوحيد، ومعنى استحقاق الله للعبادة؛ فهو الرب الذي خلق، وهدى، ورزق‫.‬ والتربية إيصال الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا بحسب استعداده، فإذا كان هو الرازق، وهو الخالق، وهو المحي، وهو المميت، وهو الذي وهبك الأعضاء، وعلمك‫.‬ كيف تستخدمه،ا وسخرها لك؛ إذا ً فهو المستحق للعبادة لاشك ثم بدأ ينبه لأخطائهم الشائعه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةًۭ تَعْبَثُونَ ﴿128﴾ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴿129﴾ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴿130﴾ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿131﴾
‫﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾، الريع : المكان المرتفع، الريع‫:‬ الفج بين الجبلين، الريع : الطريق، معاني أتبنون بكل ريع مكان ظاهر، مرتفع من الأرض، واضح ﴿ أَتَبْنُونَ﴾ بناء آية في شكله، أو علامة، أو دليل على غناكم، وقوتكم، وبأسكم، وبطشكم، ﴿تَعْبَثُونَ﴾ إذا ً فالغرض من البناء اللهو واللعب فقط وليس لضرورة فالإنسان يبني بيتًا ليسكن فيه، يبني مصنعًا ليصنع أو لينتج، يبني البناء من أجل هدف وغرض من أجل انتفاع؛ أما هؤلاء فقد كان بناؤهم من أجل اللهو واللعب والعبث، ما فائده ترجى منه، وكلام المفسرين في هذا الشأن قال بعضهم‫:‬ أبراج الحمام يتلهون بالحمام، وقال بعضهم‫:‬ بناء شامخ يقضون فيه ويسخرون من السابله المارين يقذفونهم بالحجارة، يسخرون منهم، وقال بعضهم، وقال بعضهم‫.‬.. بحسب زمانهم ولو عاشوا في زماننا لقالوا أن الآية المقصوده هنا‫:‬ المسارح، دور اللهو، القهاوي، نوادي الليل، الأوبرا، المسارح المختلفة، ودارات اللهو، قد يعلم الله لكن المفسر إذا تكلم تكلم بحسب مايرى في زمانه، ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ وترى المصانع في كلام المفسرين القدامى المصنع‫:‬ البناء الشامخ، المصنع‫:‬ القصر المشيد، المصنع : المنزل، المصنع المِصنعة والصُنعة أماكن يحضرونها يتجمع فيها مياه المطر تسمى مصنعة قالوا هذا عن المصانع ،ولو عاش المفسرون الأوائل في زماننا كيف يفسرون كلمة مصانع خاصة ما جاء وراءها ﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ و"لعلكم" هنا بمعنى كي تخلدون، تتخذون المصانع كي تخلدوا في الدنيا إذًا المصانع سوف تكون سببا لإطالة أعمارهم قال بعضهم‫:‬ لعل هنا استفهام لعلكم تخلدون أي هل تخلدون بسبب هذه المصانع كقولك للرجل لعلك تشتمني أي هل تشتمني؟ ذاك قول المفسرين ولو كانوا في زماننا ورأوا الضجه القائمة حول زرع الأعضاء، ونقل الأعضاء، والاستنساخ، وإلى آخر ما اخترع ،هل كانوا يقولون أن المصانع التي تتخذ كي يخلد الإنسان هي المصانع التي تنتج قطع الغيار للإنسان ،فإن تلف القلب وضعوا له قلبا آخر من الثلاجات كما يطالبون حتى الحيوانات المنويه لها ثلاجات تحفظ بها فى دول الغرب ،فمن أرادت اختارت أبيضًا أم أسمرًا أم أشقرًا؛ فسدت الكلية ذهب إلى المصنع فجاءه بكلية، قطع إصبع زرعوا له غيره، هل يعلم الله تأمل في الآية خاصة أن الله يصف عاد بقوله‫:‬ ﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ [سورة الفجر آية‫:‬ ٨] لم يخلق وفرغ ربنا من الخلق إذًا لم يخلق في الماضي، ولن يخلق في المستقبل لم يخلق‫:‬ نفي كامل لوجود خلق يساوي عاد في القوة، والبطش، والجبروت، والملك الذي كانوا عليه، وقيل فيهم أقوال أغرب من الخيال كان الرجل إذا ضرب الأرض بقدمه حفرت؛ أطوال أربعون مترًا وخمسون مترًا قيل وقيل فيهم‫.‬.. المهم هم اتخذوا مصانع ماهي ؟ يعلم الله، يبنوا بكل ريع آية للعبث واللهو ما هي ؟ يعلم الله، هاهو نبيهم يبن لهم سفاهة أفعالهم وأنهم ما بنوا لنفع وإنما للعبث وما اتخذوا مصانع للإنتاج أو للعمل وإنما اتخذوها أملا ً في الخلد في الدنيا كيف كانت ؟ ما هي ؟ يعلم الله، ﴿وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ البطش : الأخذ بشدة وبعنف، البطش‫:‬ التسلط على المخطيء والمتعمد دون رأفة ودون إبطاء، البطش‫:‬ معناها أنك تبطش لا من أجل العقاب، ولا من أجل أن يرتدع الآخر، وإنما تبطش للانتقام فإن بطشت لاتبقي ولاتذر تُرى أكان عندهم سلاح نووي أو وصلوا للسلاح الذري ﴿وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ يعلم الله، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ كرر الدعوة، والإخلاص، وطلب النجاه لهم بتقوى الله، دعوة الأنبياء، تعريف بالله (عز وجل) نصيحة بطاعته فيما يجلب الثواب، ويصرف العقاب ذاك دعوة الرسل ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ ثم بدأ يبين لهم، ويعلل الأمر بالتقوى، ويرتب الأمر بالتقوى على آمر آخر ألا وهو الإنعام‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَٱتَّقُوا۟ ٱلَّذِىٓ أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ ﴿132﴾ أَمَدَّكُم بِأَنْعَـٰمٍۢ وَبَنِينَ ﴿133﴾ وَجَنَّـٰتٍۢ وَعُيُونٍ ﴿134﴾
رتب على الإنعام؛ ليبين أن من قدر على الإنعام قدر على الانتقام، وأن الطاعة تؤدي إلى استمرار العطاء والإنعام، وأن المعصية تؤدي إلى الحرمان ثم حذرهم واسمع للحكمة ﴿ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ﴾ أعطاكم ولازال يعطيكم وإذا فرغ ما عندكم أعطاكم قبل أن يفرغ ما عندكم أن كنتم تعلمون أصول النعم، ﴿أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ والمنعم الذي أنعم قدر على العطاء يقدر على الحرمان ثم خوفّهم‫.‬‬‬‬‬‬
إِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍۢ ﴿135﴾
بيّن لهم مبرر اتباعه أنه أمين، أنه مخلص، أنه لا يبتغي أجرًا منهم، ولا يبتغي الأجر إلا من الله، أنه صادق، أنه يخاف عليهم، ذكّرهم بالإنعام من الذي أعطاكم البنين؟ من الذي أعطاكم الأنعام؟ من الذي جعل لكم هذه الجنات؟ هذه العيون؟ هذه الزروع؟ هذه الثمار؟ كيف تنسون كل ذلك ؟!كيف تأخذون الحياة لهوًا ولعبًا؟! كيف تعبثون، وتلهون، وتلعبون؟! كيف لا تفكرون في يوم آتٍ لا محالة؟!‬‬‬
‫إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم في الدنيا وعذاب يوم عظيم في الآخرة ، وانظر إلى الرد أيضا، وكأن هؤلاء الأقوام المكذبون يوصي بعضهم بعضًا ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ ...﴾ [سورة الذاريات آية‫:‬ ٥٣].‬‬‬‬‬
قَالُوا۟ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ ٱلْوَٰعِظِينَ ﴿136﴾ إِنْ هَـٰذَآ إِلَّا خُلُقُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿137﴾ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿138﴾
﴿سبحان الله) لم يفكروا في الكلام، لم يفكروا في آية، لم ينظروا حولهم، لم يتأموا أو يتدبروا القول، وإنما استهزأوا به وانظر إلى اللفتة في الآية في تغيير النظم، وتقدير الكلام قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تعظ، تقدير المقابلة شقي النفي لكن النظم جاء على غير ذلك ﴿ قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ﴾ منتهى الاستهزاء به؛ كأن الوعظ لا يجدي سواء كنت واعظًا أم لم تكن أصلًا من الواعظين قالوا سواء علينا أي يستوي الأمر، تكلمت أو لم تتكلم، وعظت أم لم تعظ، ﴿ إِنْ هَذَا ﴾ ماتقوله ﴿إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ عادة الناس الذين في كل زمان ومكان يظهر منهم رجل يحاول أن يدّعي لنفسه أمرًا، أو يتولى سلطانًا، أو ينال شرفًا على قومه ﴿ إِنْ هَذَا ﴾ ما نحن عليه، الكلام عن أنفسهم، ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾آباؤنا وأجدادنا لا رأينا أحدًا منهم عُذب، ولا رأينا عذاب يوم عظيم كما تهددنا، وما فعلنا شيء غريب كانوا كذلك ونحن وراءهم نتبعهم أو ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ عادة الأولين عاشوا وماتوا وجاء غيرهم وعاشوا وماتوا وهكذا نحن نعيش ونموت وما يهلكنا إلا الدهر، ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا خَلْقُ الْأَوَّلِينَ﴾ قراءة أخرى أي اختلاق الأولين فأنت لا تأتي بشيء جديد فقد اختلق هذا الكلام غيرك من قبل فأنت تختلق لهذا الكلام كاذب في هذا الادعاء أيضا كلمة (خلْق) قد تعني‫:‬ دين، وعادة كما فُسرت هذه الكلمة في قوله (عز وجل): ﴿...وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ...﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ١١٩] أي دين الله، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ حسم، قرار، تأكيد، ثقه، من أين أتت ؟ كبر، استعلاء، بعد عن المنطق، سفاهة عقل، من قال لهم ذاك؟ وكيف حسموا بهذا الحسم؟ ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾‬‬‬‬‬‬‬
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ ۗ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿139﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿140﴾
