
سورة الفاتحة
الحمد لله في الأولى فقد نامت عيون الخلائق وما غفل، وله الحمد في الآخرة إذا زاغت الأبصار، وسقط الحبل، أسرف الناس في كل مكان فما أهلك وما عجل، عبدوا المال فأطغاهما، ونسوا الموت فغرهم الأمل، ولو شاء ربك لجفت الأنهار وما أصاب النبات بلل، اللهم صل، وسلم وبارك على من به اعوجاج الملة اعتدل، وبنور سنته الشرع اكتمل، واجعله يا ربنا الشفيع لنا إذا ما الروح حين البعث بالجسد اتصل، وأصـبح الهـلاك هـو دون النجـاة المحـتـمل.
أما بعد، سورة الحمد لها اثنا عشر اسما نعم هي: أم الكتاب هي أم القرآن فيها القرآن كله يقول النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾فيها: ﴿ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ، وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ، وَلاَ فِي الزَّبُورِ، وَلاَ فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ ﴾
ويقول لأحد أصحابه ﴿لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ﴾ نعم سورة الحمد.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ: ﴿بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّاَ الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّاَ الْيَوْمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أوتيتما لَمْ يُؤْتِهِمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّاَ وأعطيته. ﴾
الفاتحة الشفاء الرقية فقد يرقى بها المريض فَيُشْفَى هي الكافية هي الواقية.
وسورة الفاتحة مكية، وهي من سبع آيات:
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴿1﴾
وطبقًا لاختلاف الفقهاء والأئمة في كونِهَا آية من الفاتحة أو لا يجهر بِهَا الإمام أو يسر بقراءتها فمنن جهر بها عدها من الفاتحة ومن لم يجهر بها، ولم يقرأها أو أسر بها عدها ليست من الفاتحة، وقسمت الآية الأخيرة إلى آيتين ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ آية ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَلَا الضَّالِّينَ﴾ آية فيكون المجموع سبع بغير البسملة.
أرجح الأقوال أنَّها من الفاتحة بدليل كتابتها في المصحف، وقد حرصوا أشد الحرص على عدم تدوين أي شيء في المصحف من غير القرآن، حتى أنَّهم لم يكتبوا: أمين في آخر الفاتحة، ليست مكتوبة في المصاحف لأنها ليست من القرآن باتفاق، وإنما هي كلمة مَنَّ الله علينا بِهَا فهي خاتم الدعاء، يختم به رب العالمين الدعاء المجاب. إذا فهي آية من الفاتحة، ونعتقد أنها من كل سورة آية أو هي للتبرك بقراءتها ونبينا، صلى الله عليه وسلم، يقول: ﴿كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بتسم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهو أَقْطَع﴾، وأوصى بها في أمور عديدة في كل شيء فقال: ﴿سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ﴾، وقال: ﴿ أَغْلِقْ بَابَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَطْفِ مِصْبَاحَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ، وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرِضُهُ عَلَيْهِ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَأَوْكِ سقاؤك، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ﴾، وكان إذا مس طهوره﴿ صلى الله عليه وسلم﴾ ذكر اسم الله، بل وقال﴿ صلى الله عليه وسلم﴾: ﴿لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَقَالَ: ﴿ بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ﴾ فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا ﴾.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ كلمة وآية فيها البركة بل فيها كل شيء فيها التوحيد، وفيها الثناء على الله، تبارك وتعالى، بصفاته.
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ قالوا هو قسم ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ قسم أقسم الله، تبارك وتعالى، به في أول كل سورة إنما في هذه السورة من وعد لعباده أنا كفيل بتحقيقه.
وهي في الأصل: ﴿بالله﴾ وكلمة ﴿اسم﴾ زيادة صلة لتعظيم اسم الله ﴿عز وجل﴾ وتمجيده، وللخروج بها عن حُكم القَسَم إلى قصد التبرك لأنك لو قلت ﴿بالله﴾ كأنك تُقسم فجاءت كلمة ﴿بسم الله، ﴾ والاسم من السمة أو من السمو من السمة أي العلامة فالاسم علامة على المسمى يعلم بها، ويعرف فإذا سميت الأسماء جعلت لها بهذا الاسم علامة تتميز بها عن غيرها فيتميز المسمى باسمه عن غيره أو اسم من السمو لارتفاع المسمى باسمه عما سواه، والاسم أرقى أنواع الكلام وأعظم قسمي الكلام الفعل والحرف سمي اسم لسموه على قسمي الكلام.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ ثم تقف معنى ذلك كأنك تقول باسم الله أقرأ أو ابتدائي باسم الله أو تبدأ ببسم الله، وأنت تعتقد أن بالله، تبارك وتعالى، وبقدرته وبتوفيقه وبخلقه تصل إلى ما تصل إليه إذ لولا الله ما وصل عبدٌ لشيء، لولا الله ما كان الوجود لولا الله ما كان هناك شيء، ﴿بسم الله﴾ وبتوفيقه أبدأ أو به أقرأ ببركته متبركا باسمه، عز وجل.
الله علم على الذات العلية هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى قالوا ذلك. قالوا الله اسماً لا يشاركه فيه سواه، واختلفوا أهون علم على الذات أو هو مشتق كوصف؟ قالوا مشتقاً من ﴿ ألِهَ ﴾ ﴿أَلِهَ الفصيل﴾: إذا تعلق بأمه، وإذا فطم الرضيع تعلق بأمه فالأصل أله لأن العباد تتعلق به قالوا أله بمعنى تحيَّر وتردد لأن ﴿الوَلَه﴾: تحير العقول، وربنا تتحير العقول في ذاته فلا تصل إلى كُنْه ذاته العقول والأفكار، وقالوا من إله أي عبد.
وقالوا من: لاهَ يلِيهُ لَيْهًا إذا استعلى، واحتجب، لأنه، سبحانه وتعالى، محجوب عن إدراك البصائر، ومرتفع عن كل شيء، فهو العلي المتعال.
قالوا في أمر الاشتقاق كثيرًا حتى إن بعضهم قال: الأصل لأن الخلائق من قبل الرسل عرفوه بفطرهم، وأحسُّوا بوجوده فعبروا عنه بالكناية، بالهاء الغائب ثم وجدوا أنه يملك كل شيء فزادوا اللام فقالوا ﴿له﴾، لأن له الملك ثم زيدت الألف واللام للتعريف والتعظيم فقيل: ﴿الله ﴾.