‫﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾ أهلكهم ربنا كما بين لنا في مواضع أخرى من القرآن بالريح، كانوا أقوياء أشداء فسلط عليهم شيئا غريبًا، فسلّط عليهم الهواء فأصبحوا كأعجاز نخل خاوية، تصور حين يسلط الهواء، سبب الحياة، سر الحياة، يأتي منه الضرر، يأتي منه الهلاك سبحان الضار النافع‫.‬ كان الهواء إذا جاء دخل من مسام الجسم وخرج بالأمعاء، والحواشي فأصبح الجسد خاليا، فارغ كما وصف ربنا كأعجاز أصول النخل، خاوية، مقعرة، فارغة كيف حدث ؟ كيف دخل الهواء في أجسادهم وخرج بأحشائهم (سبحان الله) إن في ذلك لآية حقًا- آمنا بآيات الله حقًا- ﴿ ... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ رغم الآيات، ورغم التحذير، ورغم الإنذار، ورغم السلطان الباهر بالحجج والدلائل ﴿...وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم ربنا (تبارك وتعالى) خلق العقل، وكرمه وروى أن الله (تبارك وتعالى) حين خلق العقل قال له‫:‬ أقبل فأقبل، ثم قال له‫:‬ أدبر فأدبر، فقال عز من قائل‫:‬ ما خلقت خلقًا أكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطى ويقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): ﴿عقل المرء محسوب عليه من رزقه﴾ والعقل أمانة، والعقل مكانه القلب، والعقل هو موضع الإيمان، وهو المستشار المؤتمن، هو سيد الجوارح؛ لأن محل العقل القلب، والقلب هو الأساس، هو محل الخطاب، إذا خاطب ربنا لم يخاطب أجسادنا، لم يخاطب وجوهنا وأسماءنا بل خاطب قلوبنا فالقلب الذي موضعه العقل هو محل العقاب والثواب، وهو محل الإيمان، وهو محل الكفر والعصيان، وهذا القلب هو النجاة إذا كان سليمًا ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [سورة الشعراء آية‫:‬ ٨٩] ، هذا القلب يحب أن تراعيه، يجب أن تنتبه إليه، إياك وأن يشغله غير الله، إياك وبأن تملأ قلبك بالغل، أو بالغيظ، أو الحسد، أو الحقد، إياك وأن تملأ قلبك بشهوات الدنيا، بل املأ قلبك بالخوف، بالوجل حتى تكون من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم؛ إن كنت كذلك كنت من الصابرين على ما أصابهم، إن كنت كذلك كنت سليمًا معافًا في الدنيا ناجيًا بفضل الله في الآخرة، ﴿إن فى الجسد مضغة إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب﴾، أيها الأخ المسلم‫:‬ إياك وما يغيب عقلك من مخدرات أو مسكرات، إياك وما يصيبك بالتخلف كالمسلسلات، والأفلام، والبرامج التى تذاع على الناس تصيبهم بالتخلف، ولو جلست مع من اعتاد على هذه الأجهزة وجلس إليها الساعات الطوال دون نقد وإنما يجلس مشدوهًا بما يرى، مأخوذًا بما يسمع، لرأيت كيف هو كان وكيف أصبح ولرأيت التخلف العقلي بأجلى معانيه، وانظر إلى مقدمي البرامج يأتون بالفنانين والممثلين والراقصات يسألونهم ما رأيكم؟ فيقولون ويسمع الشباب فيأخذ القدوة من هؤلاء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتأتي قصة ثمود، قوم كانوا في مكان يسمى بالحجر قريبًا من الشام، طالت أعمارهم فوق أعمار البنيان فاتخذوا من الجبال بيوتًا نحتوها في الجبال قوة، وطول عمر، وسهول مليئة بالجنات والزروع، والثمار، والعيون، وجاءهم صالح رحمةً يدعوهم إلى الله تعنتوا كديْدن الكفار في كل مكان وزمان وسألوه معجزة، وتعنتوا في طلب المعجزة وأشاروا إلى صخرة صماء وقالوا أخرج منها ناقة حمراء عشراء، حامل في شهرها العاشر، تلد أمامنا ونحن ننظر وترد الماء وتشرب وتعطينا من لبنها، وجلس يتفكر في هذا المحال فنزل إليه جبريل وأمره بصلاة ركعتين والتوجه إلى الله، فصلى وتوجه إلى الله، وانفلقت الصخره وخرجت ناقة حمراء عشراء وضعت أمامهم وليدها، ووردت الماء، وكانت تشرب في أول النهار، وتحلب لهم لبنها آخر النهار، يحكي ربنا عن هؤلاء القوم تسريةً وتسليةً لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) فيقول‫:‬‬‬‬‬‬
كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿141﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَـٰلِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿142﴾ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌۭ ﴿143﴾ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿144﴾ وَمَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿145﴾
‫﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ ومن كذب رسولًا فقد كذب الرسل جميعًا، ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ سؤال ينكر عليهم ماهم فيه من عبادة الأصنام، والغفلة عن رب الأنام ، ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ أمين على الوحي، ومعلوم لديكم، مشهور بينكم بالأمانه، ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ آخذ بأيديكم إلى طريق السلامة، خافوا الله، خافوا عقابه، خافوا عذابه، ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ كلمة الرسل، علامة الصدق، دليل الإخلاص‫.‬‬‬‬‬‬
أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَـٰهُنَآ ءَامِنِينَ ﴿146﴾ فِى جَنَّـٰتٍۢ وَعُيُونٍۢ ﴿147﴾ وَزُرُوعٍۢ وَنَخْلٍۢ طَلْعُهَا هَضِيمٌۭ ﴿148﴾ وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًۭا فَـٰرِهِينَ ﴿149﴾
‫﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ﴾ سؤال توبيخ، سؤال إنكار، سؤال تقريع أتعتقدون وتظنون أن الحياة دائمة؟ وأن النعيم لا يزول؟ وأنتم سوف تتركون في هذا المكان آمنين من العذاب؟ آمنين من الموت والحساب؟ آمنين من العقاب؟ أو سؤاله للتذكير بالنعمة، يذكّرهم بنعمة الله عليهم ثم يفسر ذاك بقوله ﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(١٤٧)وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ(١٤٨)وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ(١٤٩)﴾ في جنات‫:‬ جمع جنة، الجنة، البساتين، الحديقة، حديقة كثيرة الفواكه كثيرة الأشجار، الأشجار فيها ملتفه أغصانها حتى أنها تستر ما تحتها من الجن، والستر إشارة إلى كثرة الأغصان والثمار حتى أنها تشابكت فغطت ما تحتها، ﴿ وَعُيُونٍ﴾: آبار ومياه عذبة تروى وتسقى، ﴿ وَزُرُوعٍ ﴾ زروع مختلفة الأنواع، والطعوم، والألوان، ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ الطلع‫:‬ اسم من الطلوع أي الظهور ويطلق على أول ما يخرج من النخل، ﴿ هَضِيمٌ﴾: نضيج، يانع، طيب، ﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾ النحت‫:‬ البرْز، والنجر ونحت الجبال أمر صعب، وفي عصرنا هذا لا نتمكن من ذاك إلا بالمتفجرات، أما هم فلم يكتفوا بنحتها بل بنوا داخلها قصورًا مشيدة ومعابد كيف فعلوا ذلك ؟ قوة وتمكن، ﴿فَارِهِينَ ﴾ حاذقين، متمكنين، فَرُهَ يَفْرُه فراهة ً فهو فَارِه أي حاذق، فني، عالم بما يعمل، متقن لما يعمل، وقُرئت ﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَرِهِينَ ﴾ بغير ألف فرِهَ يفْرَه فرَاهَة ً على وزن فرح يفرح فَرِهَ يَفْرَه فَرَاهَة : أي شر، وبطر فهو فَرِه الفَارِه : الحاذق الفَرِه : الأشر، البطر وتنحتون من الجبال بيوتا فرهين أشريين بطرين لا تعلمون نعمة الله عليكم ولا تشكرونها تعتقدون أنكم وأنكم‫.‬..‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿150﴾ وَلَا تُطِيعُوٓا۟ أَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴿151﴾ ٱلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴿152﴾
‫﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ كرر للتأكيد بعد أن ذكّرهم بنعمة الله عليهم، وبعد أن أشعرهم بأن الإيمان يديم النعمة، وأن العصيان يذهب بالنعمة فكأنه وعيد، وفي نفس الوقت إيعاز وتنبيه، ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ المسرفين‫:‬ قيل هم التسعة، تسعة رهط الأشرار من قومهم الذين كانوا يتملكونهم بالرأي، والمشورة، والإيعاز، والتحريض، قيل المفسدون فهم كثير، ﴿ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ وضح إسرافهم ثم عطف ﴿ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ كأنهم مفسدون فقط في كل شيء ولايصدر منهم إصلاح نهائيًا، يفسدون في الأرض لو سكت قد يفسد وقد يصلح يفسد شيئًا ويصلح شيئًا أما هؤلاء يفسدون في الأرض ولايصلحون للتنبيه على خلوص فسادهم وإفسادهم ماذا كان الرد على هذا المنطق السليم؟‬‬‬‬‬
قَالُوٓا۟ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ ﴿153﴾ مَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٌۭ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِـَٔايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ ﴿154﴾
الْمُسَحَّرِينَ﴾: الذين أصابهم السِحر فاختلطت عقولهم، والمسحّر مبالغة للمسحور، أي المسحور أشد السحر وقيل المسحريين ليس من السحر بل من السَحْر والسَحْر الرئة، من المسحرين أي لك رئة تتنفس وتأكل وتشرب فما فضلك علينا فأنت بشر مثلنا، ﴿ مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ تأكيد أن "مسَحرين" من السَحْر أو إن كان من المسحورين ما أنت إلا بشر مثلنا ﴿ فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾من الصادقين في دعواك أنك رسول، والآية التي طلبوها هي الناقة‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ هَـٰذِهِۦ نَاقَةٌۭ لَّهَا شِرْبٌۭ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍۢ مَّعْلُومٍۢ ﴿155﴾ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٍۢ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍۢ ﴿156﴾ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا۟ نَـٰدِمِينَ ﴿157﴾
‫﴿ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ﴾: إذا ً فالكلام فيه اختصار بالحذف سألوه، فاتجه إلى الله طلبوا آية معينة، فجاء بها الله الذي لايعجزة شيء ﴿ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ شِرْب : نصيب وحظ من الماء وقد تقرأ شُرب في بعض القراءات بنفس المعنى، أي هي تشرب في يوم لاتنازعوها في يومها فكانت تشرب كل الماء في أول النهار ثم تحلب آخر النهار فيشرب جميعهم من لبنها تكفيهم جميعًا ولهم يوم آخر يشربون فيه لا تشاركهم في شربهم، ﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ﴾ [سورة القمر آية‫:‬ ٢٨] ، ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ لا تتعرضوا لها في يوم شربها لا تتعرضوا لها بعقرٍ، أو إيذاءٍ، أو تنفيرٍ، لا تمسوها بسوء وإن حدث جاءكم عذاب يوم عظيم، وعظَّم اليوم لهول ما يحدث فيه وهو أبلغ من تعظيم العذاب؛ لم يقل عذاب عظيم بل عذاب يوم عظيم، اليوم نفسه عُظِّم لخطورة ما يحدث فيه، ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ جمع أسند العقر إليهم جمعيا والعاقر واحد ﴿ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ﴾ [سورة الشمس آية‫:‬ ١٢] لكنه أسند العقر إلى الجميع لأنه عقرها برضاهم، وعليه فمن رضى بالفسق ولو لم يعمل كان كمن فسق، الرضا عن المعصية عصيان، من هنا أسند العقر إلى جميعهم والعاقر واحد ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾ ندم حيث لاينفع الندم حين رأوا أمارات العذاب، ليس ندم توبة، وقيل بل الندم أي الخوف من حلول العذاب الذي هددهم به صالح وبدلًا من أن يتوبوا إلى الله سعوا إلى صالح بحثًا عنه ليقتلوه فأصبحوا نادمين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ ۗ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿158﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿159﴾
أخذهم العذاب الذي هددهم به صالح، أخذتهم الصيحة، أخذتهم الرجفة، عذاب مهما قيل فيه لايمكن وصفه ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ختام كل قصة في هذه القصه آية وعبرة لمن يعتبر، لمن يتفكر، لمن يتدبر ما كان أكثر هؤلاء القوم مؤمنين ولذا استحقوا ما حل بهم من عذاب، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ العزيز : الغالب، المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه وتنتقل الآيات لقصة لوط مع قومه‫:‬‬‬‬‬‬
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿160﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿161﴾ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌۭ ﴿162﴾ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿163﴾ وَمَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿164﴾
‫﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ أيضًا قال المرسلين، والرسول واحد لأن من كذب رسولًا فكأنما كذب الرسل جميعًا، ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ أخوهم في النسب، منهم، ما من رسول إلا وبعث بلسان قومه، وبعث منهم، يعلمون صدقه، يعلمون أمانته، يعرفون نسبه، حتى يكون حجة عليهم، ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ(١٦١)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(١٦٢)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(١٦٣)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(١٦٤)﴾ نفس كلام الرسل السابقين فدعوة الرسل واحدة، وكلامهم واحد، وخلقهم واحد، وشرعهم واحد، واتجاههم واحد ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ آية الصدق وعلامة الأمانة والنزاهة‫.‬‬‬‬‬‬
أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿165﴾ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴿166﴾
‫﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ ما من أمة ارتكبت مثل هذه الفاحشة، فأول من ارتكبها قوم لوط، وهو إتيان الذكور بدلًا من الإناث، ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ أي لم يفعل ذاك من العالمين أحد من قبلكم فكيف تفعلون مالم يفعله أحد من قبلكم؟ أو من العالمين أي من بني آدم تتركون الإناث مع كثرتهم وتأتون الذكور أو أتأتون الفاحشه ماسبقكم بها من أحد من العالمين، أنتم أول من ارتكبها واختصصتم بها وما فعلها أحد سواكم أتأتون الذكران، ﴿ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾تذرون : تتركون، ذَرْ : اترك، ﴿ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم﴾ من هنا للبيان بيان المقصود بالخلق ماهو ؟ الذي خلقه الإناث إن أريد جنس الإناث، أو "من" للتبعيض إذا أريد العضو المباح من المرأه للإتيان، كيف تفعلون ذلك؟ فإن كان ذاك المعنى هو المقصود كان تعريضًا بأنهم كانوا يفعلون ذلك مع الإناث، يأتونهن من أدبارهن ؛إذ تركوا العضو المباح وابتغوا غيره ،وكأنهم كانوا يفعلون ذلك مع الذكور أيضا مع الإناث في غير المحل، وفي غير الموضع، إن كانت من للتبعيض، أما إن كانت من للبيان فالمقصود يأتون الذكور فقط ولا يأتون الإناث‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿... بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ "بل" للإضراب، بمعنى‫:‬ كلمة الإضراب التي تأتي في اللغة على لسان علماء اللغه والنحويين معناها أنك تتكلم في موضع ثم تنتقل منه إلى موضوع آخر قد يكون أهم، أو أشد، أو أخطر، أو تريد التأكيد عليه ، لامهم، ووبخهم، وقرّعهم على ما فعلوا ثم أعرض عن هذا التوبيخ إلى توبيخ أشد فقال‫:‬ ﴿ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ أي تجاوزتم الحدود، وتعديتم كل حد، وفعلتم مالا يتفق مع منطق سليم، فعلتم ما يتورع الحيوان أن يأتيه، خرجتم عن حدود الإنسانية ماذا كان الرد على هذا المنطق، الطهارة، النظافة؟‬‬‬‬‬‬‬
قَالُوا۟ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَـٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُخْرَجِينَ ﴿167﴾
‫﴿الْمُخْرَجِينَ﴾: المنفيين، يخرج منفردًا بلا مال بلا أهل يؤذى، يضرب، ينفى في الصحراء لئن لم تنته عن ذاك النهي، والكلام، والدعوة لتكونن من المخرجين تهديد، ووعيد والأنبياء لا تهدد فهم محفوظون بحفظ الله لهم‫.‬‬‬‬‬‬
قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُم مِّنَ ٱلْقَالِينَ ﴿168﴾ رَبِّ نَجِّنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴿169﴾
‫﴿الْقَالِينَ﴾: المبغضين أشد البغض، قلَى يَقْلِى قِلىً قلاَءا ،ً أبغض أشد البغض، وكأن البغض يشوى الكبد والفؤاد ﴿ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ ﴾ أي مهما هددتم ومهما توعدتم سأظل أدعو، وأنبه، ولا أخشاكم، ولا أخاف ذاك التهديد‫.‬ ﴿رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ توجه إلى الله (تبارك وتعالى) وعلم أن العذاب آت لا محالة وأوحى إليه بذلك فسأل النجاة ﴿ مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أي من شؤم ما يعملون، مما يحيق بهم نتيجة أعمالهم، أي نجني من العذاب الذي توعدتم به واستحقوه، فجاء بكلمة يعملون والمقصود جزاء ما يعملون، نجني من جزاء ما يعملون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
فَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُۥٓ أَجْمَعِينَ ﴿170﴾ إِلَّا عَجُوزًۭا فِى ٱلْغَـٰبِرِينَ ﴿171﴾ ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلْـَٔاخَرِينَ ﴿172﴾ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًۭا ۖ فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ ﴿173﴾