وقال بعض الناس الله مشتقة، بل هو اسم الله عَلَمٌ على الذات العليَّة، والألف واللام فيه ليست للتعريف، كما تقول العالم القادر القاهر الأصل قادر الأصل قاهر تدخل عليه ألف ولام التعريف القادر فيعرف أنه الله، أما ﴿الله﴾ فليس أصلها ﴿إله﴾، وزيدت الألف واللام ليختص بِهَا الله، لأن ﴿الإله﴾ يُطلق على الله، وعلى غيره، آلهة الكفار سموها آلهة فأضيفت الألف واللام فأصبح الله يختص بها ربنا، تبارك وتعالى، والدليل على أن الألف واللام ليست للتعريف أنك إذا ناديت لا يجتمع حرف النداء وألف ولام التعريف في اسم أبدا، فلا تقول يا الرحيم يا القادر تحذف ألف ولام التعريف إذا دخلت ياء النداء فتقول يا قادر، يا قهار، يا رب، يا رحمن، لكن إذا ناديت بالاسم الأعظم قلت يا الله فلا تحذف الألف واللام إذا ألف ولام الله من جملة الكلمة فهي كلمة كاملة غير مشتقة لا تثنى، ولا يجمع آلهة إلهين، الله لا يُثْنَى، ولا يجمع فهي علم على الذات العلية بلا شريك، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سورة مريم آية :65] هو الله. ﴿ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ الرحمن والرحيم اسمان من أسماء الله، عز وجل، مشتقان من الرحمة، الرَّحْمَـنُ فيه زيادة في الحروف عن الرحيم، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فهي ليست مترادفة، الرحمن اسم خاص بالله، عز جل، لا يشاركه فيه سواه. ولذا يقول عز من قائل: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ﴾ [سورة الإسراء آية :110]. وهو المعبود الحق الموجود الحق وربنا، عز من قائل، يقول في شأن هذا الاسم الرحمن، وكيف اعترض عليه الكفار إذا قيل لهم عن الرحمن: ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ﴾ [سورة الفرقان آية: 60. جهلوا الصفة رغم علمهم بالموصوف ﴿وَسْـَٔلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رسلنا اجعلنا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ءَالِهَةًۭ يُعْبَدُونَ ﴾ [سورة الزخرف آية: 45]. الرحمن اسم يشارك الله في أنه لا يسمى به غير الله أما الرحيم فقد يُطلق على الخلائق، أطلق على النبي، صلى الله عليه، وسلم ﴿بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ﴾ [سورة التوبة آية: 128]. وفلان رحيم.
لكن رحمن لا تطلق إلا على الله، عز وجل، وأيضا الرحمن لا يُثْنَى، ولا يجمع الرحيم يُثْنَى، ويجمع رحيمان رحماء، أما الرحمن فلا يُثْنَى، ولا يجمع، الرحمن زيادة المعنى فيه عن الرحيم هذه الزيادة في الكم، وفي الكيف في الكم ربنا، تبارك وتعالى، رحمن الدنيا فهو يرحم المؤمن والكافر، ألا تراه يرزقهم ألا تراه يسترهم ألا تراه يبارك لهم فهو رحمن الدنيا يرحم الكل ورحيم الآخرة لأنه يرحم المؤمنون بالمؤمنين رحيما ﴿وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًۭا﴾ [سورة الأحزاب آية: 43] الرحيم اسم عام خاص الفعل. اختص الله، تبارك وتعالى، بهذا الاسم المؤمنين، أما الرحمن فهو اسم خاص الذات عام الفعل تعم الرحمة لذا قالوا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، وقالوا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة، الرحمن والرحيم مشتقان من الرحمة.
و﴿الرحمة﴾ في اللغة: رقة في القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان، ولكن من حيث هي صفة لله، عز وجل: أسماء الله، تبارك وتعالى، تُؤخذ باعتبار الغايات والأفعال، وليس باعتبار المبادئ، فالرحمة في قلب العبد رقة وانعطاف يتفضل، ويحسن على من يرحمه لغرض أو لغاية أو ابتغاء الثواب أو لنزع الرقة من قلبه أو للتخلص من مال كالزكاة، أما ربنا، تبارك وتعالى، فالمبادئ والانفعالات للأفعال ليست جائزة عليه، فأسماء الله، تبارك وتعالى، تُؤْخَذُ باعتبار الغاية الفعل النهاية، وليس البداية، فالرحمة لها بداية عندك عند المخلوق - رقة ورأفة تعتري القلب - إشفاق كل ذلك انفعالات وعواطف ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ مُنَزَّه عن ذلك، إذا فالرحمة بالنسبة إلى له: هي التفضل والإحسان على المرحوم دون انتظار لجزاء ودون سابق فعل، إذ هو الرحمن الرحيم أزلاً، وربنا﴿ تبارك وتعالى﴾ يقول في حديث قدسي: ﴿ أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ، وَمَنْ ثَبَّتَهَا ثَبَّتُّهُ، إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي﴾، وهذا الحديث يؤكد الاشتقاق الرحمن الرحيم مشتقين من الرحمة أحدهما أبلغ من الآخر الرحمن أبلغ من الرحيم.
هذه البسملة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ التي يبدأ بها في القراءة، ويبدأ بها في كل فعل بركة ونعمة وفضل وإحسان من الله ﴿ تبارك وتعالى﴾ منحها لعباده ولأمة محمد على الخصوص حتى إنه قيل: لم تنزل بعد سليمان، عليه السلام، على أحد إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿2﴾
و﴿الحمد﴾ مُعَرَّف بالألف واللام، الحمد الألف واللام للجنس، وتُشْعِر بالاستغراق، وكأن الحمد كله لله.
و﴿الحمد﴾: لا يعرفه إلا الله، ﴿ٱلْحَمْدُ للهِ، ﴾ هو القائل أثنى على نفسه بنفسه في الأزل فقال الحمد لله، وكأن الله، تبارك، وتعالى، عَلِم أن العباد لا يطيقون أن يثنوا عليه بما هو أهله، كما أظهر العجز سيد الحامدين: رسول الله ﴿ صلى الله عليه وسلم﴾ حين قال: ﴿ لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ. ﴾ فأظهر العجز من هنا مِنَ الله، تبارك وتعالى، علينا وعلَّمنا كيف نقول، الآية وإن كانت خبرية لفظًا إلا أنَّها إنشائية معنىً، وكأنه يقول لنا: قولوا الحمد لله رب العالمين.
﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هذا الثناء الذي أثنى الله به على نفسه بنفسه لنفسه ما كلفنا بل مَنَّ علينا، وجزانا بهذه الكلمة جزاء لا يُقاس، ولا يُقَدَّر، حتى إنَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ﴿لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلّها بِحَذَافِيرهَا بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ قال: الْحَمْدُ للهِ، لكَانَ الْحَمْد لله أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ﴾ نعم أي وربي ﴿الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلآَنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. ﴾ قال ذلك سيد الخلق، عليه الصلاة والسلام، الحمد لله منة ونعمة لا تغادر قدرها، ولا تقارن، ولا تقاس بنعمة في هذه الدنيا ونبينا﴿ صلى الله عليه وسلم﴾ يقول ﴿ لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا ﴾ – الدنيا كلها بحذافيرها بكنوزها وأراضيها وممالكها، وكل شيء بيدك الحمد لله أفضل نعم لأن الدنيا فانية والحمد لله باقية.
﴿وَٱلْبَـٰقِيَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًۭا وَخَيْرٌ أَمَلًۭا﴾ [سورة الكهف آية: 46]. ﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ كلمة كل شاكر ما من شيء إلا، ويقولها وتقال هذه الكلمة في كل مكان، وفي كل موضع يقولها الأولياء. قالها الله، تبارك وتعالى، في بدء الخلق. ﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ﴾ [سورة الأنعام آية: 1]. وقالها في نِهَاية الخلق حين تقوم الساعة: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِۦ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًۭا﴾ [سورة الإسراء آية: 52]. يقولها العباد حين يبعثون.
ويقولها الناجون:﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِىٓ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌۭ شَكُورٌ﴾ [سورة فاطر آية: 34]. آخر كلمة يقولها أهل الجنة الحمد لله. ﴿وَءَاخِرُ دَعْوَىٰهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ [سورة يونس آية: 10]
الحمد لله كلمة تملأ الميزان إذا فلو قلت هذه الكلمة بعقيدة وبصدق من قلبك لفاقت كل أعمالك الصالحة تفوق الحج والعمرة تفوق كل شيء تملأ الميزان فإذا مُلِئَ الميزان بالحمد لله لم يكن هناك مكان لسواها.
الحمد لله بُدِئَ بها الخلق، وانتهى بها الخلق ﴿وَتَرَى ٱلْمَلَـٰٓئِكَةَ حرفين مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ، وَقَضَىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ، وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ [سورة الزمر آية: 75]. في الختام وفي البداية وهي كلمة كل شاكر، وهي كلمة الأولياء، وإذا قال العبد بعد أكلة أكلها أو شربة شربها الحمد لله رضي الله عنه.
﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ الرب المالك الرب السيد الرب المعبود الرب المربي، الرب مصدر من التربية، والتربية: وهي إيصال الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا بحسب استعداده، ربنا﴿تبارك وتعالى﴾ خلق الإنسان من تراب ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم مخلقة، وهكذا، وهكذا، وهكذا من الذي ربى من الذي نمى من الذي رعاه؟ الله هو الله، وكلمة رب إذا كانت من غير ألف ولام على السيد، وعلى رب الدار، وعلى رب الغنم فإذا أضيفت إليها الألف واللام اختص بها ذو الجلال والإكرام الرب هو الله.
الرب أيضا السيد ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لدى ٱلْبَابِ﴾ [سورة يوسف آية: 25] بمعنى الزوج، وهو الملك من قول يوسف ﴿قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسْـَٔلْهُ﴾ [سورة يوسف آية: 50] أي إلى سيدك.
الرب أيضا المالك لأن المالك يربي ما يملك ينميه، ويصلحه ويقال لمن أصلح شيئا، ونماه هذا ربه، ربه يربه ربا أي أصلحه، ونماه فالمالك يربي ما يملك فربنا، تبارك وتعالى، هو المالك، وهو المربي. و ﴿ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ : جمع: ﴿عاَلَم﴾ و﴿العَالَم﴾ من ﴿العلامة، ﴾ وسُمِّي الخلق والوجود، وكل ما سوى الله: ﴿عالَم﴾ لأنه علامة على مَنْ أوجده، رأيت الشمس لا بد لها من موجد، رأيت القمر رأيت السماء رأيت الأرض أرادت النبات رأيت الناس لا بدَّ من موجد لهذه الأشياء في علامة على خالقها، علامة على موجدها إذًا فالعالَم علامة على الْمَلِك الموجِد، لذا سمي العالم عالماً.
و ﴿ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ جمع لكنه جُمِعَ جمْع العقلاء تغليبًا لأن في العالَم أربعة أنواع من العقلاء: الإنس، والملائكة، والجن، والشياطين. فجمع العالم جمْع العقلاء تغليبا.
ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴿3﴾
أيها الأخ المسلم يقول نبينا، صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ ﴾ فلطف الله، تبارك وتعالى، بعباده أنه بين لهم هذه الأسماء التي إن دلت على شيء دلت على سعة الرحمة، تلك الرحمة التي قسمها الله، تبارك وتعالى، مئة جزء أنزل منها جزءًا واحدًا يتراحم به الناس والدواب والمخلوقات في الأرض إلى أن تقوم الساعة، وادخر لنفسه تسعة وتسعين جزءًا يرحم بِهَا عباده يوم القيامة.
﴿مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ﴾
مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ ﴿4﴾
)المالك( هو الذي يتصرف في مِلْكه كيف يشاء، من الملك، و﴿الملِكُ﴾: هو الذي يتصرف بالأمر والنهي من الملك، ﴿مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ﴾ ربنا مالك يوم الدين وغيره من الأيام، هو مالك كل شيء لم اختص اليوم بالذكر؟ ﴿مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ﴾ تعظيما لليوم أولا، تفخيما لشأنه، واليوم: من شرق الشمس إلى غروب الشمس، اليوم أو الليلة، وقد يطلق على الساعة، وهي الزمان، وقد يُطلق اليوم على الساعة منه، كقول الله، عز وجل:
﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [سورة المائدة آية: 3] لكن كلمة اليوم جاءت لتعبر عن الساعة منذ قيامها بالنفخة الأولى إلى الفراغ من القضاء بين العباد، طوله خمسون ألف سنة، وسُمِّي يومًا، وأضاف اليوم ﴿مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ﴾ مع أنه مالك كل شيء لأن في ذلك اليوم تنتهي الدعاوى في الدنيا ينازع فيقول (فرعون : ﴿فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ﴾ [سورة النازعات آية: 3]. ويقول النمرود: ﴿قَالَ أَنَا۠ أُحْىِۦ، وَأُمِيتُ ﴾ [سورة البقرة آية: 258]. ويدَّعي كل مالك في الدنيا أنه مَالِكٌ أو ملك يملك، أو مَلِكٌ يأمر، وينهى، فإذا جاء يوم القيامة طوى الله، تعالى، السموات السبع، وقبض على الأرض بيمينه، ورجها رجا، وقال: أنا الملك أين ملوك الأرض، وحين ينادي: ﴿لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ﴾ [سورة غافر آية: 16]. لا يجيبه أحد فيجيب نفسه: ﴿لِلَّهِ ٱلْوَٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ﴾ [سورة غافر آية: 16]. في ذلك اليوم هو المالك بلا نزاع، بلا منازع، وهو القاضي، وهو الحاكم، لا ينازعه أحد. ويوم الجزاء والدين تعني الجزاء أيضا، وإن كانت تعني الشريعة، وتعني ما نزل على الرسل ﴿دِنْتُهُ دَيْنًا ودِينًا﴾: أي: جازيته فمالك يوم الدين أي الذي يملك القضاء والتصرف كيف يشاء في يوم الجزاء فيثيب، ويعاقب يرحم، ويعذب في هذا اليوم يوم الجزاء، أو يوم الجزاء على الشريعة.
﴿مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ﴾ لو تأملنا في البداية افتتحنا بسم الله الرحمن الرحيم علمنا بذلك أن العبد ضعيف محتاج إلى أن يلتمس البركة بذكر الله، وأن يصطحب معه ذكر الله فالباء تكون للمصاحبة باسم الله إذا هو يصطحب معه اسم الله، تبارك وتعالى، للتبرك والتماس التوفيق، إذا فكل الأمور بيد الله العبد فيها محتاج إلى الله.
فإذا بدأنا بالحمد، وتأملنا لعلمنا أن الله، تبارك تعالى، مستحق للحمد، للحمد كله ولعَجْزِ العباد عن حمده حمد نفسه بنفسه لنفسه أزلاً، وعلمنا كيف نقول، وجاءت الصفة ﴿رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ لتُشعر بأنه المالك، وأنه الْمُربِّي، وأنه السيد، وأنه المعبود الحق، وأنه المتولِّي أمور الخلائق جميعًا، وجاءت الصفة الثالثة والرابعة ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ لبيان أن الله، تبارك وتعالى، تفضَّل على العباد فأنعم عليهم بالنعم المختلفة دنيا وأخرى، فالرحمة تفضل وإحسان من الله، تبارك وتعالى، متصف بها من قبل الخلق، ثم جاءت ﴿مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ﴾ لتبين للعبد إذا كان الله هو مستحق الحمد، وهو الله المعبود الحق، وهو الرب المربي والمالك والسيد، وهو المتفضل بالإحسان دائم المعروف عظيم الإحسان، إذا فهو المالك للثواب والعقاب، المجازي على الطاعة أو العصيان، من هنا يشعر العبد بضآلته، ويشعر العبد بالخوف والوجل، ويشعر بأنه لا بد، أن يلتجئ إلى الله ﴿مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ﴾ إذا كيف أنجو من هذا اليوم؟ كيف أصل إلى رضا الملك؟ كيف أصل إلى عفو المالك؟ هل أصل وحدي؟ هل أصل منفردا؟ هل يمكن لي بعقلي؟ أبدا، إذا فلا بد أن أتجه إلى الله مقر معترف متذلل خاضع بأنه -باعترافي هذا وعقيدتي-هو الرب هو الملك هو المالك، هو كل شيء فأقول:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
ِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿5﴾
أيضا الغريب أن القياس القارئ واحد فالقياس أن يقول إياك أعبد لم قال ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ لأن العبد بهذه المقالة ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾، وكأنه يقول يا رب دخلت في سلك الموحدين، والتجأت إليك ضمن المؤمنين فخلطت حاجتي بحاجتهم ودعائي بدعائهم فأنا وسطهم أنا من ضمنهم فلعلك تقبلني، وتستجيب لي ببركة الحاضرين، فيقرأ المسلم فاتحة الكتاب يقرأ أم القرآن فيتعلم من أول حرف أن الأمور لا تبدأ إلا بالله، وأن العبد لا يمكن له أن يأتي أمرا أو أن يدع أمرا بنفسه، ولكن القوة لله، ولا حول إلا بالله، إذا أكمل المسلم في أول فاتحة الكتاب علم أن الأمور تبدأ بالله أما بنفسه فلا حول له، ولا قوة له. فتعلمنا من بداية الفاتحة أن نفتتح باسم الله متبركين به، وكأننا نصاحب اسم الله معنا في مسيرنا إليه، وفي أمورنا كلها، ويثني الله ﴿ تبارك وتعالى﴾ على نفسه بنفسه أزلا إذ مهما أثن عليه المثنين أو حمده الحامدون فلن يبلغوا ما يجب له من حمد إذ الحمد الواجب لله لا يعرفه إلا الله؛ لذا حمد نفسه بنفسه لنفسه من الأزل، وتعم النعمة، وتعم الرحمة بصفتين لله (عز وجل) ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ صفتان تدلان على عموم الرحمة بدلائل النعم ودقائق النعم في دنيانا، وفي أخرانا، مما يجعل العبد يتفاءل، ويطمئن ويسعى للدخول في هذه الرحمة مطمئنا لعناية الله ورعايته، وكما أن الله ﴿ تبارك وتعالى﴾ قد سبقت رحمته غضبه، وكما أنه قد اتصف بالرحمة أزل إلا أنه اتصف بالعدل أيضا والعدل يقتضي الحساب والحساب يقتضي يوما يكون الملك فيه لله أزل، وإن الملك له أزلا وأبدا إلا أن هناك منازعين يدعون الملك لهم بفرعين وغيره فيذكرنا ربنا﴿ تبارك وتعالى﴾ بيوم الدين يوم الجزاء فيرغبنا في ذكر رحمته، ويرهبنا بذكر عدله وحسابه فإذا تأمل المسلم والقارئ لفاتحة الكتاب هذه المعاني، وتدرج بها، وترقى بها انتقل من البرهان إلى العيان، ومن الغيبة إلى الشهود، وكأن الغائب حاضرا، وكأن المعلوم صار معاينا فيتحول الكلام، ويتلون من الغيبة إلى الخطاب فيتوجه العبد براحل قلبه إلى ذلك الرحمن الرحيم إلى من ذاك شأنه صاحب الرحمة وصاحب العدل يتوجه إليه فقد علم أن هناك يوما للحساب علم أن الرحمة والنعمة مستمدة منه سبحانه، وأن العدل قائم، وأن الحساب لا شك فيه أين النجاة، وقد ابتدأ بذكر اسم الله، وعلم أن الأمور لا تبتدئ إلا باسمه حين علم ذلك توجه إليه، وتحول الخطاب ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴿۳﴾ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ ﴿٤﴾ إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فإذا بالخطاب يتوجه إلى الله بعد أن كان الكلام عنه أصبح الكلام إليه وحين هم العبد بالوقوف بين يدي ملك الملوك للدعاء وللسؤال ولطلب النجاة حيث لا تطلب النجاة إلا منه أحس بضعفه أحس بذله أحس بحقارته، فأنى للعبد الفقير الذي خلق من تراب، ومن طين أن يقف وحده بين يدي ملك الملوك ورب الأرباب من هنا توجه العبد لمن كانوا على شاكلته من الموحدين ولجماعة الحاضرين فدخل في جنسهم، وانضم إلى مجموعهم، وخلط حاجته بحوائجهم، وتوجه جامعا فقال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ولم يقل إياك أعبد إذ ذاك يعطي الأمل العبد أن تقبل حاجته، وأن يسمع دعاؤه إذا كان في زمرة الموحدين فببركتهم قد يقبل، وقد يسمع له النداء، وإذا تأملنا في قوله، عز وجل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ نعي أن الله، تبارك وتعالى، قد ساق هذا الدعاء في فاتحة الكتاب في أم القرآن نصفها ثناء ونصفها دعاء، وجاء بهذا الدعاء ليبين لنا أنه المقصود الأول والأهم والأولى للعباد الاستعانة، وقدم المفعول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لم يقل نعبدك لم يقل نستعينك قال : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فقدم المفعول.