‫﴿ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ﴾ أهله، من هم ؟ بنتان فقط هو وابنتاه الناجون، ﴿إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ﴾ امرأته عجوز كانت ترضى بفعل قومها وهي التي أبلغتهم عن الأضياف الملائكة وشرح ذلك في مواضع سابقة في سورة الأعراف وفي سورة الحجر وما إلى ذلك، ﴿الْغَابِرِينَ﴾: الباقين، أي الباقين فى العذاب‫.‬ ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ﴾ الكفار المرتكبون لهذه الفاحشة الشنعاء، دمرهم ربنا (تبارك وتعالى) وكلنا يعلم أن جبريل نزل وأخذ القرى وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، وعواء الكلاب ثم قلبها ﴿ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ﴾ [سورة النجم آية‫:‬ ٥٣] وبعد أن قلبت رأسا على عقب أمطر عليهم ربنا (تبارك وتعالى) حجارة العذاب، وقيل بل أُفكت القرية والحجارة كانت على الشاردين أو الخارجين أو المسافرين منهم، ﴿ فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾ ساء مطر هؤلاء، مطرهم، مطر سئ، وحين يطلق على هذا المطر كلمة السوء، وساء، وسيء فلا يعرف مدى وفظاعته إلا الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿174﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿175﴾
آية‫:‬ دلالة، عبرة‫.‬ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(١٧٤)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ فقد كانت فاحشة قوم لوط أول فاحشة من نوعها ترتكب في الأرض، يتورع عنها الحيوان، لذا كان عقابهم عقابًا شديدًا لم يحدث مع قرية أخرى؛ إذ حُملت القرى ثم أُفكت ثم أمطر الله عليهم مطر العذاب، ثم تأتي بعد ذلك آخر قصة من القصص السبع التي ساقها الله (تبارك وتعالى) تسرية وتسلية لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم).‬‬‬‬‬‬‬
كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ لْـَٔيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿176﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿177﴾ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌۭ ﴿178﴾ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿179﴾ وَمَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿180﴾
‫﴿الْأَيْكَةِ﴾: الغيضه، الأيكة : الشجر الكثيف، الملتف يسمى الأيكة، ﴿الْأَيْكَةِ﴾ ﴿لَيْكَةِ﴾ قراءتان وبنفس المعنى؛ حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الألف فأصبحت ليكة، وقُرئت أصحاب ليكةَ بالفتح وهو اسم للبلد؛ لذا هي بالفتح منعًا من الصرف، ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ ولم يقل هنا أخوهم خلافًا لباقي القصص مما لفت نظر العلماء خاصة أنها جاءت في الأماكن أخرى ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ...﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٨٥] فقيل إن شعيبًا هو الرسول، أو النبي الوحيد الذي أرسل إلى أمتين‫:‬ أرسل إلى مدين وهو منهم فقال أخوهم شعيب، وأرسل إلى أصحاب الأيكة وهي قريبة من مدين وهو ليس منهم؛ من هنا لم يقل أخوهم؛ هناك ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ ، وهنا أصحاب الأيكة ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾ هما أمتان أهلكت مدين بالصيحة، وأهلك أصحاب الأيكة بالظلة؛ هناك قال أخوهم وهنا لم يقل أخوهم لأنه ليس منهم ذاك رأي وهو الأرجح، والبعض قال هي هي؛ مدين هم أصحاب الأيكة‫.‬ ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(١٧٨)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(١٧٩)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ نفس الكلام، بنفس المعنى، بنفس الهدف، بنفس المقصود‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَوْفُوا۟ ٱلْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا۟ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ ﴿181﴾ وَزِنُوا۟ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ﴿182﴾ وَلَا تَبْخَسُوا۟ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿183﴾ وَٱتَّقُوا۟ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿184﴾
‫﴿الْمُخْسِرِينَ﴾: الناقصين للكيل، كانوا ينقصون المكيال، وينقصون الميزان، يغشون في البيع، بيعهم غش، ونصب، واحتيال، بالإضافة إلى الإغارة، وقطع الطريق، والقتل بلا سبب، والفجور المتمادي فيه، ﴿الْمُخْسِرِينَ﴾ خسر أو أخسر بمعنى واحد، ﴿ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ القسطاس‫:‬ العدل، الحق المستقيم الواضح لاشبهه فيه، ولا خلاف؛ إذ قد يزن وزنًا صحيحًا ولكنه يضع ماليس بصحيح؛ فأنت تشتري تمرًا فيضعه في كيس فيزن لك الكيس، العبوات إذا وضعت على الميزان فهو خُسران للميزان ،ما لم يعمل حسابها بأن توضع أولًا ويرى وزنها ثم توضع المشتريات عليها ، وإذا لم يحدث ذلك فهو نوع من أنواع عدم الوزن بالقسط، ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾ في كل شيء إذا ًكانوا غشاشين لا يزنون بالعدل، ولا يوفون الكيل، ويبخسون الناس أشياءهم ؛كمن باع لك قماشًا على أنه قطنًا وهو من المصنوعات الصناعية مثلًا، أو باع لك حذاء على أنه من الجلد وهو مثلًا من الورق، أو أو إلى آخره‫.‬ ذاك غش، بخس الناس أشياءهم، عدم إيفاء الحقوق، أن يشتري منك سلعة بأقل من ثمنها بخسك، أن يبيع لك سلعة أقل من جودتها المطلوبة بخسك، ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ العثو‫:‬ أشد الفساد، عثى، يعثو، عثيًا وعثوًا، لا تعثوا في الأرض مفسدين بالقتل، والإغارة، وقطع الطريق، والاعتداء على الأمنين‫.‬ ﴿ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ﴾ الجِبِلَّة الجِبِلَّة الجُبُلَّة والجِبْلَة الجُبّلة بتشيكل مختلف للكلمة في اللغة، ولكن في القراءة قراءة واحدة الجبلَّة‫:‬ الخلق الأول، الجبلَّه‫:‬ الأمه من الناس، الجِبلَّه‫:‬ الجماعه الكثيره من الناس ومنه قوله (عز وجل): ﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ...﴾ [سورة يس آية‫:‬ ٦٢] ﴿ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ﴾ يذكرهم بالخلق الأول طالما ذهب الخلق الأول وحللتم مكانهم أين ذهبوا؟ سكنتم في مساكن من كانوا قبلكم أين ذهبوا؟ لابد أن لهم حساب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالُوٓا۟ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ ﴿185﴾ وَمَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٌۭ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ ﴿186﴾ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًۭا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ ﴿187﴾
‫﴿ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ نفس الرد إتهموه بأنه مسحور، وخُلِّطَ عليه، واختلط عقله، ما من أمة كذبت نبيها إلا واتهمته بأنه إما ساحر أو مسحور هنا أضافوا وصفًا، وجيء بالواو ﴿ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(١٨٥)وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ أما في شأن ثمود قيل ﴿مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ هنا جيء بالواو للدلاله على أنهم وصفوه بوصفين يتنافيان مع الرسالة مسحور وبشر، إذا ً فهما وصفان يتنافيان مع أن يكون رسولا، ﴿وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ واتهموه أيضا بالكذب، ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ طلبوا العذاب سبحانك يارب طلبوا نوعًا معينًا من العذاب ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ كسَفا ً وكِسْفا ً بمعنى واحد‫:‬ قطع كِسَفا جمع كِسْفَةَ وكِسْفا ً أيضا كِسْفَة كِسدْر وسِدْرة، أسقط العذاب الذي تهددنا به إن كنت من الصادقين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ رَبِّىٓ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿188﴾ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿189﴾ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿190﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴿191﴾