(آيا) ضمير منصوب منفصل، يضاف له (الكاف) و (الهاء) و (الياء) لبيان التكلم والغيبة والخطاب، (إياي) و (إياك) و (إياه) ﴿إِيَّاكَ﴾ هذا الضمير متوجه بالخطاب إلى الله، تبارك وتعالى، بكاف الخطاب إقرارًا من العبد بربوبيَّة الله، تبارك وتعالى، وبألوهيته وبأنه الواحد الأحد، المقصود ولا مقصود سواه.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ قصر، صيغة الكلام بتقديم المفعول تفيد الحصر والقصر لأن العبادة لله وحده، وليس لأحد سواه كما قدم المقدم بالوجود ربنا، تبارك وتعالى، حيث كان موجودا من الأزل، ولم يكن العبد موجودا فقدم الأقدم في الوجود ﴿إِيَّاكَ﴾ كما، أن العبد إذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ علم أن المعبود مقدم على العبادة فجاء بذكر الله قبل ذكر العبادة إذ العبد لو قال أعبدك أو نعبدك كأنه قدم نفسه، وقدم عبادته، أما إذا قدم المعبود ﴿إِيَّاكَ﴾ إذا فذاك هو التعظيم لله﴿ عز وجل﴾ والتفخيم للذات العلية وتقديم من هو أولى بالتقديم وتقديم من هو أقدم في الوجود، ثم إنَّ العبد يستشعر أن العبادة صلة بينه وبين الله هو قد شرف بنسبته إليها وبنسبة العبادة إلى الله، وليست العبادة صادرة عنه بل هي صلة تشريف من الله له.
(العبادة): أقصى غاية الخضوع التذلل، ولذا لا تكون، ولا تُنسب إلا لله، أقصى غاية الخضوع والتذلل العبادة، وقد يُعبَّر بالعبادة عن (الدعاء) كقول الله (عز وجل): ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [سورة غافر آية: 60]. أي عن دعائي لأن الدعاء أكرم شيء على الله، وقد تعني العبادة: ﴿الطاعة﴾ كقول الله، عز وجل : ﴿أَن لَا تَعْبُدُوا۟ ٱلشَّيْطَـٰنَ ۖ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّۭ مُّبِينٌۭ﴾ [سورة يس آية: 60]. والشيطان لا يُعبد وإنما يطاع.
العبادة قد تعني: ﴿التوحيد﴾ كقول الله، عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات آية: 56]. أي ليوحدوا، والطاعة والعبادة والتوحيد كل ذلك مجموع في هذه الكلمة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي لا نعبد سواك، ولا معبود لنا إلا إياك، ولكن حين يقول العبد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وكأن ذلك يتوهم إليه التبجح أو كأن العبد نسب إلى نفسه العمل أو كأن العبد تقدم من تلقاء نفسه فأتى بهذه العبادة فألحقت بـ ﴿، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لتعلم أن العبادة من غير إعانة الله لا جود لها فنحن محتاجون لإعانته في العبادة قبل أن نحتاج إلى إعانته في أمور دنيانا أمور أخرانا، وفي كل شيء.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ كرر الضمير لم يقل إياك نعبد، ونستعين؛ لأنها قد يتوهم إياك نعبد، ونستعين بغيرك فكرر الضمير للتأكيد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي لا نعبد إلاك، ولا نستعين إلا بك أنت وحدك المعبود بحق، وأنت وحدك المعين بحق ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ تأكيد وللتدليل على أن العبد محتاج لإعانة الله حتى في العبادة؛ لأن العبادة طاعة فكيف تطيع الله، وأنت لا تعرف أوامره ونواهيه، إذا لا بد، أن يعلمك بالأوامر والنواهي كيف تطيع الله ﴿ تبارك وتعالى﴾، وتعبد الله، وأنت لا صحة لك أو لا قوة لك أو لا عقل لك، إذا فأنت محتاج للصحة محتاج للعقل محتاج للبدن محتاج للعلم محتاج للفهم محتاج للقوة محتاج للتوفيق، وكل ذلك بيد الله، تبارك وتعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ في كل أمورنا والعبادة أول شيء.
ثم بعد ذلك حين يعلم العبد بأن الإعانة من الله والعون منه والإعانة سد العجز والمساعدة في إتمام العمل الذي لا يستطيع المستعين أن يتمه بنفسه، الاستعانة: أن تطلب العون أن يسد الله عجزك، وأن يجبر نقصك، وأن يتمم لك العمل الذي لا يُمكن لك أن تُتمه إلا بعونه وتوفيقه.
ويتوجه بعد ذلك بالدعاء:
﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴿6﴾
﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾ والهداية في اللغة: الدلالة بلطف على المطلوب يهديك الطريق يدلك على الطريق بلطف، ولذا تستخدم في الخير، الهداية، وهداية الله ﴿ تبارك وتعالى﴾ أنواع: هداية وجدان الطريق الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، وهذه لكل المخلوقات ألا ترى كيف نقر الفرخ بيضه، وخرج في الوقت المناسب، رأيت كيف التقم الرضيع ثدي أمه دون علم سابق أو تجارب، رأيت كيف خزن النمل طعامه، وليس في النمل كاتب أو حاسب هذه هي الهداية ﴿أَعْطَىٰ كُلَّ شيء خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ [سورة طه آية: 50]. إذ بها يعلم كيف يستخدم ما أعطاه الله تلك هداية الوجدان والإلهام في فطرة المخلوقات.
ثم تأتي بعد هداية أرقى ألا، وهي هداية الحواس والشعور: الحواس: تسمع، وتبصر، وتلمس، وتذوق، هذه الحواس البصر والسمع والحس وما إلى ذلك هداية أخرى إذ بها تعلم التفرقة بين الأمور، فبالسمع يكمل لديك التفريق بين المسموعات، وبالبصر يمكن لك التفريق بين المبصرات، هذه الحواس هداية تدلك فإذا رأيت بعينك الطريق دلك كيف تمشي، وإذا سمعت فحيح الحية بأذنك ذلك أن ذاك شر يتربص بك، فخرجت مسرعا، ومثل هذا بالحواس تعلم الساخن من البارد، والنافع من الضار، بالذوق تعلم الحلو من المر هذه الهداية عممها ربنا الرحمن على مخلوقاته جميعا، ولكن أعطى منها جرعات زائدة للحيوان إذ يعتمد أصلاً على الحاسة، كحاسة الشم لدى الوحوش، وحاسة السمع لدى القطط، وهكذا، وحاسة البصر لدى الطيور، لأنها تطير محلقة مرتفعة فيلزمها بصر حاد حتى ترى رزقها في الأرض. تلك الهداية الثانية هداية الحواس والشعور أحاسيس الحب وأحاسيس الخوف أحاسيس الغضب لأن بالحب تحدث الغريزة فترضع الأم طفلها وبالغضب ينتصر الإنسان لنفسه، ويسعى الوحش على رزقه.
ثم تأتي بعد ذلك الهداية الأخرى التي اختُص بِهَا الإنسان ألا، وهي العقل إذ بالعقل تُهْدَى إلى صحيح خطأ الحاسة فالحاسة ترى الكبير على البعد صغيرا، يعني لو كنت في علو رأيت الكبير صغيرا أهو صغير يصحح لك العقل ذلك لأنك ترى الشيء لبعده صغيرا، ولذا تجد لو أن وحشا نظر في الماء فرأى صورته في الماء لظن أنه وحش آخر، ولكن الإنسان إذا نظر في المرآة أو في الماء فرأى صورته صحح له العقل، وقال له هذه صوراً وليست حقيقة.