‫﴿ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ليس عليّ إلا البلاغ، هو يرى أعمالكم هو الذي يقرر العقوبة، هو الذي يأتي بها كيف شاء، وقتما شاء، أما أن يسقط كسفًا أو لا، فليس الأمر إلي ّ، إنما عليّ البلاغ، هم كذبوا وحددوا نوع العقاب، يرد عليهم شعيب أن تحديد العذاب ليس إليّ، بل يحدد ربنا نوع العذاب الذي يستحقونه،متى يجئ، كيف يجيء ، هذا شأن الله ؛لذا قال ﴿ ... رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ عظّم اليوم أيضًا، ما هي الظُلة ؟ الظُلة‫:‬ السحابة التي تظلل الناس، وتمنع ضوء الشمس وحرارتها، قيل سلط الله (تبارك وتعالى) عليهم الحر سبعة أيام، حر من حر جهنم، لم تسعهم البيوت، حر لم يحدث مطلقًا، وفجأة أرسل سحابًا كثيفًا ذا ريحٍ طيب و بروده فخرجوا جميعًا من البيوت، واجتمعوا تحت هذا السحاب يستظلون به، يتنسمون من ريحه وروحه، وحين اجتمعوا جميعًا تحت الظلة، قلبها الله عليهم فنفحتهم نارًا، وأمطرت عليهم نارًا فأحرقتهم جميعًا فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ﴿... إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(١٨٩)إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(١٩٠)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ ، ﴿ وختمت القصص السبع، ولنا ملاحظات، أو تأملات لو نظرنا في أول سورة لوجدنا الله (تبارك وتعالى) ينهي نبيه (صلى الله عليه وسلم) عن الحزن الشديد على قومه فيقول له‫:‬ ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾أي من شدة حزنك عليهم، وحرصك على إيمانهم، تكاد تهلك نفسك فتموت كمدًا وحزنًا ألا يكونوا مؤمنين، ولو كان الأمر كذلك لأنزلنا عليهم من السماء آية، معجزة، تحملهم على أن يؤمنون اضطرارًا ، لكن حكمة الله (تبارك وتعالى) لم تقتض ذلك بل اقتضت حكمته أن يكون الإيمان اختيارًا ،ثم قص عليه قصص الرسل يصرفه عن الحرص على إيمان قومه، يسليه، يسرّي عنه، يذهب عنه الآلام والحزن والأحزان، ويبين له أن الكفار في كل مكان وزمان، وأنه ليس بدعًا من الرسل، وأن الرسل من قبله كُذبوا وأوذوا وصبروا حتى أتاهم نصر الله‫.‬ يلاحظ أيضًا أن جميع القصص بدأت ببداية واحدة متكررة ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ ، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ ، ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، نفس البداية متكررة لبيان أن الرسل جميعًا يأتيهم الوحي من مشكاةٍ واحدةٍ ، وأن الرسل جميعًا يدعون بدعوة واحدة، وأن من كذّب رسولًا مهما آمن بجميع الرسل فقد كفر؛ فمن آمن بمحمد وكفر بمن قبله من الرسل كفر مهما آمن بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، إن كفر بموسى فقد كفر، وإن كفر بعيسى فقد كفر، وإن كفر بأيوب فقد كفر، ومن آمن بجميع الرسل وكفر بمحمد (صلى الله عليه وسلم) فقد كفر، من كذّب رسولًا واحدًا فكأنما كذّب جميع الرسل؛ إذ أن دعوتهم واحدة، وشريعتهم واحدة ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ...﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ٥٢] ، والاختلاف فى الفروع؛ فى كيفية العبادات وما إلى ذلك‫.‬ الأمر الثالث‫:‬ أن علامة الصدق لكل داع علامتان‫:‬ الأمانة، والنزاهة عن طلب الدنيا؛ إني لكم رسول أمين، ما أسئلكم عليه من أجر تلك هي العلامه لكل عاقل، لكل متدبر، ومتأمل فمن أخذ منك أجرًا فكن حريصًا وتأمل في كلامه، واعمل عقلك فيه، لأنه أخذ أجرًا خرج عن سنة الرسل فالذاهبون إلى الدجالين الذين يفكون السحر، والذين يأتون بالزوج للفتاة التي تأخر زواجها والذين والذين‫.‬.. فإياكم ومن بسطوا أيديهم واليد العليا خير من اليد السفلى، الأمانة وابتغاء الأجر من الله ، وتأمل جاءك رجل وسألك‫:‬ لي ابن فعل كذا وأراد كذا، وأنت ذو خبرة، واستنصحك دلني بالله عليك ماذا أفعل معه؟ إذا بك تقول عندي الحل ولكن بشرط أن تعطيني عشرة جنيهات، وأنا أنصحك وأقول لك، ما رأيكم في هذا ؟ فكيف بمن يأمرك بالوضوء والصلاة؟ كيف بمن ينصحك بتقوى الله؟ أيطلب منك أجرًا على ذلك؟ هل يصح أن يأخذ أجرا ً على تعليمك الصلاة أو الوضوء أو قراءة القرآن أو تفسير القرآن أو تعليمك الصيام وأحكام الصيام؟ هاهي سنة الرسل، ما ورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الملاحظة الأخرى‫:‬ إن في ذلك لآية تكررت، إذا ً آيات الله عديدة، والعبر كثيرة، والدلائل واضحة، تكررت الآية بعد القصص السبع ليكون هذا الكلام والتكرار أشد تنبيهًا لأولي العقول والأبصار، ولكي يتنبه الكل، ويفهم، ويحدث الاعتبار، الأمر الملاحظ أيضا‫:‬ وما كان أكثرهم مؤمنين؛ كلمة أكثرهم تلفت النظر لم يقل وما كانوا مؤمنين، قال وما كان أكثرهم، ترى لو كان أكثرهم مؤمنين أكان يحدث ما حدث ، إذا ً حين نزل العذاب ونزل الهلاك، نزل لأن الكثرة كافرة والقلة مؤمنة، ولكن لو تساوى المؤمنون مع الكفار؛ فكان شطر الأمة كافر، وشطر الأمة مؤمن ما نزل العذاب والهلاك، وإنما نزل العذاب والهلاك لأن الغالبية كانت على الكفر، وكأن الله يفسر ويبين وينبه للاعتبار، ويخطر حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن تركه لقريش وعدم إنزال العذاب ببركة من آمن منهم، آمن به الفقراء والعبيد والإماء هؤلاء بركة إيمانهم منعت العذاب عن قريش، وأن الأمة إذا كثر فيها الخبث وغلب استحقت الهلاك والدمار‫.‬ وما كان أكثرهم مؤمنين يبين لك لطف الله، يبين لك رحمة الله (عز وجل) أن الغالب كفر فاستحقوا العذاب، ها نحن الآن، هاهو الفساد قادم من كل مكان، هاهو القتل الذي نبأنا به النبي الهرج والهرج، القتل الكثير، القتل بلا سبب، المخدرات، العنف، انعدام الحياء، الفساد جاء على عجل وهو قادم من جميع الاتجاهات ولا نجاة إلابطريق واحد؛ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ إياكم أن تسكتوا عن هذا؛ ﴿لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذابٍ من عنده﴾، وقال تعالى‫:‬﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٦٥] ، النجاة هى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما إذا امتنعت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هلكت مع من هلك وأُخذت بما أخذوا به مهما امتنعت عن فعله لأنك كنت ساكتا وراضيا، هاهو رب العزة ينسب العقر إلى قوم صالح جميعًا فيقول‫:‬ ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾؛ لأنه لم يجد من ينهي عن العقر، لم يجد من يمنعه ويضرب على يديه، لذا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ﴿ انصر أخاك ظالماً أو مظلومًا، قالوا يا رسول الله ننصره وهو مظلوم فكيف ننصره وهو ظالم، قال أن تضرب على يديه﴾ أي تمنعه عن ظلمه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ما قص علينا من قصص السابقين من سورة الشعراء حق وصدق، لا يتأتى للنبي (صلى الله عليه وسلم) أن يعلمه بغير وحي، من أين علم أخبار هؤلاء الأقوام؟ وكيف علم أخبار رسلهم وما حاق بمكذبيهم؟ من هنا تختتم سورة الشعراء بآيات تدلل على أن هذا القرآن من عند الله (عز وجل)، وأنه حق وصدق، وتؤكد على صدق النبي، وتؤكد أيضا على النتائج التي تحدث نتيجه إرسال الرسل فهناك من يؤمن وهناك من يكفر، وترد على مزاعم كفار مكه حيث زعموا تارة أن له قرينا من الجن يلقيه ويلقّنه، وزعموا تارة أنه شاعر، فقدحوا في المعنى، وقدحوا في اللفظ، قدح في المعنى بأن الذي تنزلت به الشياطين، وقدحوا في اللفظ بأنه كلام من قبيل الشعر فجاءت الردود المفحمة، وسبحان الله ما أحلمه وما أكرمه يقول عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬
وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿192﴾ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلْأَمِينُ ﴿193﴾ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ ﴿194﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّۢ مُّبِينٍۢ ﴿195﴾ وَإِنَّهُۥ لَفِى زُبُرِ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿196﴾
‫﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أكد الخبر بتأكيدين "إن" و "اللام" ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إذا ً فالقرآن حق وصدق وإلا من أين علم الأمي الذي لايقرأ ولا يكتب هذه الأخبار الحقيقية، الواقعة، الصادقة، التي لم يجرؤ مخلوق على أن يكذبه فيها من مشركي مكة أو من أهل الكتاب؟ لم يجرؤ أحد أن يخالف ما أتى به النبي من أخبار الأولين، من هنا يأتي التأكيد ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ﴾ والإشارة للقرآن، الضمير للقرآن ﴿وَإِنَّهُ ﴾، ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ تأكيد آخر أن الذي نزل بالقرآن هو جبريل الروح الأمين على الوحي الذي يبلغ ما أبلغ إليه نصًا، ولفظًا، وحرفًا ﴿ نَزَّلَ بِهِ الرُّوحَ الْأَمِينُ ﴾ قراءة أخرى بالنصب، أي نزَّل اللهُ الروحَ الأمينَ، ﴿عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ ، ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾: إذا ً فذاك تأكيد لأنه لا يقرأ ولا يكتب، وأن القرآن حين نزل نزل على القلب، إذا ً فقد حفظه، أنّى له أن يحفظ ذاك كله، أنّى له؟ وهو لا يقرأ ولا يكتب أن يحفظ هذا الكلام، ولا يختلف ولا يختلط عليه أحوال عمر الرسالة، ثلاث عشرين سنة يقرأ القرآن هو هو منذ نزل إلى أن انتقل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الرفيق الأعلى؛ لأنه نزل على قلبك نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين وتلك خاصية الأنبياء والرسل، وتلك وظيفتهم الانذار والتخويف لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾ بلسانهم، بلغتهم، وليس بلغتهم فقط بل بلغتهم الفصحى، الفصيحة، المعجزة، الواضحة، لكي يكون إعجازًا إلى جوار إعجاز، فالإخبار بأنباء الأولين معجزة، وحفظه لهذا القرآن معجزة، وكلام القرآن ولفظه بفصاحته وبيانه ووضوحه وعظيم برهانه وسلطانه معجزة، بلسان عربي مبين واضح يفهمونه ويعلمونه وهم أهل الفصاحة، ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ الإشارة للقرآن والإشارة لسيد الأنام (عليه الصلاة والسلام) ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ الزُبُر جمع زبور، كرُسُل جمع رسول، أي الكتب‫.‬ ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ لو سئل أهل الكتاب لقالوا في كتبنا نعته، ووصفه، ودينه، وأنه خاتم الرسل والأنبياء، وأن القرآن حق، ووصفه، وأنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، خاتم النبوة بين كتفيه مضروب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُۥ عُلَمَـٰٓؤُا۟ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ﴿197﴾