العقل هداية ثالثة من الله بها علا العقلاء في هذا الكون.
ثم تأتي الهداية الرابعة ألا، وهي: هداية الرسل والأنبياء، هداية الكتب والشرائع كقول الله، عز وجل: ﴿وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَيْنِ﴾ [سورة البلد آية: 10]. ﴿إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًۭا، وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [سورة الإنسان آية: 3]. وهداية الرسل تبين لك طريق الصواب وطريق الخطأ، ويوقفك ربنا (تبارك، وتعالى بالدلالة على رأس طريقين ثم يترك لك الخيار ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [سورة الكهف آية: 29]. تلك هداية الرسل التي قال فيها ربنا لحبيبه (صلى الله عليه وسلم) : ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ﴾ [سورة القصص آية: 56]. إذ إن العقل الإنساني، وقال فيها : ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ ﴾ [سورة الشورى آية: 52]. تلك هداية الرسل يدل لكنه ليس عليهم بمسيطر﴿إِنَّكَ لَا تهدي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [سورة القصص آية: 56]. إذا فهناك هداية أخرى غير هداية الرسل، هداية الرسل أن يبين لك الطريق طريق الخير وطريق الشر، ويترك لك الاختيار، ويترك لك الخيار، هذه الهداية آهي المطلوبة؟ ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾ لا نعتقد ذلك لأن الهداية هداية الرسل جعلتك تقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقد حصلت، حصلت وحدثت، وأنت الآن على طريق الهداية بقراءتك فاتحة الكتاب وبتوجهك إلى الله فأنت قد عرفت الطريق ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾ الصراط: الطريق وَقُرِئَتْ بالسين لأن أصل الكلمة من ﴿سَرَطَ الطعام﴾: ابتلعه، و﴿استرط﴾: ابتلع، وكأن الطريق يبتلع السائر عليه فَسُمِّيَ الطريق سراطا لأنك إذا سرت على الطريق ابتلعك، وهكذا تسير في الطريق فتغيب عن الأعين فسُمِّي الطريق ﴿صراطًا، ﴾ بالصاد وبالسين وقراءتنا بالصاد، و﴿ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾ : الذي لا عوج له، السويّ، السهل، وكلنا يعلم أن الطريق المستقيم أو أن الخط المستقيم بين الشيئين هو أقصر الطرق، إذًا فنحن نطلب أقصر الطرق، وأسهل الطرق، وأكثرها استواء بلا عوج إلى الله، ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾ هذا الصراط المستقيم صراط واحد، ولا صراط سواه، يقول الله (تبارك، وتعالى): ﴿وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَٰطِى مُسْتَقِيمًۭا فَٱتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِۦ﴾ [سورة الأنعام آية: 153]. فسبيل الله واحد وسبل الضلال عديدة متعددة كثيرة، طريق الله واحد وطرق الضلال كثيرة ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾ هذا الدعاء أعظم دعاء على الإطلاق، وأهم دعاء على الإطلاق، فأنت تدعوه بكلامه هو القائل ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾ فأنت تدعوه بكلام هو تكلم به، ولذا أعظم دعاء ذاك الدعاء، ومن الله علينا فجعل فاتحة الكتاب تقرأ في الصلاة، وتكررها في كل ركعة مكررا ذاك الدعاء ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾ كلامه تدعوه بكلامه تدعوه بحروف وكلمات هو﴿ جل وعز﴾ قائلها أهذه هي الهداية المطلوبة؟ هداية الرسل؟ أبدا فقد علمنا أن محمدا حق، وعلمنا أن الإسلام حق، وهو دين الله الحق، وتوجهنا براحل قلوبنا إلى الله الحق نطلب منه الطريق الحق لكنا نطلب الهداية العليا الهداية هداية الله الخالصة؛ لذا جاء بجملة أخرى هي بدل الجملة الأولى ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾. ﴿صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، وهي الهداية الخامسة، هداية الرسل هداية رابعة تبين لك الطريق، وتترك لك الخيار ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [سورة الكهف آية: 29]. هداية الله، عز وجل، لا تبين لك الطريق فقط بل يعطيك العلم ثم يعطيك العمل ثم يأخذ بيدك على الطريق حتى يوصلك إليه دون أن تزيغ، ولا تضل أما الهداية الخامسة فلا زيغ فيها، ولا ضلال لذا قال الله في شأنها لحبيبه، صلى الله عليه، وسلم : ﴿أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ ﴾ [سورة الأنعام آية: 90]. هذه الهداية هي المنصوص عنها في قوله، عز وجل: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم﴾ [سورة النساء آية: 69]. هؤلاء، نحن نطلب الهداية التي منحها لهم ﴿صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من؟ ﴿ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّـٰلِحِينَ ۚ، وَحَسُنَ أُو۟لَـٰٓئِكَ رَفِيقًۭا﴾ [سورة النساء آية: 69]. هذه هي الهداية المطلوبة هذه الهداية التي نسعى إليها، ونلجأ إلى الله نستعينه، ونطلب مدده، ونطلب رضاه وتوفيقه لهذا الطريق، ولهذه الهداية ﴿صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ النعمة تعد، ولا تُحْصَى ﴿وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ﴾ [سورة النحل آية: 18].
صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ ﴿7﴾
﴿صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ﴾ تشعر بأن الذين أنعم الله عليهم قد سلموا من الغضب، وسلموا من الضلال، هم الذين سلموا، وهم وحدهم الذين سلموا من الغضب، وسلموا من الضلال، أما الغضب فهي الشدة في اللغة، والغضب ثوران النفس وإرادة الانتقام لغة، لكن إذا أُسنِد الغضب إلى الله فعلى الوجه الذي يليق بجلاله وكماله فليس كمثله شيء، ليس هناك ثوران للنفس فإن كانت صفة ذات فهي إرادة، وإن كانت صفة فعل فهو إيصال العقاب والانتقام لمن يستحق العقاب والانتقام، وصفات الله ﴿تبارك تعالى﴾ تُفهم بالغايات والنهايات، وليست بالمبادئ فالحب - مثلاً – هو: الانعطاف نحو المحبوب ميل بالقلب إليه أن يكون هواك مع هواه لكن حين يحب ربنا ليس في حبه شيء من ذلك، وإنما الغاية والنهاية من المحب لحبيبه أن يسعده، فحب الله إسعاد للحبيب، الغضب في الإنسان أن يثور، ويحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويهيج الدم في قلبه وما إلى ذلك مريدًا للانتقام، ثم ينتقم بإيصال الإيلام لعدوه أو من غضب عليه، لكن الله ﴿تبارك وتعالى﴾ إذا غضب على أحد فلا ثوران في النفس، ولا احمرار لوجه، ولا فوران في الدم، وإنما الغضب إيصال العقوبة إلى من غضب عليه.
في هذه الآية أمور لا بد من الالتفات إليها بدقة:
أولا: ﴿صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ والخطاب للمولى (عز وجل)، وأسندنا الإنعام إليه ﴿صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ هو الذي أنعم ﴿غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَلَا ٱلضَّآلِّينَ﴾ لم يُسند إلى الله الفعل والقياس في تقدير الكلام: ﴿صراط الذين أنعمتَ عليهم غير الذين غضبتَ عليهم أو أضللتهم﴾ لكن الكلام تحول ﴿صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فنسب الإنعام إلى الله، وأسند إليه، ولم يسند إليه الغضب أو الإضلال، وإن الشر من الله تقديرا إلا أنه لا ينسب إليه تأدبا مع الله لذا قال الخليل ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [سورة الشعراء آية: 80]. قال ﴿وَٱلَّذِى هُوَ يطعمني وَيَسْقِينِ﴾ [سورة الشعراء آية: 79]. ﴿وَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿۸١﴾ وَٱلَّذِىٓ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لي خَطِيٓـَٔتِى يَوْمَ ٱلدِّينِ﴿۸٢﴾﴾ [سورة الشعراء آية: 81-82]. نسب الأفعال كلها إليه فلما جاء ذكر المرض قال: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ﴾ أنا ﴿فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [سورة الشعراء آية: 80]. ولذلك كان قول النبي، صلى الله عليه، وسلم : (وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ).
فإن كان الشر من الله خَلْقًا وتقديرًا إلا أن العبد لا يصح له أبدًا أن ينسب الشر إلى الله، يعلمنا ربنا في الفاتحة كيف نتأدب في حضرته، وكيف نتأدب في التوجه بالخطاب إليه، فلم يُنسب الغضب أو الإضلال إليه.
﴿غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ﴾ من هؤلاء؟ هم الذين عرفوا الحق فلم يسلكوه، عرفوا الباطل فسلكوه، رضوا بالقليل عن الكثير، اكتفوا بالتقليد فقالوا: ﴿وَجَدْنَآ أبناءنا عَلَىٰٓ أُمَّةٍۢ، وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَـٰرِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ [سورة الزخرف آية: 22]. هؤلاء عرفوا الحق فتركوه فغضب الله عليهم.
وأما ﴿ ٱلضَّآلِّينَ﴾ الضلال: البعد عن سَنَن القصد من قولهم ﴿ضلَّ اللبن في الماء﴾: أي اختفى، ويشير إليه القرآن بهذا المعنى في قول الله، عز وجل: حكاية عن الكفار: ﴿وَقَالُوٓا۟ أخذا ضَلَلْنَا في ٱلْأَرْضِ أَءِنَّا لفي خَلْقٍۢ جَدِيدٍۭ﴾ [سورة السجدة آية: 10].
أي غِبنا فيها وضعنا فيها، وانتهت الأجساد، واختلطت بالتراب، وضاعت. فالضلال: الضياع، و﴿الضلال﴾: أن يختلط الشيء بالشيء فلا يُعرف، ولا يُميَّز، ﴿الضلال﴾: البُعد، الضال لم يعلم الحق.
الضال أنواع في هذه الدنيا أربعة أنواع:
النوع الأول: مَنْ لم تبلغه الرسالة أصلا لم تبلغه رسالة الرسل فعبد العجل أو عبد الشمس، أو عبد القمر لم تبلغه الرسالة، وذاك لا يُعذَّب لأن الله يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًۭا﴾ [سورة الإسراء آية: 15]. لكنه ضل، ظل غير عارف.
النوع الثاني من الضلال: أن تبلغه الرسالة مشوشة مشوَّهة غير حقيقية، الذين ورثوا الكتاب فضيعوه وبدلوه حرفوه، وأوصلوه إلى الأحفاد والأجيال التالية محرفة.
والنوع الثالث من الضلال: أن يصل إليك الحق، وتصل الرسالة كاملة غير مشوَّهة، ولا مشوَّشة لكنك تستخدم عقلك فتبتدع، ولا تتبع، فتفَسِّر القرآن برأيك، وتعرض عن سُنَّة سيد الأنام، وعن سَنَن السادة الكرام، فتثق بنفسك، ما لم يكن عوناً من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده، كما ترون المبتدعة في كل زمان ومكان يبتدعون أمورا وصلت الشريعة وصل القرآن سليما ووصلت السنة مطهرة، ومع ذلك أعملوا عقولهم ضلوا، وأضلوا فذاك أيضا ضلال.
وهناك ضلال رابع: الذين يحرفون الكلم عن موضعه، يؤولون الأحكام، يخضعون القرآن لهواهُم، فالهوى متحكم فيه فيحاول أن يأخذ من القرآن ما يؤيد به رأيه، لا أن يأخذ من القرآن ما يعرف به الرأي، وهو يخضع القرآن لكلامه يخضع القرآن لهواه هؤلاء هم الذين حكموا بغير ما أنزل الله، هؤلاء الذين قالوا: إن القرآن كان لأقوام في البادية، كان لأجيال سبقت، وعفا عليها الزمن، والدنيا في تطور، وهكذا، فتركوا الحق، واتبعوا الهوى، ومَنْ يتبع الهوى يضله عن سبيل الله.
وقد ورد أن المقصود بـ ﴿ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ : اليهود الذين حرَّفوا التوراة، والمقصود بـ ﴿ٱلضَّآلِّينَ﴾ : النصارى، لقول الله، عروجا، في شأنِ اليهود ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّۢ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ﴾ [سورة المائدة آية: 60]. إذا فقد غضب الله عليهم، أما النصارى فهم الضالون لقول الله ﴿ عز وجل﴾ في شأنهم ﴿قُلْ يَـٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لَا تَغْلُوا۟ في دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ، وَلَا تَتَّبِعُوٓا۟ أهواء قَوْمٍۢ قَدْ ضَلُّوا۟ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا۟ كَثِيرًۭا وَضَلُّوا۟ عَن سراء ٱلسَّبِيلِ﴾ [سورة المائدة آية: 77]. فقيل المغضوب عليهم هم اليهود، وأما الضالون فهم النصارى، والله ﴿ تبارك، وتعالى ﴾أعلم بمراده وغضب الله، تعالى، لم يكن على اليهود فقط بل كان على فرعون، وعلى قوم هود، وعلى قوم صالح، ولكن الآية، وإن كانت تختص بِهَؤلاء إلا أنَّها تَعُمّ مَنْ هو على شاكلتهم في كل زمان ومكان.
﴿ٱلضَّآلِّينَ﴾ جاءت ﴿لا﴾ زائدة لتأكيد ما في كلمة غير من معنى النفي، وكأنه يؤكد لا المغضوب عليهم، ولا الضالون غير المغضوب عليهم وغير الضالين، ثم إنَّ في الآية أيضا حذف لأن التقدير: صراط الذين أنعمت عليهم غير صراط المغضوب عليهم وغير صراط الضالين، فحُذِفت كلمة ﴿صراط﴾ اختصارًا وإيجازا لسبق ذكرها.