السورة مكيه، وعلماء بني إسرائيل بالمدينه، وبعض كتب التفسير قالت إن الإشارة لمن أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارس وما إلى ذلك، والسورة مكية، وهناك من قال أن الآية خاصة بهؤلاء، وهناك من قال أن الآية عامة في كل علماء بني إسرائيل وذاك أرجح؛ لأن السورة مكية ولم تكن الهجرة قد تمت بعد، ولم يكن عبد الله بن سلام قد أسلم بعد، وعليه فقد ورد أن مشركي مكه حين علموا بمبعث النبي وهم لا يدرون عن الرسل والأنبياء والكتب شيئًا، هم عبدة أصنام، اقترح بعضهم على بعض أن يرسلوا إلى المدينة، إلى يهود المدينة، يسألونهم أهناك رسول؟ أتتوقعون نزول كتاب ووحي على نبي؟ وتم السؤال وثبت في أخبار السيرة النبوية ذاك حين أرسلوا إلى علماء بني إسرائيل بالمدينه ردوا عليهم قالوا أظلنا زمانه، وهو خاتم الرسل والأنبياء، ونعته ووصفه لدينا في كتبنا بل وكانوا يهددون العرب بأن النبي المنتظر سوف يخرج، وأظلهم زمانه، وسيقتلونهم قتل إرم وعاد، إذًا فقد علم علماء بني إسرائيل أن النبي قد أظل الناس زمانه من هنا يقول الله (تبارك وتعالى) والسؤال هنا سؤال تبكيت، وتقريع، وتوبيخ أردتم أن تعرفوا، تعرفون صدقه فكذبتموه، وتعرفون نسبه، تعرفون أنه لم يقرض الشعر في حياته ولم يحفظه ولم يقله، لايقرأ ولا يكتب، تعلمون صدقه وأطلقتم عليه الصادق الأمين، ومع ذلك أرسلتم تسألون يهود المدينة فأجابوكم بالحق فلم كذبتموه؟، ﴿ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ معجزة ودليل ﴿يَعْلَمَهُ ﴾ يعلمون النبي، ولكنهم أنكروا أن يكون محمدًا لكنهم لم ينكروا وجود الوصف، والنعت، والكلام عن القرآن، والأمة الأخيرة فى كتبهم وقرئت ﴿ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةٌ أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾وقرئت ﴿ أَوَلَمْ تَكُن لَّهُمْ آيَةٌ أَن تَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾آيةً بالنصب، وبالرفع آيةٌ ،يكن وتكن مع تخريج في الإعراب؛ الاسم والخبر لكلمة يكن اسم في مكانه والخبر في مكانه، أو الخبر مقدم والاسم مؤخر ﴿ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ،﴿ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن تَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ومع ذلك انظر كيف يبين ربنا تبارك وتعالى أن الكفر كفر، ومن كتبت عليه الشقاوة فلا نجاه له، ومن يضلل ربنا فلا هادي له يقول تسرية للنبي (صلى الله عليه وسلم) وتسلية له‫:‬‬‬‬‬‬
وَلَوْ نَزَّلْنَـٰهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلْأَعْجَمِينَ ﴿198﴾ فَقَرَأَهُۥ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ مُؤْمِنِينَ ﴿199﴾
لاتحزن؛ هذا القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين على النبي الصادق الأمين، وكذب به قومك، لو فرض أن القرآن بإعجازه اللغوي وفصاحته نزل على رجل لايحسن التكلم باللغة العربية ، الأعجمين‫:‬ جمع أعجم أو أعجمي، وهو الذي لايحسن التكلم باللغة العربية ولو كان عربي النسب، أما الأعجمي فهو غير العربي لو وكان فصيحًا بلغته، فالآية تعني لو ضم إعجاز القرآن كلفظ على إعجاز المتكلم به حيث لا يعرف اللغة العربية، لايحسن أن يتكلم بها، في لسانه عجمة فنطق القرآن فصيحًا إعجاز، لو حدث ما آمنوا!! فلا تحزن ولو نزلنا على بعض الأعجمين فقرأه عليهم بلغة العجم معنى آخر لقالوا لا نفهم ولو نزل باللغة العربية الفصيحة وضم إعجازه اللفظي إلى إعجازه المقروء إلى إعجاز القاريء ما كانوا به مؤمنين لم ؟ ولماذا ؟‬‬‬‬‬
كَذَٰلِكَ سَلَكْنَـٰهُ فِى قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴿200﴾ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِۦ حَتَّىٰ يَرَوُا۟ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ ﴿201﴾
‫﴿كَذَلِكَ﴾ إرادة الله (عز وجل) خلق الإيمان، وخلق الكفر، خلق الطاعة، وخلق العصيان خلق الخير وقدّره، وخلق الشر وقدّره، وما لأحدٍ في الأمور من تدبير، ﴿ سَلَكْنَاهُ ﴾: أدخلناه ووضعناه ﴿ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ ماالذي دخل، ماالذي سلكه الله في قلوبهم ؟ القرآن، فهموه وعرفوه ومع ذلك لم يؤمنوا به، أو سلك القرآن بمعنى الكفر به؛ أي سلك الكفر في قلوبهم، خلقه في قلوبهم، أو سلك التكذيب في قلوب المجرمين؛ لأنهم مجرمون وربنا لايهدي المجرمين، وربنا لا يحب الإجرام، فلكونهم مارسوا الإجرام وتمردوا أدخل في قلوبهم التكذيب بالحق، ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أبدًا ﴿ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ نهاية غاية حتى يحدث ذاك الإيمان حين يروا العذاب الأليم، حيث يؤمنوا ولاينفع الإيمان، حيث يندموا ولا ينفع الندم ﴿ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾.‬‬‬
فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةًۭ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿202﴾ فَيَقُولُوا۟ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ﴿203﴾
‫﴿ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً﴾ : أي العذاب، وقُرئت ﴿ فَتَأْتِيَهُم بَغْتَةً﴾ أي الساعه، فيأتيهم بغتة العذاب فجأة دون انتظار، دون توقع، بل ما من عذاب نزل بأمة حين تتأمل في آيات القرآن، ما من عذاب نزل بأمة مكذبة إلا ونزل فجأة بل وهم يتوقعون الخير ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [سورة الأحقاف آية‫:‬ ٢٤] توقعوا المطر، وتوقعوا الخير فإذا بها ريح فيها عذاب أليم، كذلك أصحاب الظلة حين استظلوا بالظلة وجدوا فيها البرد، والروح، والريحان؛ إذا بها تمطرهم نارًا، من أهلكوا بالصيحة، من أهلكوا بالرجفة، قرى لوط وهم يمرحون أخذتهم السكرة وفي سكرتهم يعمهون، ويحاورون، ويضحكون، ويحيطون بأضياف لوط، وفجأة ترفع القرى وتقلب، العذاب إذا جاء جاء بغتة، وجاء دون توقع أيضًا أي مفاجأة العذاب ليست فقط من حيث مفاجأته بل يأتي حين تتوقع الخير وذاك أنكى، وأفظع، لايؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغته وهم لا يشعرون، ﴿فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ﴾ فيقولوا هل نحن منظرون، مؤجلون، مأخرون‫.‬ ما من إنسان يموت و يأتيه الموت إلا ويتمنى المكث والبقاء والرجوع إلا المؤمن الذي أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، إذا خُير اختار الموت، بل منهم من يتلقى الموت قائلًا مرحبًا بحبيب قد جاء على فاقة، أي على احتياج شديد، أما هؤلاء إذا جاءهم العذاب بغتة وفجأة يضرعون إلى الله، يؤمنون حيث لاينفع الإيمان، ويضرعون إلى الله أن يؤخرهم أو ينظرهم حتى يؤمنوا، ولا ينفع تمنى المستحيل ثم يأتي التوبيخ، والإنكار عليهم، والتبكيت‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿204﴾ أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ ﴿205﴾ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُوا۟ يُوعَدُونَ ﴿206﴾ مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا۟ يُمَتَّعُونَ ﴿207﴾
‫﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾ قالوا إن كان هذا هو الحق من عندك وطلبوا أن يمطر عليهم حجارة من السماء بدلا من أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، قالوا أمطر علينا وقالوا للنبي تتوعدنا وتتهددنا حتى تأتي بما تعدنا فيقول الله (تبارك وتعالى) ﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾ هل يعقل أن يستعجل أحد العذاب ؟ هل يكون عاقلًا أن يتعجل المرض، أو العذاب، أو الهلاك ؟ مثلا أنت تجلس في مكان ، وجاء رجل لا تعرفه فقال قم هناك حيه، أو قم بسرعة فإلى جوارك عقرب ماذا تفعل ؟ العاقل يفزع مسرعًا وينتقل من مكانه ثم ينظر أهناك عقرب حقًا أم لا، أما غير العاقل فيجلس ويقول وما لون العقرب؟ أهو كبير أم صغير؟ هل هو سام ؟ هل أنت تصدقني القول أم أنك تكذب؟ وهكذا حتى تلدغه العقرب‫.‬ فعل مشركوا مكة ذاك، ينذركم بالعذاب، يتهددكم بالعقاب، فروا إلى الله فإن كان موجودًا والحق نَزّل نجوتم، وإن لم يكن لم تخسروا شيئًا، العاقل يقول ذلك لكنهم إستعجلوا العذاب أمطر علينا حجارة من السماء، إئتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، فيقول الله (تبارك وتعالى) منكرًا عليهم، موبخًا لهم‫:‬ ﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾ ، ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ أفرأيت‫:‬ أي أخبرني، والرؤية هنا رؤية علم، أفرأيت يا محمد، والخطاب لسيد الخلق (صلى الله عليه وسلم)، إن متعناهم سنين، أطلنا في أعمارهم، ووسعنا في أرزاقهم مئات السنين، ﴿ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ(٢٠٦)مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾ افترضنا أنهم عاشوا من العمر سنين، ورزقوا بالبنات وبالبنين، ووسع عليهم بالجنات، والنخيل، والعيون، ثم جاءهم العذاب هل ينفعهم طول أعمارهم أو سعة أرزاقهم أو كثرة أولادهم؟ "ما" استفهامية، ما أغنى عنهم؟ أي شيء أغنى عنهم؟ تمتعهم وطول عمرهم؟، وقد تكون ما نافيه ما أغنى عنهم‫:‬ أي لن ينفعهم طول العمر، ولن ينفعهم سعة الرزق، ولن ينفعهم كثرة الولد، ولن ينفعهم جاه، أو مال‫.‬ ما أغنى عنهم ماكانوا يمتعون‫.‬ ربنا (تبارك وتعالى) يقرر قاعدة لرحمته وأن من عُذب استحق العذاب، وأنه ما عذب أحد بغير جريرة فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ﴿208﴾ ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ ﴿209﴾
‫﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ المقصود أهل القرية، "من" بيان، ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ﴾ جمع منذر، رسول، مصداقًا لقوله ﴿ ... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ١٥] ، ﴿ذِكْرَى﴾: أي منذرون يذكِّرون ذكرى، تذكرة، أو عائدة على كلمة ﴿ أَهْلَكْنَا ﴾ وما أهلكنا من قرية إلا ذكرى أي تذكرة لمن وراءها‫.‬ هاهي الأمم السابقة المكذبة أُهلكت وأخبرت قريش بذلك هل تذكروا ؟ هل اتعظوا ؟ لزمتهم الحجة وما ربك بظلام للعبيد ﴿... وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ فنعذب بغير جريرة، أو نعذب أمه بغير أن نرسل لها رسولًا يحذرهم، وينذرهم، وينبههم، وما كنا ظالمين، ثم تأتي الآيات لتفنيد المزاعم بمنتهى القوة والمنطق السليم والبرهان الواضح الساطع‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَـٰطِينُ ﴿210﴾ وَمَا يَنۢبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴿211﴾ إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴿212﴾
‫﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ﴾: نفي لمزاعمهم أن تكهن، أو يقول ما يقول الكهان، أو له شيطان يأتيه فيتلو عليه القرآن، فينفي ربنا عن نبيه (صلى الله عليه وسلم) ذلك قائلا ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ﴾ أي القرآن لم يحدث أن تنزل به الشياطين، والدليل ﴿ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ يستحيل عليهم ذاك ولايمكن ولا يستطيعون لأنه السماء حجبت عنهم بالشهب وبالحفظة من الملائكة، كانوا يسترقون السمع فحجبت، وامتنع السمع، ﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ الشياطين إذا تنزلت، بأي شيء تتنزل ؟ بأمرين ، الأمر الأول : الحض على الفسق، والمعصية، والإجرام، إذا تكلم الشيطان بأي شيء يتكلم ؟ بما ينفع أم بما يضر ؟ بما يفيدك أم بما يهلكك؟ هل القرآن نافع أم ضار ؟ يأمر بمعروف أم يأمر بمنكر ؟ يأمر بخير أم يأمر بشر ؟ فكيف تتنزل الشياطين بهذا الكلام الذي يدعو إلى الرحمة، والمغفرة، وصلة الرحم، والعفو، وصلة القربى، والصدقة، والصلاة، والتطهر، والزكاة، والتراحم، والتآخي، كيف تتنزل به الشياطين ؟ كيف يأمر الشيطان بالمعروف هل يمكن ؟ هل يعقل ؟ الأمر الثاني الذي تتنزل به الشياطين‫:‬ الكهانة، يتسمع الشيطان الكلمة من الملأ الأعلى حين كان يتسمع الشياطين ثم ينزل بها فيقرقرها فى أذن وليه قرقرة الدجاج، فيضيف إليها مائة كذبة، إذا ً فهو كذب، خيال، دجل إن صادف الحق فكلمة من بين مائة كلمة، والباقي كله خزعبلات، وخبالات، مانزل على محمد هل فيه خيال ؟ هل فيه كذب وادعاء أم الذي نزل حقائق؟ هاهي القصص قصة آدم، قصة نوح، قصة إبراهيم، قصة إسماعيل، قصص الأنبياء، قصة موسى،قصة الخضر، وقصة أهل الكهف، القصص التي نزلت كلها حق، وصدق، فكيف تنزل بها الشياطين والشياطين لاتنزل على الكهان إلا بالدجل والكذب؟ من هنا نفى نفيًا قاطعًا ذاك الادعاء ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ﴾ أولا‫:‬ مانزل يستحيل أن تنزل به الشياطين، ثانيا‫:‬ من نزل عليه حاله ليس كأحوال أرباب الذين تنزل عليهم الشياطين أرباب الكهان فنفى الموضوع أن القرآن أن ينزل به الشياطين، نفى أيضا عن النبي أن يكون مثل من تتنزل عليه الشياطين لأن حاله يخالف أحوال أرباب الكهانة، ﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ ﴿213﴾ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ ﴿214﴾ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿215﴾
‫﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ... ﴾ النهي والكلام لسيد الخلق، هل ممكن أن يدعو مع الله إلهًا آخر ؟ لذا قال بعضهم الكلام لسيد الخلق تهييج، وتحريض على دوام الإخلاص، ولطف لسائر الخلق، وقال بعضهم بل الخطاب له والمراد غيره، تعريض بمشركي مكة، ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ عندما نزلت الآية صعد النبي على الصفا ودعا عشيرته جميعًا وناداهم فخذًا فخذًا، لم يستثني منهم أحدًا وقال : ﴿لو أخبرتكم أن خيلًا بسطح الوادي تصبحكم أكنتم مصدقي؟ قالو ما جربنا عليك كذبًا قط، قال فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ﴾ فهاجوا وماجوا وحدث ما حدث وقال أبو لهب آلهذا جمعتنا إلى آخره، لم أمره بإنذار عشيرته الأقربين ؟ أولًا‫:‬ قيل كي تنتفي عنه شبهة المحاباه؛ أي لا محاباة بينه وبين قرابته، بل هو ينذرهم كما ينذر الناس جميعًا، الأمر الثاني‫:‬ أنه لا يتلطف معهم بل يشتد عليهم، فإذا إشتد على غيرهم لا يأخذ ذلك فقد أنذر قرابته أولًا قبل أن ينذر الناس جميعًا، الأمر الثالث‫:‬ الإشعار بأن قرابته النسبيه لا تفيد مع بعد الأسباب، ومن هنا كان يقول‫:‬ ﴿ يا فاطمه اعملي إني لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة النبي اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئًا، يا عباس اعمل فإني لا أغني عنك من الله شيئًا ﴾ ناداهم بالاسم، ونادى قبائل عشيرته فخذًا فخذًا، ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ الإنذار له نتيجة‫:‬ إما طاعه، وإما عصيان، من هنا جاء التقسيم وانظر إلى ارتباط الآيات كالعقد ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إذا ً فنتيجة الإنذار إما طاعة، وإما عصيان، من أطاعك أخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وخفض الجناح‫:‬ استعارة رقيقة، جميلة؛ فالطائر حين يطير يفرد أجنحته ويبسطها فإن أراد أن يحط، وأن ينخفض، وينزل إلى الأرض خفض جناحيه فجاءت الاستعارة الجميلة للإشعار بأن المطلوب هو التواضع، فكن لين الجانب، تواضع لهم، موطأ الكنف وكان كذاك (صلى الله عليه وسلم).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِىٓءٌۭ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴿216﴾ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ ﴿217﴾ ٱلَّذِى يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ ﴿218﴾ وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ ﴿219﴾ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴿220﴾