﴿صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ﴾ بداية الفاتحة صفة العلي الأعلى، ونِهَاية الفاتحة صفة الناس، وكأن الناس ثلاثة أقسام وأنواع: مُنْعَم عليهم ﴿جعلنا الله جميعًا منهم، ﴾ ومَغْضُوب عليهم، وضالُّون، وليس هناك فريق رابع، هم ثلاثة، انتهت الفاتحة ببيان صفات للناس فاختر لنفسك أي صفة من هؤلاء صفة الذين أنعم الله عليهم لذا لا بد أن تعلم، وأنت تقرأ الفاتحة ما قلناه معان في ألفاظها حتى تتوجه إلى الله بالكليَّة خالطًا حاجتك بحاجة الجماعة، بحاجة الموحدين، ولذا شُرعت الجماعة، فصلاة الجماعة خير من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وعن فضل ذكر الله في جماعة يقول النبي﴿ صلى الله عليه وسلم﴾: ﴿ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّاَ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ﴾ لأنك في وسط القوم، وهم القوم لا يشقى جليسهم.
وتُختم فاتحة الكتاب بكلمة كالخاتم، ختم الله بِهَا دعاء عباده: ﴿آمين﴾ وكلمة ﴿آمين﴾ ليست من القرآن اتفاقًا، ولذا لم تُكتب في المصاحف، وإنما تعلمناها من سيدنا وحبيبنا ومولانا رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: حيث قال: ﴿إن جبريل أقرأني الفاتحة ثم قال لي قل آمين – أو علمني آمين﴾، وقال علي بن أبي طالب (هي خاتم الله ختم بها دعاء عبده).
ومعنى كلمة ﴿آمين﴾: استجب يا رب، أو افعل يا رب، والتأمين بعد الفاتحة سُنَّة لكل قارئ للفاتحة وسنة مؤكدة، ولذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ﴾، وفي رواية أخرى ﴿إِذَا قَالَ الْإِمَامُ، وَلَا الضَّالِّينَ فَقَالُوا آمِينَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ آمِينَ﴾ كلمة آمين يقولها قارئ الفاتحة في الصلاة وخارج الصلاة يقولها المأموم والمنفرد والإمام، ويجب على المأموم أن يتحرى أن يقولها مع الإمام في ذات الوقت لذا إذا قال الإمام، ولا الضالين ترك المأموم فترة لنفس الإمام حتى إذا بدأ الإمام بقول آمين يوافق تأمين المأموم أمين الإمام لأن الملائكة ترتبط بتأمين الإمام حرفًا بحرف، عليك أن تتحرى تأمين الإمام لذا اختلف العلماء: أيَجْهَر بِهَا الإمام أم يُسِرّ؟
فمنهم من قال: يَجْهَر بِهَا في الصلاة الجهرية، ويُسِرّ بِهَا في الصلاة السِّرِّيَّة، ومنهم من قال: يُسَر بِهَا على الإطلاق، والرأي الأرجح والأصح أن الإمام يجهر بها للأحاديث الواردة، ومنها ترجمة للإمام البخاري في صحيحة حيث ترجم لها بابًا، وقال: ﴿باب الجهر بالتأمين﴾ لأنه قد ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يجهر بكلمة ﴿آمين﴾، وورد عن الصحابة كانوا يقولون للإمام الذي يؤمهم في الصلاة بعد النبي﴿ صلى الله عليه وسلم﴾ أيا كان الإمام لا تسبقنا بكلمة أمين حتى يوافق تأمينهم تأمين الإمام، هذه منة مباركة طيبة من الله علينا بها، وعلمنا لها نبينا (صلى الله عليه وسلم).
فاتحة الكتاب تقرأ في الصلاة كلنا يعلم أن الأئمة قد اختلفوا، واجتمعوا على أن المنفرد يقرأ الفاتحة، واجتمعوا على أن الإمام يقرأ الفاتحة، واختلفوا في المأموم: فمنهم من قال بوجوب قراءة المأموم للفاتحة في الصلاة الجهرية، وفي الصلاة السرية، ومنهم من قال: لا يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية، ويقرأها في الصلاة السرية، ومنهم من قال: المأموم لا يقرأ الفاتحة مطلقًا لا في الجهرية، ولا في السرية، فقراءة الإمام قراءة للمأموم.
والأصح والأرجح والأحوط - والله أعلم - أن يقرأ المأموم الفاتحة: جَهَرَ الإمام أو أسرَّ الإمام، لقول النبي﴿ صلى الله عليه وسلم﴾ في الأحاديث الواردة في الصحاح: ﴿ مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ﴾ ثلاث مرات والخداج الفساد والنقص والبطلان. وقال في رواية أخرى : (لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ).
من هنا الأحوط والأرجح والأصح والله أعلم أن يقرأ الإمام، المنفرد، المأموم الفاتحة، في الصلاة الجهرية، في الصلاة السرية في الفرض في النفل إذ لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب، إذا فلا بد من قراءة الفاتحة، وعلى الأئمة أن يراعوا ذلك فقرائهم من يعتقد ذلك فمهما كان مذهبه لا بد، أن يترك فترة يسكت فيها حتى تتسع للمأموم أن يقرأ الفاتحة، ولو خالفه في مذهبه، وقد نصحنا إمامنا « مالك » - إمام دار الهجرة - بذلك مع أنه لا يرى قراءة للمأموم إلا أنه قال: يجب على الإمام أن يسكت تركا ودرءاً للخلاف لأن وراءه الشافعي والحنبلي ومن يعتقد أن قراءة الفاتحة ركن، فكي لا يشوش عليه قراءته يجب على الإمام – اعتقد بوجوب قراءتها أو لم يعتقد -أن يسكت، ويدع فرصة للمأموم كي يقرأ الفاتحة، وذلك حتى يستريح المأموم في صلاته ويرضى عنها.
أيها الأخ المسلم الفاتحة أم الكتاب أم القرآن الشفاء الكنز الشافية الكافية الواقية السبع المثاني القرآن العظيم كل ذلك، من أسمائها الرقية لو أنك توضأت، وقرأت الفاتحة على مريض أو على مصروع بنية صادقة وباعتقاد لأفاق.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ مسافريها حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا بِكُمْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ يَنْفَعُ صَاحِبَكُمْ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ فَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ يَنْفَعُ صَاحِبَنَا؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقَى، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَأَبَيْتُمْ أَنْ تُضِيفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ قَالَ فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ ﴿الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حَتَّى بَرَأَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ حَتَّى انْطَلَقَ يمشي مَا بِهِ قَلَبَةٌ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اقْسِمُوا فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَغَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: ﴿ مَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، ﴾ قَالَ، وَقَالَ: ﴿أَصَبْتُمُ اقتسموا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ. ﴾ وقسموا له كما قسموا لأنفسهم، وشاركهم في هذه الأغنام شاركهم، صلى الله عليه، وسلم، وقال: (إنَّ أَحَقّ ما أَخَذْتُمْ عليه أجراً كِتَابُ الله).