‫﴿ فَإِنْ عَصَوْكَ﴾ القسيم الآخر نتيجة الإنذار طاعة، وعصيان ﴿ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي تبرأ من أعمالهم؛ لأن الله (تبارك وتعالى) قد تبرأ منهم، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ وقرأت ﴿ فتَوَكَّلْ﴾، وتوكل على العزيز، الغالب الذي لا يغالب، الرحيم بأوليائه، فهو ينصرك عليهم، ويكفيك شرهم، أوكِل أمرك إليه، وفوّض أمرك إليه، واعتمد عليه، توكل على العزيز الرحيم، ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(٢١٧)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ الآية جميلة تشعر بأن الله يقول له‫:‬ أراك في نومك، أراك في قيامك، أراك في سجودك، أراك في كل أحوالك، وأرعاك في كل أوقاتك، إذا ً فتوكل عليّ ولا تخش شيئا فأنا معك حيثما كنت، قال العلماء حين تقوم من مقامك حيثما كنت، ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ في أصلاب الآباء من الأنبياء؛ آدم، ونوح، وابراهيم، وإسماعيل، تقلبك في أصلابهم، في أصلاب الأنبياء الساجدين، وقيل يراك حين تقوم للتهجد ليلًا، وتقلبك في الساجدين حين تؤم المصلين، وتسجد ويسجدون معك، لم ذكر أحوال العبادة؟ وكأنه يقول‫:‬ توكل على الله الذي يعلم من حالك أنك أهل الولاية؛ فيذكر من حاله ما يرضى الله، ويذكر من حاله كل جميل؛ إذ هو متهجد بالليل ساجد بالنهار، فذكر الله الحال النبي بهذا الشكل معناه أنه مستحق، مستوجب للولاية والرعاية مما يزيد ثقته، ويقينه حين يتوكل على العزيز الرحيم، ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ السميع لكلامك، العليم بأحوالك، ثم تأتي الآيات لتبرئ النبي عن كل ما زعمه كفار مكه، يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬‬‬
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَـٰطِينُ ﴿221﴾ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍۢ ﴿222﴾ يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـٰذِبُونَ ﴿223﴾
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ زعمتم أن القرآن نزلت به الشياطين، ما ينبغي لهم وما يستطيعون؛ لأنهم عن السمع معزولون، ولأنهم يأمرون بمنكر، وينهون عن المعروف، والقرآن يأمر بمعروف وينهى عن المنكر، تنزل الشياطين على من ؟ ﴿تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ لابد أن تتجاذب الأرواح، وتتوافق المشارب؛ فلا يمكن أن تتنزل الشيطان، أو يلقي بكلامه إلا على من يستمع له ومن يشاكله في شيطنته، وإجرامه تتنزل على كل أفاك كذاب شديد الكذب، أثيم : كثير الإثم، الصيغة صيغة مبالغة، تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم، ﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾ أي الشيطان يلقي السمع، وينزل على الأفاك الأثيم، فيكذب عليه، ويكذب الأثيم الكاذب لأنه كذاب أصلًا، إذا ً فانضم كذب الشيطان إلى كذب من نزل عليه الشيطان لأنه أصلًا كذاب أفاك، أو يلقون السمع أي تلقي الشياطين المسموع، السمع بمعنى المسموع، يسمع الشيطان ماسمعه ثم يلقي إلى الأفاك الأثيم فيكذب معه مائة كذبة، أو يلقون السمع‫:‬ الكذاب الأثيم ليلقى السمع للشيطان ويستمع ثم يكذب، إذا ً هذه هي أحوال من تنزل عليه الشياطين، هل تشابه هذه الأحوال أحوال النبي (صلى الله عليه وسلم) ؟ أبدًا هم يقرون بذلك، ما اتهموه بالكذب هو الصادق، هو الأمين، لكن الشياطين تتنزل على الأفاك الأثيم، إذًا المضمون والموضوع وهو القرآن يستحيل أن تنزل به الشياطين، أما من نزل عليه القرآن فحاله يخالف أحوال أرباب الكهانة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُۥنَ ﴿224﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍۢ يَهِيمُونَ ﴿225﴾ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴿226﴾ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِيرًۭا وَٱنتَصَرُوا۟ مِنۢ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا۟ ۗ وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ أَىَّ مُنقَلَبٍۢ يَنقَلِبُونَ ﴿227﴾
‫﴿ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾: نفي لزعم آخر، نفى عن القرآن وعن مضمون القرآن وعن معنى ومعاني القرآن ما ادعوه بنزول الشياطين هاهو ينفي أيضًا عن اللفظ أنه يشبه الشعر ﴿ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ إذا ً فإذا كان التابع غاوي لابد أن يكون المتبوع من الغاويين، هل يتبع الغاوون المهتدين ؟ أم يتبع الغاوون غاوون مثلهم؟ ويتبع المهتدون المهدّيين، فهل أتباع محمد في نظركم يا أهل مكة من الغاوين؟ رأيتم أتباعه أبابكر، صهيب، عثمان، طلحة، عبد الرحمن بن عوف،... إلى آخر الأسماء، هم يعرفونهم، ويعرفون أنسابهم، ويعرفون صدقهم، ويعرفون حكمتهم، أتباعه ليسوا كأتباع الشعراء، فكيف يكون شاعًرا؟ والشعراء ﴿يتَّبِعُهُم﴾ ﴿يَتَّبِعْهُم﴾ ﴿يَتْبعُهُم﴾ قراءات ثلاثه، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ : أي ألم تعلم أنهم في كل واد يهيمون، استعارة تمثيليه رائعة أرأيت التائه في الصحراء، صحراء جرداء واسعة ممتدة، تاه فيها رجل أين يذهب؟ يسير إلى الأمام تارة لا يجد شيء، فينقلب ويسير إلى الخلف قليلًا، ثم يعود فيسير يمنة، ثم يعود فيسير يسرة، تائه هائم على وجهه في الصحراء لايدري أين يتوجه هكذا الشاعر كيف ؟ انظر يمدح ويمدح مدح العسل فقال هو مُج النحل، وحين أراد أن يذم بعد ما تعب من شربه عسل قال‫:‬ قيء الزنابير، والوصفان صحيحان؛ مجّه أي أخرجه من فمه بعد أن شربه، ومج النبي من شربه شربها في طفل من أطفال الصحابة، فالمج جميل وحلو فيوصف العسل بأنه مج النحل إن أراد المدح، وإن أراد القدح قاء قيء والقيء مكروه ولا يقل نحل ويقول زنايير، أرأيت!، جاء الشاعر ومدح الإخشيد وكان أسودًا وكان وليًا، مدح ومدح وحين لم يعطه أنشأ قصيدة في ذمه والتي منها ما تعرفونه‫:‬ لا تشتري العبيد إلا والعصا معه لأنه العبيد لأنجاس مناكيد، أين مدح وكيف قدح؟ تجد الشاعر يتكلم عن نفسه وعن قبيلته أنا كذا وابن كذا، ويتحدث عن الكرم وكأن الكرم خلق منه، و يتحدث عن الشجاعة وهو أجبن الناس، انظر إلى الشعر في الغزل والمدح في الجمال كذب وادعاء وخيال، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى) ﴿ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ إذا ً فالشعراء غاوون، وأتباعهم غاوون، وأتباع محمد (عليه الصلاة والسلام) ليسوا كذلك ألم تر الدليل أنهم في كل واد يهيمون؟ تارة مدح وتارة يقدح، أطعمه يمدحك، لن تطعمه قدح فيك، ﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾ الكذب، والادعاء وتجد الشاعر يقول والكلام عن شعراء الكفار، شعراء مكه، الذين كان ديدنهم هجاء النبي، وهجوا أصحابه فالكلام عن هؤلاء الشعراء، أما الحكم في الشعر أنه نوع من أنواع الكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، من هنا استثنى ربنا تبارك شعراء المسلمين حسان بن ثابت، كعب بن مالك، كعب بن زهير، وعبد الله بن رواحة، استثنى فقال ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾ ذكروا الله كثيرًا في شعرهم ،كم من قصائد فيها كلام عن التوحيد؟ كلام عن الذات العليه؟ ثناء على النبي؟ لذا استثنى ربنا شعراء المسلمين، الصائمين، العابدين، القانتين، الذين لايقولون إلا حقًا وصدقًا، المادحين لله، المثنون على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ﴿وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾ تفيد أن الهجاء الذي حدث من شعراء المسلمين لايؤاخذون عليه لأنه انتصار لأنفسهم، ولدين الله، ولرسول الله، إذًا فالشعر فيه المدح فإن كان المدح بحق من مسلم مؤمن لمن يستحق المدح لا لغاية الجاه أو المال، أو إرضاء ذوى السلطان، لابأس أما الكلام القبيح والهجو وما إلى ذلك فممنوع منعًا قطعيًا؛ إلا أن يكون شاعرًا مسلمًا منتصرًا لدينه، لذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول لكعب بن مالك‫:‬ ﴿أهجهم ياكعب فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل﴾ وكان يقول لحسان بن ثابت‫:‬ ﴿قل ياحسان روح القدس يؤيدك﴾، لأن الشعر ديدنهم وبالتالي هجوهم وكلامهم كان لابد من الرد عليه فإذا رد الشاعر المسلم المؤمن، رد بحق وانتصر لنفسه، لذا يستثني ربنا (تبارك وتعالى) من الشعراء الذين في كل واد يهيمون ويقولون مالا يفعلون وتتنزل عليهم الشياطين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾ هذه الآية من أشد التهديد والوعيد في صياغتها لأن لفظ سيعلم فيها من الوعيد البليغ ما يستوعبه أهل اللسان العربي، أهل اللغة‫.‬ ﴿... الَّذِينَ ظَلَمُوا ... ﴾ إطلاق وتعميم يفيد قوة التهديد وشدة الوعيد‫.‬ ﴿ ...أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ... ﴾ منقلب‫:‬ إنكار، فيه التهويل، والوعيد، من هنا كانت الآية من أشد ماهدد به مشركو مكة، المنقلب‫:‬ أن تكون فى حال ثم تعود إلى ضد مما كنت فيه، والمرجع‫:‬ أن تكون فى حال فتعود الى ماكنت فيه؛ فكل مرجع منقلب وليس كل منقلب مرجع، هذا هو الفارق بين مرجع ومنقلب‫.‬ وبهذا التهديد والوعيد الشديد تختم سورة الشعراء تلك السورة المكية التي كان فيها من الإعجاز اللغوي والإعجاز العلمي الكثير من خبر قصص الأولين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